فظاعتها ونتائجها المدمرة على البشرية والطبيعة والحياة، مازالت الحرب مقبولة من حيث المبدأ في منطق الدول والمنظمات الدولية بين الحكومية وما زال تعريف جريمة العدوان ينتظر دخوله حرم المحكمة الجنائية الدولية عام 2007.

يترك تاريخ البشرية في الحلق غصة بكل ما يتعلق بالحرب، وإن أظهرت معطيات علم الإناسة أن الحرب ظاهرة منتشرة بكثرة وإن اختلف تواترها وتواجدها بين الشعوب وكان لبعضها مثل الاسكيمو Eskimos والأندمانيز Andamanais الاعتزاز بعدم ممارستها، فمن الصعب معرفة كم من الشعوب المسالمة قد أبيدت لأن خيار السلام لم يكن عالميا وبقي قانون الغاب يعطي الأقوى، بالمعنى العسكري للكلمة، الحق في البقاء والهيمنة!

فى روما

شغلت مشكلة تعريف العدوان الحكماء والفلاسفة على مدى القرون العديدة. وقد انبثق مفهوم العدوان منذ أيام روما القديمة، ويعيد مؤرخو القانون مصطلح العدوان إلى الكلمة اللاتينية “Aggressio” أي الاعتداء. وكان من أقدم تعاريف الظاهرة “اعتداء من دولة أقوى على دولة أضعف لتحقيق مكاسب ومصالح والتوسع في حدود وثروات المعتدي”، نجد في قواميس علم الإناسة (الأنثروبولوجيا) تعبير جماعة بدل دولة باعتبار العدوان قد سبق الدول.

جسدت حياة السيد المسيح القصيرة ووصاياه نضالا لا سابق له ضد منطق العدوان، حيث قامت أركان دعوته على منطق التماسك والتكامل بين الحقيقة والعدالة والحب والسلام. رغم ذلك بقيت الاتجاهات السلمية في التاريخ، داخل وخارج الأديان أضعف من تلك المناصرة لتجريم الحرب بكل أشكالها، “عادلة” كانت أم جائرة.

ولعل خير ما يجسد هذه الروح ما جاء في إنجيل متى: “سمعتم أنه قيل لكم :أن تحب قريبك وتبغض عدوك. أما أنا فأقول لكم : أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا معاملة الذين يبغضونكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم”.متى 43:5

إن المبرر الأخلاقي الرئيس للحرب هو صيانة الأبرياء من الضرر الأكيد ، لقد ألّف القديس أوغسطين كتابه المسمى ” مدينة الإله” في القرن الخامس الميلادي وكان لعمله هذا بالغ الأثر في فكرة الحرب العادلة. يقول أوغسطين فيه – وهو يقرر المعنى الذي أتى به سقراط – : إن الأحسن للفرد المسيحي أن يتأذى بالضرر من أن يؤذي غيره به، ولكن هل يجدر بصاحب المسؤولية الأخلاقية أن يلزم غيره من الأبرياء بترك الدفاع عن أنفسهم؟

الجواب عند أوغسطين وعامة أصحاب فكرة الحرب العادلة هو أن ذلك الإلزام غير صحيح. إذا أقيمت الحجة على أن الأبرياء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم سيصيبهم ضرر هائل إن لم تستخدم قوة قاهرة لإيقافه. في هذه الحالة يدعونا المبدأ الأخلاقي لحب الجار إلى استخدام القوة.

أوغسطين يؤكد على ضرورة بناء منظومة متكاملة للعلاقات السلمية بين البشر وعدم حصر الموضوع بالتعبير المسلح: ” لا يكمن السلام الحقيقي وحسب في غياب الصراعات المسلحة وإنما في النظام السلمي tranquilitas ordinis على العكس من ذلك غياب الحرب لا يعني بالضرورة غياب الصراع”.

لقد أوجدت البشرية أشكالا متعددة لحماية نفسها من العدوان وفظائع الحرب أو على الأقل التقليل من أهوال الاعتداء على النفس والعرض والمعتقد والطبيعة والأرض.

في المجتمع العربي قبل الإسلامي ابتكر العرب الأشهر الحرم وهي أشهر يحرم فيها وقوع الحرب لأي سبب كان ولأي مبرر كان حفظا للنفوس وردا للعدوان وبحثا عن الوسائل السلمية في حل النزاعات وهي في أهم الروايات عشرين يوما من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر أيام من ربيع الآخر.

وقد سميت الحروب التي جرت في الأشهر الحرام بالفجار والمفاجرة وعّير من خاضها ويعرف للعرب فجارات أربع.