المقدمة :

الحمد للّه‏ رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد.

ان البحث في مصادر الحق من الموضوعات الشائكة، لتشابك هذه الحقوق وتداخل بعضها مع البعض أحياناً، وقد اختلفت وجهات نظر كثير من الباحثين القانونيين في هذه المصادر وتقسيمها.

وقد بذلت جهدي في هذا البحث المتواضع أن أعطي صورةً مبسطة عن مصادر الحق مبرزاً الجانب الشرعي فيها، لانها قد اشبعت بحثاً من قبل رجال القانون.

واللّه‏ الموفق

مصادر الحق :

ان كلمة مصدر تعني في اللغة (المنبَع) فيقال مصدر الماء هو المكان الذي يخرج منه الينبوع، وتستعمل الكلمة ذاتها فيما يتعلق بالقانون في معان، أهمها ثلاثة:

الأول: وسيلة لاخراج القاعدة القانونية، ويوصف المصدر هنا، بأنه مصدر رسمي، فيقال ان التشريع والعرف مصدران رسميان للقاعدة القانونية.

الثاني: تعبير عن الأصل التاريخي، فيقال: ان الشريعة الاسلامية تعد تاريخاً بالنسبة لبعض قانوننا المدني الحالي، بينما تعد مصدراً رسمياً لبعضه الآخر.

الثالث: وقد تعبر كلمة مصدر عن العوامل الاجتماعية المختلفة التي أدت الى وضع القاعدة القانونية ودفعت بها الى الظهور عن طريق مصدرها الرسمي، ويوصف المصدر هنا بأنه مصدر مادي او المصدر الموضوعي الذي تستمد منه القاعدة موضوعها.(1)

تعريف الحق :

ان الكلام عن مصادر الحق يضطرني الى تعريف الحق والى بيان أنواعه بصورة موجزة، لأتوصل من خلال ذلك الى بيان مصادر تلك الحقوق.

عن الاستاذ مصطفى الزرقا الحق بقوله: (الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة او تكليفاً).(2)
فالشرع هو مصدر الحقوق من وجهة نظر فقهاء المسلمين، اما من وجهة نظر فقهاء القانون، فعندهم أن القانون هو الذي يمنح الحقوق.

ومن هذه التعريفات تعريف المرحوم الاستاذ السنهوري فقد عرف الحق بقوله: (مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون).(3)
وعرفه الاستاذ الشرقاوي بقوله: (الحق قدرة لشخص من الاشخاص على ان يقوم بعمل معين يمنحها القانون ويحميها تحقيقاً لمصلحة يقرها).(4)

أنواع الحق ، وتقسيماته المختلفة :

يجري فقهاء القانون عند الكلام في أنواع الحق على تقسيم الحقوق تقسيمات عدة تتعدد بتعدد زوايا النظر اليها وليست كل هذه التقسيمات بذات أهمية متساوية لذلك سأذكر هنا أهم هذه التقسيمات بصورة موجزة، لنتعرف من خلالها على مصادر هذه الحقوق المختلفة.

تقسم الحقوق على رأي پعض رجال القانون الى حقوق سياسية وحقوق مدنية: ويقصد بالحقوق السياسية تلك الحقوق التي تثبت للافراد باعتبارهم اعضاء في جماعة سياسية معينة، فتخولهم حق المشاركة في حكم هذه الجماعة، كحق التشريح للمجالس النيابية وحق الانتخاب وحق تولي الوظائف العامة.

ويقصد بالحقوق المدنية ما يلزم ثبوته للافراد في نشاطهم العادي في الجماعة في حقوق غير ذات صفة سياسية.

ومنهم من يقسم الحقوق الى حقوق عامة وحقوق خاصة، ويقصد بالحقوق العامة تلك الحقوق التي يحكمها القانون نظراً لتعلقها بحق السيادة في الجماعة، اما الحقوق الخاصة فهي التي يحكمها القانون الخاص نظراً لعدم تعلقها بحق السيادة العامة في الجماعة وقيامها بين الاشخاص بوصفهم أشخاصاً عاديين.(5)

ويقسم الحق العام الى قسمين اساسيين: مالي وغير مالي، فالحق المالي: هو كل ما يتعلق بالمال كملكية الأعيان، او الديون او المنافع، وغير المالي كحق الولي في التصرف فى شؤون الصغير، والحقوق السياسية او الطبيعية كحقي الانتخاب والحرية.(6)

ويتجه بعض الفقهاء المحدثين الى تقسيم آخر للحقوق يقيمون على اساس المحل، نظراً لما للمحل من اثر كبير في تحديد مضمون الحق وتنويع سلطاته، فيقسمون الحقوق على هذا الاساس الى حقوق شخصية وحقوق عينية وحقوق ذهنية.

وعند المقارنة بين هذا التقسيم والتقسيمات الاسبقة يظهر ان الحقوق الشخصية من طائفة الحقوق غير المالية، وان الحقوق العينية من طائفة الحقوق المالية، بينما ترد الحقوق الذهنية الى الطائفتين معاً في نفس الوقت.(7)

مصادر الحق :

بصرف النظر عن اختلاف وجهات النظر في تقسيم الحقوق، فاني سأسير في البحث عن مصادر هذه الحقوق وفق تقسيمها الى حقوق مالية وغير مالية، وسأبدأ الكلام عن الحقوق غير المالية ومصادرها في الشريعة الاسلامية والقانون:

الحقوق غير المالية وهي على نوعين:

أ ـ الحقوق اللصيقة بالشخصية.

ب ـ حقوق الأسرة.

أـ الحقوق اللصيقة بالشخصية: تعريفها ـ خواصها ـ مصدرها.

تعريف هذه الحقوق :

قبل أن نعرف هذه الحقوق نذكر انه قد اطلق عليها عدة تسميات، فقد سميت بالحقوق الشخصية، او الحقوق الطبيعية او حقوق الانسان او الحقوق العامة، وجامع هذه التسميات كلها هو ضرورة هذه الحقوق بالنسبة للفرد وكونها تثبت له لمجرد أنه آدمي، ولذلك فيمكن تعريفها بأنها تلك القيم التي تتصل اشد الاتصال بذات الشخص وتلزمه للتمتع بحياته ولمزاولة مختلف أوجه نشاطه، وهذه القيم قد تلزم الانسان لحماية نفسه في مواجهة الدولة، قد تلزمه لحماية نفسه في مواجهة الافراد، وقد جاءت الشريعة الاسلامية بما يكفل للانسان تلك الحماية سواء كانت في مواجهة الدولة او في مواجهة الافراد.

ففي مواجهة الدولة نظم الاسلام العلاقة بين الحاكم ورعيته تلك العلاقة التي تقوم على احترام كل منهم للآخر، فقد أمر اللّه‏ سبحانه وتعالى طاعة ولي الأمر في غير معصية حين قال: «واطيعوا اللّه‏ وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم »، وفي مقابل هذه الطاعة دعى الاسلام الى حماية الافراد من تعسف السلطات العامة واعتدائها على حقوقهم، فهو يفترض وجود حقوق للافراد في مواجهة الدولة.

الأساس الفكري لطبيعة تلك الحقوق في الاسلام :

حقوق الافراد وحرياتهم في الاسلام ليست حقوقاً طبيعية وانما هي منح الهية، تستمد من الشريعة الاسلامية وتستند الى العقيدة الاسلامية، فاللّه‏ تعالى خلق الانسان وبهذا الخلق منحه حق الحياة وكرّم الانسان وفضله، وبناء على ذلك منحه حقوقاً وحريات ثابتة في شريعته، وجعله مريداً لتصرفاته وافعاله، اذ خلق فيه الارادة وجعله مسؤولاً عن هذه الارادة التي بها بفعل وبها يكف، وجعل مناط ذلك العقل، فكلف العاقل المريد لتصرفاته وأعماله دون غيره من مجنون أو مكره أو نحوه.

فالحرية الفردية تنبع من الارادة التي جعلها اللّه‏ لكل انسان وقيدها بالقانون الاسلامي فتقيد الحرية بها ايضاً، ثم ان الشرع قد قرر مسؤولية كل فرد عن اعماله وتصرفاته ولا تكون المسؤولية الا حيث تكون الحرية فبذلك قرر الشرع الحرية.

وقد اشار القرآن الكريم الى كون الحقوق (منحاً الهية)، فذكر حق الملكية مثلاً بوصفه منحه الهيه في قوله تعالى: «أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون »(8)، وقوله عزوجل: «وأتوهم من مال اللّه‏ الذي آتاكم »(9)، وأشار الى حق التكريم بوصفه منحة الهية بقوله تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر »(10)، واشار الى حق الحياة بوصفه منحه الهية بقوله تعالى: «قل هو الذي انشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والافئدة قليلاً ما تشكرون »(11).

وتكييف النظام الاسلامي للحقوق والحريات على أنها منح الهية يترتب عليه نتائج متعددة منها:

أنها تتمتع بقدر كاف من الهيبة والاحترام والقدسية التي تشكل ضمانة لعدم السطو علهيا من قبل الحكام، اذ لا يستطيع الحكام او الافراد قبل بعضهم البعض، السطو على تلك الحقوق والحريات ومصادرتها، الا اذا استباح لنفسه الخروج على شرع اللّه‏، وبذلك يفقد الاساس الشرعي لاستمراره في السلطة.

كما ان تكييف الحقوق والحريات على آنهامنح الهية يكسبها صبغة دينية ويجعل احترامها اختيارياً لا قسرياً، احتراماً ينبعث من داخل النفس ويقوم على الايمان باللّه‏ الذي شرع هذه الحقوق والحريات وفي هذا ما فيه من ضمان لحسن الالتزام بها وعدم الخروج عليها حتى مع القدرة على هذا الخروج.

ومنها ايضاً أنها غير قابلة بطبيعتها، للالغاء والنسخ، لان نسخ او الغاء اي حق من تلك الحقوق والحريات يحتاج الى وحي ينزل بالنسخ، ولا وحي بعد وفاة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم .

ومنها ايضاً أنها تكون خالية من الافراط والتفريط، الافراط في حقوق الافراد على حساب مصلحة الجماعة او التفريط في حقوقهم وحياتهم لمصلحة السلطة، اذ ان المانح لهذه الحقوق هو اللّه‏ تعالى بتشريع منه، لا الأفراد حتى يغالوا فيها ولا الدولة حتى تزيد في سلطاتها على حساب الأفراد.(12)

وفي مجال مواجهة الافراد، اقام الاسلام مجتمعاً على اساس العقيدة الاسلامية، وجعل كل من اعتنقها عضواً في المجتمع المسلم في اي قبيلة كان ومن أي اقليم كان ومن أي سلالة كان ومن اي لون كان.

والحق أن العقيدة الاسلامية صلحت اساساً لبناء المجتمع لانها اساس منطقي ومعقول وعادل، لأنها مفتوحة أمام المجتمع، مفتوحة لكل من يريد الانتماء الى المجتمع المسلم.

وقد نتج من اتخاذ العقيدة الاسلامية اساساً لقيام المجتمع ونظامه محاسن كثيرة منها:

1ـ نشوء رباط الاخوة بين الافراد في المجتمع:

فأفراد المجتمع الاسلامي لم يكونوا يتمتعون ازاء المجتمع بصفة المواطن فقط كما هو الحال في الدولة الحديثة، وانما يتمتعون بصفة زائدة على ذلك هي صفة الاخوة الناشئة من قوله تعالى: «انما المؤمنون اخوة »(13)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم)، وهذه الصفة تتضمن التزامات وحقوقاً يجب الوفاء بها بين افراد المجتمع قياماً يحق الاخوة الثابتة لكل المعتقدين للاسلام.

2ـ انتشار المعروف وانحسار المنكر:

وقد أثرت العقيدة الاسلامية تأثيراً بالغاً باتجاه انتشار المعروف وانحسار المنكر، وبذرته في المجتمع فكان ذلك ثمرة من ثمارها، فقد كان المعتنق لهذه العقيدة يخلع في بابها وهو داخل اليها كل اوضار الجاهلية ومنكراتها.

3ـ نبذ العصبية وتقرير مبدأ النصر للمظلوم:

وتلك هي الثمرة الثالثة من ثمرات العقيدة الاسلامية، فبعد ان كانت القبيلة تنصر فردها سواء اكان ظالما او مظلوماً بناء على العصبية وهي الارتباط بالنسب شعارهم في ذلك: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، استبدل النبي الكريم ذلك لهم في الصحيفة النبوية التي صدرت في العام الأول للهجرة كاعلان دستوري لتنظيم مجتمع المدينة فنص فيها: (وان النصر للمظلوم) فحصر النصر به وأوجب العقاب على الباغي كائناً من كان، كما غيّر النبي الكريم مفهومهم لشعار (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، بأن ينصر مظلوماً وينصر ظالماً بكفه عن ظلمه ومنعه منه، لان في ذلك ينصره على شهوة نفسه وينصره في حساب الآخرة بتجنبه الظلم في الدنيا.

4ـ تقرير مبدأ التقوى أساساً للتفاضل بين الناس:

وهذا هو الاساس المعقول للتمايز والتفاضل بين الناس في المجتمع، لأنه يتضمن تفضيل الانسان بقدر ما تحمله نفسه من فضائل واخلاق كريمة، وبقدر ما يكف عن الرذائل والجرائم والشرور، وهذا كله يتحقق بالتقوى، ومن هنا كانت التقوى أصلح اساس منطقي ومعقول للتفاضل والتمايز بين الناس في المجتمع، قال تعالى: «انّ اكرمكم عند اللّه‏ اتقاكم ».(14)

ومصدر هذه الحقوق في القانون، منها ما ينضوي تحت القانون العام، وهي التي تمثل علاقة الدولة بالأفراد حسبما يوضحها الدستور، ومنها ما ينضوي تحت القانون الخاص، حيث تكفل القانون بحماية هذه الحقوق وشرع لها القوانين الخاصة بها.

ب ـ حقوق الأسرة: تعريف هذه الحقوق ـ خواصها :

تعريف هذه الحقوق :

حقوق الأسرة: هي تلك القيم التي تثبت للشخص باعتباره عضواً في أسرة معينة، أما الاسرة فتعرف بأنها نظام قانوني يجمع أفراداً تربطهم رابطة قرابة او زواج ولا يشترط ان تكون القرابة قرابة دم أي قرابة طبيعية وانما قد تكون قرابة صناعية او قرابة تبني.(15)

ومن جهة نظر الشريعة لا يجوز ان نعتبر القرابة الصناعية او قرابة التبني من الروابط الاسرية، بل الرابطة الأسرية في الاسلام تقوم على اساس رابطة الدم او النسب.

وهذه الحقوق هي عبارة عن حقوق كل زوج قبل الآخر، وحقوقهما معاً قبل الأولاد وحقوق الأولاد قبلهما، وحقوق الأقارب بعضهم لبعض.

خواص هذه الحقوق :

أ ـ هي حقوق غير مالية، ومن ثم فلا يمكن التصرف فيها ولا تورث.

ب ـ آنهاحقوق يبدو فيها مصلحة الغير بقدر ما تبدو مصلحة صاحب الحق نفسه، ومرد ذلك الى ان الشريعة والقانون لم يقرها الا لمصلحة الاسرة في مجموعها، وهي تشمل صاحب الحق كما تشمل غيره من افراد الاسرة.

ومصدر حقوق الاسرة هو الشرع، فالشريعة الاسلامية نظمت تلك الحقوق ووضعت القواعد لحمايتها، سواء ما يتعلق منها بحقوق كل من الزوجين تجاه الآخر او بحقوق الاولاد او بنفقة الأقارب او المواريث او غيرها.

كما ان القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية للمسلمين، استوحت تشريعاتها من الشريعة الاسلامية، وهنا يلتقي القانون مع الشريعة في أن مصدر الحقوق الاسرية فيها هو الشرع.

الحقوق المالية :

هناك نوعان من هذه الحقوق، أصطلح على تسميتها بالحق الشخصي وبالحق العيني، ويجمع بين هذين النوعين اعتبار ان كلاً منهما يخول صاحبه المطالبة بمال، والفارق بين الحقين ان محل الحق الشخصي يكون عملاً يأتيه شخص معين، اما محل الحق العيني فهو شيء، وهذا المعيار المميز بين النوعين يقابل المعيار الذي يميز نوعين من نشاط الانسان كي يشبع حاجاته، ذلك ان الانسان اما ان يستعمل مباشرة ما يحيط به من أشياء، واما ان يطلب بصدده هذا الاستعمال معاونة الآخرين، ويقابل ال

نوع الأول من النشاط فكرة الحق العيني، كما يقابل النوع الثاني فكرة الحق الشخصي.(16)
وهناك طائفة ثالثة مستحدثة يضيفها بعض فقهاء القانون وهي الحقوق الذهنية او المعنوية، وتمتاز جميعها بانها تقوم بالمال وبالتالي التصرف فيها على خلاف الحقوق السابقة.

وها! انا أذكر بايجاز ما قاله الفقهاء المسلمون ورجال القانون عن هذه الحقوق ومصدر كل منها:

1ـ الحقوق العينية :

وهي تلك الحقوق التي تنصب على أشياء معينة، اي السلطات التي تكون لاشخاص وتوجد بينهم وبين أشياء معينة صلة مباشرة، وتجعل استفادتهم من هذه الأشياء غير متوقفة على قضاء او تدخل شخص آخر، ويعرف فقهاء القانون الحق العيني بانه: (سلطة مباشرة من شخص على شيء معين بالذات).(17)

ومن خلال التعرف السابق يتضح لنا ان الحق العيني يظهر عندما تكون العلاقة بين شخص وشيء مادي معين بذاته، بحيث يكون الشخصي ذا مصلحة اختصاصية تخوله سلطة مباشرة على عين مالية معينة، فهذه العلاقة يعبر عنها في لغة القانون بأنها حق عيني في ذلك الشيء المعين لصاحب السلطة عليه.

وأول حق نذكره اذا ما ذكرنا الحقوق العينية هو حق الملكية، لأنه اكثر هذه الحقوق انتشاراً ثم أكملها وأوسعها من حيث السلطات التي منحتها الشريعة والقانون للمالك على الشيء الذي يملكه والتي تستغرق كل منفعة يمكن ان تنشأ من هذا الشيء.

وها أنا أتناول خصائص هذا الحق بايجاز لأهميته كما قلنا.

الملك في الاصطلاح الشرعي :

عرف الملك من قبل الفقهاء رحمهم اللّه‏ تعالى بعدة تعاريف، منها: (انه حكم شرعي مقدر في العين او المنفعة يقتضي تمكن من يضاف اليه من انتفاعه بالمملوك وأخذ العوض عنه من حيث هو كذلك).(18)

وعرفه الشيخ الخفيف بقوله: (الملك، اختصاص بالشيء يمكن صاحبه شرعاً من الانفراد بالانتفاع به والتصرف فيه عند عدم المانع الشرعي).(19)

انواع الملك :

الملك نوعان: أ ـ ملك تام، ب ـ وملك ناقص.

فالملك التام: هو ما يرد على ذات الشيء ومنفعته معاً، والناقص ما يرد على أحدهما فقط، أي ملك ذات الشيء ـ رقبته ـ فقط، أو ملك منفعته فقط، فمن يملك أرضاً رقبة ومنفعة، فله الحق أن يستعملها بنفسه فيزرعها أو يبني عليها، أو يستغلها بايجارها للغير او يتصرف فيها بالبيع او الرهن ونحو ذلك، لان ملكيته ملكية تامة تسوغ له هذه التصرفات، ومن يملك رقبة الأرض فقط، ليس له أن يستغلها او ينتفع بها مادامت ملكيته لمنفعتها لم ترجع اليه بعد.

ومن يملك منفعة الأرض فقط ليس له ان يتصرف في رقبة الأرض، ولكن له ان يستوفي هذه المنفعة بنفسه او بواسطة غيره.

الملك الناقص: وهو اما ملك للعين فقط، واما ملك المنفعة فقط، وملك المنفعة وقد يسمى ايضاً بحق الانتفاع، وهو ينقسم الى قسمين: حق انتفاع شخصي وحق انتفاع عيني، فحق الانتفاقع الشخصي يتعلق بشخص المنتفع فيكون له فقط وقد ينتقل الى غيره في بعض الحالات كما ذكرها الفقهاء في محله، وحق الانتفاع العيني ويسمى بحق الارتفاق، يتعلق بعين العقار المقرر عليه هذا الحق ويتبع العقار المقرر له انى ذهب، فهو لا يثبت لشخص معين، بل يتبع العقار المقرر له هذا الحق ويتبعه كما قلنا، ويثبت لمن يملك هذا العقار، وعلى هذا يكون الملك الناقص ثلاثة انواع:

1ـ ملك العين فقط.

2ـ وملك منفعة فقط يكون معه حق الانتفاع شخصياً.

3ـ وملك منفعة يكون معه حق الانتفاع عينياً وهو حق الارتفاق.(20)

الملك التام: وهو كما قلنا فيما سبق يرد على ذات الشيء ومنفعته معاً، وأهم خصائص هذا الملك هي:

أـ حق الملك غير مؤقت بزمن معين ينتهي بانتهائه، لان حق الملكية لا يقبل التقيد بالزمان والمكان، فهو حق دائم ويبقى قائماً مادام الشيء المملوك قائماً ولا ينتهي الا بانعدامه او باخراجه من ملكية صاحبه بسبب ناقل للملكية او بوفاة مالكه حيث ينتقل الى الورثة.

ب ـ للمالك حق الاستعمال والاستغلال والتصرف فيما يملكه، فله ان ينتفع به شخصياً وهذا هو حق الاستعمال، وله أن ينتفع به بطريق غير مباشر كان يؤجره، وهذا هو حق الاستغلال، وله أن يتصرف به باي نوع من انواع التصرفات كان يوهبه او يرهنه او يبيعه او يوصي به، وهذا هو حق التصرف، فحق التصرف اعم من حق الاستعمال وحق الاستغلال اذ يشملهما ويشمل غيرهما من التصرفات القولية والفعلية.

ج ـ ليس على المالك ضمان الشيء المملوك له اذا اتلفه هو، لان الضمان يستحقه المالك، والانسان لا يكون مديناً لنفسه، فلا يجب عليه الضمان، لان ايجابه في هذه الحالة عبث، والاحكام لا تشرع للعبث، ولكن قد يترتب على اتلافه بعض الاحكام كالتعزيز اذا كان ما اتلفه ذا روح، والحجر عليه اذا كان اتلافه امارة على سفهه.(21)

الحقوق العينية التبعية :

الحقوق العينية التي ذكرناها فيما سبق تسمى الحقوق العينية الاصلية وهي تسمى بهذا الاسم لانها تقوم بنفسها وتطلب لذاتها بقصد الحصول على المنافع التي تخولها، وهنالك حقوق عينية اخرى لا تقوم بذاتها بل تستند في وجودها الى حقوق اخرى، ولا تقصد لذاتها بل يقصد بها ضمان الوفاء بهذه الحقوق، ولهذا تسمى الحقوق العينية التبعية، وهي حقوق عينية تبعية لانها تحقق لصاحبها سلطة مباشرة على شيء، وهي تبعية لانها تقوم لضمان حق شخصي، والحقوق العينية المخصصة للضمان هي حق الرهن الحيازي وحق الرهن الرسمي وحق الاختصاص وحق الامتياز.

وها انا اعرف هذه الحقوق بشيء من الايجاز تمشياً مع طبيعة البحث:

1ـ حق الرهن الحيازي: حق ينشأ من اتفاق بين الدائن والمدين بمقتضاه يسلم المدين الى الدائن عيناً من الأعيان، بقصد الاستيثاق، فيرتب الشرع والقانون على العين المرهونة حقاً عينياً للدائن يخوله حبس تلك العين لحين استيفاء الدين، ويتقدم على غيره من الدائنين الذين ليس لهم رهون او الذين لهم رهون اكتسبوها بعده.

2ـ حق الرهن الرسمي: ينشأ بالاتفاق ايضاً بين الراهن والمرتهن، والفرق بينه وبين الرهن الحيازي ان العين المرهونة تبقى بيد مالكها، ويتفق الطرفان على ذلك في عقد يوثقه موظف مختص بتحرير العقود الرسمية وهو الموثق، وللمرتهن ـ الدائن ـ سلطة مباشرة تسمح له بان يقتضي حقه من ثمن المال المرهون دون اعتبار لأي حق آخر تال في نشونه لحقه هو في الرهن، والرهن الرسمي لا ينشأ الا على الأموال الثابتة، اي العقارات.

3ـ حق الاختصاص: فهو حق يشبه الرهن الرسمي، الا ان الاتفاق فيه ينشأ بأمر من القاضي، وتكون لصاحب الاختصاص كل المزايا التي تترتب للدائن المرتهن، والاختصاص يشبه الرهن الرسمي من وجه، انه لا يقتضي نقل حيازة الشيء من يد المدين الى يد الدائن صاحب الاختصاص، كما أنه خاص بالعقارات.(22)

خصائص الحقوق العينية :

اذا عرفنا الحق العيني بأنه سلطة مباشرة لشخص على شيء معين بالذات، يتضح لنا ان الخاصية الاساسية للحق العيني، هو وجود سلطة مباشرة على شيء.

والخاصية الثانية له هي ان الحق العيني ينصب على شيء معين بذاته، وذلك ان السلطة المباشرة لشخص على شيء لا يمكن ان توجد على شيء لا يعين على هذا الوجه، ويجعل اغلب فقهاء القانون من خصائص الحق العيني تخويل ميزتي التتبع والأولوية او التقدم، اللتين سبق ان بينا معناهما عند ذكرنا للحقوق العينية التبعية وتحديد وظيفتها.

1ـ الحق الشخصي: عرف المرحوم الاستاذ السنهوري الحق الشخصي بقوله: (وهو رابطة ما بين شخصين دائن ومدين بمقتضاها يطالب الدائن المدين باعطاء شيء او القيام بعمل او الامتناع عن عمل).(23)

وعرفه المرحوم الشيخ الزرقا بما يقرب من هذا ايضاً، فذكر بان الحق الشخصي عبارة عن (مطلب يقره الشرع لشخص على آخر).(24)

فالحق الشخصي اذن هو سلطة تثبت لشخص معين في اقتضاء أداء معين من شخص آخر، واصطلاح الحق الشخصي الشائع عن هذا النوع من الحقوق، انما يقوم على اساس تضمنه علاقة او رابطة بين الاشخاص، وتحققه عن طريق شخص معين غير صاحبه.

والحق الشخصي كما يتبين في تعريفه، ليس محله كالحق العيني شيئاً من الاشياء، وانما محله دائماً عمل معين من جانب مدين معين، سواء كان هذا العمل ايجابياً او سلبياً، ومثال العمل الايجابي التزام المقترض برد مبلغ القرض الى المقرض، والتزام المقاول ببناء منزل، والتزام الطبيب باجراء عملية جراحية معينة، وما شابه ذلك.

ومثال العمل السلبي أو الامتناع عن عمل معين، التزام بائع المحل التجاري قبل مشتريه بعدم منافسته له عن طريق فتح محل مشابه في نفس الحقي طوال مدة معلومة، والتزام مؤلف متعاقد مع دار نشر معين، بعدم نشر مؤلفه في دار اخرى خلال مدة يتفق عليها في العقد.

والحق الشخصي ليس في واقع الامر الا احد وجهين لرابطة الاقتضاء، فهذه الرابطة تفترض وجود طرفين من الاشخاص يملك احدهما اقتضاء اداء مالي معين ويلزم الآخر بالخضوع لهذا الاقتضاء، فيصبح بموجب هذه الرابطة حق للطرف الأول، وتلقي على عاتق الثاني التزاماً، فالحق الشخصي والالتزام وجهان متقابلان لرابطة شرعية وقانونية واحدة هي رابطة اقتضاء، كل ما في الأمر ان الحق الشخصي هو وجه تلك الرابطة الايجابية المتمثل في سلطة الاقتضاء المعطاة للدائن، والالتزام هو وجهها السلبي المتمثل في الالتزام المحمل به المدين، ولذلك يمكن ان تسمى هذه الرابطة (رابطة اقتضاء) او (رابطة التزام)، ويستوي في التعبير عنها اطلاق اصطلاح (الحق الشخصي) او اصطلاح (التزام).

فالاصطلاح الأول انما يعبر عن هذه الرابطة من ناحية الدائن اي من ناحية الطرف المقتضي، والاصطلاح الثاني انما يعبر عنها من ناحية المدين، اي من ناحية الطرف الملتزم.(25)

مصادر الالتزام :

قلنا قبل قليل ان الحق الشخصي والالتزام وجهان متقابلان لرابطة شرعية وقانونية واحدة، وقد غلبت كلمة الالتزام على كلمة الحق الشخصي في اسم النظرية اذ سميت (نظرية الالتزام العامة)، لا نظرية الحق الشخصي.

لكن هذا النظر في ترادف الحق الشخصي والالتزام، كما يقول المرحوم الزرقا غير سديد، اذ الواقع ان الالتزام لا يصح ان يجعل مرادفاً للحق الشخصي، وانما هو مقابله الذي يجمعه واياه التناظر والتلازم.

فطبيعة الحق الشخصي ايجابية تقوم على غرض الاستيفاء، والاستغناء في احد الجانبين: وطبيعة الالتزام سلبية تقوم على فكرة الايفاء او الافتقار بتفريغ العهدة والذمة من الجانب الآخر.(26)

عناصر الالتزام :

ان الحق الشخصي والالتزام، وان كانا مفهومين مختلفين كما يقول الاستاذ الزرقا، الا ان عناصرهما واحدة، فالحق الشخصي ينطوي على ثلاثة عناصر مادية هي:

صاحب الحق، والشخص المطلق، والمحل الذي يتعلق به. وهذه العناصر هي بذاتها عناصر الالتزام، غير آنهاتحمل هنا اسماء اخرى.

فيسمى صاحب الحق ملتزماً له، ويسمى الشخص المكلف ملتزم، ويسمى الشيء الذي تعلق به الفعل محل الالتزام.

سبب الالتزام :

ان العناصر المذكورة عناصر مادية، ولا يكفي وجودها لوجود الالتزام الذي يربط بين الطرفين بالرابطة الالتزامية، بل لا يد لذلك من سبب يربط طرفي الالتزام (المتعاقدين) بموضوعه، اي ينشئ الالتزام بين الطرفين.

هذا السبب هو الحادثة المولدة للالتزام، وهي تشمل جميع التصرفات القولية والفعلية، وكل ما ينشأ عنه حق في نظر الشرع، وعلماء القانون يسمون هذا السبب مصدر الالتزام.

ان هذا السبب او المصدر المولد للالتزام يتنوع بحسب الحوادث والتصرفات، وينحصر بوجه عام فى خمسة مصادر كلية هي: العقد، والارادة المنفردة، والفعل الضار، والفعل النافع، والشرع او القانون من وجهة نظر فقهاء القانون.

ومعنى المصدرية في هذه الامور ان كل التزام لابد ان يكون مستنداً الى احد هذه الاساليب ومتولداً عنه، والمراد من مصدر الالتزام المتقدم انما هو السبب المباشر لا المصدر الامر في ايجاب الالتزام، اذ تكون عندئذ جميع المصادر مردها الى الشرع او الى القانون، لانه هو الامر بالالتزام عند وجود تلك الاسباب المباشرة.(27)
وها أنا اتكلم عن كل مصدر من المصادر الخمسة بايجاز:

المصدر الأول : العقد

العقد لغة: الضمان والعهد والشد والرطب والوصل؛ نقول: عقد طرفي الحبل اذا وصلهما بعقدة تمسكهما، وعقد الزهر، تضامنت اجزاؤه.

وسمي القرآن العهود عقوداً، قال سبحانه وتعالى: «يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود »(28)، وقال تعالى: «واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولاً»(29).

العقد اصطلاحاً: عرف ابن عابدين العقد بقوله: (مجموع ايجاب احد المتكلمين مع قبول الآخر)(30)، وعرفه المرحوم مصطفى الزرقا بقوله: (ارتباط ايجاب بقبول يظهر اثره في محله)(31)، وعرفته مجلة الاحكام العدلية بانه: (التزام المتعاقدين امراً وتعهدهما به وهو عبارة عن ارتباط الايجاب والقبول).(32)

وفي القانون عرفه الاستاذ السنهوري بقول: (العقد توافق ارادتين على احداث اثر قانوني سواء كان هذا الأثر هو انشاء التزام او نقله او تعديله او انهاؤه)(33).
فالعقد انما يكون بين اثنين، اما التصرف المنفرد كالطلاق والعتق والوقف والابراء واليمين والتنازل عن الحقوق كحق الشفعة او المسبل او المرور فلا يعتبر عقداً.

وبعضهم كالجصاص يعتبر التصرف من طرف واحد عقداً، فهو يشمل ما فيه الالتزام من الجانبين كالبعى او ما كان الالتزام فيه من طرف واحد كالهبة والصدقة والوصية والابراء، وهو رأي الحنفية.

حقيقة العقد والتصرف :

حقيقة العقد ان يكون بين طرفين يربطان بالكلام امراً معيناً يترتب عليه احكام او يربطان الأمر بالكتابة او الاشارة او الفعل، فالعقد جزء من التصرف، فاذا كان التصرف من جهة واحدة لا يسمى عقداً، وانما هو فعل او قول يصدر بارادة واحدة ورتب عليه الشرع نتائج حقوقية.(34)
ولذلك كان التصرف اشمل من العقد فهو يشمل القول بارادتين او بارادة واحدة، والمراد بالارادة القصد الى الشيء والاتجاه اليه، وهي قوة في النفس تحمل صاحبها على الشيء او تركه، وفيها معنى التصميم والتنفيذ اللذين يؤديان الى احداث الأثر، وهي في العقود تحدث اثراً شرعياً او قانونياً.

اركان العقد :

اركان العقد الاساسية، الايجاب والقبول، والاركان الثانية هي الاهلية والمحل والسبب، ويعبر عن الايجاب والقبول بالتراضي، والتراضي من الرضا، وهو طيب النفس وارتياحها، والتراضي الرضا من الطرفين فهو مشاركة منهما، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تأ:لوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراضي منكم »(35).

والايجاب ما صدر ابتداء من الطرف الأول، والقبول ما صدر ثانياً من الطرف الثاني موافقاً للكلام الاول، فاذا وافق القبول الايجاب انعقد العقد.

والتراضي ¨تحقق باللفظ والكتابة والاشارة وبأية وسيلة من وسائل الاتصال الحديثة التي تعبر عن رغبة المتعاقدين ابرام العقد كالفاكس والتلكس وغيرها، كما ينعقد بالتعاطي على رأي كثير من الفقهاء، والتعاطي هو الأخذ والعطاء، وهو المبادلة الفعلية الدالة على تبادل الارادتين دون التلفظ بالايجاب او القبول.

ويكون الاعطاء من جانب واحد ولذلك لو علق التاجر الثمن على البضاعة، فدفع المشتري نفسه الثمن واخذ البضاعة جاز من غير تلفظ بايجاب او قبول.

ويمكن ان نعتبر عقود الاذعان من انواع بيع التعاطي كدفع اثمان الكهرباء والماء وغاز الانابيب ونحوها، فانها تتم بتقديم طلب مكتوب او الجهة المسؤولة، وتقوم المؤسسة بدورها بعد الأسلاك اللازمة وايصال المنافع المطلوبة ويتم ذلك بعد دفع الاثمان، ويدخل فيه ركوب الحافلات وقطع البطاقات والتذاكر لأي محل يحتاج الى ذلك كالمعارض والمتاحف ونحوها.(36)

ويستثنى من ذلك عقد الزواج فلا يجري فيه التعاطي، لأن الزواج له اعتبار ديني وأسري خاص متمثل بما هو أهم من المال وهو العرض والشرف فلا يجري فيه الا العقد بلفظ الايجاب والقبول او الكتابة او الاشارة المعهودة للعاجز عنهما.

عيوب العقد :

خلو التراضي من العيوب، وتسمى ثوابت الارادة او عيوب التراضي وهي ما يؤدي الى فوت الرضا في العقد، ويكون في أمور متعددة، وهي من شروط الأهلية كذلك، واذا وحد مثل ذلك العيب بطل الرضا فيبطل العقد.(37) ونحب أن نذكر هنا:

1ـ ان العيب صفة تقوم بالشيء ولا تذهب بأصله.

2ـ ان العيوب خارجة عن معنى العقد، فهي ليست من الايجاب ولا القبول، وهما ركن العقد وهي اما أن تكون: سماوية بمعنى آنهاوافقت ولادة الارادة، كما يقول الاستاذ الزرقا، او بمعنى أنها خارجة عن ارادة الانسان كان يولد مختل العقل، او مكتسبة نشأت بسبب طارئ على الشخص او على المتعاقد عليه.

وقد فصلت كتب الفقه الاسلامي والقوانين المدنية الكلام عن تلك العيوب مما لا مجال لذكرها في هذا البحث المختصر.(38)

العاقدان :

العاقدان من اركان العقد، ولابد فيهما من الأهلية، وهي صفة يقدرها الشارع في الشخص تجعله صالحاً لخطاب تشريعي، والخطاب التشريعي هو الحكم الشرعي، والحكم الشرعي هو: (خطاب اللّه‏ المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء او تخييراً)(39)، ومعنى كونه صالحاً للحكم الشرعي، اي كونه صالحاً لاثبات الحقوق له وترتيب الواجبات عليه، وقيامه بالتصرفات، ويشترط في هذه الاهلية العقل والبلوغ والرشد والحرية، والأهلية نوعان وكل نوع اما ان يكون كاملاً او ناقصاً.

1ـ فالنوع الاول: أهلية الوجب وهي:

صلاحية الشخص للالتزام والالتزام، والمراد بالالتزام ثبوت الحق له، والمراد بالالتزام ثبوت الواجبات عليه، او هي صلاحية الانسان لان تكون له حقوق قبل غيره(40)، وعليه حقوق وواجبات لغيره، سواء كان ذلك بنفسه او بواسطة من له الولاية عليه، وهي اما ان تكون:

أ ـ ناقصة: وهي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له، كصلاحية الجنين قبل ولادته لان يرث، ولا علاقة لهذه الأهلية بانشاء العقود، لانها ناقصة.

ب ـ كاملة: وهي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له والواجبات عليه منذ ولادته.

2ـ النوع الثاني: أهلية الأداء وهي:

(صلاحية الشخص لصدور التصرفات منه على وجه يعتد به شرعاً).(41)
أي صلاحية الشخص لالتزام امر او الزامه غيره بواسطة التعاقد، ويشمل حقوق اللّه‏ من صلاة وصوم وحج وعيرها، كما تشمل التصرفات القولية والفعلية الصادرة عن الانسان والتي توجب المسؤولية عليه.

وهي اما ناقصة او كاملة بحسب كمال العقل ونقصانه:

أ ـ فالناقصة: هي صلاحية الشخص لصدور بعض التصرفات عنه دون بعض، وذلك عند من له أصل التمييز ولم يكمل عقله، كالصبي والمعتوه المميزين، والمحجور عليه للسفه او المريض مرض الموت، وتتوقف التصرفات على اذن الغير كالولي.

ب ـ والكاملة: وهي صلاحية الشخص لمباشرة التصرفات على وجه يعتد به شرعاً دون ان يتوقف نفاذها على اذن غيره.

وضابطها او مدارها على معنى الذمة، وهي العهد، والعهد ما كان سبباً لان يطالب به الانسان ويطالب به(42)، وأهلية الأداء أربعة هي:

1ـ دور الجنين.

2ـ دور الانفصال الى التمييز (وهو الذي يسمى دور الطفولة).

3ـ دور التمييز وهو ان يصبح الولد بحاله يميز فيها بين الخير والشر والنفع والضرر.

4ـ دور البلوغ والرشد.

ويحكم بالبلوغ اذا ظهرت امارته، ولا اعتبار لسن معينه، وقد حدده القانون بخمس عشرة سنة، وحدد سن التمييز بسبع سنوات، والحقيقة كما يقول الاستاذ الخياط: (ان حد البلوغ يتغير بتغير الامكنة والبلدان والشعوب).(43)

والرشد علامة الأهلية للتصرف وقد حددته بعض القوانين بثمانية عشر عاماً، والأصح كما يقول الاستاذ الزرقا: (التحديد بالصفة، وهو ان يتصرف تصرفاً لا يغبن فيه ويصلح ماله ويديره)(44)، لقوله تعالى: «فان أنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم أموالهم »(45)، يعني فان وجدتم فيهم صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم، وليس هناك ما يمنع شرعاً من تحديد سن الرشد اذا اقتضت المصلحة ذلك حسب المذهب الحنفي(46)، وهو ما لجأ اليه فقهاء القانون.

المحل :

وهو الركن الثالث من أركان العقد عند الجمهور، وهو المعقود عليه، وهو مقصود العاقدين من ابرام العقد، وهو ما يثبت فيه اثر التعاقد وأحكامه.

ومحل العقد اما ان يكون مالاً او عيناً او منافع او عملاً، والمال اما ان يكون نقداً كالذهب او الفضة وما في حكمهما من الأوراق المالية، واما ان يكون عيناً مالياً كالمبيع والمرهون، وقد يكون المحل عيناً غير مالي كالمرأة في الزواج، وقد يكون منفعة كالمستأجر من الدور والاراضي وغيرها من العقارات او عروض التجارة من مكيل او موزون او عددي، وقد يكون عملاً كالخياطة والبناء والتجارة وغيرها، وقد يكون حقاً من حقوق الملكية المعنوية، ملكية فنية او صناعية كالخبرة والاختراع.

والمحل قد يكون صالحاً ليكون معقوداً عليه وقد لا يكون، فالصالح كل ما اعتده الشرع او العرف الصحيح، وغير الصالح كل ما منع الشرع العقد عليه كالخمرة والميتة، او المرأة ذات المحرم من محرمها، فيشترط في المحل ان يكون قابلاً لحكم التعاقد، ومرجع ذلك اما لنهي الشرع كالميتة او لتنافيه مع ما خصص له كالأنهار الكبيرة او لعدم ملكية العاقد له.

ويشترط فيه ان يكون موجوداً عند التعاقد، فلا يصح التعاقد على معدوم كبيع الزرع قبل ظهوره، لاحتمال عدم ظهوره، وبيع الحمل في بطن امه لاحتمال ولادته ميتاً، ولا يجوز التعاقد على مستحيل الوجود كالتعاقد على معالجة مريض توفي او حصاد احترق.

واستثنى من ذلك ارعة عقود، السلم والاجارة، والمساقاة والاستصناع، مع عدم المحل لحاجة الناس اليها(47)، ويشترط في المحل ايضاً أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد، أي أن يكون العاقد قادراً على تسليم المعقود عليه والا فالعقد باطل.

ويشترط كذلك ان يكون المحل معلوماً مبيناً للعاقدين في عقد المعاوضة بحيث لا يكون فيه جهالة تؤدي الى الغرر والنزاع بين الطرفين، وهذا باتفاق الفقهاء.(48)

العقد الصحيح والعقد الباطل :

العقد الصحيح: ما كان مشروعاً بأصله ووصفه، او ما استجمع شروطه واركانه كعقد البيع اذا اجتمعت اركانه من الايجاب والقبول وشروطه بان يكونا صادرين ممن له الأهلية الكاملة، وان يتم التوافق بين الايجاب والقبول، وحكم العقد الصحيح ثبوت أثره في الحال كعقد الاجارة فانه اذا صدر الايجاب والقبول من كاملي الأهلية وثبتت ملكية المستأجر للمؤجر، وتم الاتفاق على الأجرة وتم التسليم للمأجور، أصبح العقد صحيحاً.

العقد الباطل :

العقد الباطل: ما لم يكن مشروعاً بأصله ووصفه، فهو عكس الصحيح، وهو الذي يفقد احد ركنيه من الايجاب والقبول او يكون المحل منهياً عنه شرعاً كالعقد على بيع الخمور والمخدرات، أؤ يكون الغرض غير مشروع كتأجير بندقية لقتل بريء، ففقدان العقد لأي عنصر جوهري فيه يجعله باطلاً.

والعقد الباطل لا يترتب عليه أي أثر لأنه معدوم شرعاً ولا يحتاج الى فسخ ويعتبر باطلاً منذ نشوئه ويلزم كل متعاقد بان يرد الى الآخر ما تسلمه منه كارجاع الثمن والمعقود عليه في عقد البيع، أو ان يرد الشريكان ما تسلمه كل واحد من المال من الآخر بمقتضى عقد الشركة.

والعقد الباطل لا تلحقه الاجازة بخلاف العقد الموقوف، فالعقد الموقوف عقد صحيح متوقف على اجازة الغير ان شاء أمضاه وان شاء رفضه.

العقد الفاسد :

العقد الفاسد: ما شرع بأصله، ولم يشرع بوصفه، أي توافرت اركانه من الايجاب والقبول، ولكن اتصل به وصف نهي الشارع عنه فيقع الخلل في غير الركن الأساسي، أي من وصف من اوصفاه او في شرط من شروطه فيكون فاسداً، وهذا هو رأي الحنفية فقد قالوا بنظرية الفساد، وهو وسط بين الصحة والبطلان، اذا ان العقد صحيح في أركانه لم يقع فيها اى اختلاف يبطلها، ولكن حصل اختلال في الفرع، فلا يعتبرون العقد باطلاً مادام اصله صحيحاً وفيه اختلال في فروعه يمكن تصحيحه، فهو في مرتبة بين الصحة والبطلان، بخلاف رأي جمهور الفقهاء الذين يعتبر مقتضى النهي البطلان، فحكموا ببطلان العقد المقترن بشرط او وصف ممنوع، ولا فرق بين النهي عن ركن او وصف عارض للعقد ملازم له أو مجاور له.(49)

أسباب الفساد ونتيجة العقد الفاسد :

ترجع اسباب الفساد الى اسباب عامة كالجهالة المفضية الى النزاع والغرور في الأوصاف والمقادير ونحوها، والى اسباب خاصة كالشيوع في الرهن وعدم تحديد الاجارة بمدة معينة وعدم التقابض في المجلس في عقد الصرف.

ونتيجة العقد الفاسد ان يكون مستحقاً للفسخ من أي من المتعاقدين او من القاضي وهو مقيد بشرطين:

أـ ان يكون المعقود عليه على حاله بعد تنفيذ العقد، فلو كان قمحاً تم طحنه او داراً زاد فيها، فالفسخ ممتنع وتثبت الملكية.

ب ـ ان لا يؤدي العقد الفاسد الى ابطال حقوق قد اكتسبها غير المتعاقدين في المعقود عليه، فيكون الحق الثاني الناشئ للغير مانعاً من الفسخ.(50)
ولا يرتفع الفساد بالاجازة، بل بازالة اسباب فساده كبيان نسبة الأرباح في الشركة مثلاً.

المصدر الثاني : الإرادة المنفردة

المقصود بالارادة المنفردة هنا، ان هناك بعض التصرفات في الفقه الاسلامي، يترتب عليها اثر شرعي اذا صدرت من طرف واحد، وقد حصر الاستاذ السنهوري التصرفات التي تتم بارادة منفردة بما يلي:

1ـ الالتزام.

2ـ الوعد.

3ـ النذر.

1ـ الالتزام: وهو ان يلزم شخص نفسه باعطاء مال لآخر دون مقابل، فهل يتقيد الملتزم بارادته المنفردة هذه ان يعطي المال الذي التزم باعطائه؟

ذهب بعض الفقهاء الى ان الصيغة هذه تعتبر من قبيل التبرع، والتبرع غير ملزم عندهم، في حين ذهب آخرون الى القول: (ان الرجل هنا ملزم بما الزم به نفسه ما لم يمت الملتزم او يفلس)، لان الموت والافلاس يسقطان هذا الالتزام، فلا يجب شيء للملتزم له لا في التركة ولا عند اعلان افلاس الملتزم.

2ـ أما الوعد: فهو ما بفرضه الشخص على نفسه لغيره بالاضافة الى المستقبل لا على سبيل الالتزام في الحال، وقد يقع الوعد على عقد او عمل، كان يعد شخص آخر بيعه ارضاً او ببنائه داراً، وجمهور الفقهاء على ان الوعد ملزم ديانة لا قضاء، ولكن المالكية اختلفوا فيه على أربعة اقوال:

أ ـ أنه ملزم في جميع الاحوال ما لم يمت الواعد او يفلس.

ب ـ انه غير ملزم ولا يقضى به في اية حال.

ج ـ انه ملزم ان كان على سبب دخل الموعود في السبب او لم يدخل.

د ـ انه ملزم ان كان على سبب ودخل الموعود من اجل الوعد في السبب.

مثال ذلك! ان يعد شخص آخر باعطائه مبلغاً من المال اذا عزم على الزواج، فهذا الوعد ملزم للواعد، تزوج الموعود او لم يتزوج على القول الثالث، وهو ملزم للواعد بشرط ان يتزوج الموعود له على القول الرابع.

3ـ والى جانب الالتزام والوعد يوجد النذر: وهو التزام فيه قربة للّه‏ تعالى بصفة تدل على ذلك، وحكمه عند فريق من الفقهاء وجوب الوفاء به، ولكنه يسقط يموت الناذر وعند فريق آخر من الفقهاء، وجوب الوفاء به اذا علق على مرغوب فيه، والتمييز بين الوفاء والكفارة اذا علق على أمر غير مرغوب فيه.

وقد تحدث الارادة المنفردة آثاراً اخرى، غير انشاء الالتزام فتكون تارة سبباً لكسب الملكية كالوصية، وتارة تكون اسقاطاً كابراء الدائن مدينة من الدين والوقف، كما ان الارادة المنفردة قد تحدث آثاراً شرعية وقانونية اخرى غير المذكورة، وذلك كاقرار الانسان على نفسه، وعزل الوكيل، واجازة الوصية وغيرها.(51)

المصدر الثالث :العمل غير المشروع

والذي يهمنا في العمل غير المشروع في الفقه الاسلامي هو التعويض المالي الذي حصل نتيجة الاخلال بالعقد او اتلاف مالي يوجب التعويض فيكون مصدراً من مصادر الالتزام.

وكما يقول الاستاذ السنهوري لا توجد قاعدة عامة في الفقه الاسلامي تقضي بان كل عمل غير مشروع يلحق ضرراً بالمال يوجب التعويض فيكون مصدر الالتزام، الا ان الفقهاء رحمهم اللّه‏ تعالى نصوا على الاحوال التي يجب فيها الضمان وقد ذكر منها خمساً، وها أنا الخص ما قاله رحمهم‏الله في هذه المسألة:

أولاً: بعض الجنايات التي تستوجب الحد وتستوجب عقوبة عامة كالسرقة وقطع الطريق، وللسرقة حكمان أحدهما يتعلق بالنفس وهو القطع، والاخر يتعلق بالمال وهو الضمان، والضمان يكون اذا هلك الشيء المسروق فيلزم السارق مثله او قيمته، واذا بقي قائماً وجب رده الى صاحبه.

ولقطع الطريق كما للسرقة حكمان، احدهما يتعلق بالنفس وهو وجوب الحد، والآخر يتعلق بالمال وهو وجوب الرد ان كان المال قائماً بعينه، ولصاحبه ان يأخذه اينما وجده، في يد المحارب او في يد من ملكه المحارب ببيع او هبة او غير ذلك، وان لم يكن المال قائماً ضمنه قاطع الطريق مثله او قيمته.

ثانياً: الإكراه: وهو حمل الغير ما لا يرضاه ولا يختار مباشرته، وهو اما ملجئ بعدم الرضا ويفسد الاختيار، او غير ملجئ يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار، واذا اكره شخص آخر على الاتيان بعمل مادي ضار، فحكمه ان يضاف الحكم الى الحامل ابتداء، فلو أكره رجل على اتلاف مال، فأتلفه، اعتبر الحامل (المكره) متلفاً بتسبب، ووجوب الضمان لوجود ركن التعدي.

ثالثاً: التعزيز: وهو ان يغر شخص آخر على فعل ما، فاذا لحق المغرور ضرر من جراء ذلك، كان له الحق في الرجوع على الغار بما اصابه، فلو قال شخص لآخر اشتر هذه السلعة من هذا البائع وان ضامن لها، فاذا استحقت تلك السلعة فللمشتري الرجوع على البائع وعلى الغار بالضمان في هذه الحالة، فاذا ضمن احدهما لم يضمن الآخر.

رابعاً: الغصب: وهو اخذ مال متقوم محترم بلا اذن من مالكه على وجه يزيل يده بفعل في العين، ويجب على الغاصب رد المغصوب لو كان قائماً في مكان غصبه لتفاوت القيم بتفاوت الامكنة، وأجرة الرد على الغاصب، وان هلك المغصوب فعلى غاصبه رد مثله او قيمته يوم غصبه، سواء كان الهلاك بسبب من الغاصب او بآفة سماوية، ولو غصب المغصوب من غاصبه فالمالك بالخيار في تضمين من شاء، الغاصب او غاصب الغاصب، فان ضمن الأول يرجع بما ضمن على الثاني، وان ضمن الثاني لا يرجع على الأول، ولو اختار المالك تضمين احد الغاصبين ليس له ان يطالب الآخر.

ولو أن الغاصب باع العين المغصوبة، فالمغصوب منه مخير في تضمين من شاء، فاذا ضمن المشتري رجع بما ضمن على البائع.

خامساً: الاتلاف: ويكون مباشرة او تسبباً، فالاتلاف مباشرة هو اتلاف الشيء بالذات من غير ان يتخلل بين فعل المباشر والعين التالفة فعل آخر، والاتلاف تسبباً يكون بعمل يقع على شيء فيفضي الى تلف شيء آخر، فمن قطع حبل قنديل معلق فسقط القنديل على الارض وانكسر يكون قد اتلف الحبل مباشرة وكسر القنديل تسبباً، والقاعدة ان المباشر ضامن وان لم يتعد والمتسبب لا يضمن الا اذا كان متعمداً او متعدياً.(52)
ومن خلال كلامنا عن الضمان يظهر لنا ان سببه هو الاعتداء على مال الغير وانه ينطوي تحت العمل غير المشروع الذي يعتبر مصدراً من مصادر الحق الشخصي والعيني.

المصدر الرابع :الإثراء بلا سبب

الذي يظهر من خلال اقوال الفقهاء، وكما يقول الاستاذ السنهوري رحمهم‏الله ان الفقه الاسلامي لا يعترف بوجه عام بالاثراء بلا سبب مصدراً للالتزام، فلو عمر احد الشريكين الملك المشترك بلا اذن شريكه، يكون متبرعاً لا رجوع له عليه بما صرفه على العمارة، ولو ان زرعاً كان بين اثنين فغاب احدهما وانفق الآخر يكون متبرعاً.(53)
الا انه يستثنى من ذلك بعض الحالات التي يكون فيها الاثراء بلا سبب مصدراً للالتزام وهذه الحالات هي:

حالة من يضطر للقيام بخدمة للغير درءاً لمضرة عن نفسه، كما لو قضى الولد دين أبيه وأفتك ماله المرهون في هذا الدين، لم يكن متبرعاً ويرجع الولد على ابيه بجميع ما قضى، لانه مضطر الى قضاء الدين، اذ لا يمكنه الوصول الى ملكه الا بقضاء الدين كله.

اذا اختلط ملكان قضاء وقدراً، فمالك الاكثر يملك الاثنين معاً، ومالك الأقل يرجع بقيمته على مالك الاكثر، الا اذا اتفقا على غير ذلك، وان كات قيمة الشيئين سواء، يباع عليهما ويقتسمان الثمن.

اذا تعالم شخص مع ناقص الاهلية، فالعقد باطل، ولكن له الرجوع على ناقص الأهلية بمقدار ما أثرى.(54)

المصدر الخامس : الشرع :

هناك حقوق مصدرها المباشر هو الشرع، ويطلق عليها فقهاء القانون ـ الوقائع الطبيعية ـ وهي الالتزامات التي لا يظهر فيها حادث مباشر تضاف اليه، فيكون ايجابها من التدابير الشرعية التي يتدخل فيها الشرع مباشرة، لتحقيق مصالح يقدرها، ونظم حيوية او اجتماعية يحميها، كنفقة الأقارب والولاية وايجاب الضرائب، فانها تضاف الى الشرع بهذا الاعتبار، وان كانت في الحقيقة تستند الى اسباب قائمة كوجود القرابة المحرمية مع الفقر والعجز في وجوب نفقة القريب على قريبه، لان الشرع لا يتدخل ويفرض بلا سبب(55)، ورجال القانون ينسبون هذه الحقوق الى القانون.

حقوق الابتكار ومصدرها :

هناك نوع آخر من الحقوق اوجدته الحياة المدنية والاقتصادية والثقافية الحديثة، ونظمته القوانين العصرية والاتفاقيات الدولية، يسميه بعض رجال القانون الحقوق الادبية كحق المخترع والمؤلف وكل متج لأثر مبتكر فني أو صناعي، فان لهؤلاء حقاً من الاحتفاظ بنسبة ما اخترعوه او انتجوه اليهم في احتكار المنفعة المالية التي يمكن استغلالها من نشره وتعميمه، ومثله العلاقات الصناعية والعناوين التجارية وامتيازات اصدار الصحف الدورية، كل ذلك بشرائط وحدود تقررها القوانين المحلية والاتفاقيات الدولية.

فهذا النوع من الحقوق لم يكن معروفاً في الشرائع القديمة، لانه وليد العوامل والوسائل المدنية والاقتصادية الحديثة، وهو لا يدخل في الحقوق العينية لانه لا يرد مثلها مباشرة على شيء مادي معين، كما انه لا يدخل في الحقوق الشخصية لانه لا يفرض تكليفاً خاصاً على شخص معين آخر غير صاحب الحق.

والقصد من اقرار هذه الحقوق انما هو تشجيع الاختراع والابداع كي يعلم من يبذل جهده فيهما انه سيختص باستثمارهما، وسيكون محمياً من الذين يحاولون ان يأخذوا ثمرات ابتكاره وتفكيره ويزاحموه في استغلالها.

وقد صدرت كثير من القوانين في دول العالم لحماية هذه الحقوق، فأصدرت مصر القانون رقم 57 لسنة 1939م الخاص بحماية الحقوق المتعلقة بالعلاقات والبيانات التجارية، والقانون رقم 11 لسنة 1940م الذي يتضمن بعض احكام تتعلق بالمقومات المعنوية للمحل التجاري وغيرها من القوانين الاخرى(56).

وفي الشرع الاسلامي كما يقول الاستاذ مصطفى الزرقا متسع لهذا التدبير تخريجاً على قاعدة المصالح المرسلة في ميدان الحقوق الخاصة.(57)

الخلاصة :

في ختام بحثي هذا أبين أهم النتائج التي توصلت اليها من خلاله:

اختلف القانونيون في تقسيم الحقوق الى عدة آراء فمنهم من قسمها الى حقوق سياسية ومدنية ومنهم من قسمها الى حقوق عامة وخاصة، وآخر قسمها الى مالية وغير مالية، وقد اخترت التقسيم الأخير لقربه من وجهة نظر فقهائنا رحمهم اللّه‏ تعالى في بيان هذه الحقوق.

والحقوق غير المالية اما حقوق لصيقة بالشخصية وهي تلك القيم التي تتصل اشد الاتصال بذات الشخص وتلزمه للتمتع بحياته ولمزاولة مختلف اوجه نشاطه، وقد جاءت الشريعة الاسلامية بما يكفل للانسان تلك الحماية سواء كانت في مواجهة الدولة او في مواجهة الافراد.

او حقوق تثبت للانسان باعتباره فرداً من اسرة معينة، وهذه الحقوق اجمعها مصدرها المباشر هو الشرع، اما الحقوق المالية: فهي اما حقوق عينية او شخصية والحقوق العينية على نوعين: اصلية وتبعية، وقد فصلت القول في الحق العيني والحق الشخصي، وبينت مصادر هذه الحقوق الخمسة، أخذاً منها بوجهة نظر فقهاء القانون، ويظهر لكل باحث ان تلك المصادر قد تناولها فقهاؤنا المسلمون بالبحث وان لم ينظروا لها نظريات محددة.

واخيراً تناولت بالبحث طائفة اخرى من الحقوق لا تنضوي تحت الحقوق المالية ولا الحقوق الشخصية، بل تخص صاحب الحق ذاته، وقد اطلق على هذه الحقوق عدة مسميات منها الحقوق الذهنية او الفكرية، او حقوق الابتكار، وقد تبين لي ان الشرع الاسلامي لا يمانع في قصر هذه الحقوق على اصحابها، وان من يعتدي عليها لزمه تعويض صاحبها ما اصابه من ضرر، واللّه‏ اعلم.

أهم مراجع البحث :

بعد القرآن الكريم.

1ـ المبسوط، للامام شمس الدين محمد بن سهل السرخي، مطبعة السعادة بمصر، ط1، 1324هـ.

2ـ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للامام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكسائي، مطبعة الامام بالقاهرة، 1967م.

3ـ رد المحتار على الدر المختار، للشيخ محمد أمين بن عمر بن عبدالعزيز الدمشقي الشهير بابن عابدين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1386هـ ـ 1966م.

4ـ الفروق، للامام احمد بن ادريس بن عبدالرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي، مطبعة دار احياء الكتب العربية 1324هـ.

5ـ مصادر الحق، للاستاذ عبدالرزاق السنهوري، القاهرة 1955م.

6ـ الوسيط ـ مصادر الالتزام، للاستاذ عبدالرزاق السنهوري، المجلد الأول، دار النهضة العربية، القاهرة.

7ـ نظرية العقد والخيارات في الفقه الاسلامي، للاستاذ الدكتور عبدالعزيز الخياط، الناشر المعهد العربي للدراسات المالية والمصرفية، الأردن ـ عمان.

8ـ المدخل الى الشريعة الاسلامية، للاستاذ الدكتور/ عبدالكريم زيدان، الناشر مؤسسة الرسالة، بيروت.

9ـ التعسف في استعمال الحق، للدكتور محمد شوقي السيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1994م.

10ـ الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد، للاستاذ مصطفى الزرقا، المجلد الثالث، نظرية الالتزام العامة في الفقه الاسلامي.

11ـ النظام السياسي الاسلامي، للدكتور منير البياتي، دار البشير، الأردن 1994م.

12ـ دروس في أصول القانون، للاستاذ جميل الشرقاوي، ط2، 1984م، دار النهضة العربية القاهرة.

13ـ المدخل الى القانون، للدكتور حسن كيرة، القاهرة 1993م.

14ـ دروس في المدخل لدراسة القانون، للدكتور احمد سلامة، مطبعة عين شمس 1984م.

15ـ المدخل لدراسة القانون، للدكتور سليمان الناصري، ط1، دار وائل، الأردن 1999م.