مفهوم العَلمانية

العلمانيّة في العربيّة مُشتقّة من مُفردة عَلَم ، وهي بدورها قادمة من اللغات السّاميّة القريبة منها أمّا في الإنجليزيّة والفرنسية فهي مُشتقّة من اليونانية بمعنى العامّة أو الشّعب، وبشكل أدقّ، عكس الطّبقة الدّينيّة الحاكمة وإبّان عصر النهضة، بات المصطلح يشير إلى القضايا الّتي تهمّ العامّة أو الشّعب، بعكس القضايا التي تهمّ خاصّته.

أمّا في اللغات السامية ففي السريانية تشير الكلمة إلى كل ما هو مُنتمٍ إلى العالم أو الدّنيا، أي من دون النّظر إلى العالم الرّوحي أو الماورائيّ، وكذلك الأمر في اللغة العبرية والبابليّة وغيرهم وبشكل عامّ فلا علاقة للمصطلح بالعلوم أو سواها، وإنّما يشير إلى الاهتمام بالقضايا الأرضيّة فحسب . وتعني العلمانية اصطلاحا : بانها فصلُ الحكومة والسّلطة السّياسيّة عن السّلطة الدّينيّة أو الشّخصيّات الدّينيّة. وتشير أيضًا الى عدم قيام الحكومة أو الدّولة بإجبار أيّ أحدٍ على اعتناق وتبنّي معتقدٍ أو دينٍ أو تقليدٍ معيّنٍ لأسباب ذاتيّة غير موضوعيّة ، كما انها تكفل الحقّ في عدم اعتناق دينٍ معيّنٍ وعدم تبنّي دينٍ معيّنٍ كدينٍ رسميٍّ للدّولة. وعموما ، فإنّ هذا المصطلح يشير إلى الرّأي القائِل بأنّ الأنشطةَ البشريّة والقراراتِ ولاسيما السّياسيّة منها يجب أن تكون بمعزل عن تأثير المُؤسّسات الدّينيّة.

وتعود الجذور التاريخية للعلمانيّة إلى الفلسفة اليونانيّة القديمة، اذ نادى بها ابرز الفلاسفة اليونانيّين ومنهم ابيقور ، بيد أنّها خرجت بمفهومِها الحديث خلال عصر التّنوير الأورُبّيّ ، على يد عددٍ من المفكّرين أمثال توماس جيفرسون، وفولتير وغيرهم .

ولا تُعد العلمانيّة شيئًا جامدًا، بل هي قابلة للتّحديث والتّكييف بحسب ظروف الدِّوَل الّتي تتبنّاها، وتختلف درجة تطبيقها ودعمها من قبل الأحزاب أو الجمعيّات الدّاعمة لها في مختلف دول العالم. كما لا تَعد العلمانيّة ذاتها ضدّ الدّين، بل تقف على الحيادِ منه، ففي الولايات المتحدة مثلاً، وُجِد أنّ العلمانيّة خدمت الدّين من تدخّل الدّولة والحكومة، وليس العكس ، وقد يعدها البعض جزءًا من التّيّار الإلحاديّ كما جاء في بعض الافكار المتطرفة. وتعرفها دائرة المعارف البريطانية بكونها: حركة اجتماعيّة تتّجه نحو الاهتمام بالشّؤون الدُّنيويّة بدلًا من الاهتمام بالشّؤون الآخروية. وهي تُعد جزءًا من النّزعة الإنسانيّة الّتي سادت منذ عصر النهضة والدّاعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به، بدلاً من إفراط الاهتمام بالعُزوف عن شؤون الحياة والتّأمّل في الله واليوم الأخير.

وقد كانت الإنجازات الثّقافيّة البشريّة المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقاتها، فبدلاً من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاهٍ في الحياة الآخرة، سعت العلمانية في أحد جوانبها إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية .

وقد ظهرت اقدم التلميحات للفكر العلماني في القرن الثالث عشر في أوروبا حين دعا مارسيل البدواني في مؤلفه (المدافع عن السلام) إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية واستقلال الملك عن الكنيسة في وقت كان الصراع الديني الدينيوي بين بابوات روما وبابوات أفنيغون في جنوبي فرنسا في اوجه ، وبعد قرنين من الزمن، أي خلال عصر النهضة في أوروبا كتب الفيلسوف وعالم اللاهوت غيوم الأوكامي حول أهمية (فصل الزمني عن الروحي )، فكما يترتب على السلطة الدينية وعلى السلطة المدنية أن يتقيدا بالمضمار الخاص بكل منهما، فإن الإيمان والعقل ليس لهما أي شيء مشترك وعليهما أن يحترما استقلالهما الداخلي بشكل متبادل.

ولابد من القول أن العلمانية لم تنشأ كمذهب فكري وبشكل مطرد إلا في القرن السابع عشر، وكان الفيلسوف سبينوزا أول من أشار إليها إذ قال : أن الدين يحوّل قوانين الدولة إلى مجرد قوانين تأديبية. وأشار أيضًا إلى أن الدولة هي كيان متطور وتحتاج دومًا للتطوير والتحديث على عكس شريعة ثابتة موحاة.

فهو يرفض اعتماد الشرائع الدينية مطلقًا مؤكدًا إن قوانين العدل الطبيعية والإخاء والحرية هي وحدها مصدر التشريع . وقد طرح مفهوم مختصر للعلمانية في تصريح ثالث رؤساء الولايات المتحدة الإمريكية توماس جيفرسون، إذ يقول عنها : إن الإكراه في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وإن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم . وقد جاء هذا التصريح على خلفية استعمال حق النقض عام 1786 ضد اعتماد ولاية فيرجينيا للكنيسة الأنجليكانية كدين رسمي ،فأصبح الأمر مكفولاً بقوة الدستور عام 1789 حين فصل الدين عن الدولة رسميًا فيما دعي بإعلان الحقوق.

اما أول من ابتدع مصطلح العلمانية هو الكاتب البريطاني جورج هوليوك عام 1851، غير أنه لم يقم بصياغة عقائد معينة على العقائد التي كانت قد انتشرت ومنذ عصر التنوير في أوروبا بل اكتفى فقط بتوصيف ما كان الفلاسفة قد صاغوه سابقًا وتخيله هوليوك، من نظام اجتماعي منفصل عن الدين غير أنه لا يقف ضده إذ يقول : لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية هي فقط مستقلة عنها ، ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها. ولكن من الواضح انه لايزال تعريف الدولة العلمانية مختلفا عليه فهو تعريف يشمل ثلاث جوانب أساسية ويتداخل مع مفهوم دين الدولة أو الدين ذو الامتياز الخاص في دولة معينة.

وهناك بعض الدول تنصّ دساتيرها صراحة على هويتها العلمانية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وكوريا الجنوبية والهند وكندا،في حين ان هناك دولا اخرى، لم تذكر العلمانية في دساتيرها ولكنها لم تحدد دينًا للدولة، وتنصّ قوانينها على المساواة بين جميع المواطنين وعدم تفضيل أحد الأديان والسماح بحرية ممارسة المعتقد والشرائع الدينية، وإجراء تغيير في الدين بما فيه الإلحاد أو استحداث أديان جديدة بما يشكل صونًا لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات الدينية، وهي بالتالي تعد دولاً علمانية.

اما الفئة الثالثة من الدول فتنصّ دساتيرها على دين معين للدولة كمصر وموناكو واليونان غير أن دساتيرها تحوي المبادئ العلمانية العامة، كالمساواة بين جميع مواطنيها وكفالة الحريات العامة، مع تقييد لهذه الحريات وبالطبع فان هذا يختلف بحسب الدول ذاتها. الامر الذي دفع بعض الباحثين لاجراء تعديلات اصطلاحية فأحلت الدولة المدنية بدلاً من الدولة العلمانية واقترح البعض تسمية دولة مدنية بمرجعية دينية غير أن ذلك بحسب رأي بعض الباحثين يفرغ مبادئ المساواة والحريات العامة من مضمونها ويحصرها في قالب معيّن ما يعني دولة دينية وإن بإطار مدني.

وقد مرّت العلمانية الشاملة بثلاث مراحل أساسية : الاولى هي مرحلة التحديث وقد اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة بصورة عامة، فلقد كانت الزيادة المطردة من الإنتاج هي الهدف النهائي من الوجود في الكون واستندت هذه المرحلة إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية وتتبنى العلم والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، وانعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقيّة ومادية تدعو بشكل ما لتنميط الحياة، وتآكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة.

اما المرحلة الثانية فهي مرحلة الحداثة وهي مرحلة انتقالية قصيرة استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد وتعمق آثاره على كل أصعدة الحياة، ثم ظهرت المرحلة الثالثة واطلق عليها مرحلة ما بعد الحداثة : وفي هذه المرحلة أصبح الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركه الحرية واللهو والتملك، واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرّر إلى قضايا المحافظة على البيئة والمساواة بين المرأة والرجل وبين الناس وحماية حقوق الإنسان ورعاية الحيوان وثورة المعلومات.

من وجهة أخرى ضعفت في المجتمعات الصناعية المتقدمة مؤسسات اجتماعية صغيرة بطبعها مثل الأسرة، بسبب الأسهاب في مسالة المساوة بين الرجل والمرأة، وظهرت بجانبها أشكالاً أخرى للمعيشة العائلية مثل زواج الرجال أو زواج النساء، وزاد عدد النساء التي يطلبن الطلاق ،وكل ذلك كان مستنداً على خلفية من غياب الثوابت والمعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي يتيح بدائل لم تكن موجودة من قبل.

المحامية: ورود فخري