بحث قانوني هام عن المسؤولية الجنائية

مقدمة:

لقد اهتم الفكر الجنائي القدم بدراسة المسؤولية الجنائية حيث كان الشخص يسأل مسؤولية مطلقة على أي شخص يقوم بسلوك إجرامي تحت ولايته، فكان رب الأسرة يسأل عن كافة أفراد أسرته حالة قيامهم بجريمة، لكن الأمر تطور فأصبحت المسؤولية الجنائية مقصورة على الأفعال التي يقوم بها الجاني، فكانت كذلك مطلقة فلم تكن موانع المسؤولية متجلية بصورة واضحة ذلك أن الجاني يسأل بالرغم من الظروف التي أحاطت به وقت ارتكابه للسلوك الإجرامي.
و قد اهتمت الشريعة الإسلامية كذلك و أحاطت بمن تجب عليهم المسؤولية الجنائية إذ تقر الشريعة المسؤولية على الإنسان الحي المكلف فإذا مات سقطت التكاليف و لم يعد محلا للمسؤولية. كما تنثنى المسؤولية الجنائية على الأطفال الذين لم يحلموا لقوله تعالى: “إذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلكم”.- سورة النور الآية 59- و قوله ص “رفع القلم على ثلاث الصبي حتى يحتلم، و النائم حتى يستقيظ و المجنون حتى يعقل” كما تنتقي المسؤولية الجنائية عند المكره و ذلك لقوله تعالى “إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان” سورة النحل الآية 106 و قوله تعالى : فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا أثم عليه” سورة البقرة الآية 172 و قوله ص: “رفع عن أمتي الخطأ و النسيان و ما ! ستنكر هو عليه”.
و بالتالي نستخلص من هذه الآيات و الأحاديث أن المسؤولية الجنائية لا تقوم في الشريعة الإسلامية على الصبي حتى يبلغ أي حتى يكون أهلا لفهم ما يفعل و يجب أن تقوم الصلة بين الفعل الجاهل و النتيجة كما لا تقوم المسؤولية الجنائية على المكره و المجنون، و إن الإنسان لا يسأل عن فعل أتاه غيره و بالتالي فإن الشريعة الإسلامية أقرت بأن المسؤولية الجنائية تقوم في غير هذه الحالات المتمثلة في صغر السن الصبي غير الحالمين المكره و المجنون حتى يعقل.
و اهتم التشريع الجنائي بتلازم سلوك الشخص في القيام بالجرائم و الظروف المحيطة في ارتكاب الجريمة، ذلك أن موضوع المسؤولية الجنائية يعتبر من أهم المواضيع في الدراسة الجنائية فإتيان السلوك الإجرامي كنا بصدد قيام المسؤولية الجنائية التي تستوجب بالضرورة ارتكازها على أساسين هما حرية الاختيار و الإدراك على أنه اختلف الفقه في هذه المسألة.
إن دراسة موضوع أسس المسؤولية الجنائية يقتضي بالضرورة معرفة موانع هذه المسؤولية و تعدادها ذلك أنها ظروف تؤثر لإرادة الجاني فتفقد حرية الاختيار و الإدراك فيستوي لديه السلوك السوي و السلوك الإجرامي.
و عليه سوف تكون دراستنا لهذا الموضوع في فصلين فالأول حددناه في قيام المسؤولية الجنائية و نتطرق من خلاله إلى أساس المسؤولية الجنائية و ذلك بالتعرض إلى مفهوم حرية الاختيار و الإدراك كما نوضح أسس المسؤولية الجنائية عند المذاهب الفقهية، الحتمي و التقليدي، و نتطرق للترجيح بين المذهبين و نقترح بعض الأسس للمسؤولية الجنائية.
أما في الفصل الثاني فنتطرق إلى أشخاص المسؤولية الجنائية و ذلك بتسليط الضوء على الشخص الطبيعي و الشخص الاعتباري في إمكانية مساءلته جنائيا أم نفي المسؤولية عنه بالإضافة إلى التعرض إلى موجب المسؤولية الجنائية في كون وقوع الجريمة شرطا لازما و تثار مسألة الحصانة الدبلوماسية.

الفصل الأول: – قيام المسؤولية الجنائية -:

تعتبر المسؤولية الجنائية من النظريات الأساسية في قانون العقوبات إلا أن المشرع لم يقم بتحديدها بدقة حيث اكتفى بتحديد موانعها و بالتالي فسح المجال للفقه لكي يحدد هذه المعالم من الموانع وضحها المشرع.
و المسؤولية بوجه عام تكون إما بالقوة أو بالفعل ويراد بالمفهوم الأول صلاحية الشخص لأن يتحمل تبعية سلوكه و بالتالي فهي صفة أو حالة في الشخص تلازمه سواء وقع منه ما يقتضي المساءلة أو بلم يقع منه شيء بعد أما المفهوم الثاني فيراد به تحميل الشخص تبعة سلوك صدر منه حقيقة، و عليه فالمسؤولية ليست مجرد صفة أو حالة قائمة بالشخص لتحمل الجزاء الجنائي الناشئ عما يرتكبه و لكنها بالإضافة إلى ذلك فهي جزاء، كما أن المسؤولية الجنائية أنواع فقد تكون دينية أو خلقية أو قانونية و هذه الخيرة تختلف باختلاف الفروع فيمكن أن تكون مدينة أو إدارية أو جنائية أو دولية و يقصد بالمسؤولية الجنائية، صلاحية الشخص لتحمل الجزاء الجنائي الناشئ عما يرتكبه من جرائم و الجزاء له مظهرات هما العقوبة و التدبير الوقائي و على هذا الأساس يمكن تعريف المسؤولية بأنها صلاحية الشخص لتحمل العقوبة و التدبير الوقائي الذي يقرره القانوني كأثر للجريمة التي ارتكبها. لكن هذا التعرف يثير مشكلة حيث أن هناك خلاف بين العقوبة و التدبير الوقائي من حيث الطبيعة و الهدف و شروط الاستحقاق حيث يمكن القول بأن من كان أهلا لارتكاب فهو أهل لتحميل التدبير الوقائي المقرر لها، لكن يختلف الأمر بالنسبة للعقوبة فقد تقع الجريمة من شخص و مع ذلك لا يكون أهلا لتحميل عقوبتها، لأن استحقاق العقوبة يقتضي فضلا عن ارتكاب الجريمة شروطا أخرى فلا يعاقب الشخص عن الجريمة التي ارتكبها.
و سوف نتعرض في هذا الفصل إلى أساس المسؤولية الجنائية من خلال التعرض على شروط قيامها التي تعتمد على حرية الاختيار و الآراك كما سوف نتعرض إلى أشخاص المسؤولية الجنائية أي متى تقوم المسؤولية بالنسبة لكل من الشخص الطبيعي و الشخص الاعتباري بالإضافة إلى هذا تعالج موجب المسؤولية الجنائية التي تعتبر وقوع الجريمة شرطا لازما حيث تثار مسألة الحصانة الدبلوماسية.

المبحث الأول: أساس المسؤولية الجنائية

تحث المسؤولية الجنائية يتناول الأساس الذي تقوم عليه و بمعنى آخر هل مجرد حدوث أم لا بد من شروط أخرى، فإذا ارتكب الجاني جريمة قتل فهل مجرد حدوث الجريمة يكفي لقيام مسؤوليته أم يتعين توافر شرط أو شروط أخرى كحالته العقلية و درجة تمييزه و درجة اختياره، فهي من الناحية النظرية الأساس الذي يجب أن تبنى عليه المسؤولية الجنائية و من الناحية التشريعية الأساس الذي يستلزمه القانون الذي يحكم الواقعة لقيام المسؤولية الجنائية.
فالمسؤولية الجنائية هي عبارة عن التزام قانوني يتحمل التبعية أي التزام جزائي و هي في نفس الوقت التزام تبعي، حيث أنها تنشأ بصفة أساسية مستقلة بذاتها، بل تنشأ دائما بالتبعية لالتزام قانون آخر و هو الالتزام الأصلي، ذلك لحمايته من عدم التنفيذ لضمان الوقاء الاختياري به.
و من المسلم به الفقه الجنائي أن صدور القاعدة التجريمية عبارة عن واقعة قانونية منشئمة لعلاقة تمثل الدولة أحد أطرافها و يمثل الفرد طرفها الثاني علاقة قانونية تؤهل كل منهما لأن تنشأ له حقوقا و التزامات متبادلة، فالقاعدة تنشأ مباشرة على عاتق الفرد التزاما أصليا غالبا ما يكون موضوعه الامتناع عن سلوك أو الاتباع عن تحقيق الواقعة المعينة التي حددتها تلك القاعدة في صورة الالتزام العام. و هذا الالتزام من حيث عموميته يشبه ذلك الالتزام السلبي العام المعروف في القانون المدني الذي يكفل لصاحب الحق، الحق العيني مال عدم تعرض أحد له في المنفعة بذلك الحق و يستمد هذا الالتزام مصدره من النص الجنائي في الشيء الذي يحدد ما هو محظور.
يقابل هذا الالتزام أن ينشأ للدولة حق في أن يفي الملتزم اختيار بالتزامه هذا بأن يبقى ممتنعا عن السلوك المحظور و عن تحقيق الواقعة المدنية في الشطر الحكمي للقاعدة التجريمية، و حقها هذا يقابله هذا الالتزام بان لا تطالب الفرد إلا بالامتناع عن ارتكاب نفس السلوك المحظورة و عن تحقيق ذات الواقعة بان لا تطالب الفرد غلا بالامتناع عن ارتكاب نفس السلوك المحظورة و عن تحقيق ذات الواقعة المحددة في تلك القاعدة و من ينشأ للفرد مقابل ذلك حقه الشخصي في أن يفارق كل أنواع السلوك الأخرى و أن تحقق كافة الوقائع التي تخرج عن الحدود التي رسمها القاعدة للواقعة القانونية المجرمة، هذه الحقوق و الالتزامات الأصلية المتبادلة بين الدولة و الفرد التي أنشئتها القاعدة القانونية سرعان ما تتحول إلى جانبها الآخر أي جانب الالتزام الجزائي أو المسؤولية الجنائية. إذا أدخل أحد الأطراف بالتزامه فيها فإذا كان هو الفرد الذي ارتكب السلوك المحظور أو حقق الواقعة المجرمة، تولد التزامه بتحمل العقوبة إي أنشأت المسؤولية الجنائية للدول حقها الشخصي في مطالبة الجاني قضائية بأن يتحمل تلك العقوبة التي حددها المشرع للشرع قدرا و نوعا في الشق الجزائي من قاعدته التجريمية و من ثم يصبح الجاني ملتزما بالاستسلام لتنفيذ هذه العقوبة و الواقع أن الجزاء هنا يستعمل كجنس عام يمكن أن يتضمن نوعين، الأول واحد وهو الجزاء الثاني، فالأول هو الوسيلة التي تمنع الإجرام يتميز بعنصر عن اصطلاح يدل دلالة وضعية على معنى الالتزام القانوني بتحمل العقوبة التي هدد المرء بتوقيعها كجزاء لتحقيق الواقعة المجرمة التي تتضمنها تلك القاعدة.
تثبت المسؤولية الجنائية على الشخص المتمتع بالملكات العقلية التي تمكنه من حرية الاختيار على إثبات السلوك الإجرامي من عدمه، فإذا غابت حرية الاختيار لهذه القدرة على التمييز فلا مناط من مساءلة هذا الشخص إضافة إلى كونه أهلا لتوقيع الجزاء عليه بمعنى تكون لديه الأهلية الجنائية.
و كذلك تثبت المسؤولية الجنائية بإتيان الجاني لسلوكه الإجرامي و هو مدرك النتائج فعله و سلوكه هذا واعيا في ذلك بأنه سوف يعتدي على مصلحة تحميها المجتمع و القانون و عليه نتطرق لهذين الشرطين في المطلبين التاليين:

المطلب الأول: حرية الاختيار

يتمتع الإنسان بملكات ذهنية تسمح بالقدرة على التمييز في إتيان السلوك الإجرامي من عدمه و على ذلك يكون أهلا لوحده في تحمل المسؤولية الجنائية و يظهر هذا المبدأ جليا في كون الشخص الطبيعي مسؤول جنائيا حتى و لو ارتكب جريمة لفائدة الشخص الاعتباري، ذلك أن حرية الاختيار ميزة نفسية من خصائص الإنسان ذاته.
فالشخص إذا ما اختل و عيد بسبب مرض أو علة فإنه يفقد المقدرة على حرية اختيار السلوك السوي في الموقف الذي هو بصدده و إذا أتى سلوكا مجرما انتقت مساءلته لانعدام حرية الاختيار لديه و كذلك الحال بالنسبة للشخص الذي يأتي سلوكا مجرما من جراء خطر مفاجئ لا قبل له بدفعه فلا يكون لديه الوقت لاختيار سلوكه ذلك أن هدفه الوحيد هو النجاة و الخلاص بنفسه من الهلاك حتى و لو كان السلوك مجرما.
و عليه فإذا ما ثبت أن الإنسان عند إتيان السلوك الإجرامي كانت لديه حرية الاختيار في اجتنابه و جبت مساءلته و قامت بذلك المسؤولية الجنائية إضافة إلى إدراك لنتائج فعله بمعنى انه يدرك أن هذا الذي أتاه أو سوف يأتيه معاقب عليه قانونا.

المطلب الثاني: الإدراك

إن الإدراك على جانب كون له الخيار فيما يأتي من الأفعال و فيما يترك مسوق بأن يسلك مسلكا يستحيل عليه بحكم تكوينه و ظروفه أن يسلك غيره مدركا في ذلك نتائج أفعاله و ما سوف يترتب عليه من آثار من عقاب أو تدابير احترازية ذلك أن العقوبة غاية الردع و الإصلاح.
و الإدراك ملازم للوعي فمتى كان الشخص واعيا لأفعاله كان مدركا لطبيعتها و نتائجها على جانب صفتها الشرعية و غير الشرعية.
و يعرف الفقه الوعي بأنه وضع ذهني تتجلى فيه الوظيفة الطبيعية للقوى العقلية بحيث يبنى بأن هذه القوى تعمل بصورة صحيحة، فاتصال الإنسان مع نفسه و مع العالم الخارجي يتم ضمن سباق عضوي و نفساني بالغ العقيدة.
فالفكرة تتكون لدى الإنسان ضمن عملية ذهنية مؤلفة من استنكار و تصور و ربط، فإذا ماتت هذه العملية بصورة صحيحة كانت الفكرة سليمة بصورة متوافقة مع الحقيقة الثابتة أما إذا طرأ أي خلل على مصدر القوى العقلية اختل وعي الشخص مضطربا مما يحول دون إدراكه لحقيقة الأمور. و على ذلك فإنه متى توفرت حرية الاختيار في إتيان السلوك الإجرامي لدى الشخص و كان مدركا في ذلك لنتائج أفعاله و جبت مساءلته جنائيا و توقيع الجزاء عليه حتى تحقق العقوبة غايتها في ذلك الردع و الإصلاح و قد تعددت المذاهب الفقهية في الاعتماد على أساس المسؤولية الجنائية فهناك مذاهب قبلت حرية الاختيار و الإدراك كأساس للمسؤولية الجنائية و هناك من اعتمدت على أساس المسؤولية الاجتماعية الممثلة في الخطورة الكامنة في الجاني، فكان هناك مذهبان، المذهب التقليدي و المذهب الحتمي على أنه يرجح بينهما بمذهب توفيقي.

المبحث الثاني: أساس المسؤولية الجنائية عند المذاهب الفقهية

إن تحديد أساس المسؤولية الجنائية يعتبر أمرا لا غنى عنه عند رسم السياسة الجنائية و يتناول الأساس الذي ترتكز عليه الأحكام القانونية الجنائي و بالتالي يعاقب المجتمع بمقتضاه فهو الذي يبين الشروط اللازمة توفرها لقيام المسؤولية الجنائية و هو الذي يحدد كونه رد فعل اجتماعي إزاء الجريمة وهو الذي يقتصر على العقوبة أو التدبير الاحترازي أو تمكن الجمع بينهما.
و تبرز أهمية تحديد أساس المسؤولية بصفة خاصة بالنسبة لطوائف المجرمين الذين يشكل سلوكهم و حالتهم الخاصة خطورة على المجتمع كالشواذ و العائدين و ليس أدل على ذلك من اختلاف الفقه في النظرة للعود و الاعتياد.
و يذهب التقليدون إلى أن سبب تشديد عقوبة العائد أو المعتاد يقوم على افتراض توافر أذناب أشد لديه، مرجعه إرادة أكثر إصرار على الشر بدليل عدم اعتداله بالتحذير القضائي السابق توجيهه له على أن هناك جانبا آخر من الفقهاء التقليدين يرون أن العود و الاعتياد ينقص من درجة أذناب الفاعل و سندهم في ذلك أن تكرار ارتكاب الجرائم يكون عادة تؤثر على الإرادة فتنقص منها.
و في الجانب الآخر نجد أنصار المدرسة الوضعية ينكرون على الإطلاق حرية الإرادة و يرون في ضروب السلوك الإنساني كافة – ومنه الجريمة نتيجة حتمية يحكمها قانون السببية و تحددها مختلف الظروف الشخصية و البيئة و لهذا فإنهم لا يقيمون رد فعل الاجتماعي حيال العائد أو المعتاد على مسؤوليته الأدبية و لكن على أساس من حالة الخطورة الكامنة فيه.
و قد جرت محاولات عديدة للتوفيق بين تنادي به المدرسة التقليدية من أجل حرية الاختبار هي أساس المسؤولية و ما تقوم به المدرسة الوضعية من حتمية، كما طالب بعض الفقهاء بالتجاوز عن الحث في أساس المسؤولية قولا منهم أن هذه مسألة فلسفية لا دخل للقانون الوضعي بها.
لقد تفرقت الآراء في البحث عن أساس المسؤولية الجنائية فانقسم الفكر القانوني في تناوله لهذا الموضوع إلى مذهبان أحدهما يبني المسؤولية على أساس حرية الإنسان في الاختبار و هذا هو المذهب التقليدي و المذهب الحتمية الذي بينهما على أساس الخطورة الإجرامية للجاني على انه يرجع بين المذهبين بمذهب توقيفي.

المطلب الأول: المذهب التقليدي

ساد هذا المذهب أولا بين جميع المشتغلين بالمسائل الجنائية و لا يزال حتى اليوم متبعا في أغلب التشريعات، و هو المذهب التقليدي في تحديد أساس المسؤولية و مناط مسؤولية الجاني مردها أن في وسعة الأحجام على ارتكاب الجريمة بدلا من الإقدام عليها فإذا أقدم عليها عد مسؤولا أدبيا لحصيانه أوامر المشرع و نواهيه و يستطرد أنصار هذا الرأي بأنه مهما كانت ثقل الدوافع التي تضغط على إرادة الفرد لتوجيهه وجهة فإن من المؤكد أن يبقى لديه القدرة على أن يميز بين الخير و الشر و الصواب و الخطأ و عليه أن يتبع طريق الخير و يبتعد عن طريق الشر بحكم واجب الأخلاق أو الآداب التي عليه أن يراعيها، فإذا عاد عن طريق الخير و اقدم على الجريمة فقد اخطأ يشعر ضميره بقبحه و من ثم فقد حقت عليه المسؤولية و أن أي رد فعل في المجتمع لا يراعي هذه الحقيقة و لا يكون فقط مخالفا للعناصر الأولية للعدالة بل منافيا أيضا للمنطق و المعقول.
و لا يعنى القول بحرية الاختيار أن الإرادة تحدد بعيدا عن كل مؤثر فإن الاعتراف بهذه الجريمة يعني أن الإنسان إذا واجهته مؤثرات متعددة بعضهما يدفعه إلى العمل و البعض يرغبه عنه فسيظل له دائما القدرة على الاختيار و في ذلك يذهب الرأي إلى أن الإنسان إذا ما وجهته مؤثرات مختلفة فإنه لا يتصرف كالحيوان الذي تجئ ردود أفعاله تلقائيا بل على العكس يتصرف بطريقة إيجابية إذ يختار الطريق الذي يسلكه بين عدة طرق تعرض أمامه و لكن الطريق المؤثر الذي يغرى الإنسان باتباعه وهو في اختياره لهذا الطريق لا يخضع تلقائيا لقوة المؤثرات جل لاختياره هو: و يرى أصحاب هذا المذهب أن حرية الاختيار و ما يترتب على سوء الاختيار من مسؤولية ضميره هي الأساس الوحيد المتصورة للمسؤولية فإن الشهور بهاله سنده في ضمير كل شخص و ما دام الإنسان يتطلب الثناء على ما يصنع فإنه و لاشك يستحق العقاب على ما يرتكب و لا يصح للقانون أن يهدر إحدى العقائد الأساسية التي تسود المجتمع بل أنهم يرون في الاعتراف بحرية الاختيار ما يدفع الفرد على أن يعمل دائما على انتهاج السبيل الأمثل و إلى زيادة طاقاته للتغلب على التوازع الريرة التي قد تعرض له و القول بعكس ذلك يجعل الشخص مقدرة عليه و لا قبل له و لا إرادة له في إحداثها و سيتتبع هذا القول أنه إذا نتفت حرية الاختيار انتفت بالتالي المسؤولية و إذا قل نصيب الفرد من هذه الحرية خفت مسئوليته تبعا لذلك و نتيجة لهذا المبدأ إذا إنعدمت حرية الاختيار لدى شخص ما لجنون أو صغر من انتفت مسؤولية ضميره فلا يمكن إسناد الخطأ إليه أي لا يمكن اعتباره مخطئا و بالتالي فلا تنهض قبله المسؤولية الجنائية.
على أن الفقه التقليدي كان ينظر إلى حرية الاختيار و المسؤولية الفردية باعتبارها مجرد مفاهيم مجردة، الأمر الذي جعله ينظر للجاني ككائن مجرد كمخلوق منصور عقلا و لذلك فقد اهتم بالجريمة على أنها كائن قانوني و ليست مظهرا لسلوك الجاني، بل كشيء مجرد له طبيعة مستقلة و ثابتة و يرجع هذا المسلك من المدرسة على خشيتها من الحكم الذي كان سائدا قبل الثورة الفرنسية مما جعلها تتمسك بالقول بان الناس مستاؤون دون تفرقة على أساس شخصية كل منهم، غير أن الظلم الذي كشف عن تطبيق قوانين الثورة التي وضعت لكل جريمة عقوبة من حد واحد مقدرة على أساس موضوعي بحث، جعل الفقه التقليدي بهجر بعض الشيء، الفكرة المجردة للإنسان سواء الحر، غير أنه اكتفى لتحقيق متطلبات العدالة بتقدير لمختلف مظاهر الانحرافات التي تتكون منها الجريمة وفقا للمقياس العام المتبع، لذلك فإن العدالة لا تحتاج في نظرهم إلا إلى موظف أمين قادر على تطبيق العقوبة المحددة في القانون.
و تأسيسا على ذلك فقد نظر هذا الفقه إلى العائد أو المعتاد على أنه مسؤول أدبيا عن عودته لارتكاب الجريمة و أن هذا التكرار يعتبر ظرفا مشددا يمكن من تشديد العقوبة على أن يرجع في استخلاص هذا الظرف لمعايير موضوعية بحتة قائمة على الجرائم التي سبق الحكم عليه بسببها.
على أن اقتصار الفقه التقليدي على مجرد تشديد العقوبة دون اقتراح أي وسيلة أخرى، أدى إلى الإسراف في الحكم على العائدين و المعتادين بعقوبات قصيرة المدة و كان هذا الاتجاه في الوقت نفسه منطقيا على ما ذهب إليه هذا الفقه من ضرورة قياس العقوبة على قدر المسؤولية الأدبية و لما كانت هذه المسؤولية في رأي البعض قد شابه بعض المقصور لتخلف في تقدير العائد أو المعتاد راجع لضعف إرادته، لذلك رأي هؤلاء عدم التغاني في تقدير الخطأ المنسوب إليه، الأمر الذي يؤدي على تخفيف العقوبة.
يرى أنصار هذا المذهب أن أساس المسؤولية يمكن في حرية الاختيار، فالإنسان البالغ العاقل له ملكات عقلية تسمح له بالقدرة على التمييز بين الخير و الشر، بين الطيب و الخبيث، بين الحلال و الحرام، مدركا لعواقب أفعاله متحكما في سلوكه أتيا في ذلك من الأفعال ما أراد، فالشخص إذا ارتكب فعلا نهي عنه القانون أو امتنع عن فعل أمر به القانون وجبت مسائلته عما وقع منه.
و على ذلك فإن مسؤولية الشخص لا تنتفي إلا إذا فقد هذا الأخير قدرته على الاختيار ذلك أن معاقبته سوف تكون ظلما من جهة و غير مجدية من جهة أخرى.
وذلك أن الغاية من العقاب هي الردع و لا تتحقق هذه الغاية بالعقاب مع التجرد من قدرة الإدراك أو حرية الاختيار.
و عليه فإن المذهب التقليدي يكون قد قبل حرية الاختيار و الإدراك كأساس للمسؤولية الجنائية فإذا ما غاب ذلك انتفت مسؤولية الجاني.

المطلب الثاني : مذهب الحتمية

أنشأ هذا المذهب نتيجة للتقدم المطرد في العلوم الطبيعية و نجاحها في الكشف عن الأسباب المختلفة لكثير من الظواهر الطبيعية و كذلك رأي كثير من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية أن الجريمة ليست ثمرة حرية الاختيار بل اعتبرها ظاهرة إنسانية لا بد من أن تحكمها هي الأخرى أسباب مختلفة سواء كانت أسباب طبيعية أو عضوية أو نفسية تؤدي إليها حتما و أن القول بحرية الاختيار لا تعدو أن تكون وهما شخصيا يكذبه الواقع العضوي و النفسي و محاولة الهروب من التعمق في دراسة أسباب الجريمة بإلقاء اللوم كله على الجاني، و يرد أنصار هذا المذهب عما اتهمه به خصومهم من أن الحتمية تؤدي إلى الجمود و عدم مواجهة الجريمة باعتبار أنها نتيجة حتمية لامناص من وقوعها و يرون بأن هذا القول فيه خلط بين الحتمية و القدرية فليست الحتمية بمعناها الصحيح مثالية الخمول و الجمود بل تدفع دائما إلى العمل و إلى التحري عن الأسباب لمقاومتها فتمتنع بالتالي نتائجها و أن الإيمان بتسلسل الأسباب يجعلها تنظر للجاني كضحية للظروف الاجتماعية الداخلية و الخارجية فليس هناك مذنبون و لكن خطرون و بسبب هذه الخطورة يجب أن يوضع كل من يخرق قاعدة من قواعد قانون العقوبات بحيث لا يستطيع الإضرار، إذ أن من حق المجتمع أن يدافع عن نفسه بل أن ذلك هو واجبه و لهذا لا يقيم أنصار الحتمية فكرة الجزاء على المسؤولية مما يؤدي إلى عدم إمكانية اتخاذ أية إجراءات حيال عديمي الإدراك أو تخفيف العقوبات الموقعة على ناقصي التمييز أو الاختيار بالرغم من خطورة هؤلاء على المجتمع و ثبوت ارتفاع نسبتهم بين مجموع المجرمين.
و يرى هؤلاء أن التقليديين و حتى المحدثين منهم في درجة تقديرهم لدرجة مسؤولية الجاني ينظرون إليه كما لو كان موضوعا تحت ناقوس من زجاج بينما ينظرون إليه هم من خلال مختلف الظروف الشخصية و البيئية و الاجتماعية فاستعداد المجرم الذاتي للإجرام و ما يحيط به من الظروف الاجتماعية كالجهل و الفقر و سوء التربية و خطاء السوء و ما يساعد على ذلك من تغيير في الفصول و غيرها من العوامل الطبيعية كلها تتدخل بنصيب كبير أو ضئيل في حدوث الجريمة، فالجريمة ما هي الإنتاج لازم لاجتماع هذه العوامل المختلفة و متى توافرت لدى شخص ما فهو مسوق حتما إلى ارتكاب الجريمة إذ أنه متى توافرت الأسباب و ترتبت النتيجة و يستطرد أصحاب هذا الرأي بأن القول بأن الجريمة نتيجة حتمية لعوامل مختلفة ليس معناه ترك فاعلها و شأنه لأنها مقدرة عليه، بل يتعين على المجتمع أن تتخذ عندئذ الوسائل الكفيلة بحماية، فكما الفرد محتوم عليه وقوع الجريمة تحت تلك العوامل المختلفة كلك فإن المجتمع محتوم عليه الرد على فعل الجاني دفاعا عن كيانه فالعبرة في اختيار التدبير الذي تتخذ حيات الجاني ليست هي درجة مسئوليته بل درجة خطورته لذلك قسّم بعض أنصار هذا المذهب المجرمين إلى فئات أربعة :
1. المجرمون بالولادة.
2. المجرمون بالعاطفة.
3. المجرمون بالمصادفة.
4. المجرمون المجانين.
و نرى هؤلاء يتخذون حيال كل فئة التدبير الذي يتفق مع خطورة أفرادها و قد أضاف فريق آخر من هذا المذهب إلى أن التقسيمات خاصة بالمجرمين المعتادين، و قد جلب هذا الاصطلاح أنصار و رجال علم الإجرام، و كان له أثره في إثراء الكتابات عن هؤلاء المجرمين و اقتراح التدابير التي تتفق مع حالتهم.
و استطرد هذا الفريق إلى القول أن المبادئ الأساسية التي تستلمها العدالة الاجتماعية تنحصر في مبدأين : الردع و العقاب و أن أية محاولة بين هذين المبدأين لن تؤدي إلى حل، إلا أن ترك أحدها و الأخذ بالمبدأ الآخر و القول بالردع يستدعي تركيز الانتباه على الجريمة كوحدة موضوعية و على العكس من ذلك فإن العقاب يؤدي إلى الاهتمام بفاعل الجريمة، فلا يقتصر على الضرر المترتب على الجريمة بل يتعد أ إلى الأهم منه وهو الخطر الذي يمثله المتهم.
ويخيف أصحاب هذا الرأي بأن الفهم التجريبي لأهلية ارتكاب الجرائم يجب أن ينصب ليس فقط على لحظة ارتكاب الجريمة أو على الفترة التي تسبقها بل يجب أن يهدف إلى تحقيق الدفاع الوقائي و الدفاع العقابي .
إن هذا النظر أصبح له وظيفة قانونية في العدالة الجنائية فإن فكرة الجزاء يجب أن تقاس، ليس وفقا للجريمة أو وفقا للواجب الذي انتهك أو وفقا للدفاع الإجرامي و لكن وفقا لخطورة الجاني، و يجب أن تتخذ معيارا شخصيا يحل محل المعيار الموضوعي في تحديد التدبير الذي يتخذ حيال المتهم .
و في بعض الفقهاء من هذه المدرسة أن حالة هذه الخطورة تستدعي مواجهة أمرين هما خطورة الجاني من ناحية و قابلية التكييف في الحياة الاجتماعية من ناحية أخرى، و تواجه خطورة الجاني بالتدابير البوليسية الوقائية، بينما ترتبط قابليته للتكييف بالأغراض العملية للعدالة الاجتماعية و تقوم حالة الخطورة الاجتماعية وما تستتبعه من تدابير فبل ارتكاب الجريمة، أما قابليته للتكييف فلا تثور إلا بعد وقوع الجريمة و يقصد ملاءمة الجزاء المتخذ لحالة الخطورة الجنائية التي عليها المتهم، و قد أيد بعض الفقهاء هذه التفرقة في المؤتمر الدولي الثاني لعلم الإجرام. و تكمن هذه التفرقة من تحاشي الخشية من اتخاذ معيار الحالة الخطرة سبيلا للاعتداء على الحريات الفردية كما أنها تمكن من ناحية أخرى من التغلب على كثير من المتناقضات التي وقع فيها الاتحاد الدولي لقانون العقوبات و بعض الفقهاء الذين يرون أن الجريمة تواجه بالعقوبة بينما تستدعي حالة الخطورة تدبيرا احترازيا و أن يقتصر معيار الحالة الخطرة على بعض فئات من المجرمين و هم العائدون و الشواذ و القصر الخطرون، فهذه التفرقة لن تؤدي بنا إلى التورط مقدما في تحديد من هو المجرم الخطر و المجرم الغير خطر إذ البحث في اتحاد تدبير احترازي لن يثور إلى بعد ارتكاب الجريمة و بسبب حالة الشخص الخطرة التي تستشف من احتمالات عودته للجريمة و هذه الاحتمالات تختلف باختلاف فئة المجرمين.

فاحتمال عودة المجرم بالعاطفة أقل من احتمال عودة المجرم المجنون \او المجرم المعتاد، و على هذا فإن حالة الخطورة الاجتماعية يقصد بها مواجهة خطر ارتكاب الجريمة، بينما حالة الخطورة الإجرامية يراد لها أن تواجه خطر العود.
و يعيب البعض على المدرسة التقليدية أنها فصلت بطريقة حاسمة بين الوقاية و الجزاء بالرغم من أنهما ليس الا وجهين للدفاع الاجتماعي ذاته، و يجب العمل على التوفيق بينهما في النشاط الذي تقوم به الدولة ضد الجريمة، على أن يكون لكل من هذين الوجهين تنظيم قانونية خاص، لأن لكل منهما نقطة انطلاق و غرض مختلف.
و تتحقق الوقاية بالإجراءات البوليسية للأمان و ببدائل العقوبة أما الجزاء فيتحقق عن طريق جهاز العدالة الجنائية الذي لا يتخذ إلا بعد ارتكاب جريمة بهدف منع العود بواسطة تدابير احترازية غير محددة المدة.
مؤيدي ما تقدم أن أنصار هذا الرأي ينظرون إلى الجريمة باعتبارها ذنبا يستقبحه الضمير و يترتب عليه المسؤولية الجنائية، و لا تصبح العقوبة جزاء هذا الذنب تفضي بالمجازاة عليه العدالة المطلقة أو العدالة مع المصلحة، و إنما تصبح وظيفة العقاب مجرد وسيلة للدفاع عن المجتمع، و تختلف الوسيلة تبعا لاختلاف الأشخاص، و أن التعبير بالعقوبة عن هذه الوسيلة خطأ في التسمية، ذلك أن فكرة التفكير و إرضاء الشعور بالعدل لا يعني بها المجتمع عند تقدير هذه الوسيلة فهو إنما يعني بالدفاع عن نفسه ووقاية آمنة في المستقبل، لذلك فإنه لا ينظر إلى الجاني نظرة الثأر و التشفي منه، بل العكس ينظر باعتباره منكوب سيئ الحظ و يعمل على إصلاحه بقدر المستطاع.
و مجمل القول أنه بينما لا يكفي أصحاب المذهب التقليدي في قيام المسؤولية الجنائية بصدور الجريمة من الفرد بل يشترطون حلقه وسطى بينهما و هي أن يكون الجاني مخطأ، فإن أصحاب المذهب الواقعي يغفلون تلك الحلقة الوسطى و يكتفون بمجرد صور الجريمة هي الفرد فخطورة الفرد ليست ذنبه و مسئوليته الأدبية هي المسؤولية أمام المجتمع و يكتفي في ذلك صدور الجريمة من الفرد أي إسناد الفعل الضار إليه.
لم ير تكر أنصار هذا المذهب على حرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية على غرار المذهب التقليدي فالحقيقية في رأيهم أن السلوك الإجرامي شأنه شأن كافة الظواهر الطبيعية و الاجتماعية خاضع لقانون السببية، ناشئ عن تفاعل بين شخصية الجاني و ظروف بيئية خاصة.
فالمذهب الوضعي ينادي بالخطورة الإجرامية الكامنة في الجاني كأساس بديل للمسؤولية الجنائية التي ترتكز على حرية الاختيار، ذلك أن هذه الخطورة تدفع المجتمع بأن يوجهها و يبعد عن نفسه عواقبها و هذا الأمر الذي أدى إلى اتساع إقامة المسؤولية على هذا الأساس فتشمل بذلك الصغير و الكبير، العاقل و المجنون ، ذلك أن أساس المسؤولية ليس حرية الاختيار و الإدراك، إنما الخطورة الإجرامية.

المطلب الثالث: الترجيح بين المذهبين

إذا كان أساس العقاب بين حرية الاختيار و الحتمية يعتبر أبرز الموضوعات التي زادت فيها شقة الخلاف بين المدرسة التقليدية و المدرسة الوضعية فإن ذلك يرجع لما لهذا الموضوع من أهمية، باعتباره نقطة البدأ في إقامة صرح العدالة الجنائية، الأمر الذي جعل جميع المشتغلين بالمساءل الجنائية أيا كانت المدارس التي يشتركون في هذه المعركة إما بـ:
1- الانضمام إلى حد الرأيين
2- محاولة التوفيق بينهما على سند من أن كل منهما ينطوي على جانب من الحقيقة و كل منهما يعيبه التطرف في الرأي.
3- الزعم بعدم أهمية هذا الخلاف لأنه يتعلق بمشاكل نظرية غير ذات صبغة علمية.
4- اقتراح أسس جديدة للمسؤولية الجنائية.
-إن القضية الجبر و الاختيار هي قضية شائكة واستطاعت أن تجلب اهتمام لكثير من العلماء و الفلاسفة لكن يمكن القول بأن مذهب الاختيار أو حرية الإرادة هو الأقرب إلى الصواب حيث يمكن اعتباره أساس المسؤولية عامة و الجنائية خاصة لأنه لا يصطدم مع النظرة العلمية و يتفق مع المفاهيم الاجتماعية التي يتأثر بها المشرع عند وضعه للقواعد القانونية.
فهناك بعض الفقهاء يعتنقون مذهب الحرية لكن لا ينكر الجبرية و ذلك من النظرة الفلسفية حيث أن الكون يخضع لتسلسل سببي و أن حلقاته مرتبطة ببعضها البعض حيث أن كل شخص هو إحدى هذه الحلقات أي أن الجريمة هي إحداهما إذن فهي نتيجة حتمية لحلقة سابقة لها كما أنها سبب حتمي لحلقة لاحقة عليها.
و لاعتبارات قانونية لا يجب التركيز على هذا الجانب العلمي بقدر ما يجب التركيز على الجانب الاجتماعي الذي يقر بحرية الاختيار التي هي حسب هذا الفريق من الفقهاء ” و إن لم تكن حقيقة علمية إلى إنها مع ذلك فكرة اجتماعية قانونية و هذا يكفي لاعتبارها أساس تقوم عليه المسؤولية الجنائية ..”
و من الفقهاء من يعتبر حرية الاختيار أساس المسؤولية لكن لا يمكن التدليل على صحتها لأنها بديهية و البديهيان لا يمكن إثباتها بدليل أو برهان و لكن العقل يسلم بها لشدة وضوحها، فعند التسليم بوجود إرادة إنسانية يجب التسليم بحرية هذه الإرادة، لأن الحرية هي من لوازم الإرادة فالإنسان عندما يخطئ يعاني من تأنيب الضمير و هذا دليل على إدراكه أنه سلك طريقا ما كان ينبغي أن يسلكه أي كان له الخيار أثناء سلوكه هذا الطريق و منه فلا يمكن القول بالحتمية أو الجبرية المطلقة لأنها تلغي كل الأحكام الدينية و الأخلاقية و القانونية لأنها كلها تأمر و تنهي و هذا دليل على اختيار الشخص لأنه يخضع لكل هذه الأوامر و النواهي، لأنه يستطيع ضبط سلوكه في طاعة هذه الأوامر و النواهي، لكن إنكار الجبرية لا يعني أن إرادة الإنسان حرة بصفة مطلقة، لأنها ليست مستقلة بنفسها و لا هي منعزلة عما يحيط بها .
” و إذا طرحنا الجدل العلمي و الفلسفي جانبا و احتكمنا إلى المفاهيم السائدة في المجتمع لوجدنا أن عامة الناس ينظرون إلى هذه المسألة بنظرة معتدلة، فهم يؤمنون بفطرتهم بالجبر و الاختيار معا وهم يمزجون بين الأمرين على ما فيهما من تناقض مزجا تطمئن له النفوس و تستقيم به حياتهم فهم يؤمون بالقضاء و القدر و لكنهم يؤمنون في الوقت نفسه بحرية الإنسان في اختيار أفعاله و يحكمون عليه تبعا لاختياره ” .
كما \أن للجانب الاجتماعي دور في اعتبار المشرع أن الإرادة حرة و مختارة و خاصة من الجانب القانوني لأن المشرع لا يمكن أن يتجاهل هذا الجانب لأن القانون وجد لخدمة المجتمع.

I- المدرسة التقليدية الحديثة: (التوفيقية).

كان أول المتصدين لنق الاتجاهات الحتمية التي اعتنقها أنصار المذهب الواقعي أبصار المدرسة التقليدية الجديدة التي ظهرت كرد فعل لهذه الاتجاهات الحتمية إذ نادى هؤلاء أن شعور كل إنسان بحريته يجب أن يظل أساس المسؤولية و أن هذا الشعور ليس وهما ، ففي جميع الأعمال الإرادية يتصرف الفرد وهو يشعر بأنه حر بل أنه يستطيع أن ينقل للآخرين هذا الشعور و أن إدراك الشخص لقدرته على إجراء خيار بين عدة أمور و أن هذا الخيار يعتبر عماد الحياة الاجتماعية و بالتالي فإن مفهوم المسؤولية الأدبية علاوة على انه اصطلاح جرى به القول و تغلغل في أعماق الجميع لا يجب التخلي عنه لصالح مفاهيم أخرى أكثر تعقيدا مثل الخطورة أو الحالة الخطرة أو الأهلية الجنائية.
و تتفق التوصية التي خلصت إليها حلقة الدراسات التي عقدت في ستراسيورغ سنة 1959م لبحث موضوع المسؤولية مع آراء المدرسة التقليدية الحديثة إذ أكدت الحلقة أهمية الشعور بالمسؤولية كعامل من عوامل الضبط الاجتماعي على أنها قصرت نطاق المسؤولية على الأصحاء ذوي الإدراك العقلي السليم.
و إذا كانت التشريعات الحديثة تكاد تجمع على اعتناق فكرة حرية الاختيار سواء نصت عليها صراحة أو قبلتها ضمنيا و أقامت الجزاء بناءا على ذلك على المسؤولية الأدبية فإن هذا الاتجاه نفسه لا يزال مسيطرا عل التعديلات التي أدخلت على هذه التشريعات و على مشروعات القوانين التي ستحل محلها و من ذلك القانون الصادر في فرنسا في 22 ديسمبر 1958 الخاص بالأحداث يشترط لتوافر مسئوليتهم ثبوت الخطأ و الإدراك و مشروع قانون العقوبات الألماني .
و يميل المشرع المصري في التعديلات التي يدخلها على قانون العقوبات التي تؤثر بهذه النظرية.

II-الاتحاد الدولي لقانون العقوبات :

تعتبر الآراء التي نادى بها الاتحاد الدولي لقانون العقوبات أول و أبرز المحاولات التي قيلت للتوفيق بين ما ذهب إليه أنصار المدرسة التقليدية الحديثة و أنصار المدرسة الوضعية و قد ارتكزت فلسفة الاتحاد على دعامتين رئيسيتين أولهما أن مهمة قانون العقوبات هي الكفاح ضد الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية و ثانيهما أن على قانون العقوبات و التشريعات الجنائية مراعاة النتائج التي تسفر عنها الدراسات الإنتروبولوجية و الاجتماعية و لدى كانت هاتان الدعامتان تدلان بوضوح على الاتجاه الوضعي للاتحاد إلى أنه مع ذلك رفض بإصرار الآخذ بالحتمية، كما نادى بها أنصار المدرسة الوضعية قولا منه أنه من المستحيل إثباتها كما أنه من المستحيل إثبات حرية الإرادة فإن مبدأ السببية يفقد مدلوله في عمار الأسباب المتغايرة اللانهائية و يضيع في التيه الذي يقع فيه مبدأ الحرية.
لذلك فقد طالب الاتحاد رجال القانون بالا يغرقوا في نطاق الأفكار الفلسفية، بل عليهم التسليم جدلا بالشعور الداخلي للفرد بحريته سواء كان هذا الشعور حقيقة أو مجر وهم فإنه لا يهم، إذ أن لهذا الشعور أهمي قصوى في عمليات التكيف الاجتماعي و لهذا المنحنى الذي أخذت به المدرسة التوفيقية ميزتان فهو يتجنب الخوض في المبادئ الفلسفية التي نادى بها الوضعيون و خصومهم و يمكن من ناحية أخرى من مراعاة متطلبات الدفاع الاجتماعي التي تعتبر في نظر أنصار هذه المدرسة الأساس الصحيح لحق العقاب، إذ أن تعقد الحياة الاجتماعية جعل من الصعب أحيانا إقامة الدليل عن الخطأ كلما حدث ضرر لذلك يجب أن يستند قانون العقوبات على فكرة الدفاع الاجتماعي التي تقبل قيام حق الدولة في التدخل بغير استناد كلي على الخطأ و المسؤولية.
و تسلم نظرية الدفاع لاجتماعي وفق لمدلولها الأول الذي قال به رجال الاتحاد الدولي بالحرية النسبية للأفراد، غير أنها ليست مبنية على أساس المفهوم الميتافيزيقي لحرية الاختبار فهي تعرف الإرادة بأنها العمليات التي تجعل الشخص يقرر أن يفعل أولا يفعل، أن يتصرف او لا يتصرف، فهي المحدد المباشر للتصرفات دون دخول في تفاصيل تهدف إلى معرفة هل هذه الإرادة حرة أو تخضع لمبدأ السببية.
و لا تطلب هذه النظرية في قانون العقوبات قانونا تكفيريا أو رادعا بل يجب أن يراعى فقط حالة الخطورة التي عليها المتهم، و كان أنصاره يقصرون حالة الخطورة أولا على المجرمين العائدين ثم اتسع نطاقها حتى شمل غير الأصحاء و المجرمين المعتادين و المحترفين و يترتب على الآخذ بالحالة الخطرة وفقا للنظرية الأولى للدفاع الاجتماعي ثلاثة نتائج رئيسية:
1- أن الاعتداء بها يستتبع بالضرورة التسليم باصطلاح المجرم الخطر و بالفعل أثرى هذا الاصطلاح العديد من التشريعات الجنائية أكثر من إثرائه للفقه، فقد تضمنته تشريعات كثيرة في الدول الأوروبية.
2- ضرورة الأخذ بفكرة العزل أو الإبعاد بالنسبة للمجرمين الخطرين، إذ أن ربط مفهوم الحالة الخطرة بالدفاع عن المجتمع يؤدي منطقيا إلى هذه النتيجة حتى يمكن وضعهم خارج دائرة الأضرار ولو استمر هذا العزل أو الأبعاد طوال الحياة مادامت حالة الخطورة باقية.
3- ضرورة تطبيق نظام العقوبات غير المحددة إذ أن الإجراء الذي يتخذ حيال المجرم الخطر لا يحدد وفقا للمعايير الخلقية و بالمقابلة للجريمة المرتكبة، بل يستهدف ضمان الدفاع عن المجتمع بإبعاده عن ما ظل خطرا و على أن يترك البت في الإفراج عنه لسلطة إدارية طبية واجتماعية و قد كان لمبادئ الاتحاد الدولي لقانون العقوبات أثرها الواضح على كثير من التشريعات الوضعية في أوربا و أمريكا و لم يقتصر تأثير المدرسة التوفيقية على التشريعات بل تعداه إلى الفقه فانضمت إليها الحركة التي ظهرت في إسبانيا باسم ” علم الإجرام الحديث” و المدرسة الفنية- القانون الإيطالية.

المطلب الرابع : الأسس المقترحة للمسؤولية الجنائية:

نادى بعض الفقهاء تفاديا للانتقادات التي وجهت للمذهبين السالفي الذكر اقترح أسس جديدة على أساس الحتمية مع تحديد من كل فكرة للخطأ و الواجب يؤدي إلى بروز الضمير الخلقي وزعزعة كيان قانون العقوبات كما أنه ليس بلازم إقامة المسؤولية اعتمادا على المفهوم المدرسي لحرية الاختيار و يكفي في رأيه لاقامة المسؤولية توفر شرطين:
– وحدة الشخصية.
– التماثل الاجتماعي.
و المراد بوحدة الشخصية أن تكون شخصية الجاني حين ارتكاب الجريمة هي ذات شخصية وقت تنفيذ العقوبة و بهذا لا يعد المجنون مسؤولا لأن شخصيته ليست واحدة كما أن التماثل الاجتماعي يفترض قدرا من التشابه إنتفت بالتالي المسؤولية، على أن هذه النظرية يعيبها القصور عن تفسير المسؤولية فإن عبارة وحدة الشخصية عبارة غامضة و إذا كان للمقصود بها أن الشخص عند ارتكابه الجريمة يكون في حالة نفسية أو عقلية مختلفة عن الحالة العادية فإن ذلك يؤدي إلى إفلات الجاني من العقاب في أغلب الأحوال إذا ارتكب الجريمة وهو في حالة غضب أو انفعال تختلف عن حالته العادية و من ناحية أخرى فإن الأخذ بهذا المعيار يؤدي إلى ضرورة توقيع العقاب على المجنون إذا كانت حالته وقت ارتكاب الجريمة مثل حالته وقت الحكم عليه، كما أن معيار التماثل الاجتماعي قد يؤدي إلى إهدار مقتضيات الدفاع عن المجتمع إذا ما ارتكب الجريمة شخص يختلف عن أفراد المجتمع الذي ارتكب فيه جريمتهـ و ينكر البعض الآخر حرية الاختيار و يقيم المسؤولية على ما أسماه القدرة على التصرف الطبيعي وفقا للبواعث فإن كان مرتكب الجريمة غير قادر على هذا التصرف وفقا للمعايير الاجتماعية.
إن هذا الرأي يعيبه الغموض فهو لم يحدد البواعث التي تتحكم في التصرف ، فقد تردد أنصاره بين القول بالبواعث الخلقية و الاجتماعية التي تؤثر على التصرف و بين الباعث السلبي الراجع إلى الخوف من العقوبة المستقلة و من ثمة أعتراض عمله آخر على هذا المبدأ ومرجعه أن الأخذ به يؤدي إلى انتقاء المسؤولية إذا كان التصرف نتيجة اختيار غير طبيعي ليس عاطفي وهو أمر لا يمكن التسليم به، و يذهب فريق ثالث إلى إحلال مفهوم الأهلية الجنائية محل المسؤولية و يعتبر الشخص أهلا جنائيا إذا كان يمكنه أن يستشعر وقت ارتكاب الجريمة خوفا أو رهبة من العقوبة بمعنى انهم يؤسسون المسؤولية على مدى تأثير العقوبة وقت ارتكاب الجريمة في ضمير الفاعل باعتبارها دافعا مضادا للدافع الإجرامي و على هذا فإن الأهلية الجنائية قد تكون كاملة أو معينة أو باطلة.

قياسا على الأهلية المدنية وفقا لدرجة تأثر الجاني من العقوبة المستقبلة و يرى أنصار هذا الرأي أنه يمكن تحاشي ما يترتب على الأخذ بالمسؤولية المخففة من مضايقات عملية تمثل في تخفيف العقوبة على المجرمين الخطرين إذ أنه بالمسؤولية المخففة من مضايقات عملية تمثل في تخفيف العقوبة على المجرمين الخطرين إذ انه وفقاله يقاس الإجراء الذي يتخذ حبالهم وفقا لدرجة مسئوليتهم الأدبية بل بمراعاة أهلية الجنائية الأمر الذي يتيح إخضاعهم لتدبير علاجي يتفق مع حالتهم و يراعي في الوقت نفسه درجة خطورتهم و قد افتقدت هذه النظرية على أساس أن الشخص الذي يرتكب جريمة إنما يفعل ذلك لأنه وقت ارتكابها لا يرتدع من التهديد بالعقوبة و على ذلك فإن الشخص المسؤول هو الذي يقدم على ارتكاب الجريمة أي الذي لا يثار بشأنه المسؤولية الجنائية و من ناحية أخرى فإن الرهبة من العقوبة حالة من حالات الإدراك التي عليها الشخص و على هذا فإن فكرتها لا تأثير أية علاقة بين الفرد و الفعل بالرغم من أن لهذه العلاقة أهمية كبيرة في تحديد المسؤولية و يبين من استعراض هذه النظريات إنها لم تحقق النتائج التي تدعوا إليها فإن المبادئ المقول بها لتحل محل حرية الاختيار غامضة و فجة و ليست كافية لتبرير المسؤولية و فضلا عن ذلك فإن فكرتي القدرة على الترف و الرهبة من العقوبة تفرض في الفرد القدرة على الاختيار بين الدوافع التي تدعوا للقيام بالفعل من ناحية و بين الضرر المتوقع من العقوبة من ناحية أخرى، قدرة على الاختيار في الواقع إلا جوهر حرية الإرادة و الرأي الصحيح الذي نناصره يتفق مع ما يراه اغلب الفقهاء المعاصرين من إمكان التوفيق بين مذهبي حرية الاختيار و الحتمية فلكل منها نصيب من الحقيقة و كلا منهما يعيبه التطرف.

فليس بصحيح القول بأن الإنسان يتمتع بحرية مطلقة إذ أنه يخضع و لا شك لمؤثرات عضوية و نفسية و اجتماعية تحد من هذه الحرية، فمن ناحية أخرى و من غير المنطقي مساواة الإنسان بمختلف الظواهر الطبيعية في استجابته لمبدأ السببية فهو مزود بالعقل الذي يمكنه من أعمال إرادته في حدود حريته النسبية و لم تستطع قوانين السببية حتى الآن أن تعطي تفسير كاملا للسلوك الإنساني إذ أن ذلك يتطلب تقدما كبيرا في العلوم الإنسانية كعلمي النفس و الأنتروبولوجيا الجنائي و في رأي البعض أن مشكلة حرية الاختيار لم تعد ذات ميتافيزيقا فقد أمكن لعلم النفس أن يصيغها في قالب علمي فحقيقة المشكلة تتعلق فقط بكمية جهد التيقظ التي يمكن بذلها في لحظة معينة فإن الإرادة تتوقف دائما على فكرة تدفع للعمل و لكن لما كنا نواجه باستمرار بأفكار مختلفة و ليس بفكرة واحدة إذ أن ذلك يعتبر حالة مرضية كحالة الأفكار التسلكية فإن جهد التيقظ ينصب على قبول فكرة واحدة مع استبعاد الأفكار الأخرى أيا كان الميل إليها و يظهر جهد التيقظ في التمسك بباعث مثالي و شريف للكبح جماع الدوافع الغريزية و الشريرة و في عدم الإقدام على الأفعال العدوانية أو الممنوعة و قبل الإقدام على الجريمة تثور في شعور الفرد عدة أفكار تدفعه إلى ارتكابها و عدة أفكار أخرى تنفره منها فإذا استطاع تثبيت الأفكار الثانية أقدم الشخص على ارتكاب و قد يؤدي جهد التيقظ في النهاية إلى تشبيه الأفكار الشريرة بالأفكار الطبية حتى يتغير كلية شعور الشخص فتستوي لديه مختلف النوازع و الشخص ذو الإرادة القوية هو الذي يستجيب لصوت العقل مهما كان ضعيف و يتمسك به و يؤكده في شعوره و يغض الطرف عن الأفكار أو النوازع التي تعيد به عن سواء السبيل و لا يبدوا جهد التيقظ كرد فعل من نمط محدد إزاء الفكرة التي تحاول أن تفرض نفسيا علينا بل كمتغير مستقل يمر بسلسلة متطورة من المتغيرات بين معطيات ثانية هي كل الحالات و بواعثها و أخلاقنا …الخ.

الفصل الثاني: – أشخاص المسؤولية الجنائية –

إن كل مرتكب لأفعال مجرمة توجب مساءلته جنائيا، بالنسبة للشخص الطبيعي لا يثار أي إي إشكال طالما أنه مخاطب بأكوام القانون الجنائي على أنه ترمي التشريعات الحديثة إلى مساءلة الأشخاص الاعتبارية.
و سوف نوضح ذلك من خلال هذين المبحثين:

المبحث الأول: الشخص الطبيعي

من المسلم به أنه يلزم في الجاني أن تكون لديه الأهلية الجنائية حتى يتسنى مساءلته فالشخص يستطيع أن يتصرف يصدر منه أي نشاط، فإذا بني هذا الأخير على أساس حرية الاختيار و كان مدركا لنتائج أفعاله بأنه يكون الفعل الذي أتاه معاقب عليه قانونا و تحققت فيه شروط قيام المسؤولية الجنائية ذلك أنه يمتلك قدرات و ملكات ذهنية تسمح له بتمييز الأفعال المعاقب عليها قانونا من غيرها. إلا أنه قد تطرأ ظروف خارجية فتؤثر على إرادة هذا الشخص فتحد من حرية اختياره فيكون مكرمها في إتيان أفعال مجرمة.
كما قد يكون الخطر حالا به محدقا إياه من كل جانب فلا يستطيع خلاص نفسه و النجاة.
إلا بإتيان سلوك مجرم فتكون بذلك ضرورة حالة لا يمكن دفعها، كأن يكون كذلك تحث تأثير مسكر يفقده وعيه و إدراكه فتنتفي مساءلته.
أما إذا غابت هذه الظروف السابق تعدادها و أتى الشخص سلوكا مجرما وجبت مساءلته و توقيع العقاب عليه بفرض الردع و حماية مصلحة المجتمع من الخطورة الكامنة فيه.
أما إذا تحققت فيه ملامح إعادة إدماجه استفاد من ظروف مخففة و بالتالي يكون الشخص الطبيعي وحده مسؤولا جنائيا.
لكن إلى جانب مسؤولية هذا الشخص الطبيعي ترمي التشريعات الحديثة إلى مساءلة الأشخاص الاعتبارية كتقييد نشاطها و الحد من أهميتها و سوف نوضح ذلك في المبحث التالي.

المبحث الثاني: الشخص الاعتباري

يقصد بالشخص الاعتباري مجموعة من الأشخاص و الأموال تتمتع بالشخصية المعنوية المستقلة في ذلك عن الأشخاص المكونين لها و لقد عددته المادة 40 من القانون المدني الجزائري في ” الدولة و الولاية و البليدة و المؤسسة و الدواوين العامة ضمن الشروط التي يقررها القانون و المؤسسات الاشتراكية و التعاونية و كل مجموعة يمنحها القانون الشخصية الاعتبارية”.
و لقد بدأت فكرة مساءلة الشخص المعنوي أو الاعتباري جنائيا في أمريكا في الولاية ” نيويورك” حيث نصت المادة 13 من قانون العقوبات الذي صدر في أول ديسمبر 1782م على عقاب الشخص الاعتباري بغرامة قدرها 5000 دولار بدلا من العقوبات السالبة للحرية التي توقع على الشخص الطبيعي ثم بعد ذلك انتشرت الفكرة في أمريكا و إنجلترا و في الدول التي أخذت عنها.
و في عام 1929 استعرضت مؤتمر بوخارست مسؤولية الشخص المعنوي و اختتم المؤتمر على أن الشخص الاعتباري تتوافر لديه الأهلية القانونية و لكن لا تتوافر فيه الأهلية الجنائية لارتكاب الجريمة و هو في ذلك يتشابه مع عديمي الأهلية من الأشخاص الطبيعيين. فلا توقع على الشخص المعنوي عقوبة و إنما تتخذ تدابير احترازية كالحل و الوقف و تقييد النشاط.
و يستند الرأي الراجع في النفقة و القضاء إلى عدم الاعتراف للشخص الاعتباري بالأهلية الجنائية على حجة أن تلك الأهلية تقوم على الإدراك و حرية الإرادة بمعنى على عناصر ذهنية و نفسية التي يتمتع بها الإنسان فقط دون غيره فهو الذي ارتكب الجريمة و هو الذي يتحمل المسؤولية الجنائية حتى و لو كان قد ارتكب الجريمة لحساب الشخص الاعتباري.
هذا بالإضافة إلى أنه يمكن أن تطبق عليه العقوبات المقررة للجرائم كالإعدام و العقوبات السالبة للحرية، إلا أنه إذا ما هدد الشخص الاعتباري مصالح المجتمع مثلا بكثرة ممارسة الرشوة من طرف ممثلي الشخصي الاعتباري وجب اتخاذ تدابير احترازية اتجاهه.
و قد نص المشرع الجزائري في المادة 09 فقرة 05 من قانون العقوبات على خل الشخص الاعتباري ضمن العقوبات التكميلية كذلك نص في المادة 17 على أن حل الشخص الاعتباري هو صنعه من ممارسة نشاطه و لو كان تحث اسم آخرين أو مديرين أو أعضاء مجلس إدارة أو مسيرين على حل الشخص الاعتباري تصفية أمواله مع المحافظة على حقوق الغير حسن النية.
كما أنه قد تتخذ ضد الشخص الاعتباري تدابير الأمن العينية و هذا ما نصت عليه المادة 25 من قانون العقوبات و المتمثلة في: مصادر الأموال- إغلاق المؤسسة و يكون الغلق مؤقتا أو نهائيا ضمن الحالات و الشروط المنصوص عليها في المادة 26.

الخلاصة:

إن موضوع المسؤولية الجنائية لا يزال محل اهتمام الفقه الجنائي، فالأساس في قيام المسؤولية الجنائية مبني على حرية الاختيار و الإدراك، فالإنسان متى كان حرا في إتيان السلوك الإجرامي من عدمه أصبح محل قيام مساءلته جنائيا.
هذا بالإضافة إلى الإدراك فالشخص إذا اختلطت عليه الأمور فاستوى لديه المباح بالمحضور و فقد بذلك عناصر التركيبية الذهنية في إتيان أصل الفكرة محل الدراسة كانت الغاية من عقابه دون جدوى، ذلك أن هذه الغاية تمكن في الردع و الإصلاح، فإذا أنزلنا الجزاء عليه كنا بصدد الانتقام منه و ليس بتحقيق هذا الردع و الإصلاح.
و قد تتعدد هذه الظروف التي تحل على إرادة الشخص فتفقده حرية الاختيار و الإدراك فتكون بصدد موانع المسؤولية الجنائية، و هذه الموانع قد عددها المشرع الجزائري في 03 عناصر هي الجنوب صفر السين و الإكراه.
كما تطرقنا من خلال هذه المذكرة إلى الاختلافات المتعددة التي وقعت بين المذاهب الفقهية حول الأساس التي يرتكز عليها لقيام المسؤولية الجنائية فبالإضافة إلى حرية الاختيار و الإدراك فقد نادى البعض من أصحاب تلك المذاهب بالحتمية (الجبرية) أي أن الإنسان مجبر و ليس مخير في إتيان السلوك الإجرامي و أن كل أفعاله قضاء و قدر