تخلو القوانين التجارية عموماً من تعريف اصطلاحي للعمل التجاري (1) وقد اكتفت القوانين المذكورة بإيراد تعداد ترتيبي معين للأعمال التجارية . ولهذا حاول الفقه استناداً على التعداد التشريعي للأعمال التجارية أن يضع قاعدة أو مفهوماً يتميز بموجبه ما يعتبر تجارياً ومالا يعتبر التجاري . بل طرح نظريات مختلفة يستند بعضها على العوامل الاقتصادية ويستند البعض الآخر على العوامل القانونية (2) . وفيما يلي عرض لكل نظرية من هذه النظريات .

1. نظرية المضاربة La theorie de speculation

اتجه بعض الفقه الى فكرة المضاربة كمعيار للعمل التجاري (3). والمضاربة تعني السعي وراء تحقيق الربح أو بعبارة أخرى هي وضع رأسمال معين في عمل معين بقصد الحصول على ربح من ورائه وينصرف هذا المفهوم لكل فعل من شأنه تحقيق فائدة مادية – ربح نقدي – إضافة للعوامل التي تتضمن عنصر الصدفة والمخاطرة وجدير بالملاحظة أن هذه النظرية التي تعتمد معيارا اقتصادياً تتفق مع طبيعة أغلب الأعمال التجارية كالشراء لأجل البيع وغيره . إلا أنها وبإجماع الفقه لا تكفي لوحدها كمعيار للعمل التجاري . فهي توسع أولاً من دائرة الأعمال التجارية بحيث تشمل اعمالاً مدنية بطبيعتها إذ أن قصد تحقيق الربح ليس ظاهرة تقتصر فقط على العمل التجاري ، بل تمتد لجميع أوجه النشاط الإنساني وهي عامل مشترك بين المهن دون تمييز . وتعجز نظرية المضاربة من جهة أخرى عن تفسير تجارية بعض الأعمال التي لا صلة لها بعنصر المضاربة كالأعمال المتعلقة بالسفاتج والسندات للأمر ” الكمبيالات والشيكات ” (4). ولا ريب أخيرا في أن هذه النظرية لم تعد مقبولة في الاتجاه المعاصر لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي والتجاري ، هذا التدخل الذي لا يهدف الى تحقيق الربح بالمعنى التقليدي (5) . ومع ذلك فإن لهذه النظرية جانباً إيجابياً يتمثل كما يوضح هاميل ولاكارد (6)باستبعاد كافة الأعمال التي لاتهدف الى الربح من النطاق التجاري.

2_ نظرية التداول La theorie de ciroulation

اقترح البعض الآخر التداول كمعيار للعمل التجاري (7) . ويقصد بالتداول حركة السلع والنقود والأوراق التجارية (8). ومحصلة هذه النظرية أن العمل القانوني تثبت له الصفة التجارية في جميع الأحوال التي يكون الغرض منه تحريك السلع والاشياء وتداولها فإذا تناول العمل القانوني السلع والأشياء وهي في مرحلة السكون فإن هذا العمل يخرج من دائرة الأعمال التجارية عليه تكون الاعمال القانونية التي يقوم بها الناقل في نقل الأشياء او عمل الصناعي الذي يشتري المادة الصناعية ويتناولها بالتغير والتبديل لغرض تحويلها الى سلع وايصالها الى المستهلك وجميع الاعمال المساعدة على حركة العمال كأعمال التوسط أو الى الأوراق التجارية ، أعمالاً تجارية . أما الأعمال القانونية التي يأتيها المنتج الأول والأعمال التي يقوم بها المستهلك فإنها تعتبر من قبيل الأعمال المدنية طالما لا يترتب عليها تحريك الثروة وتداولها . وعلى الرغم من أن هذ النظرية تفسير الكثير من الاعمال التجارية إلا أنها لا تصلح كذلك لوحدها ان تكون معياراً مطلقاً للأعمال التجارية . فهي من جهة لا تضفي صفة التجارية على عمل المنتج الأول علماً بأن المنتج الأول هو أول من يضع السلع والبضائع في الحركة . وهناك من جهة أخرى بعض الأعمال القانونية التي تدفع السلع الى التداول ومع ذلك فإنها لا تعتبر تجارية بل أعمالاً مدنية ، كأعمال الجمعيات التعاونية الاستهلاكية ، وجمعيات النقابات ويعاب على هذه النظرية أخيراً أنها لا تحتوي جميع الأعمال التجارية التي سردها القانون دون أن يتوافر فيها مفهوم التداول كالأعمال المتعلقة بالعقارات والعمليات الإستخراجية للثروة الطبيعية (9).

3. نظرية المشروع La theoric d entreprise Commerceal

ويرى اجتهاد فقهي آخر أن الذي يميز الأعمال التجارية هو الكيفية La Maniere التي يتم بها العمل (10) فإذا كان العمل يقوم على صورة مشروع فهو تجاري . ويقوم المشروع التجاري على عنصرين : هما الإحتراف وجود تنظيم مسبق اي الاستعانة بمجموع من الوسائل المادية كرأس المال وقوة العمل . وبغض النظر عن التعداد القانوني أما العمل القانوني المنفرد فإنه يعتبر من الأعمال المدنية طالما أنه لا يتم بصيغة المشروع . ويأخذ على هذه النظرية أنه هناك كثير من الأعمال لا يشترط في تجاريتها أن تكون مباشرة على شكل مشروع ، اذ يكفي ان تقع منفردة حتى تعتبر تجارية كما هو الشأن في اعمال شراء المنقول او العقار لأجل البيع أو الاجارة والاعمال المتعلقة بالأعمال التجارية . كذلك فإن النظرية تخرج من اطار العمل التجاري جميع الاعمال التي يقوم بها الافراد بصورة (مستترة تهرباً من دفع الضرائب) (11) ، أو اكتساب الصفة التجارية نتائجها يضاف الى ذلك أخيراً أن هناك كثير من الأعمال التي تمارس على شكل مشروع ومع ذلك فإنها لا يمكن أن تعد تجارية كأعمال ذوي المهن عليه فإن معيار المشروع لا يكفي لوحده إذن أن يكون قاعدة مطلقة للعمل التجاري .

4. نظرية الحرفة : La theorie de la profession

وحاول بعض الفقه أيضاً الاستناد الى الحرفة التجارية في تحديد مفهوم الأعمال التجارية (12) ومحصلة هذه النظرية أن الأعمال التي تزاول ضمن الحرفة التجارية تعتبر أعمالاً تجارية . ويوضح العميد ريبير Ripert مفهوم الحرفة بالعمل في استغلال تجاري بطريقة ثابتة ومنظمة ثابتة ومنظمة ومستمرة (13) وعلى هذا تستلزم الحرفة بعض المظاهر الخارجية كوجود محل تجاري واستخدام قوة عمل واتصال بالعملاء وسمعة تجارية (14) فإذا ما توافرت هذه المستلزمات عند مزاولة النشاط التجاري نكون عندئذ أمام الحرفة التجارية وبالتالي يعد تجارياً كل عمل يقع في إطارها . يتضح أن هذه النظرية تميل بالقانون التجاري نحو الذاتية وتجعل منه قانوناً مهنياً حرفياً فقط بمعنى أن هذه النظرية لا تصلح لقانون تجاري موضوعي (15) ويعاب على نظرية الحرفة كذلك أنها لم تضع معياراً للحرفة التجارية فلا يكفي في الواقع الإشارة الى المظاهر الخارجية التي تتطلبها الحرفة ، إذ أن هذه المظاهر لا تخرج عن كونها أمراً لازماً لجميع الحرف عموماً المدنية منها والتجارية . هذا إضافة الى أنها تخرج بالضرورة من إطار قانون التجارة العمل التجاري المنفرد الذي يعتبر تجارياً بطبيعته دون ما حاجة لشرط الاحتراف .

5. نظرية السبب La theorie de la Cause

تأخذ هذه النظرية التي نادى بها الفقيه ريفيران Reverand (16) بالسبب بمفهوم الباعث الدافع الى التعاقد والذي يطلق عليه بالنظرية الحديثة للسبب (17) ، وينظر الى هذا الباعث الدافع من خلال الغرض البعيد أو غير المباشر الذي يؤدي الى التعاقد لذا فإن تحديد الصفة التجارية للعمل القانوني يستلزم استقصاء الباعث (الحافز) الموجه للعمل . فإذا كان الحافز تجارياً فالعمل تجارياً والعكس صحيح . والواقع أن المشرع العراقي يقيم وزناً للغرض أو القصد لإضفاء الصفة التجارية للعمل القانوني كما هو الأمر في الشراء لأجل البيع أو الإجارة (18) . فقصد البيع والإجارة للأموال بعد شرائها يضفي على العمل صفته التجارية . ومع ذلك فإن هذه النظرية لا تسلم من النقد والمأخذ فمن العسير أولاً تحديد القصد أو الباعث على العمل فالقصد عبارة عن عنصر معنوي كامن في النفس ومن الصعوبة استخلاصه والوقوف عليه عند إجراء التصرف ثم الى جانب ذلك تعجز النظرية المذكورة عن تفسير تجارية بعض الأعمال التي أضفي عليها المشرع صفة التجارية دون ما اعتبار لنية وقصد القائم بها ، كالأعمال المتعلقة بالأوراق التجارية مثلاً .

واضح مما تقدم أن وضع ضابط دقيق ومحدد للعمل التجاري ليس بالأمر اليسير. ولعل السبب في ذلك كما نرى هو التطور الاقتصادي السريع في الواقع المعاصر والذي انعكست آثاره على الهيكل القانوني للنشاط التجاري والذي دفع الفقه بالتالي الى مراجعة أسس القانون التجاري برمته ومحاولة إرساء قواعده على مبادئ جديدة تختلف جوهرياً عن أسسه التقليدية (19). إلا أن عدم وجود نظرية شاملة في ماهية العمل التجاري لا يعني بأن اقترح من مقاييس بذه الخصوص يعتبر عديم الأثر في تطور الفكرة القانونية عن ماهية العمل التجاري فكل عمل تجاري ينطوي في الواقع على فكرة المضاربة والسعي وراء تحقيق الربح . ومن يمارس العمل التجاري فإنما يقوم به عادةً على سبيل الاحتراف وأن النشاط التجاري لا يمكن تصوره بدون مفهوم التداول للثروة أو قيام مشروع تجاري منظم فنياً وعلمياً . وعلى الرغم من أن المشرع العراقي اعتمد من خلال نص المادة الخامسة من قانون التجارة معيار المضاربة ” قصد تحقيق الربح ” كأساس للتمييز بين العمل التجاري والعمل المدني إلا أنه من جانب آخر قرر تجارية أعمال أخرى بالنظر لطبيعتها وبصرف النظر عن صفة القائم بها أو نيته كالأعمال المتعلقة بالأوراق التجارية (20) . هذا الى جانب كون الأعمال التجارية التي تمارس بقصد الربح والتي سردها القانون يتضمن أغلبها وبالضرورة مفهوم المشروع التجاري وتداول الثروة ، مما يجعلنا بالتالي نقول أن المشرع العراقي أخذ بأكثر من معيار للعمل التجاري آخذاً بالاعتبار متطلبات الواقع العملي والتطور المتلاحق للنشاط التجاري .

____________________

1. انظر مع ذلك نص م 13 من قانون التجارة العراقي رقم 60 لسنة 1943 الملغي . إذ أوردت هذه المائدة تعريفاً للعمل التجاري يقوم على فكرة المضاربة وكذلك نص م 6 من قانون التجارة الكويتي .

2. انظر د. محمد حافظ إبراهيم ، القانون التجاري العراقي ، النظرية العامة ، بدون سنة طبع ص 73 .

3. انظر :

Rene Roblot: Droit commercial. 1964 p. 161. No. 300 Hamel et Lagarde : op cit. p. 172.

4. انظر نص المادة السادسة من قانون التجارة.

5. انظر د. أكثم الخولي ص 169.

6. مصدر سابق ص 173.

7. انظر : THALLER et PERCEROU: Principes de drotcommeri- al، t، I، 1931. P. 5. Nos 6 et 14.

8. انظر : د. علي حسين يونس ، مصدر سابق ذكره ص 126 .

9. انظر ف1 من م5 ، ف4 من م5 من قانون التجارة .

10. انظر : Escarra et Rault:principes de droit Commercial، t، I

No. 102 J. Escarra. Cours de droit Commercal، 1962. P. 91.

No. 36. Hamel et Lagarde: op. cit. p. 174 No، 1488.

11. انظر : د. رزق الله الأنطاكي ، مصدر سابق ص 58 .

12. انظر : Ripert et Roblot: Traite elementaire de droit Commercial، t، I، 1968. P. 154 No. 360.

13. انظر : Droit Commercial: cit. p. 154 et s.

14. انظر بهذا المعنى فريد مشرقي ، أصول القانون التجاري المصري ، 1954 ص 23 .

15. انظر د. الخولي ص 144 .

16. انظر : Reverand: L acte de Commerce، son criterium Juridipue et L، obligation، Preface H. Capitant، Paris 1937.

17. انظر : H. Capitant: De La Cause des obligations، 3 ed. 1928.

Droit civil، t، ii، No 292.

18. ف1 م5 من قانون التجارة .

19. بهذا المعنى د. الخولي ص 23.

20. انظر نص المادة السادسة من قانون التجارة .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .