يعتبر نظام الحبس من رواسب العبودية الذي عرفته المجتمعات القديمة، فقد كان أثرا ظاهراً من أثار مبدأ القوة، حيث يلتزم الإنسان بشخصه للوفاء بدينه في تلك المجتمعات، وكانت جل الشرائع القديمة تبيح للدائن الحق في الاستيلاء على شخص المدين، وحبسه واسترقاقه، وله كذلك الاستيلاء على ماله وبيعه وفاء لدينه وقد يصل الأمر إلى قتله وتقطيعه وبيعه(1) بيد أن الأمر اختلف في التشريعات الحديثة، ويعزى ذلك إلى تطور العلم والمعرفة والفكر القانوني، لما أصبح للإنسان من احترام وكرامة لا يسمح بالمساس بها أو إهدارها، لهذا فإن التشريعات الحديثة، قننت مسألة التعامل مع المدين الذي لم يوف بالتزاماته المدنية، فمنها من اتجه إلى عدم حبس المدين والتضييق من نطاقه، ومنها من جعل لنظام حبس المدين نصيب ا في تشريعاته ووسع من نطاقه (2) ولكل تشريع فلسفته ومبرراته وأسانيده حول تحريم أو إباحة الحبس كوسيلة للتنفيذ

وهذه المسألة الخلافية يتنازعها اتجاهان، اتجاه يرى أن حظر التنفيذ على شخص المدين يقوم على مبدأ الكرا مة الإنسانية ومبدأ ضمان الديون في ذمة المدين وحدها، واتجاه يرى أن جواز التنفيذ على شخص المدين الممتنع يقوم على مبدأ مطل المدين القادر ظلم وعنت، والأصل أن الدين بطبيعته هم بالليل ومذلة بالنهار(3) ، واستند الاتجاه الأول إلى الاعتبارات والحجج الآتية:

1- اعتبار قانوني: لأن العلاقة بين الدائن والمدين في التشريعات الحديثة ليست علاقة بين شخصيهما وانما هي علاقة بين ذمتيهما المالية، ولذلك فإن الوفاء بما عليه من ديون يجب أن تضمنه أمواله لا شخصه، فإذا امتنع المدين عن الوفاء الاختياري بدينه، فللدائن أن ينفذ على أمواله وليس على شخصه)4)

2- اعتبار اقتصادي: حبس المين فيه تعطيل للقوى البشرية، دون أية فائة، فخير للدائن أن

يترك مدينه يعمل ليحصل على مال يفي منه دينه(5)

3- اعتبار أدبي: مضمونه أن التنفيذ على شخص المدين يتنافى مع كرامته الإنسانية ويهدر

آدميته، فهو مبنى على فكرة إنسانية(6)

.4 أنه إذا كان الجزاء الجنائي يجد محله في شخص المخالف، فإن الجزاء المدني لا يجب أن يجد محله إلا في أموال المدين، كما أن جزاء الإخلال بالالتزام هو تعويض لا عقوبة، والقول بحبس المدين في الدين يؤدي إلى اختلاط معنى العقوبة في معني التعويض في جزاء واحد رغم استقرار النظم القانونية والتمييز بينهما، بالإضافة إلى أن حبس المدين قليلا ما يحقق هدفه(7)

5- إن نظام حبس المدين يتناقض مع المبادئ الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان وحريته الشخصية، فقد تضمن الملحق الرابع للاتفاقية الأوروبية المتعلقة بحقوق الإنسان الموقعة في ستراسبوغ بتارخ 16/9/1963 كملحق لاتفاقية روما الموقعة في العام 1950 نصا المادة الأولى منه يمنع حبس أح بسبب تخلفه عدن تنفيذ التزاماته التعاقدية)8)، كما نصت المادة(11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الموقعة بتاريخ 1966/21/29 على أنه “لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقي”،كما أن حبس المدين يتناقض مع المادة (11/1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتي نصت على أنه: “تقدر الدول للأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية وتتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإنفاذ هذا الحق” فكيف لإنسان يقضى عقوبة الحبس أن يعمل على تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية لأسرته، وكيف له أن يمارس حقه بتحسين ظروفه المعيشية وكيف له أن يبدأ بتسديد ديونه وهو نزيل في السجن ودون عمل أو معين)9)

واستند التجاه الثاني إلى الأسانيد والحجج الآتية(10):

1-يمثل حبس المدين علاجا ناجحا لمشكلة بطء إجراءات التنفيذ وعدم فاعليتها، فإذا قيل أن محل ضمان الدائن ذمة المدين لا شخصه، وأن العلاقة بين الدائن والمدين هي علاقة بين ذمتين وليست علاقة بين شخصين، فإن هذا القول مردود عليه بأن الحبس مجرد وسيلة خارجية عن مضمون الالتزا م ذاته، فهو وسيلة لتنفيذ الالتزام وليس من مكونات الالتزام، فالهدف من حبس المدين هو حمله على الوفاء بالتزاماته وردعه عن المماطلة وليس من المنطقي أن يكون ضمان الدائن رهن إ ردة المدين ومشيئته، خاصة في مجتمع شاعت فيه المماطلة والعنت من المدينين فالحبس وسيلة إكراه وارغام للمدين كي يوف بالدين متى كان قادر على الوفاء وامتنع ظلما وتعنتا .

2- يؤدي حبس المدين إلى تقدم المعاملات الاقتصادية، لأنه يمنع المدين من التقاعس عن الوفاء بالدين، واسرعه إلى سداد الدين، مادام أن مديونيته ثبتت على وجه اليقين ولذلك لن يترد الدائن في منح الائتمان لمدينه، مما يؤدي إلى سهولة التعامل وازدهار الاقتصاد، والقول بأن حبس المدين يقعده عن الكسب ويحوله عالة على المجتمع، فهو فرض يتحقق في حالة حبس المدين المعسر وهو مالا نقول به، وانما يحبس المدين الموسر القادر على الوفاء بالفعل، فلا ينبغي تصور الدائن بأنه رجل ثري يتسلط على رجل مسكين، لأن هناك دائنين في حاجة إلى ديونهم أكثر من المدينين.

3- إن القول بأن حبس المدين يهدر آدميته وكرامته مردود عليه بأن المدين الذي يمتنع من الوفاء رغم مقدرته يكون قد أهدر كرامته بنفسه، ولا يستحق الحفاظ عليها، حيث يجب على المدين أن يوف بتعهداته، فإذا لم يحترم تعهداته وسخر بالقانون فعليه أن يتحمل مغبة سلوكه، كما أن مصلحة المجتمع في حبس المدين الموسر المماطل حتى تسود فضيلة الوفاء بالتعهدات لدى الأفراد وتنتظم المعاملات.

4- حبس المدين لا يتعارض مع مبدأ الحرية الشخصية الذي كفلته المادة (11) من القانون الأساسي الفلسطيني)11)، والقول بغير ذلك مردود عليه بأن الحرية الشخصية وان كانت حقا طبيعيا وكانت مصونة لا تمس، إلا أنها ليست حقدا مطلقا لا ترد عليه أي قيود، فلم يعرف الإنسان الحرية المطلقة إلا عندما كان يعيش فردا في العصور الأولى، ولو أطلقت الحرية دون قيود لسادت الفوضى واختل النظام وارتد المجتمع إلى عصر الغابة، لذلك وجب فرض قيود وحدود عليها ضمانا لمصلحة المجتمع المتمثلة في حبس المدين المماطل في الوفاء بحقوق دائنيه، وانتظام المعاملات المدنية.

5- إن تطبيق الجزاء الجنائي عند مخالفة القواعد المدنية، أصبح من الأمور المألوفة في العصر الحديث، وذك لعم تناسب الجزاءات المدنية التي وضعت منذ مئات السنين كما هو الحال في التشريعات العمالية والتأمينات، وأدى إلى ذلك الضرو ا رت العملية.

6– أثبتت التجربة العملية في البلاد العربية التي تأخذ بنظام حبس المدين في الدين، كالكويت ولبنان والسودان والعراق وسوريا والأردن وفلسطين نجاح وفاعلية الحبس في إيصال الحقوق إلى أصحابها، حيث في الغالب الأعم يسارع المدين إلى الوفاء بالدين تفايدا لحسبه، وخير مثال على ذلك حينما أقدم المشرع المصري بإلغاء الحبس في قانون التجارة الجديد في قضايا الشيكات، اضطربت المعاملات وساد الركود الاقتصادي في المجتمع على نحو بالغ، فاضطر الى تأجيل العمل بهذا القانون لمدة عام أملا في إنعاش السوق.

7- لا يبدو حبس المين أمرا خطير لأن المشرع لا يجيزه إلا في حالات استثنائية قليلة يكون فيها الدائن أولى بالحماية والرعاية من المدين.

يتضح مما سبق أن القوانين ق اختلفت في تبني وسيلة الحبس فدي الديون المدنية والتجارية، فمنها مدن أجاز حبس المدين الموسر الممتنع عن الوفاء بما عليه من ديون رغم مقرته على ذلك مستندة إلى قواعد الشريعة الإسلامية. ومنها من ذهب إلى عدم جواز حبس المدين في الديون المدنية على أساس محل ضمان الدائن هو ذمة المدين وليس شخصه، وحسنا فعل المشرع الفلسطيني في تبنيه في قانون التنفيذ رقم23 لسنة 2005 وسيلة الحبس ) حبس المدين( للضغط على المين الموسر واكراهه على تنفيذ ما التزم به .

_______________________

1- عباس العبودي، شرح أحكام قانون التنفيذ، دار الثقافة، الطبعة الأولى،2007 ص159/ اح أحمد أبو الوفا، إجراءات التنفيذ، منشاة المعارف، الإسكندرية. ص13/فتحي عبد الرحيم عبدالله ، مرجع سابق ص40.

2- مبارك محمد عبد المحسن ، حبس المدين طريقا من طرق التنفيذ الجبري ( دراسة في القانون الكويتي).

رسالة مقدمة لجامعة الشرق الاوسط 2012ص15.

3- أحمد محمد حشيش، التنفيذ الجبري في قانون المرافعات1998، ص46.

4- رمزي سيف، قواعد تنفيذ الأحكام والمحررات الموثقة، الطبعة التاسعة، دار النهضة العربية،

.1970 ص10.

5 فتحي والي، التنفيذ الجبري وفقا لمجموعة المرافعات المدينة والتجارية وقانون الحجز الإداري،

.1981 ص9 /. نبيل إسماعيل عمر وأحمد هندي وأحمد خليل، التنفيذ الجبري، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، 2004 ص10/ أسامة أحمد شوقي المليجي، الإجراءات المدنية للتنفيذ الجبري في قانون المرافعات المصري، دار النهضة العربية، القاهرة،2000 ص7.

6- عباس العبودي مرجع سابق ص150 / رمزي سيف مرجع سابق ص11/ أحمد السيد صاوي وأسامة روبي عبد العزيز، التنفيذ الجبري في المواد المدنية والتجارية، دار النهضة العربية، القاهرة، 2000 ص8.

7- محمد الصاوي مصطفى قواعد التنفيذ الجبري ، الجزء الاول ، دار النهضة العربية – القاهرة 2000-ص 19/ أحمد صدقي محمود، حبس المدين المماطل في الشريعة الإسلامية والقانون، دار النهضة

العربية، القاهرة. مرجع سابق ص67.

8- رائد عبد الحميد، الوجيز في شرح قانون التنفيذ الفلسطيني رقم 23 لسنة 2005 ، الطبعة

. الأولي، 2008 ص 343/ يوسف بناصر ، الدليل العملي والقضائي في مسطرة الاكراه البدني سلسلة بناصر للدراسات القانونية والابحاث القضائية السنة الثالثة العد الرابع 2004 ص55.

9- اللجنة القانونية لمركز جذور ،مقال منشور يوم الاثنين 19نيسان 2010 على الموقع الاتي WWW.assabeel.nt.

10- احمد محمد مليجي التنفيذ على شخص المدين بحبسة دراسة في القانون دولة الامارات والقانون المقارن والشريعة الاسلامية بحث منشور على الموقع الالكتروني http://bota.forumarabia.net/t7430.topic،ص221/

احمد السيد صاوي واسامة روبي عبد العزيز الروبي مرجع سابق ص12/ صلاح الدين شوشاري التنفيذ الجبري الطبعة الاولى ، دار الثقافة عمان 2009ص 305 / محمد الصاوي مصطفى مرجع سابق ص20 /يوسف بناصر، الدليل العملي والقضائي في مسطرة الإكراه البددني، سلسة بناصر للدارسات القانونية والأبحاث القضائية، السنة الثالثة، العدد الرابع، 2004 ص86.

11- تنص المادة (11) من القانون الاساسي الفلسطيني على انه 1- الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مكفولة لاتمس .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .