يعّد العرف والقضاء مصدرين مهمين من مصادر القانون بشكل عام والقانون الدولي الخاص ، بشكل خاص ، ولا يقل اهميتها عن اهمية المصادر الاخرى للقانون الدولي الخاص ، فالعرف كمصدر من مصادر القانون الدولي الخاص ، هو :”مجموعة القواعد القانونية التي اعتادت الدول السير بمقتضاها بصورة مستمرة ، في مسائل معينة ، واعتقادها بأن هذا العمل اصبح ملزماً لها“(1). والعرف المقصود هنا ، هو العرف الداخلي (الوطني) وذلك لان القانون الدولي الخاص ، هو قانون داخلي(2). أما القضاء ، فأن له أهمية خاصة كمصدر من مصادر القانون الدولي الخاص ، اذ انه يلعب الدور نفسه الذي يقوم فيه في باقي فروع القانون الاخرى(3). والقضاء بوصفه مصدراً من مصادر القانون ، هو : (مجموعة الاحكام والمبادئ التي استقرت عليها المحاكم في مسألة معينة)(4) . ويتجلى دور القضاء ، كأحد المصادر للقانون الدولي الخاص من خلال قرارات المحاكم المتواترة ، والذي يمثل موقفاً قضائياً معيناً ، تهتدي به المحاكم الاخرى ، وهي التي تعرف بـ (السوابق القضائية) حتى ان من الدول ، من تعطي السوابق القضائية قوة الزامية تقابل القوة الالزامية للقاعدة التشريعية ، مثل القانون الانكليزي(5).

واذا كان العرف والقضاء يعّدان مصدرين من مصادر القانون الدولي الخاص، فمن باب اولى أن يكونا كذلك ، بالنسبة لمبدأ المعاملة بالمثل في مركز الاجانب . ومتى ما أستقت المعاملة بالمثل عناصرها من هذين المصدرين ، سميت المعاملة بالمثل حينئذٍ ، بـ (المعاملة الفعلية او الواقعية بالمثل . Actual Reciprocity) فالعرف والقضاء يلعبان دورهما في المعاملة بالمثل في مجال مركز الاجانب ، متى ما استندت هذه المعاملة على التطبيق الفعلي او الواقعي ، ودون الاعتداد بوجود معاهدة او نص تشريعي ، ولكن بالاعتداد على العرف والسوابق القضائية او الإجراءات الإدارية(6). بمعنى أوسع ، إن المعاملة الفعلية او الواقعية بالمثل لا تشترط ان تكون الحقوق المعترف بها للوطنيين في الدولة الاجنبية ، مضمونة لهم بمقتضى تشريع في قوانين تلك الدولة او وفقاً لمعاهدة انضمت اليها تلك الدولة ، بل يكفي الاعتراف لهم بتلك الحقوق من الناحية الفعلية التطبيقية ، وذلك بالاستفادة من واقع الظروف في تلك الدولة، كاستقرار القضاء على ذلك او جريان العرف عليه(7).

وبناءً على ما سبق ، فأن المعاملة الفعلية او الواقعية بالمثل ، تعني : “ان الدولة تعامل الاجنبي في أراضيها ، المعاملة نفسها التي يعامل بها رعاياها فعلاً وواقعاً في الدولة التي ينتمي اليها الاجنبي بجنسيته ، ودون اشتراط ان تكون هذه الحقوق معترفاً بها بموجب معاهدة دولية او نص تشريعي ، يقرر صراحة مبدأ المعاملة بالمثل ، حيث يكفي ان تتحقق الدولة من ان رعاياها يعاملون معاملة فعلية من حيث التمتع بالحقوق ، سواء أكانت تلك الدولة الاجنبية تمنح هذه الحقوق للاجانب لديها ، بسبب ان الاعراف السائدة فيها تقضي بذلك ام بسبب استقرار القضاء على الاجازة للاجنبي ان يتمتع بتلك الحقوق ، ام وفقاً لأي اساس آخر في الدولة عد التشريع او المعاهدة“(8). وبهذا ، فأن العبرة في تحقق المعاملة الفعلية او الواقعية بالمثل ، هي تمتع الوطني الفعلي بذات الحقوق في الدولة الاجنبية من حيث الواقع ، وبصرف النظر عما اذا كان اساس التمتع بالحق هو اتفاقي ام نص تشريعي ، فالمهم ان الوطني في الدولة الاجنبية يتمتع تمتعاً فعلياً بجملة من الحقوق التي اما ان تكون مقررة بمقتضى الاعراف السائدة في تلك الدولة ام من خلال تواتر القضاء في ذلك البلد ، على منح تلك الحقوق للاجانب لديها . لأنه من المحتمل ان تكون الحقوق معترفاً بها للأجانب في الدولة بموجب معاهدة دولية ، ومع ذلك تخل الدولة بالتزامها ببنود المعاهدة ، او قد تكون هذه الحقوق مقررة بنص تشريعي الا ان هذا النص عاطل عن التنفيذ . واستناداً للمعنى المتقدم ، فأن المعاملة الفعلية او الواقعية ، تعد أكثر اشكال المعاملة بالمثل ” مرونة وبساطة “(9) على العكس من المعاملة الدبلوماسية بالمثل التي تعّد أصعب انواع المعاملة بالمثل واكثرها اغراقاً في الشكلية ، لأنه يضمن للاجنبي التمتع بالحق بمجرد ان الدولة التي يتبعها هذا الاجنبي تمنح ذات الحقوق للاجانب من الناحية الفعلية ودون ان تستلزم لذلك تشريع او معاهدة تقرره(10).

وفي هذا الصدد ، يرى البعض(11) ” ان المعاملة الواقعية بالمثل قد تكون مجدية بل وضرورية في معاملة رعايا الدول التي يكون العرف اساس نظمها القانونية ، وذلك كما هو الحال في البلاد الانكلوسكسونية ، اذ ان معاملة الاجانب هناك قد تتحدد وفقاً للعرف من غير قواعد مكتوبة ” . ورغم ذلك ، فإننا نعتقد أنه يبقى هناك الصعوبة في اثبات المعاملة الفعلية بالمثل ، فمن المعلوم عادة ، ان اثبات القاعدة التشريعية ، داخلية كانت ام دولية ، تكون اسهل وأيسر من اثبات القاعدة العرفية . ولهذا السبب فأنه يؤخذ على المعاملة الفعلية او الواقعية بالمثل ، صعوبة التحقق من عناصرها وتعذر معرفة عما يجري عليها الحال في الدولة الاجنبية ، بالنسبة لمعاملة الاجانب في بعض الاحيان ، خاصة وانه من الامور المتوقعة دائماً ان تتغير المعاملة الفعلية للاجانب في الدولة من وقت لآخر(12). ولهذا السبب ، قيل ان المعاملة الفعلية تعّد اضعف صور المعاملة بالمثل وأقلها انتشاراً لصعوبة التحقق من عناصره(13). الا انه ورغم ذلك ، فإننا مع بعض الفقه(14) بأن ” المعاملة الفعلية او الواقعية بالمثل ، تعد اكثر اشكال المعاملة بالمثل تحقيقاً للهدف البعيد الذي يسعى نظام المعاملة بالمثل من ادراكه ، فالدولة تهدف عادة من وراء تقريرها لهذا النظام الى حث الدول الاخرى على معاملة رعاياها على نحو افضل ، ولا يتأتى تحقيق هذا الهدف بصورة فعالة الا اذا ارتبطت معاملة الاجانب في الدولة بالمعاملة الحقيقية التي يلقاها رعاياها في الدولة الاجنبية لا بمجرد المعاملة المقررة لهؤلاء بمقتضى المعاهدات او التشريعات الداخلية لهذه الدول ، والتي لا تستجيب لواقع الحال “.

____________________

[1]- د. جابر ابراهيم الراوي ، مصدر سابق ، ص24 .

2- د. غالب الداوودي ود. حسن الهداوي ، مصدر سابق ، ص21.

3- المصدر نفسه ، ص22.

4- د. جابر ابراهيم الراوي ، مصدر سابق ، ص25.

5- د. غالب الداوودي ود. حسن الهداوي ، مصدر سابق ، ص24 .

6- د. ممدوح عبد الكريم حافظ ، القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن ، مصدر سابق ، ص208.

7- د. ابراهيم احمد ابراهيم ، مصدر سابق ، ص73.

8- د. عز الدين عبد الله ، القانون الدولي الخاص ، ج1 ، ط 11 ، مطابع الهيئة المصرية للكتاب ، القاهرة، 1986 ، ص614 . وفي نفس المعنى انظر : د. عوض الله شيبة الحمد السيد ، مصدر سابق ، ص226؛ ود. احمد مسلم ، موجز القانون الدولي الخاص ، مصدر سابق ، ص17 ؛ ود. جابر جاد عبد الرحمن ، القانون الدولي الخاص ، ج1، مصدر سابق ، ص 265.

9- د. عوض الله شيبة الحمد سيد ، مصدر سابق ، ص226 .

0[1]- المصدر نفسه ، ص226 .

1[1]- د. شمس الدين الوكيل ، مصدر سابق ، ص350.

2[1]- د. هشام علي صادق ، الجنسية والموطن ومركز الاجانب ، مصدر سابق ، ص178 .

3[1]- المصدر نفسه ، ص178 .

4[1]- د. هشام علي صادق ود. حفيظة السيد الحداد ، مصدر سابق ، ص328.

المؤلف : مراد صائب محمود البياتي
الكتاب أو المصدر : مبدأ المعاملة بالمثل في مجال المركز القانوني للأجانب
الجزء والصفحة : ص43-47

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .