يجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على عدم جواز حبس المدين المعسر، ويذهبوا إلى جواز حبس المدين المماطل القادر على الوفاء بما عليه من ديون(1)، ومع ذلك ثار خلاف حول حبس المدين معلوم الملاءة وحبس المدين مجهول الحال اذا ادعى الاعسار.

أولاً : حبس المدين معلوم الملاءة:

أ. إذا غيب ماله.

ب . إذا كان له مال ظاهر.

أ. حبس المدين المماطل المغيب لماله:

إذا امتنع المدين عن الوفاء وهو معلوم الملاءة وغيب ماله فإنه يحبس وبه قال الحنفية(2) والحنابلة(3)، والمالكية(4) والشافعية(5) واستدلوا بالآتي:

1- ما ورد عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لي الواجد يحل عرضه وعقوبته”.

2- ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مطل الغني ظلم”.

3- ما ورد عن الهرماس بن حبيب عن أبيه، عن جده قال: أتيت النبي بغريم لي، فقال لي ألزمه، ثم مر بي آخر النهار فقال ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم “، وجه الاستدلال من الحديث أنه سمى الغريم أسيرا ، والأسير يجوز حبسه، فيجوز حبس الغريم كما أن تسليط صاحب الحق على غريمه بالملازمة في معنى الحبس لما فيه من الإعاقة عن التصرف، فيدل ذلك على جواز الحبس.

ب . حبس المدين المماطل وله مال ظاهر: وفيه حالتين:

1- حبس المدين المماطل وله مال ظاهر من جنس الدين، يمكن سداد دينه منه، فللعلماء قولان في جواز حبسه، القول الأول: يحبس المدين أولا ، فإن صبر على الحبس قضى الحاكم دينه من ماله وبه قال الحنابلة(6)، واستدلوا بالآتي:

2- ورد عن عمرو بن الشريد عن أبيه أن النبي صلي الله عليه واله وسلم قال: “لي الواجد يحل عرضه وعقوبته”، أوجه الدلالة من الحديث أنه دل على جواز معاقبه المدين المماطل وعقوبته حبسه فلا يقضي دينه من ماله حتى يصبر على الحبس، ونوقش ذلك بأن الحديث دل على جواز معاقبة المدين المماطل القادر على الوفاء، والعقوبة لفظ مطلق، فتصدق على الحبس كما تصدق على قضاء الدين جبرا عن المدين واذا أمكن قضاء دينه من ماله فلا حاجة إلى حبسه.

القول الثاني: أن الحاكم يقضى دين المدين من ماله جبرا عنه ولا يحبسه وبه قال الحنفية(7) ، والمالكية(8)، والشافعية(9)، واستدلوا بالآتي(10):

1-ما ورد عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ” مطل الغني ظلم” فدل على أن المطل من الغني ظلم، والظلم يجب رفعه، ويرتفع الظلم بقضاء الدين من مال المدين المماطل جب ا ر عنه إذا كان له مال ظاهر يمكن قضاء دينه منه.

2- إن الحبس في الشريعة الإسلامية لا يصار إليه إلا لحاجة، لما يترتب عليه من الآثار السيئة العامة والخاصة والحاجة هنا منتقية مع التمكن من سداد الدين من مال المدين جب ا ر عنه.

3- إن حبس المدين فيه إضرار بالدائن بتأخير وصول حقه إليه وذلك في حاله إمكانية قضاء الدين من مال المدين جبرا عنه، والضرر يزال، وازلته لا تكون إلا بقضاء دينه من ماله فيكون متعينا .والقول الراجح – وبحق – هو أن المدين لا يحبس إذا كان له مال ظاهر من جنس الدين، حيث يقضى الدين من ماله جبرا وذلك لقوة وسلامة أدلة القول الثاني.

4- حبس المدين المماطل وله مال ظاهر من غير جنس الدين وللعلماء فيه ثلاثة أقوال(11):- · القول الأول: يحبس المدين أولا فإن صبر على الحبس بيع عليه ماله وقضى دينه منه، وبه قال الحنابلة.

· القول الثاني: الحاكم بالخيار أما أن يحبسه حتى يقضى المدين دينه بنفسه أو يقضيه عنه من ماله وهو المذهب عند الشافعية.

· القول الثالث: لا يحبس المدين وله مال ظاهر يمكن قضاء دينه منه وانما يباع عليه ماله ويقضى به دينه وهو المذهب عن المالكية او لحنفية.

القول الثالث هو الراجح وذلك تعجيلا لرفع الظلم ولإيصال الحق إلى مستحقه.

ثانياً: حكم حبس المدين مجهول الحال إذا ادعى الإعسار :

يختلف الحكم في هذا الأمر بحسب تصديق دائنيه وتكذيبهم له كالآتي:

أ. حبس المدين مجهول الحال إذا صدق الغرماء دعواه بالإعسار، إذا أقر الدائن بإعسار مدينه فيجب عليه انظاره، والحبس ينافي الانظار)12) لقوله تعالى” وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم أن كنتم تعلمون(13)

ب . حبس المدين مجهول الحال إذا ادعى الإعسار وكذبه غرماؤه: وفيه حالتين:

الأولى: إذا لم يكن للدائن والمدين بينة على دعواه:

اختلف العلماء في حبسه، والراجح ما ذهب إليه جمهور الحنفية (14) من أنه إذا ادعى المدين أنه معسر وكان الدين كبدل عن مال حصل في يده كثمن مبيع أو ناتج عن التزام عقدي ولو لم يكن بدلا عن مال كالمهر والكفالة وعوض الخلع فالقول قول الدائن ويحبس المدين واذا لم يكن الدين بدلا عن مال ولم يكن التزاما عقديا كأرش الجناية، وبدل المتلف، فالقول قول المدين ولا يحبس، واستدلوا بأن المدين يحبس في كل دين لزمه بدلا عن مال حصل بيده، لأن المال إذا حصل في يد المدين ثبت غناه به وزواله عن الملك محتمل، والثابت لا يترك بالمحتمل، وعليه فلا يقبل قوله ويحبس استصحابا لبقاء ذلك المال، فإن لزمه لا في مقابل مال فيقبل قوله ولا يحبس لأن الأصل العدم ولم يوجد ما ينقضه فيحكم ببقائه إلا إذا كان قد التزامه بعقد فانه يحبس لأن الإنسان لا يلتزم ويشغل ذمته بما لا يقدر عليه (15)

الثانية: إذا أقام أحدها البينة على دعواه :

1- إذا أقام المدين البينة على إعساره وكذبه غرماؤه، فللعلماء في قبول بينته قبل حبسه ثلاثة أقوال.

– الأول: لا تقبل البينة على الإعسار قبل الحبس وهو أصح الأقوال عند الحنفية(16)

– الثاني: تقبل بينة الإعسار ولا يحبس، وهو مذهب المالكية(17) والشافعية (18) والحنابلة (19)

– الثالث: قبول البينة وعدمه مفوض إلى رأي القاضي وهو ما قال به بعض الحنفية(20)

)والراجع – وبحق – أن الدين إذا كان في مقابل مال حصل عليه المدين وادعى الإعسار وأقام البينة على إعساره فإن كانت البينة مثبتة لزوال ماله بنحو تلف أو استهلاك فتقبل بينته ولا يحبس، لأن الأصل هو العسرة وما حصل بيد المدين من مال فانه يثبت زواله فيرجع إلى الأصل، اون كانت البينة نافيه لليسار مثبته لمطلق الإعسار فإن قبولها من عدمه يرجع إلى تقدير القاضي للبينة فيما تخبر به عن حال المدين يساراً أو إعساراً، وذلك لأن حصول المال بيد المدين دليل على يساره ولم يقدم دليل على ذهاب ماله، والشهود قد يخفى عليهم باطن حاله، أما إذا لم يكن الدين في مقابل مال حصل عليه المدين، فالراجح أن القول قول المدين فلا يحبس(21))

ويذهب جمهور الفقهاء إلى أن المدين إذا قبلت بينته على الإعسار يلزمه أن يحلف بأن لا مال له لا ظاهرا ولا باطنا لاحتمال أن يكون له مال في الباطن أخفاه وكتمه ولم يعلم به الشهود(22)

2- حبس المدين مجهول الحال إذا أقام الغرماء البينة على يساره.

تقبل بينة اليسار ويحبس المدين حتى يفي بدينه أو يتبين إعساره وذلك لقيام ما يبطل دعوي المدين بالإعسار ويثبت ملاءته ويساره، وهو المذهب عند المالكية والشافعية والحنابلة ومعظم الفقهاء من الحنفية(23).

___________________

1- أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الاسدي )العلامة الحلي(، المحلى، الجزء الثاني،

مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، جمادي الأولى 1418 ه،ص102.

2- شمس الدين السرخسي، المبسوط، الجزء العشرون، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1406 ه-

1986م ،ص88.

3- منصور بن يونس بن ادريس البهوتي، كشاف القناع على متن الاقناع، الجزء الرابع، عالم

الكتاب، بيروت، 143 ه- 1983م،ص418.

4- برهان الدين ابراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بدن فرحون المالكي، تبصرة الحكام فدي

أصول الاقضية ومناهج الأحكام، الجزء الثاني، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الاولى

.1406- 1986،ص315.

5- محي الدين يحي بن شرف النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين، الجزء الرابع، المكتب

الاسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1405 ه- 1985 م ص173.

6- منصور بن يونس بن ادريس البهوتي ، مرجع سابق ص419.

7- شمس الدين السرخسي ،مرجع سابق ،ص165.

8- برهان الدين ابراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بدن فرحون المالكي، مرجع سابق ،ص312.

9- شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي، نهاية المحتاج الى شرح المنهاج، الجزء الثالث، مطبعة مصطفي البابي الحلبي، مصر، الطبعة الاخيرة، 1386 ه- 1967 مص322.

10- مزيد بن ابراهيم بن صالح المزيد، استيفاء الديون في الفقه الاسلامي، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى، 1431 ه،ص88.

11- محي الدين يحي بن شرف النووي ،مرجع سابق ،ص137/ برهان الدين ابراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بدن فرحون المالكي، مرجع سابق ،ص213/ شمس الدين السرخسي ،مرجع سابق، ص 166.

12-أبو محمد موفق الدين عبد الله بدن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، المغني، الجزء الرابع،

مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1401 ه-1981 م،ص499.

13- (سورة البقرة اية 280).

14- محمد أمين الشهير بابن عابدين، حاشية ابن عابدين )الموسومة بحاشية رد المحتار شرح

تنوير الابصار(، الجزء الخامس، مطبعة مصطفي البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية،1386 – 1966،ص382.

15- مزيد بن ابراهيم بن صالح المزيد، مرجع سابق ص99.

16- برهان الدين ابراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بدن فرحون المالكي، مرجع سابق،ص205.

17- ابو بركات احمد الدردير ، الشرح الكبير ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، الجزء الثالث ،ص279.

18- شمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي ،مرجع سابق ص332/ محي الدين يحي بن شرف النووي ،مرجع سابق،ص138.

19- منصور بن يونس بن ادريس البهوتي، مرجع سابق 421.

20- محمد أمين الشهير بابن عابدين، حاشية ابن عابدين )الموسومة بحاشية رد المحتار شدرح

تنوير الابصار(، الجزء الخامس، مطبعة مصطفي البابي الحلبي، مصدر، الطبعة الثانية، 1386ه – 1966،ص388.

21- مزيد بن ابراهيم بن صالح المزيد، مرجع سابق،ص104.

22- محي الدين يحي بن شرف النووي ،مرجع سابق، ص،183.

23- كمال الدين محمد بن الواحد المعروف بابن الهمام الحنفي، فتح القدير، الجزء السابع، مطبعة مصطفي البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى، 1389 ه- 1970 م ص279 / علاء الدين ابو بكر بدن مسعود الكاساني الحنفي، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الجزء السابع، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1701 ه- 1982 م،ص173.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .