مفهوم التفريد التشريعي وظروف التشديد

سنحاول في هذا المطلب التطرق إلى مفهوم التفريد التشريعي (الفقرة الأولى)، وبعد تبيان المفهوم وتحديده سنقوم بالتطرق إلى ظروف تشديد العقاب (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مفهوم التفريد التشريعي

أوضحت دراسات علم الإجرام العديد من الواجبات التي تقع على عاتق المشرع عند تحديده لشق الجزاء الجنائي من القاعدة الجنائية، ومن أهم تلك الواجبات ضرورة أن يراعي المشرع عند إنشاءه للجزاء تدرجه بحسب ظروف كل جاني، فيفترض تطبيق نص معين عقوبته أشد أو أخف من العقوبة العادية المقررة لنفس الفعل إذا وقع في ظروف معينة، أو من جناة محددين[1]، مثل ظروف التشديد، وأعذار التخفيف، والأعذار المعفية من العقاب.

ويتمثل التفريد التشريعي أن يدخل المشرع في اعتباره عند وضع الجزاءات المقررة للجرائم المختلفة؛ ظروف الجريمة المرتكبة من ناحية، وظروف الجاني من ناحية أخرى[2]، أو تدخل المشرع بغية تنظيم تفريد العقوبة[3].

ويعرف التفريد التشريعي بأنه: التفريد الذي يتولاه المشرع ذاته محاولاً به أن يجعل من العقوبة جزاءاً متناسباً ومتلائماً مع الخطورة المادية للجريمة من ناحية، بما تتضمنه الجريمة من خطر على المجتمع، أو ما يمكن أن تحدث به من ضررٍ مع الظروف الشخصية للجاني الذي يمكن له أن يتوقعها أو يتنبأ بها وقت تحديده للجريمة والعقوبة، أي لحظة وضع نص التجريم والعقاب، وذلك من ناحية ثانية [4].

والمشرع هو الذي يحدد مبدئيا العقوبة تطبيقا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، إلا أنه في كثير من الحالات لا يستطيع القيام بذلك بشكل حصري ومحدد، فإذا كان وقت وضع النص التشريعي يقدر خطورة الجريمة؛ ويحدد تبعاً لها العقوبة الملائمة، إلا أنه على يقين بأن مرتكب هذه الجريمة ليس دائماً على هذه الدرجة من الخطورة الإجرامية، حيث أن ظروف وملابسات ارتكاب الجريمة تختلف من مجرم إلى مجرم أخر ارتكب نفس الجرم. وغالبا ما يضع المشرع عقوبتين للفعل كالإعدام أو السجن المؤبد في بعض الجنايات، والحبس أو الغرامة أو كليهما في بعض الجنح، كما يضع المشرع عقوبة متراوحة بين حدين أدنى وأقصى[5]، ويترك للقاضي سلطة تقديرية تتناسب وقائع الدعوى[6].

وحيث يرى المشرع في بعض الحالات أن العقوبة التي رصدها للجريمة لا تتلاءم مع ظروف إرتكابها، سواءً ما تعلق منها بالجريمة ذاتها أو بمرتكبها، ويرى أن هذه الظروف تستدعي إما تخفيف العقاب؛ وإما تشديده، فينص على ذلك، وقد يكون التخفيف أو التشديد وجوبا؛ أي يلتزم القاضي به دون أن يكون له أي سلطة تقديرية في هذا الشأن، وقد يكون إختياريا للقاضي[7]. ونكون أمام التفريد التشريعي في الحالة الأولى التي يكون التشديد والتخفيف وجوبيا.

الفقرة الثانية: ظروف التشديد

هذه الظروف محددة في القانون على سبيل الحصر، وبالنسبة لجرائم معينة (جنايات وجنح)، بحيث يؤدي توافرها إلى تشديد عقوبتها ورفعها عن الحد الأقصى المقرر لها قانوناً، وهي: عبارة عن ملابسات رافقت ارتكاب الجريمة قدر المشرع أن توافرها يوجب مبدئيا رفع العقوبة المقررة للجريمة التي ارتكبت في ظروف عادية [8].

أو هي الحالات التي يجب فيها على القاضي ـ أو يجوز له ـ أن يحكم بعقوبة من نوع أشد مما يقرره القانون للجريمة، أو يجاوز الحد الأقصى الذي وضعه القانون لعقوبة هذه الجريمة[9]، وبصفة عامة هي عبارة عن بعض الأمور أو الخصائص أو الوسائل أو الملابسات التي يرى المشرع أن تخفيفها يوجــب أو يجيز تشديد العقاب المقرر أصلا للجريمة بدونها[10].

وتنقسم ظروف التشديد إلى: ظروف عينية أو مادية، وهذه الظروف تتعلق بالملابسات العائدة للجانب المادي أو العيني في الجريمة، ككيفية ارتكابها، أو مكان اقترافها، أو زمن هذا الإقتراف.

أما النوع الثاني فهو: الظروف الشخصية: وهي تلك التي تتعلق بصفات خاصة بشخص الجاني، أو بطبيعة علاقته بالمجني عليه، أو بدرجة جسامة خطئه العمدي أو غير العمدي.

وتقسم أيضا إلى الظروف المشددة الخاصة: وهي تلك التي يقتصر أثرها من حيث وجوب التشديد وجوازه على جريمة أو جرائم معينة حددها القانون[11]. والظروف المشددة العامة: وهي تلك التي يقررها المشرع و يحددها على سبيل الحصر، بحيث ينصرف أثرها في تشديد العقاب إلى جميـع الجرائم، أو عدد كبير غير محدد منها [12].

[1] احمد لطفي السيد، المدخل لدراسة الظاهرة الإجرامية والحق في العقاب، ج1 ـ الظاهرة الإجرامية ـ، 2003، ص32
[2] احمد المجذوب، مرجع سابق، ص86
[3] لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص8
[4] مصطفى الجوهرى، مرجع سابق، ص6
[5] فـي الشريعة الإسلامية عقوبات القصاص، والحدود عقوبات ثابتة، ليس فيهـا حد أدنى وحد أعلى. فعقوبة القاتل الـمتعمد القتل بالسيف، وعقوبة الزنى، الرجم حتـى الـموت للـمحصن، والجلد لغير الـمحصن ثمانين جلدة، محددة العـدد، لا تزيد ولا تنقص.

وكـان القانون الوضعي فـي بداياته عـام 1791 يتضمن عقوبات ثابتة أيضا، غـيـر أن الحاجات العملية قضت بإدخال حد أدنى وحد أعلى لكثير مـن العقوبـات، يختار القـاضـي حين تثبت الجريمة لكل واحد مـن الـمجرمين حد العقوبة الأدنى أو الأعلى أو مـا بينهما حسبما يراه أعدل وأقوم، أخذاً بعين الاعتبار طريقة تنفيذ الجريمة وشراسة الفاعل، وعدوانيته أو ندمه ومبادرته إلـى تعويض الضحية. و لكن عقوبة الإعدام، وبعض الجرائم الـمحصورة بقيت دون حد أدنى أو أعلى.

وسارت جل القوانين الجنائية عـلـى هـذا النهج؛ فعقوبة الإعدام عقوبة ثابتة؛ ولكن القـاعـدة فـي العقوبـات الـمـانـعة للحـريـة أن تكون ذات حدين، والعبرة لنص الـقـانـون طبعا، ولا يوجد اليوم مـن ينتقد نـظـام الحدين فـي العقوبة، لأنه يعطي قـاضـي الـموضوع إمكانية تفريد العقوبـات، وتمكينه مـن رحمة عاثر الحظ الـذي قادته ظروف أليمة إلـى الجريمة، والتشدد عـلـى الـمشاكس الشرس الـذي يقدم عـلـى الجريمة وهـو راضٍ بهـا ساعٍ إليها. لمزيد من الإطلاع راجع.

عبد الوهاب حومد، نظرات معاصرة على قاعدة قانونية الجرائم والعقوبات في التشريع المقارن، مجلة الحقوق، نوع المجلة: سنوية، رقم العدد: 4، السنة: 2000، الكويت، ص8،9

[6] محمد خلف، مرجع سابق، ص88
[7] مصطفى الجوهرى، مرجع سابق، ص 13
[8] العلمي عبد الواحد، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، ط 2002، ص349
[9] أسباب تشديد العقاب …. وفق قانون العقوبات البحريني، مركز القوانين العربية

[10] مصطفى الجوهرى، مرجع سابق، ص25
[11] ومثال على هذه الظروف الحالة النفسية للجاني (سبق الإصرار والترصد م393 ق. ج. م)، وصفة العامل الخادم، والظروف الخاصة بملابسات إرتكاب الجريمة أو كيفية تنفيذها ( التسميم م398 ق. ج. م)، أو مكان إرتكابها ( الأماكن المعدى للسكنى م 313 قانون عقوبات مصري، أو دور العبادة م317 قانون عقوبات مصري، و م 508 ق. ج. م)، أو النتيجة ( الضرب و الجرح المفضي إلى الموت م251 قانون عقوبات مصري، والمواد 400ـ404 ق. ج. م )
[12] مصطفى الجوهرى، مرجع سابق، ص29