مسؤولية الأشخاص الطبيعيين عن الجرائم الدولية
بقلم الدكتور حنا عيسى

حسب علمي، تعتبر هذه الدراسة اول دراسة شاملة في علم القانون الدولي لمسألة المسؤولية الفردية للأشخاص الطبيعيين المعنيين عن الجرائم الدولية.

من الأحكام المتعارف عليها في القانون الدولي المعاصر ذلك الحكم الذي الحكم الذي يقول بان الاشخاص الطبيعيين المذنبين باعداد الجرائم ضد السلم والانسانية وجرائم الحرب والتخطيط لها وتنظيمها وارتكابها يتحملون مسؤوليتهم عنها إلى جانب الدول المعنية.

لقد ادرج هذا الحكم للمرة الاولى وبصيغة دقيقة واضحة في الاتفاقية حول مقاضاة ومعاقبة كبار مجرمي الحرب للدول الاوروبية، المؤرخة في 8 اغسطس عام 1945، ثم تثبت في نظامي المحكمتين العسكريتين الدوليتين في نورنبرغ وطوكيو والاحكام الصادرة عنهما وفي غيرها من المواثيق القانونية الدولية.

ووجدت مبادئ القانون الدولي المعترف بها في نظام محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية والمتجسدة ايضا في الحكم الصادر عنها، تأكيداً لها في قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 95/1 الذي تم اقراره باجماع في 11 ديسمبر عام 1946.

وتضمن الحكم الصادر عن محكمة نورنبرغ العسكرية الدولية تعليلا للحكم المتعلق بالمسؤولية الفردية عن الجرائم الدولية. وجاء في هذا التعليل، على وجه الخصوص، ان القانون الدولي ينظر في افعال الدول ذات السيادة فقط دون ان يفرض عقوبات على اشخاص منفردين، وان الاشخاص الذين نفذوا فعلا ما باسم الدولة، عمليا، لا يتحملون اية مسؤولية شخصية عن ذلك، اذ يحميهم مبدأ سيادة الدولة.

وفي رأي المحكمة لا بد من نبذ هذين الادعائين. حيث اصبح من المتعارف عليه ان القانون الدولي يفرض واجبات والتزامات على اشخاص منفردين مثلهم مثل الدول. ويتلخص جوهر نظام المحكمة نفسه في تحميل اشخاص منفردين تلك الالتزامات الدولية التي تفوق واجبهم القومي في الاطاعة الذي تفرضه عليهم دولتهم الام. ومن يخالف قوانين خوض الحرب واعرافها لا يمكن ان يبقى دون حساب ولا عقاب بحجة انه يتصرف وفقا لتوجيهات دولته اذا كانت هذه الدولة لدى اعطاء اذنها بارتكاب مثل هذه الاعمال تتعدى دائرة صلاحيتها واختصاصاتها التي يحددها القانون الدولي.

ونرى على ضوء هذه الطروحات ان ثمة صلة معينة بين مسؤولية الدولة عن الاعمال التي يصفها القانون الدولي بانها جرائم دولية، وبين المسؤولية الفردية للاشخاص الطبيعيين المذنبين بالتنفيذ العملي لجريمة دولية محددة.

وتقع هذه المسؤولية الدولية على الشخص الطبيعي ايضا في تلك الحالات حين يقترف اجراما دوليا ما بصفة فردية وان يقوم على صلة قانونية مع دولته، او باستخدام بطريقة “Ultravires” وضعه القانوني كممثل هيئة من هيئات دولته.

وفي مثل هذه الحالة تنشأ مسألة المسؤولية الدولية لدولة ما اذا لم تتخذ هذه الدولة اجراءات كفيلة بمنع وقوع الجريمة ومعاقبة المذنبين بارتكابها طبقا لتشريعاتها والقانون الدولي ولم تعوض عن الضرر الذي احدثته تصرفات الاشخاص المذكورين فيما اعلاه، غير الشرعية.

ان مقولة المسؤولية الجنائية الدولية للاشخاص الطبيعيين عن الجرائم الدولية المقترفة من جانبهم لها اهمية بالغة بالنسبة للحيلولة دون ارتكاب مثل هذه الاجرام وتأمين فعالية مراعاة قواعد القانون الدولي المعاصر واحكامه. ويقضى القانون الدولي الحديث بأن يتحمل اشخاص طبيعيون ومجموعاتهم المسؤولية الفردية عن الجرائم ضد السلام والانسانية وجرائم الحرب إلى جانب الدول المعنية.

وكتب الاستاذ غ. تونكين في هذا الصدد يقول انه “حين يطلق على حرب عدوانية وغيرها من انتهاكات القانون الدولي اسم “الجرائم” تكمن الغاية من ذلك في التشديد على الطابع الخطير للغاية التي تتخذها المخالفات بالنسبة للدول المعنية. اما فيما يتعلق بالاشخاص الطبيعيين الذين يتولون تنفيذ هذه الاعمال بشكل ملموس فيدور الحديث في القانون المعاصر فعلا عن الجريمة الدولية والمسؤولية الجنائية الناجمة عنها”1.

اما ل. موجوريان فتشير في صدد هذه المسألة على وجه الخصوص إلى ان “الجريمة الدولية تعتبر مخالفة دولية خطيرة للقانون تهدد وجود وبقاء الامم والاقوام بالذات وكذلك السلام والامن والعلاقات الودية بين الشعوب، الامر الذي قد يترتب عليه ليس الالتزام بالتعويض على الضرر المحدث وازالة اثاره فحسب بل وفرض العقوبات الفردية او الجماعية على الدولة الجانية”2.

هذا وقدم نظام المحكمة العسكرية الدولية لاول مرة تعريفا شاملا ومفصلا لعناصر الجرائم الدولية التي تجر المسؤولية الفردية للاشخاص المذنبين بارتكابها. وادى نمو وعي الشعوب الحقوقي والتطور المطرد للقانون الدولي إلى توسيع عناصر الجرائم الدولية وجعلها اكثر تفصيلا.

على سبيل المثال، تعد من عداد الجرائم الدولية التي تجر المسؤولية الجنائية الفردية تلك الافعال التي تنص عليها الاتفاقية بشأن منع جريمة الابادة بالجملة والمعاقبة عليها المؤرخة في 9 ديسمبر 1948 والاتفاقية حول القضاء على جريمة التمييز العنصري والمعاقبة عليها المؤرخة في 30 ديسمبر 1973 واتفاقيات جنيف لعام 1949 بشأن حماية ضحايا الحروب والبروتوكولات الاضافية الملحقة بها في عام 1977 واتفاقية لاهاي حول قوانين الحرب واعرافها لعام 1907 وغيرها من المواثيق القانونية الدولية.

هذا وتثير مسألة ذوات المسؤولية الجنائية الدولية عن الجرائم الدولية منذ القدم مجادلات وخلافات في النظرية والتطبيق المتناقض وان بدأ يتخذ مع مرور الزمن طابعا اكثر تجانساً. على سبيل المثال، في اواسط القرن التاسع عشر وطبقا لنظرية القانون الدولي الكلاسيكية ساد اعتقاد بأنه لا يمكن ان تكون ذاتا للمسؤولية الدولية إلا دولة. كتب الاستاذ ف. ليست ان “الدولة وحدها تعتبر ذاتا (او طرفا) للمخالفات الدولية وبالتالي لما يترتب عليها من المسؤولية.

ان الدولة ذات السيادة والاهلية القانونية الدولية هي وحدها تستطيع ان تقدم على مخالفات دولية”1.

ووفقا للمبدأ القائل بأن الدولة وحدها يمكن ان تكون ذاتاً للمسؤولية الدولية كانت مواقف الدول وممارساتها تتطور على هذا الصعيد وكان ثمة اجماع، من حيث النظرية والتطبيق، على ان المسؤولين الحكوميين، مثلا، لا يمكن ان يتحملوا مسؤولية دولية عما يتخذون من خطوات بصفة رسمية لكونهم هيئة من هيئات دولتهم التي تتحمل هي وحدها مسؤوليتها امام دول اخرى.

وعلى هذا النحو بالذات جرت معالجة مسألة مسؤولية العسكري البريطاني النقيب ماكليود في السابقة الشهيرة المرتبطة بقضية “كارولينا”. لقد اعتدت القوات البريطانية العاملة تحت امرة هذا النقيب في ليلة 29 ديسمبر عام 1838 على سفينة “كارولينا” الامريكية الموجودة داخل الاراضي الامريكية واغرقتها لان هذه السفينة كانت تستخدم لدعم المتمردين الكنديين بالافراد والمؤن والعتاد دون ان تعترض السلطات الامريكية على ذلك.

ونتج عن احراق السفينة واغراقها وقوع ضحايا بين افراد طاقمها. وقبض الامريكان على النقيب ماكليود واقاموا عليه الدعوى بتهمة القتل والاحراق.

غير ان بريطانيا طالبت باطلاق سراح النقيب بحجة ان تصرفاته وتصرفات المرؤوسين لم تكن عملا قمعيا فرديا بل وجاءت نتيجة لتنفيذ الامر الموكل اليهم. لذا لا يمكن ان تكون افعالهم الا موضعا للمعاملات الدبلوماسية. ووافق وزير خارجية الولايات المتحدة فورسايت على هذا مما ادى إلى عدم محاكمة ماكليود واطلاق سراحه. وفي عام 1842 صدر قانون خاص في الولايات المتحدة يقضي بعدم تعريض الاجانب للمرافعة

الجنائية اذا تولت حكوماتهم المسؤولية عن تصرفاتهم1.

وينوه الاستاذ ليفين في هذا الصدد بأن “مفهوم المخالفة الدولية من قبل بلد ما تم تحديده بموجب المذهب السائد وقتذاك انطلاقا من المعيار الشكلي، اساسا، لمخالفة القانون دون ادنى تمييز بين مختلف انواع المخالفات طبقا لدرجة ذنب الدولة وتقييم طابع التصرف الذي تجسد في المخالفة ودرجة الخطر الناجم عن المخالفة على دول اخرى او المجتمع الدولي ككل، الخ…”2.

مع ذلك حتى في ظل سيادة مقولة مسؤولية الدول وحدها عن افعال رعاياها شهدت الممارسات التعاهدية بعض الاستثناءات من القاعدة العامة والتي قضت بتحميل الاشخاص الطبيعيين المسؤولية الفردية عن خرق الاحكام المعينة من قوانين الحرب واعرافها التي تم اقرارها بشكل تعاهدي. على سبيل المثال، نصت المادة 12 من نظام الاحكام الخاصة بقوانين واعراف الحرب في البر على ان كل اسير حرب “تم اطلاق سراحه بعد ان اعطى كلمة شرف ثم وقع في الاسر من جديد حيث كان يقاتل بسلاح تلك الحكومة التي اقسم بشرفه امامها او قاتل حلفائها يحرم من الحقوق الممنوحة لاسرى الحرب ويمكن ان يحال إلى القضاء”3.

اما المادة 34 من تلك الوثيقة فنصت على ان “رسول هدنة يفقد حق الحصانة اذا ثبت بصورة مقنعة واكيدة انه كان قد استفاد من وضعه المميز لتدبير الخيانة او الحث عليها او تنفيذها”4. كما نصت المادة 41 من النظام نفسه على ان “خرق شروط الهدنة من قبل اشخاص منفردين يتصرفون بمحض مبادرتهم مما يخول حق المطالبة بمعاقبة المذنبين والمكافأة لقاء تكبد الخسائر اذا حصل ذلك بالفعل”1.

وعلى صعيد مذهب القانون الدولي كان ثمة مؤلفون حبذوا اللجوء إلى طرق دولية كفيلة بمعاقبة الاشخاص المذنبين بصورة مباشرة بارتكاب الجرائم الدولية. على سبيل المثال، تقدم العالم السويسري مؤانيه احد مؤلفي اتفاقية جنيف لعام 1864 بشأن المرضى والجرحى، تقدم في العام 1882 بمشروع استحداث محكمة دولية لمنع مخالفات الاتفاقية والمعاقبة عليها. واقترح العالم ان تضم المحكمة في قوامها ممثلا عن كل طرف من الطرفين المتحاربين وثلاثة ممثلين عن البلدان المحايدة ينتخبون بالقرعة.

وكانت الغاية من المحكمة ان تنظر في قضايا ناتجة عن شكاوي طرفي النزاع وتقرر عقوبات على ان تتم صياغتها في بروتوكول اضافي خاص ملحق باتفاقية جنيف لعام 1864. وعدا العقوبات كان من الممكن للمحكمة، حسب الاقتراح الآنف الذكر، ان تقرر التعويض عن الضرر الملحق. وراعى الاقتراح ان تنفذ حكومة الدولة التي ينتمي المحكوم عليه اليها، احكام المحكمة العسكرية الدولية.

غير ان مسألة المسؤولية الجنائية الدولية للافراد عن الجرائم الدولية لم تطرح بشكل واقعي الا عقب انتهاء الحرب العالمية الاولى حين ادرج في جدول الاعمال موضوع المسؤولية الدولية ليس للدول المعتدية فحسب بل والمسؤولية الفردية لاولئك الذين كانوا وراء شن تلك الحرب. ونصت معاهدة فرساي لعام 1919 على تحميل الامبراطور فيلهالم الثاني المسؤولية الجنائية الدولية واحالته إلى المقاضاة في المحكمة العسكرية الدولية واحالة مجرمي الحرب الالمان إلى المرافعة ضمن دائرة اختصاص محاكم الدول الحليفة.

وجاء في مذكرة ارسلتها بلدان الائتلاف إلى الحكومة الهولندية في 14 فبراير عام 1920 تتضمن طلب تسليم فيلهالم الثاني ما يلي: “على هولندا ان تعمل سوية مع الامم المتحضرة الاخرى من اجل ضمان المعاقبة على الجرائم ضد القانون والمبادئ الانسانية… ويكمن الواجب الذي لا يمكن لاحد ان يعتبر نفسه طليقا عنه لاعتبارات ذات الطابع القومي مهما كانت جدية، في تضافر الجهود لانزال العقوبة بطريقة مثالية على كل المذنبين بويلات واهوال الحرب”1.

وفي الآداب الحقوقية المتخصصة في القانون الدولي التي صدرت عقب الحرب العالمية الاولى ابدى مؤلفوها، في اعتقادنا، رأيا صائبا مؤداه انه اذا كان الهدف من مسؤولية الدول القانونية الدولية عن الجرائم الدولية هو التعويض عما الحق من الاضرار الفعلية فان المسؤولية الجنائية الدولية للاشخاص المذنبين بارتكاب الجرائم الدولية تستهدف درء ارتكاب مثل هذه الجرائم المحتمل في المستقبل او منع ارتكابها من قبل أي اشخاص سواء اكانوا موظفين رسميين او اشخاص غير رسميين.

لقد ابدى هذا الرأي، على وجه الخصوص، الحقوقي الفرنسي المعروف دونيديه دي فابر الذي اشترك فيما بعد في جلسات محاكمة نورنبرغ العسكرية الدولية التي قاضت مجرمي الحرب العالمية الثانية الرئيسيين.

كما انتشرت في تلك الفترة نظرية اخرى حول المسؤولية الدولية عن الجرائم الدولية رأت في الافراد ذوات للمسؤولية الجنائية وفي الدول ذوات للمسؤولية القانونية بشكل تعويضات وجزاءات وايفاءات. وكانت ضرورة تحميل الاشخاص الطبيعيين المسؤولية الجنائية الدولية معللة انطلاقا من ان التشريعات الوطنية لم تنزل عقوبات موازنة لخطورة الجرائم الدولية وان الاشخاص المعينين المذنبين بارتكاب هذه الجرائم يجب ان يحالوا إلى المحكمة الدولية.

وفي الوقت ذاته رفض انصار مثل هذه الرؤية رفضا قطعيا فكرة تحميل الدول المسؤولية الجنائية الدولية. وكتب احد ابرز ممثلي هذا الاتجاه الحقوقي اليوناين ن. بوليتيس في هذا الصدد يقول انه “من دوافع التوهم فقط يممكن الحديث عن الدولة وكأنها شخص معنوي يمكن ان تفرض عليه عقوبة او جزاء. والمسؤولية الجماعية ليست الا وهم كاذب ومضلل.

وفي حقيقة الامر يؤدي هذا المفهوم إلى التهرب من المسؤولية والعقاب. كما ان المسؤولية “النظرية” للدولة تنسف وتلغي مسؤولية الحكام الحقيقية”1. الا ان وجهة النظر هذه يصعب علينا ان نوافق عليها وان تتضمن فكرة صحيحة حول وجوب المعاقبة الجزائية للاشخاص المذنبين باقتراف اجرام دولية.

يجب الاعتراف بمثل هذه المسؤولية الخاصة المتمثلة في اشكال شتى من ازالة الدولة الجانية وحتى اعادة تنظيمها واقرار الضمانات الدولية بهذا الخصوص والتقييد المؤقت لحقوقها واهليتها، اذا كنا نسعى بالفعل لمنع الجرائم ضد السلم والانسانية وجرائم الحرب وجرائم الابادة بالجملة والتمييز العنصري ووضع حد لها.

وكانت مسؤولية المانيا وحلفائها الذين شنوا الحرب العالمية الثانية واقترفوا اثنائها جرائم دولية عديدة غير محصورة بحال من الاحوال في مسؤولية قانونية دولية عادية بشكل تعويضات واعادات وجزاءات ومسؤولية جزائية دولية لمجرمي الحرب. ذلك ان الدولة الالمانية بوصفها معتد وهيئة او جهازا لارتكاب الجرائم الدولية ضد الانسانية تحملت المسؤولية الدولية الخاصة كدولة أي المسؤولية الجماعية.

وقد اعلنت الدول الحليفة في مؤتمرهم بالقرم ان غايتهم من احتلال المانيا وفرض رقابة الحلفاء عليها هي “القضاء على العسكرتارية الالمانية والنازية وتوفير ضمانة للحيلولة دون ان تصبح المانيا من جديد في يوم من الايام قادرة على خرق السلام العالمي”2.

وركزت قرارات مؤتمر القرم على ان “الحلفاء لا يسعون اطلاقا لافناء الشعب الالماني… مع ذلك لن يظهر امل للشعب الالماني في العيش اللائق والمكانة اللائقة في اسرة
الامم الا بعد استئصال جذور النازية والعسكرتارية”3.

هكذا يمكن القول انه في سياق التطور التقدمي للقانون الدولي وتصارع مختلف وجهات النظر والمواقف على صعيد مذهب القانون الدولي، تكونت في ممارسات الدول وفي النظرية ولقيت اعترافا اكيدا مقولة المسؤولية الجنائية الدولية للاشخاص الطبيعيين عن الجرائم ضد السلام وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية.

وكان اقرار نظامي محكمتي نورنبرغ وطوكيو العسكريتين الدوليتين واصدار احكامهما يعنيان ليس تأكيد مبدأ المسؤولية الجنائية الدولية للاشخاص الطبيعيين فحسب بل وتعيين نظام وعناصر للجرائم الدولية واشكال للمسؤولية الجنائية على النطاقين الدولي والوطني واصول اجرائية للقضاء الجنائي الدولي.

هذا وعينت الاتفاقية حول مقاضاة ومعاقبة مجرمي الحرب الرئيسيين للدول الاوروبية المؤرخة في 8/8/1945 ونظام المحكمة العسكرية الدولية في نورنبرغ دائرة اختصاص المحكمة والجرائم الدولية التي تشتمل عليها دائرة اختصاص المحكمة كون هذه الجرائم تجر المسؤولية الجنائية الفردية. “لقد جاء اقرار نظام المحكمة نتيجة لتحقيق الصلاحيات التشريعية من قبل تلك البلدان ذات السيادة التي استسلم امامها الرايخ الثالث دون قيد او شرط علما بان حقوق تلك البلدان في سن قوانين في الاراضي المحتلة اعترف بها العالم المتحضر بلا ريب وشك.

مع العلم بان للنظام بحد ذاته يشكل تجسيداً للقانون الدولي القائم لحظة احداث المحكمة. وبهذا المعنى يعد النظام اسهاما في القانون الدولي”1. هذا هو رأي الاستاذ الانكليزي د. هارس الذي يمكن مشاطرته.

مع ذلك، ينبغي، على ما يبدو لنا، ان نضيف إلى هذا الكلام ان حق الدول الحليفة في وضع نظام المحمة العسكرية وتنظيم واقامة المحاكمة جاء، على الارجح، نتيجة وتبعة للجرائم الدولية الخطيرة ضد السلام والانسانية وجرائم الحرب التي اقترفها الرايخ الثالث وحكامه بدلا من ان يكون “نتيجة لتحقيق الصلاحيات التشريعية” للدول المحتلة ذات السيادة. ومما لا شك فيه ان احتلال الاراضي الالمانية اثر انتصار الامم المتحدة في الحرب العالمية الثانية خلق مقدمات مادية وسياسية ضرورية لالقاء المسؤولية عن الجرائم الدولية وتحميلها.

الا ان مسؤولية الرايخ الثالث بما في ذلك المسؤولية الجنائية الشخصية لقادة الدول الفاشية نشأت ووجدت بحكم ونتيجة وقائع التخطيط للجرائم الدولية المذكورة واعدادها وتنظيمها واقترافها. لذلك، في رأينا، ينبغي اعتبار جرائم النازيين الدولية ذاتها عاملا اساسيا ادى إلى احداث المحكمة العسكرية.

هذا وشملت دائرة اختصاص المحكمة العسكرية كل الجرائم المسرودة في المادة 6 من نظام المحكمة بغض النظر عن كون هذه الافعال قد خالفت القانون الداخلي للبلد الذي نفذت فيه ام لم تخالف. ولهذا الحكم اهمية كبيرة، اذ اكد على المبدأ القائل بان المسؤولية الجزائية الدولية للاشخاص الطبيعيين تستند إلى واقع الاقدام على تعديات في غاية الخطورة على اصول القانون الدولي بصرف النظر عن وجود هذا الصنف من الجرائم او ذاك او عدم وجوده في تشريعات الدول الداخلية.

لهذا السبب رفضت المحكمة العسكرية الاستشهادات الباطلة لمحامي الدفاع عن المتهمين بالمبدأ الزاعم ان لا جريمة بلا قانون ولا عقاب بلا قانون. وادعى المحامون ان اعطاء نظام المحكمة العسكرية اثرا رجعيا يتناقض مع المبادئ العامة للعدل، التي اعترفت بها كل الدول المتحضرة، لان القانون الدولي لم يعتبر الحرب العدوانية في المرحلة السابقة جريمة دولية ولم يعين جزاء عليها ولم توجد محاكم تشمل دائرة اختصاصها النظر في مثل هذه الدعاوى واصدار الاحكام على المذنبين بارتكاب هذه الاجرام.

غير ان الاستشهادات بالمبدأ المذكور كانت باطلة تماما لان المتهمين الذين شغلوا مناصب رفيعة في الهيئات الالمانية ادركوا ان شن الحرب العدوانية يشكل خرقا صارخا للمعاهدات الدولية التي ابرمتها المانيا وان جرائم الحرب المرتكبة بأوامرهم وبعلمهم تعتبر انتهاكاً لقوانين الحرب واعرافها التي تحدد الوضع القانوني للاطراف المتحاربة والاشخاص الطبيعيين وحقوقهم وواجباته…

وكان المحامون الذين تولوا الدفاع عن المتهمين قد طرحوا ايضا ادلة مؤداها ان القانون الدولي يضبط اعمال الدول ذات السيادة ولا يقر مسؤولية الاشخاص الطبيعيين ومعاقبهم، وبما ان الافعال قيد الدعوى ناتجة عن تصرفات الدولة يجب انت تتحمل ادولة وحدها المسؤولية عنا ولا الاشخاص الطبيعيون. الا ان المحكمة العسكرية نبذت هذه الحجج ايضا بما في ذلك ما قيل عن تصرفات الدولة وحدها. وجاء في الحكم النهائي الصادر عن المحاكمة ان “مبدأ القانون الدولي الذي يحمي في ظروف معينة ممثلا للدولة لا يمكن تطبيقه الافعال التي يجري تنفيذها كجرائم بموجب القانون الدولي… والجرائم ضد القانون الدولي يرتكبها الناس ولا “مقولات مجردة”. ولا يمكن مراعاة اصول القانون الدولي الا عن طريق انزال عقوبات بحق اشخاص منفردين يقترفون مثل هذه الجرائم”1.

وكانت اهمية بالغة على صعيد ضبط مسؤولية الاشخاص الطبيعيين عن الجرائم الدولية المرتكبة للمادتين 7 و 8 من نظام المحكمة العسكرية الدولية اللتان اعتمدتا على ممارسات الدول واحكام الاتفاقيات الدولية المعقودة قبل اقرار النظام بوقت طويل.

وتنص المادة 7 على ان وضع الشخص الوظيفي بما في ذلك وضعه بصفة رئيس الدولة او الموظف المسؤول في الدوائر الحكومية لا يمكن اعتباره اساسا لاعفائه من المسؤولية او تخفيف العقوبة، اما المادة 8 فنصت على ان واقع كون الشخص قد تصرف بتكليف من الحكومة او بامر من الرئيس لا يعفيه عن المسؤولية ولا يجوز اعتباره علة لتخفيف العقوبة.

وتدل الحقائق على ان الاحكام المذكورة من نظام المحكمة العسكرية الدولية في نورنبرغ تم الاقرار بها في القانون الدولي وتطبيقها في ممارسات الدول. وجدير بالذكر انه حتى المادة 3 من اتفاقية لاهاي بشأن قوانين الحرب في البر واعرافها لعام 1907 نصت على ان “الطرف المتحارب الذي خالف احكام هذه الاتفاقية يجب ان يعوض على الخسائر الحاصلة اذ كان هناك اساس لذلك.

وسيكون هذا الطرف مسؤولا عن كافة الاعمال التي ينفذها افراد من قوام قواتها المسلحة”2. وبموجب المادة 227 من معاهدة فرساي وجهت إلى الامبراطور الالماني السابق فيلهالم الثاني تهمة “بالاساءة القصوى إلى الآداب الدولية والقوة المقدسة للمعاهدة المعقودة”1.

واتجهت النية إلى احالته على القضاء واجراء محاكمته الدولية. علاوة على ذلك جرت في ليبسغ مقاضاة غيره من مجرمي الحرب الالمان. وكما اشار الباحثان السوفيتيان في الشؤون الدولية أ: بولتوراك ول. سافينسكي، “اعلنت معاهدة فرساي لعام 1919 عقابية مخالفات قوانين الحرب واعرافها وجاءت من هذه الناحية علامة متميزة على طريق اضفاء الطابع الجنائي على مثل هذه المخالفات.

ان المانيا لم تجادل هذا الواقع باستثناء النقطة العائدة إلى ماهية الجهة التي من شأنها ان تمارس القضاء: اما دول الائتلاف اما المحاكم الالمانية – فان هذا الامر كان معناه ان قواعد معاهدة فرساي واحكامها اصبحت مصدرا قانونا لجر مخالفي القانون الدولي في اثناء الحرب العالمية الاولى إلى المسؤولية الجزائية”2.

اما فيما يتعلق باحكام المادة 8 من نظام المحكمة العسكرية فقد تمت صياغة موضوع مسؤولية المكلف بتنفيذ الامر الاجرامي قبل اقامة المحاكمة في نورنبرغ. وفي المرافعات والمقاضاة التي جرت في ليبسغ عقب الحرب العالمية الاولى بموجب المواد 228-230 من معاهدة فرساي لعام 1919 اشير إلى ان “كون افعال المتهمين ناتجة عن امر مباشر او غير مباشر صادر عن قائدهم لا يعفيهم عن المسؤولية”3.

اذن على ضوء الحقائق المقدمة فيما اعلاه يمكن التوصل إلى الاستنتاجات التالية:
1. يتضمن القانون الدولي الحديث حكما مؤداه ان الاشخاص الطبيعيين المذنبين باعداد الجرائم ضد السلام وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والتخطيط لها وتنظيمها وارتكابها يتحملون المسؤولية عنها إلى جانب الدول.

2. تقع المسؤولية الدولية على عاتق الشخص الطبيعي ايضا في تلك الحالات عندما يقترف هذا الشخص القائم على الصلة القانونية بدولته، هذه الجريمة الدولية او تلك بصفة فردية او باستخدام صفة ممثل احدى هيئات دولته. وفي مثل هذه الحالة لا تتأثر مسألة وقوع المسؤولية الدولية على الدولة المعنية الا اذا لم تتخذ هذه الدولة الخطوات الكفيلة بمنع ارتكاب الجريمة ومعاقبة المذنبين بها وفقا لقوانينها والقانون الدولي ولم تدفع تعويضا عن الضرر الناتج عن تصرفات الاشخاص المعنيين المخالفة للقانون.

3. يرتدي تأسيس المسؤولية الجنائية الدولية للاشخاص الطبيعيين اهمية بالغة لمنع ارتكاب الجرائم وتأمين فعالية مراعاة القانون الدولي المعاصر.

4. يستخلص من هذه الدراسة استنتاج مفاده ان القانون الجنائي الدولي يعتبر فرعا متكاملا من القانون الدولي ويراد من انظمته القائمة فعليا وقواعده وعلائمه ضبط تعاون الدول على قاعدة مصادر القانون الدولي التقليدية في مجال التحري والقبض على الاشخاص الطبيعيين ومعاقبتهم بغض النظر عن مقاماتهم بصفتهم ذوات المسؤولية عن الجرائم الدولية والجرائم ذات الطابع الدولي.

انتهى
1 غ. تونكين. “نظرية القانون الدولي”. موسكو، عام 1970، ص 457.
2 ل. موجوريان. “ذوات المسؤولية الدولية القانونية”. مجلة “الدولة السوفيتية والقانون”. العدد 12، عام 1961، ص 122.

1 ف. ليست. “اللمحة المنظمة في القانون الدولي”. يورييف. عام 1902، ص 193.
1 أ. فيردروس. “القانون الدولي”. موسكو، عام 1959، ص ص 414-418.

أ. كوركونوف. “القانون الدولي”. سانت بطرسبرغ. عام 1886، ص 166.
2 د. ليفين. “قضايا المسؤولية في علم القانون الدولي” مجلة “اخبار اكاديمية العلوم السوفيتية”-فرع الاقتصاد والقانون-العدد (2)، عام 1946، ص 102.
3 ف. ليست. المؤلفات قيد الاستشهاد. الملاحق. نظام قوانين واعراف الحرب في البر.

4 ف. ليست. المصدر السابق.
1 ف. ليست. المصدر السابق.
1 د. ليفين، المصدر السابق، ص 106.

1 ن. بوليتيس. “التيارات الجديدة في القانون الدولي”. باريس، عام 1927، ص ص 128-129.
2 “السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الوطنية العظمى”. المجلد 3، موسكو، عام 1947، ص ص 102-103.
3 “السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الوطنية العظمى”. المجلد 3، موسكو، عام 1947، ص ص 102-103.

1 -د. هارس. “الحالات والمواد في القانون الدولي”. الطبعة الثالثة، لندن، عام 1983، ص 557.
1 – “محاكمة مجرمي الحرب الالمان الرئيسيين في نورنبرغ”.

مجموعة المواد بسبعة مجلدات. المجلد 7. دار نشر “الادب الحقوقي”. عام 1968، ص 368.

2 – “القانون الدولي في الوثائق المختارة”. المجلد 3. دار نشر “العلاقات الدولية”. موسكو، عام 1957، ص 42.

1 – انظر ن. بولانسكي. “العدل الدولي ومجرمو الحرب”. من منشورات اكاديمية العلوم السوفيتية. موسكو، عام 1945، ص ص 32-49.

2 – أ. بولتوراك، ل. سافينسكي. “النزاعات المسلحة والقانون الدولي”. دار نشر “ناؤوكا”، موسكو، عام 1976، ص ص 367.
3 – ن. بولانسكي، المصدر السابق، ص 44-45.