ان مصطلح المعاملة بالمثل لا يستخدم من قبل الشراح والمؤلفين في موضوع القانون الدولي الخاص فحسب ، بل كثيراً ما نرى ونقرأ في مؤلفات القانون الدولي العام، عن استخدام مصطلح (المعاملة بالمثل) . فالسؤال المطروح : هل ان المعنى الذي يعبر عنه هذا المصطلح هنا ، هو نفس المعنى الذي يعبر عنه في موضوع القانون الدولي الخاص؟ في الحقيقة ، ان الاجابة عن هذا السؤال ، يتوقف على أمر مبدئي ، وهو ضرورة رفع اللبس الذي يقع فيه الكثير من الكتاب من عدم التفرقة (او بالاحرى) الاستخدام الخاطئ، للمصطلحات الاتية : مصطلح المعاملة بالمثل (Reciprocity) ، ومصطلح المقابلة بالمثل (Retortion) ومصطلح الرد بالمثل (Reprisal)(1). فكثير من المؤلفين لا يقيمون أية أهمية للتفرقة ما بين هذه المصطلحات ، فيطلقون أحد هذه المصطلحات في موضع معين ، قاصدين بذلك المعنى الذي يعبر عنه المصطلح الاخر ، فنرى في بعض مؤلفات القانون الدولي الخاص ، استخدام مصطلح (المقابلة بالمثل)(2) وفي مؤلفات اخرى نقرأ (المعاملة بالمثل في القانون الدولي العام)(3). ولكن ، في حقيقة الامر ان لكل مصطلح من هذه المصطلحات الثلاث ، معنى ومفهوم خاص ودقيق ، ولا يمكن استخدام احداها للدلالة على المعنى الذي يعبر عنه المصطلح الاخر . بناءً على ذلك ، سنقسم هذا الفرع على قسمين ، نتناول في الاول ، تمييز المعاملة بالمثل عن المقابلة بالمثل ، ونتناول في الثاني : تمييز المعاملة بالمثل عن الرد بالمثل .

أولاً / تمييز المعاملة بالمثل عن المقابلة بالمثل 🙁 Reciprocity / Retortion)

من اهم القواعد التي تحكم العلاقات الدولية ، المقابلة بالمثل(4)، ويعنى به “تصرف او موقف تأتيه الدولة في حدود سلطاتها ، رداً على تصرف شبيه من دولة اخرى ، بقصد ارغامها على العدول عن موقفها ، وهي لا تعد خرقاً للقانون”(5). ويقصد بأعمال المقابلة بالمثل تحقيق اهداف معينة منها(6): –

1-قد يهدف العمل المقابل الى الانتقام من الطرف الاخر ، لما سببه من اضرار معنوية او مادية ، دون ان يحقق العمل المقابل اية فائدة او يؤدي الى تسوية النزاع القائم بينها ، كأن تمتنع دولة من التصويت الى جانب مرشح دولة ثانية لرئاسة منظمة دولية ، فتلجأ الثانية الى اتخاذ الموقف نفسه في المنظمة ذاتها او في منظمة اخرى ، فالموقف الذي اتخذته الدولة الاولى يعّد شرعياً وغير مخالف للقانون الدولي ، ولكنه ينطوي على نوايا غير حسنة تجاه الدولة الثانية ، وليس لأي منها حق الاحتجاج على الاخرى.

2-قد يهدف العمل المقابل الى تعويض الدولة عن الاضرار التي سببها الطرف الاخر، كأن تقوم دولة بحجز او مصادرة سفينة او طائرة تابعة لدولة اخرى او لمواطنيها طبقاً لقوانينها الداخلية ، فتعمد الدولة الثانية الى اتخاذ الاجراء نفسه ضد الدولة الاولى او مواطنيها ، فيكون العمل المقابل في هذه الحالة قد حقق ترضية مناسبة للدولة الثانية .

3-قد يهدف العمل المقابل الى الانتقام المجرد من الطرف الاخر ، وان أدى الى اضرار تصيب الدولتين ، فقد تمنع دولة مرور البضائع والاشخاص عبر اراضيها الى دولة ثانية ، فتقوم الدولة الثانية باتخاذ الموقف نفسه ، وهذا العمل في الواقع يؤدي الى الاضرار بالدولتين ، فيحرمهما من وصول بضائعهما او اشخاصهما والفوائد المترتبة على ذلك كضريبة الترانسيت وأجور النقل والشحن وغيرها ، ففي هذه الحالة فأن العمل المقابل قد أدى الى اضرار اصابت الدولتين .

من خلال ما تقدم ، فأن الذي يميز (المقابلة بالمثل) عن (المعاملة بالمثل) ان المقابلة بالمثل تعني التصرف الذي يستجيب به الشخص على حساب ما يلقاه ، وهي بذلك تشكل موقفاً Situation) او سلوكاً دولياً مادياً ، ايجاباً كان ام سلباً ، يوجه التصرف الدولي ، وتتخذ صورة اجراءات فعلية تتخذ من قبل دولة في مواجهة دولة اخرى ، رداً على اجراء شبيه صدر من هذه الدولة الاخيرة(7). على العكس من (المعاملة بالمثل) والتي تعّد شرطاً لتطبيق نظام قانوني معين على الاجانب او لإعفائهم منها عند تمتعهم بالحقوق في مجال مركز الاجانب . الخلاصة ، ان هناك فرقاً متميزاً ما بين مصطلحي المعاملة بالمثل والمقابلة بالمثل ، فلكل منهما معنى ودلالة خاصة يختلف عن معنى ودلاله الآخر ، والمعنى الذي يحمله أحدهما لا يمكن للأخر ان يعبر عنه ، وبهذا ، فان من الخطأ ان نطلق تعبير (المقابلة بالمثل) معنيين بذلك المعنى الذي يحمله مصطلح (المعاملة بالمثل) ، كما يفعل الكثير من الكتاب والشراح ، فالتشابه هنا ، تشابه في الالفاظ وليس تشابهاً في الموضوع. وبهذا نستطيع ان نتوصل الى نتيجة مفادها ، أن (المقابلة بالمثل) تمثل التعبير الصحيح كأحد مباحث القانون الدولي العام ، على خلاف (المعاملة بالمثل) والتي يعد القانون الدولي الخاص المجال الصحيح الذي يستخدم فيه هذا المصطلح . غير ان ما ينبغي الاشارة اليه هنا ، ان مصطلح المعاملة بالمثل ، ورغم ما تقدم، ليست غريبة عن القانون الدولي العام حيث ان هناك بعض المجالات في القانون الدولي العام ، يمكن (للمعاملة بالمثل) ان تلعب فيها الدور نفسه الذي تلعبه في مجال مركز الاجانب ، وبالأخص فيما يتعلق بحصانات البعثات الدبلوماسية ، حيث يمكن للدولة ان تمنح بعثة دبلوماسية لديها ، امتيازات تزيد على الحصانات التي يقررها العرف الدولي ، على ان يكون ذلك على اساس المعاملة بالمثل(8). وقد نصت على ذلك صراحة ، اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام (1961) ، فقد اجازت للدول استخدام مبدأ المعاملة بالمثل بخصوص الحصانات والامتيازات التي يتمتع بها اعضاء البعثة في الدولة المعتمدة لديها(9). فهنا استخدمت (المعاملة بالمثل) على اساس الغرض نفسه التي تستخدم فيها في مركز الاجانب ولكن في موضوع من مواضيع القانون الدولي العام .

ثانياً / تمييز المعاملة بالمثل عن الرد بالمثل : (Reciprocity / Reprisal)

ان استكمال هذا الفرع من الدراسة ، يقتضي منا ، تمييز مصطلح (المعاملة بالمثل) عن مصطلح اخر قد يتداخل معها من حيث المعنى ، آلا وهو مصطلح (الرد بالمثل) او كما يسمى بـ (الاقتصاص)(10) أو (الأعمال الانتقامية)(11) فحري بنا التمييز بينهما في هذه الفقرة من الدراسة . فالرد بالمثل “يعني اجراءات قسرية مخالفة للقواعد العادية للقانون الدولي ، تتخذها دولة في اعقاب اعمال مخالفة للقانون ترتكبها دولة اخرى ، إضراراً بها ، وتهدف الى اجبار هذه الدولة على احترام القانون ، وقد تنطوي هذه الاجراءات على استخدام القوة المسلحة في أي شكل من الاشكال ، بري او بحري او جوي”(12). ويعرف أيضاً ، بأنها “عمل يتخذ انتقاماً من دولة لأجبارها على الموافقة على تسوية نزاع بينهما او احترام القانون ، وتستند الى سابقة وقوع انتهاك القانون”(13). وقد نص القرآن الكريم على هذا المبدأ في اكثر من موضع ، حيث قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(14)، وقال أيضاً : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ)(15) وفي أية أخرى : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)(16). صدق الله العظيم. هذا ويشترط للرد بالمثل او العمل الانتقامي ، الشروط الاتية(17):

1-ان تكون الأعمال الانتقامية مرتبطة بالضرر الاصلي المتنازع عليه بين الدولتين.

2-ان لا يبدأ بالأعمال الانتقامية الا بعد فشل الجهود السلمية لحل النزاع .

3-ان تتوقف الاعمال الانتقامية بمجرد ان يرجع الطرف الاخر عن موقفه ، ويوافق على تسوية النزاع .

4-ان لا تتخذ الأعمال الانتقامية ، اذا كان من شأنها الاضرار بدولة اخرى .

5-ان لا تتجاوز الاعمال الانتقامية الضرر الاصلي .

فالرد بالمثل او الاعمال الانتقامية اعمال غير مشروعة لا تهدف الى اصلاح الضرر الذي لحق الدولة ، وانما تهدف الى ترضية معنوية او ردع الطرف الاخر لئلا يكرر العمل ، وهي لا تعّد وسيلة لتسوية المنازعات الدولية ، بل العكس من ذلك فأنها تؤدي الى اتساع نطاق النزاع بين الدول ، خاصة اذا كانت تنطوي على استخدام القوة العسكرية ، فضلاً عن انها تعد حالة متخلفة للقانون الدولي وترجع به للوراء ، حيث ان الاعتماد على النفس يعني ان الدول لا تأبه باحترام القانون الدولي ، فتلجأ الى الثأر من الطرف الاخر(18). ومثال على الرد بالمثل او العمل الانتقامي ، ما قامت به السلطات البريطانية في نيسان عام 1984 بمحاصرة ودخول السفارة الليبية في لندن ، لقيام موظفي السفارة بقتل شرطية بريطانية ، وجرح عدد من المتظاهرين الليبيين امام السفارة(19). وبذلك ، فأن الذي يميز الرد بالمثل او العمل الانتقامي عن المعاملة بالمثل ، ان الرد بالمثل يمثل اساس نظام من الجزاءات الدولية ، وهو بهذا المفهوم ينطوي على عدة افكار ، مثل وسائل الثأر والانتقام(20)، على العكس من مبدأ المعاملة بالمثل في مركز الاجانب ، والذي لا ينطوي على مثل هذه الافكار ، بل هي مجرد وسيلة تلجأ اليها الدولة ، لتنظيم او لتمتع الاجنبي بمركز قانوني معين ، داخل إقليمها ، أسوة بمواطنيها.

____________________

[1]- راجع : د. احمد زكي بدوي ، معجم المصطلحات السياسية والدولية ، ط1 ، دار الكتاب المصري واللبناني ، 1989 ، ص127 ، فقرة 368 ، و ص130 ، فقرة 383 ، وص129 ، فقرة 377.

2- على سبيل المثال انظر : د. ممدوح عبد الكريم حافظ ، القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن ، ط1 ، مطبعة الحكومة ، بغداد ، 1973 ، ص207؛ ود. جابر جاد عبد الرحمن ، القانون الدولي الخاص ، ج1 ، ط1 ، بغداد ، 1949 ، ص266؛ وحامد مصطفى ، مصدر سابق ، ص117 .

3- على سبيل المثال ايضاً ، انظر : د. محمد طلعت الغنيمي ، الوجيز في قانون السلام ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، 1973 ، ص53 ، ولنفس المؤلف ايضاً : بعض الاتجاهات الحديثة في القانون الدولي العام، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، 1974 ، ص113.

4- د. محمد عبد الجواد محمد ، القضاء في الاسلام ، موسوعة القضاء والفقه للدول العربية ، ج56 .

5- د. احمد زكي بدوي ، مصدر سابق ، ص130 ، فقرة 383 .

6- د. سهيل حسين الفتلاوي ، المنازعات الدولية ، مطبعة دار القادسية ، بغداد ، 1985 ، ص239.

7- انظر : د. محمد طلعت الغنيمي ، الوجيز في قانون السلام ، مصدر سابق ، ص54 .

8- راجع : د. ابراهيم احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص64.

9- اذ نصت المادة (47) من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية ، على انه :

((1- لا يجوز للدولة المعتمد لديها ، التمييز بين الدول في تطبيق احكام هذه الاتفاقية .

2- ولا يعتبر ، مع ذلك ان هناك أي تمييز :-

أ-اذا طبقت الدولة المعتمدة لديها أحد احكام هذه الاتفاقية تطبيقاً ضيقاً ، بسبب تطبيقه الضيق على بعثتها في الدولة المعتمدة .

ب-اذا تبادلت الدول بمقتضى العرف او الاتفاق معاملة افضل مما تتطلبه احكام هذه الاتفاقية)).

10- د. محمد بهاء الدين باشات ، المعاملة بالمثل في القانون الدولي الجنائي ، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأمريكية ، القاهرة ، 1974 ، ص24.

1[1]- انظر : د. سهيل حسين الفتلاوي ، مصدر سابق ، ص24.

2[1]- د. محمد بهاء الدين باشات ، مصدر سابق ، ص24.

3[1]- انظر : د. سهيل حسين الفتلاوي ، مصدر سابق ، ص24.

4[1]- الآية (194) من سورة البقرة .

5[1]- الآية (126) من سورة النحل .

6[1]- الآية (190) من سورة البقرة .

7[1]- د. سهيل حسين الفتلاوي ، مصدر سابق ، ص243.

8[1]- المصدر نفسه ، ص545 .

9[1]- انظر في ذلك : د. سهيل حسين الفتلاوي ، المصدر السابق ، ص544.

20- د. محمد طلعت الغنيمي ، الوجيز في قانون السلام ، مصدر سابق ، ص54.

المؤلف : راد صائب محمود البياتي
الكتاب أو المصدر : مبدأ المعاملة بالمثل في مجال المركز القانوني للأجانب
الجزء والصفحة : ص19-24

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .