حكم ضرب المتهم وخداعه والتحايل عليه ‏
‏ ‏
بسم الله الرحمن الرحيم ‏

سأل سائل عن حكم الشريعة الإسلامية في ضرب المتهم أو خداعه ليقر بالجريمة؟ ‏وهل يعتد بهذا الاعتراف أمام القاضي الشرعي أم لا يعتد بهذا الاعتراف ومن ثم ‏يعفى المتهم من المسئولية الجنائية؟ ‏

وقبل أن نشرع في تفصيل الاتجاهات الفقهية لهذه القضية نبدأ بمقدمة موجزة حول ‏الإكراه (تعريفه/أنواعه/حده/مستنده الشرعي) على النحو التالي:‏

‏(أ) تعريف الإكراه وأنواعه:‏
يعرف ابن الشحنة الحنفي الإكراه بقوله: (تهديد القادر على ما هدده على أمر ‏بحيث ينتفي الرضا” وفي درر الحكام: “الإكراه هو إجبار أحد على أن يعمل عملاً ‏بغير حق من دون رضاه بالإخافة، ويقال له المكرَه (بفتح الراء) ويقال لمن أجبره ‏‏(مجبر) ولذلك العمل مكره عليه وللشئ الموجب للخوف مكره به” ‏

‏(ب) أنواع الإكراه:‏
قال الفقهاء إن: “الإكراه على قسمين؛ الأول: هو الإكراه الملجئ الذي يكون ‏بالضرب الشديد المؤدي إلى إتلاف النفس أو قطع عضو. والثاني: هو الإكراه غير ‏الملجئ الذي يوجب الغم والألم فقط كالضرب والحبس غير المبرح والمديد” ‏
أقول: يتفق الفقهاء على بطلان الإقرار الذي يكون وليد الإكراه الملجئ. أما القسم ‏الثاني: فقد اختلف الفقهاء بشأنه وخاصة إكراه المجرمين عتاة الإجرام وأرباب ‏السوابق وتزعم هذه المدرسة ابن قيم الجوزية وآخرون.‏

‏(ج) حد الإكراه:‏
اختلف العلماء في حد الإكراه: قال عمر بن الخطاب: “ليس الرجل آمن على نفسه ‏إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته. وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت ‏متكلماً به. وقال الحسن: التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة؛ إلا أن الله تبارك ‏وتعالى ليس يجعل في القتل تقية. وقال النخعي: القيد إكراه، والسجن إكراه. وهذا ‏قول مالك، إلا أنه قال: والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك ‏المتعدي وإنفاذه لما يتوعد به، وليس عند مالك وأصحابه في الضرب والسجن ‏توقيت، وإنما هو ما كان يؤلم من الضرب، وما كان من سجن يدخل منه الضيق ‏على المكره. وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه” ‏
قال القرطبي: ” وتناقض الكوفيون فلم يجعلوا السجن والقيد إكراهاً على شرب ‏الخمر وأكل الميتة؛ لأنه يخاف منها التلف، وجعلوها إكراهاً في إقراره لفلان عندي ‏ألف درهم. قال سحنون: وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه، ما يدل ‏على أن الأكراه يكون من غير تلف نفس. وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين ‏بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه؛ وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ‏ثور وأكثر العلماء” ‏
قال في المحلى:‏
‏”الإكراه: هو كل ما سمي في اللغة إكراهاً، وعرف بالحس أنه إكراه كالوعيد بالقتل ‏ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك، أو الوعيد بالسجن ‏كذلك، أو الوعيد بإفساد المال كذلك، أو الوعيد في مسلم غيره بقتل، أو ضرب، أو ‏سجن، أو إفساد مال، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا ‏يظلمه ولا يسلمه)” ‏

‏(د) المستند الشرعي للإقرار تحت الإكراه:‏

استند الفقهاء إلى الأدلة التالية من الكتاب والسنة:‏
قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) قال القرطبي: “لما سمح الله عز ‏وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه ‏فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم” ‏
ثانياً: حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رمز إليه ‏الألباني بالصحة في صحيح الجامع الصغير. قال السرخسي: “وليس للمكره اختيار ‏صحيح معتبر شرعاً فيما تكلم به بل هو مكره عليه، والإكراه يضاد الاختيار، فوجب ‏اعتبار هذا الإكراه في انعدام اختياره به لكونه إكراهاً بالباطل، ولكونه معذوراً في ‏ذلك، فإذا لم يبق له قصد معتبر شرعاً التحق بالمجنون”‏

‏• أما عن مسألة ضرب المتهم ليقر بالجريمة فسنتناولها على النحو التالي:‏

اختلف الفقهاء في ذلك إلى اتجاهين:‏
الاتجاه الأول: يشترط أن يكون الإقرار صادراً عن إرادة حرة، ولذا يجب استبعاد ‏وسائل التأثير المختلفة لحمل المتهم على إقرار كالإكراه بالضرب أو أخذ المال.‏
الاتجاه الثاني: يرى قبول الإقرار ولو كان نتيجة إكراه بالضرب أو بالسجن أو ما ‏أشبه ذلك شريطة أن يخرج جسم الجريمة.‏
ونتسعرض هذين الرأيين على النحو التالي:‏

الاتجاه الأول: صدور الإكراه عن إرادة حرة: ‏
يشترط أن يكون الإقرار صادراً عن إرادة حرة، ولذا يجب استبعاد وسائل التأثير ‏المختلفة لحمل المتهم على إقراره كالإكراه بالضرب أو أخذ المال: قال شريح: ‏‏”القيد كره، والوعيد كره، والضرب كره، والسجن كره” ‏
ويقول الماوردي: “وإن ضرب ليقر لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم” ‏
قال الطرابلسي: “وأما لو أكرهته على الإقرار بحد أو قصاص فلا يجوز” ‏
‏”وفي الولوالجي: إذا كان الرجل من الأشراف أو من الأجلاء أو من كبراء العلماء ‏أو الرؤساء بحيث يستنكف عن ضرب سوط أو حبس ساعة لم يجز إقراره، لأن ‏مثل هذا الرجل يؤثر ألف درهم على ما يلحق من الهوان بهذا القدر من الحبس ‏والقيد فكان مكرهاً، وكذا الإقرار حجة لترجح جانب الصدق فيه على جانب الكذب، ‏وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة” ‏
وفي البدائع: “الإكراه يمنع صحة الإقرار، سواء كان المقر به مما يحتمل الفسخ أو ‏لا يحتمل، وسواء كان مما يسقط بالشبهات كالحدود والقصاص أو لا” ‏
ويرى الكاساني أن إخلاء سبيل المتهم الذي أكره على الإقرار(الأول) ثم قبض عليه ‏مرة أخرى لا يصح إقراره الثاني طالما كان تحت بصر من أكرهه أولاً إذ يقول: ‏‏”ولو أكرهه على الإقرار بذلك (كالحدود والقصاص) ـ ثم خلى سبيله فهذا على ‏وجهين: إما أن يتوارى عن بصر المكره حينما خلى سبيله، وإما أن لا يتوارى عن ‏بصره حتى بعث من أخذه ورده إليه. فإن كان توارى عن بصره ثم أخذه فأقر إقراراً ‏مستأنفاً جاز إقراره لأنه لما خلى سبيله حتى توارى عن بصره فقد زال الإكراه ‏عنه، فإذا أقرّ به من غير إكراه جديد فقد أقرّ طائعاً فصح إقراره لأنه لما خلى سبيله ‏حتى توارى عن بصره بعد حتى رده إليه فأقرّ به من غير إكراه جديد فقد أقرّ طائعاً ‏فصح وإن كان لم يتوار عن بصره بعد حتى رده إليه فأقرّ به من غير تجديد الإكراه ‏لم يصح لأنه لما لم يتوار عن بصره فهو على الإكراه الأول” ‏
‏”ولو أكرهه على الإقرار بالقصاص فأقر به فقتله حيثما أقر به من غير بينة، فإن ‏كان المقر معروفاً بالدعار يدرأ عنه القصاص استحسانا، وإن لم يكن معروفاً بها ‏يجب القصاص” ‏
يقول السرخسي: “ولو أن قاضياً أكره رجلاً بتهديد ضرب أو حبس أو قيد حتى يقر ‏على نفسه بحد أو قصاص كان الإقرار باطلاً، لأن الإقرار متمثل بين الصدق ‏والكذب، وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب، والتهديد ‏بالضرب والحبس يمنع رجحان جانب الصدق على ما قال عمر رضي الله عنه: ‏ليس الرجل على نفسه بأمير إذا ضربت أو أوثقت، ولم ينقل عن أحد من المتقدمين ‏من أصحابنا (أي الأحناف) رحمهم الله صحة الإقرار مع التهديد بالضرب والحبس ‏في حق السارق وغيره” ‏

رأي لجنة الفتوى بالأزهر:‏
وعرضت لجنة الفتوى بالأزهر قضية ضرب المتهم فذكرت آراء الفقهاء وإن كنا ‏نميل إلى أن الفتوى مالت إلى عدم ضرب المتهم ليقر:‏
‏”سئل : هل يجوز ضرب المتهم ليقر بما ارتكبه من مخالفة، وهل يُعْتَد بهذا ‏الإقرار؟
أجاب : جاء في “الأحكام السلطانية” للماوردي ص. 22 أنه يجوز للأمير مع قوة ‏التهمة أن يضرب المتهم ضرب التعزير لا ضرب الحد، ليأخذه بالصدق عن حاله ‏فيما قرف به واتهم ، فإن أقر وهو مضروب اعتبرت حاله فيما ضرب عليه ، فإن ‏ضرب ليقر لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم ، وإن ضرب ليصدق عن حاله وأقر ‏تحت الضرب قطع ضربه واستعيد إقراره ، فإذا أعاده كان مأخوذا بالإقرار الثانى ‏دون الأول. فإن اقتصر على الإقرار الأول ولم يستعده لم يضيق عليه أن يعمل ‏بالإقرار الأول وإن كرهناه. والرأي المختار عند الأحناف والإمام الغزالى من ‏الشافعية أن المتهم بالسرقة لا يُضرب، لاحتمال كونه بريئًا ، فترك الضرب فى ‏مذنب أهون من ضرب برئ وفى الحديث (لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن ‏يخطئ في العقوبة) وأجاز أصحاب الإمام مالك ضرب المتهم بالسرقة ، وذلك ‏لإظهار المسروق من جهة، وجعل السارق عبرة لغيره من جهة أخرى” \‏

الاتجاه الثاني: قبول الإكراه ولو كان نتيجة ضرب المتهم:‏
يرى قبول الإقرار ولو كان نتيجة إكراه بالضرب أو بالسجن أو ما أشبه ذلك شريطة ‏أن توجد جثة القتيل: وممن قال بضرب المتهم الإمامية وبعض المالكية والظاهرية ‏وبعض الحنابلة وفي مقدمتهم ابن القيم شريطة أن يخرج المتهم جثة القتيل ‏وحجتهم في ذلك الأدلة التالية:‏

أدلة القائلين بجواز ضرب المتهم:‏
روى ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن عمر: “وأتي رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون ‏يعرف مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من يهود، فقال لرسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة،؛ فقال رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟ قال: نعم؛ فأمر ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت، فأخرج منها كنزهم، ثم سأله عما ‏بقي، فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، ‏فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره، حتى أشرف ‏على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود ‏بن مسلمة” ‏

وفي سنن البيهقي: ساق بسنده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عمر: “أن رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الأرض ‏والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله ‏صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ويخرجون منها واشترط عليهم أن لا ‏يكتموا ولا يغيبوا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكاً فيه مال وحلي لحيي ‏بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم لعم حيي ما فعل مَسْك حيي الذي جاء به من النضير. فقال: أذهبته ‏النفقات والحروب. فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك فدفعه رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب. وقد كان حيي قبل ذلك قد دخل خربة فقال ‏رأيت حيياً بن أخطب يطوف في خربة هاهنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في ‏الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني حقيق” ‏

قال ابن القيم: “وأما ضرب المتهم إذا عرف أن المال عنده – وقد كتمه وأنكره -‏فيضرب ليقر به، فهذا لا ريب فيه، فإنه ضرب ليؤدي الواجب الذي يقدر على ‏وفاته، كما في حديث ابن عمر: “أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح أهل ‏خيبر على الصفراء والبيضاء، سأل زيد بن سعية عم حيي بن أخطب. فقال: أين ‏كنز حي؟ فقال: يا محمد أذهبته النفقات. فقال للزبير: دونك هذا. فمسه الزبير بشئ ‏من العذاب، فدلهم عليه في خربة، وكان حلياً في مسك ثور” ثم علق ابن القيم على ‏الحديث بقوله:”فهذا أصل في ضرب المتهم” ‏
أقول: لكن هذا الفريق اشترط أن يكون المتهم من أرباب السوابق: “أن يكون ‏المتهم معروفاً بالفجور، كالسرقة وقطع الطريق والقتل ونحو ذلك” ‏
أما في سنن أبي داود: فقد ساق بسنده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى قصرهم، فصالحوه على أن ‏لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة، ولهم ما حملت ‏ركابهم، على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً، فإن فعلوا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا ‏مسكاً لحيي بن أخطب، وقد كان قتل قبل خيبر، كان احتمله معه يوم بني النضير ‏حين أجلت النضير، فيه حليهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعية: أين ‏مسك حيي بن أخطب؟ قال: أذهبته الحروب والنفقات، فوجدوا المسك، فقتل ابن أبي ‏الحقيق” ‏
حسنه الألباني في تخريجه لسنن أبي داود. ‏

الثاني: الاستدلال بفتوى لأحد فقهاء الأحناف (الحسن بن زياد) بأنه أفتى بجواز ‏ضرب المتهم”أنه يحل ضرب السارق حتى يقر وقال: ما لم يقطع اللحم أو يظهر ‏العظم” ‏

مناقشة أدلة القائلين بضرب المتهم:‏

أما بالنسبة لحديث ابن عمر في قصة أرض خيبر وكنز حيي بن أخطب ملاحظاتنا ‏عليه تتلخص في الآتي:‏
‏(1): نلاحظ أن مدار الحديث على محمد بن إسحاق المتوفى في 151هـ الذي انفرد ‏بفقرة: بتعذيب الزبير لـ (سعية) عم حيي ليدله على الكنز المخبأ في وعاء من الجلد ‏ثم ذكره البيهقي في كتاب السير في سننه. لكن قصة تعذيب الزبير لعم حيي لم ترد ‏في رواية أبي داود. مما يجعلنا لا نطمئن إلى رواية ابن إسحاق وخاصة أنها لم ترد ‏في كتب الصحاح أو السنن إلا سنن البيهقي وخاصة تلك الزيادة التي ذكرها ابن ‏إسحاق عن تعذيب الزبير لعم حيي بن أخطب. ‏

(2) على افتراض صحة الحديث بزيادته الواردة عن تعذيب ابن الزبير لعم حيي بن ‏أخطب فإن هذا ليس مسوغاً لتعميمه على كل الحالات إذ أن الأمر بضرب المتهم في ‏حالة حرب وبعد نقض العهد، وكان بأمر ولي الأمر وهو رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم، ولم يكن بتصرف فردي للزبير بن العوام كما يحدث الآن من انتهاكات رجال ‏الشرطة وممارساتهم التعذيب بصفة دورية قبل أن يعرض المتهم على القاضي ‏المختص. فالحالات التي ذكرها ابن القيم ومن يرى رأيه في ضرب المتهم أن يكون ‏ذلك في حضرة القاضي وبأمره بعد وجود دلائل كافية يقتنع بها القاضي أن المتهم ‏من أرباب السوابق في اقتراف مثل هذه الجرائم كالقتل العمد، أو ما يطلق عليه في ‏بعض البلاد بالقاتل المأجور أو القاتل المرتزق.‏

‏(3) أما الاستدلال بفتوى الحسن بن زياد صاحب أبي حنيفة فقد أكد السرخسي أنه ‏قد ندم على فتواه بقوله: “روي عن الحسن بن زياد رضي الله عنه أن بعض ‏الأمراء بعث إليه وسأله عن ضرب السارق ليقر فقال: ما لم يقطع اللحم أو يبين ‏العظم، ثم ندم على مقالته وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير ليمنعه من ذلك فوجده قد ‏ضربه حتى اعترف وجاء بالمال، فلما رأى المال موضوعاً بين يدي الأمير قال: ما ‏رأيت ظلماً أشبه بالحق من هذا” ويعلق السرخسي وهو من أئمة الحنفية على هذه ‏الحالة بقوله: “فإن خلى سبيله بعد ما أقر مكرهاً، ثم أخذ بعد ذلك فجئ به فأقر بما ‏كان عليه بغير إكراه مستقل أخذ بذلك كله، لأن إقراره الأول كان باطلاً، ولما خلى ‏سبيله فقد انتهى حكم ذلك الأخذ والتهديد، فصار كأن لم يوجد أصلاً حتى أخذ الآن ‏فأقر بغير إكراه وإن كان لم يخل سبيله، ولكنه قال له وهو في يده بعد ما أقر: إني ‏لا أؤاخذك بإقرارك الذي أقررت به ولا أضربك ولا أحبسك ولا أعرض لك، فإن ‏شئت فأقر، وإن شئت فلا تقر، وهو في يد القاضي على حاله، لم يجز هذا الإقرار ‏لأن كينونته في يده حبس منه له، وإنما كان هدده بالحبس فما دام حابساً له كان ‏أثر ذلك الإكراه باقياً” ‏

‏(4): القاضي سحنون أمر بضرب القاضي ابن أبي الجواد بتهمة خيانة الأمانة:‏
ذكر بعض علماء المالكية مسألة ضرب المتهم حتى لو كان قاضياً واستشهدوا على ‏ذلك بقضية القاضي سحنون وهو من كبار علماء المالكية مع القاضي ابن أبي ‏الجواد حيث ذكر صاحب المعيار المعرب: “يسجن القاضي ويضرب إذا عرف ‏بالشر والسرقة: وعن أصبغ فيمن كان معروفاً بالشر والسرقة يسجن أبداً وهو ‏الصواب. وكان سحنون يضرب ابن أبي الجواد القاضي ويعيده في السجن، وكان ‏عنده أموال اليتامى” ‏
وأصل القصة كما ذكرها الونشريسي عن ابن أبي الجواد: “أنه كان قاضياً ‏بالقيروان ثم عزل ورجع سحنون في موضعه ونظر في ديوان الودائع فوجد فيه ‏مالاً لورثة رجل يقال له ابن (القلفاط) فأحضر وكشف عن ذلك فأنكر وجحد الخط، ‏فشهد عليه في وجهه سليمان بن عمران وابن قادم الفقيهان بأنه خطه وكانا يكتبان ‏له، فتمادى على الإنكار فتلوم له سحنون وأعذر إليه، وأرسل من يشير عليه ‏بإنصاف القوم فلجّ في الإنكار وتمادى عليه، فحبسه أياماً فلم يرجع إلى الحق، ‏فأخرجه وضربه عشرة وردّ إلى السجن، فأتت زوجته بنت أسد بن الفرات والتزمت ‏الدفع عنه، فقال لها سحنون إن قال زوجك: هذا مال الميت أو بدله قبضته فأطلقته ‏لك فأحضر فامتنع من قول ذلك وكان سحنون يخرجه في كل يوم جمعة وإذا امتنع ‏من الأداء ضربه عشرة أسواط حتى ضربه مراراً كثيرة ثم مرض ومات في السجن ‏من مرضه ذلك. وقضيته مشهورة كما حكاها ابن الرقيق بزيادات. وعن أبي عمران ‏إنما ضربه سحنون لأنه اتهمه كما يضرب السارق حتى يخرج أعيان تلك السلع، ‏وروي أن سحنون كان يقول بعد موته: مالي ولابن الجواد: كأنه تحرج من موته ‏خوفاً” ‏