قضاء مصر بين إباحة الخمر وتحريم النقاب!

فلنطالع قبل كل شيء بعض ما كان يدور في كواليس المحكمة التي كان يترأسها بطل قصتنا اليوم، ولنقرأ أولاً معًا بعض حيثيات أحكامه التي كان يقضي بها، فلم نجد أبلغ وأجمل من مطالعة بعض هذه الحيثيات للتعريف بهذا البطل، وللوقوف على مدى إجلاله للشريعة وتوقه لتطبيقها، وقد نقلنا هذه الحيثيات جميعها وكل كلامه من كتابه ” أحكام إسلامية إدانة للقوانين الوضعية “.. يقول رحمه الله ضمن حيثيات حكمه في أحد القضايا:
(… وحيث أن المحكمة بادئ ذي بدء كان يعنيها في هذا المقام أن تستعمل النيابة العامة – في دولة كنيتها الإيمان – حقها المواتي لها طالبة التشديد، وذلك عن طريق استئنافها الحكم الجزئي وذلك حتى يطلق العنان لهذه المحكمة فتنزل بالمتهم أقصى عقاب تعديلاً لحكم محكمة أول درجة. ولكن ما حدث هو العكس: فقد استعمل المتهم حقه، وبتوكيل وذلك حتى يتسنى له عدم سداد الكفالة عند استئنافه، وهذا منه منطق عجيب؛ يسكر السكر البين وفي طريق عام ثم يظمأ إلى البراءة توَّاقًا اليها، بينما هي بالنسبة له أمام المحكمة – وهو الذي خالف الله جهارًا نهارًا – هي له {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[النور: 39].

وحيث أنه انطلاقًا مما نصت عليه المادة الثانية من دستور مصر – المعدلة في 22/5/1980م- ومما ورد بنص المادة السابعة من قانون العقوبات، انطلاقًا من هذا وذاك تقرر المحكمة: إن الله سبحانه قال: {فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وأن سبحانه قال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وحيث أنه بالبناء على ما تقدم، وبوضع مثل هذه النوعية من الأنزعة والوقائع التي نحن بصددها الآن أمام كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قضاءً وتحكيمًا، فإن الله سبحانه ترتيبًا على ذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90-91].

ومما لا شك فيه والحال كذلك، ونحن أمام نص قاطع الدلالة على تحريم الخمر، هذا بالإضافة إلى أنها أم الخبائث كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحيث أن الفقهاء في شريعة الإسلام قد أجمعوا على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ويطلق عليه اسم الخمر ويأخذ حكمه، كما وأن اتفاقهم أصبح قاعدة شمولية مقتبسة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندئذ فإن المحكمة تستحضر قول الله: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]. وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

وحيث أن الإسلام وهو دين الله الذي أوحى بتعاليمه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكلفه بتبليغه إلى الناس كافة، ومن هنا كانت الشريعة الإسلامية الغراء في عمومها وشمولها وأصالة قواعدها صالحة لكل زمان ومكان، قادرة على حكم الناس جميعهم، ووضع الحدود الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام، ومن ثم فإن كل تشريع أو حكم يخالف ما جاء به الإسلام باطل، ويجب على كل مسلم رده وصده والاحتكام إلى شريعة الله التي لا يتحقق إيمان أي مسلم إلا بالاحتكام اليها شكلاً وموضوعًا، كما يجب الأمر بتطبيق الشريعة الإسلامية، وليس لأحد أن يبدى رأيًا في وجوب ذلك، ولا تقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل، لا بل إن التسويف في إقرار القوانين الإسلامية معصية لله ولرسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين, وحيث أنه وقد استقام ما تقدم، فإن مشروع القانون المقدم إلى مجلس الشعب بتاريخ 20/12/1975م بشأن تعديل قانون العقوبات تعديلاً يصبح بمقتضاه قانونًا إسلاميًا كاملاً قد نص في المادة 324 منه على أن: “يعاقب بالجلد ثمانين جلدة كل من شرب الخمر أو سكر من غيرها”.

وحيث أن تقرير الطبيب قد أورد أن المتهم المذكور “وجدت رائحة الخمر تفوح منه وأنه في حالة سكر بيِّن” فإن نص مادة المشروع سالف البيان هي المنطبقة في مثل هذه الحالة وعلى أمثال هذا المتهم, وكان يعنى المحكمة تمامًا ألا تعزف محكمة أول درجة عن تطبيق الشريعة الغراء، ولكنه إجبارًا عنها طبقت – ويطبق قضاة مصر المسلمون – قانونًا وضعيًا هالكًا متهالكًا أجوف مستقى من شرائع إلحادية لا تؤمن بالله ربًّا ولا بمحمد نبيًا ورسولاً.

ولئن كان القاضى الذي يعرف ربه قد غلت يمناه في مرارة وكمد عن تطبيق شريعة الإسلام؛ الا أنه يبقى لهذه المحكمة أمران:

الأمر الأول: أن رعاية حقوق الله واجبة على كل قاضٍ مسلم, أداءً لأمانة الإسلام وذلك لقول الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

الأمر الثانى: هذه المحكمة تسدي النصح إلى السيد رئيس الجمهورية وإلى السلطة التشريعية بتقنين حدود الله نزولاً على قوله سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. وذلك إبراءً لذمتها أمام الله والناس قياسًا على إصدار قانون العيب وقوانين أخرى, ومتى استقام ما تقدم وكانت الواقعة على ما جاء بمدونات الدعوى وما جرى به التحقيق، قد قام الدليل على ثبوتها وصحة إسنادها للمتهم فإنه يتعين رفض الاستئناف موضوعًا وتأييد الحكم المستأنف مصداقًا لقول الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
محكمة الجنح المستأنفة / المنيا ـ برئاسة المستشار: محمود غراب

هذا إذن هو بطلنا، إنه المستشار الكبير المغفور له بإذن الله محمود عبد الحميد غراب، وهذه هي حيثيات حكمه، بل أحكامه جميعها، آثرنا أن ننقل جانبًا منها ببعض التصرف والاختصار، لنتعرف من خلالها على شخصية ذلك الرجل الفذ، وعلى أخلاقه وثقافته، وعلى همه الأكبر، وعلى قضيته الخاصة التي شغل بها طوال حياته وهي قضية تطبيق الشريعة في حياتنا ؛ فقد كان المستشار مهمومًا بهذه القضية ومشغولاً بكل ما يتصل بها، وكان رحمه الله موجوعًا – بحكم منصبه كقاضٍ -: كيف ينطق بلسانه الحكم الوضعي البشري الأرضي، ولا يستطيع ولا تسعفه أدواته من النطق بحكم الشرع الذي نزل من فوق سبع سماوات.

لقد كان رحمه الله يتألم ويتوجع لأنه لا يستطيع تطبيق شرع الله في المحكمة التي يترأسها، يقول رحمه الله: “ثبت في يقين المحكمة وضميرها بما لا يقبل الشك أو التأويل أو التخمين توافر ركني الجريمة عند الجاني من شرب وقصد جنائي، ولكن غلت يمناها في مرارة وكمد, عن إنزال حد الإسلام بالجاني، وعزفت عنه مكرهة في ذلك راجية عفو الله وحده، ولكن لا يفوتها أن ترفع ذكر الله من طريق آخر، وتعلي حده من زاوية أخرى؛ وذلك بأن تحجم وتمتنع عن تطبيق مواد القيد في القانون الوضعي، لأنه قانون هالك متهالك أجوف مستقى من شرائع لا تعرف الله ربًّا ولا محمدًا نبيًا ورسولاً، وخير للمحكمة أن تضرب بقانون البشر عرض الحائط، هادفة أن يشاء الله على أيدي أعضاء المحكمة الدستورية العليا، أن يقضى بعدم دستورية مواد القيد هذه، فتكون الخطوة التالية حتمًا هي انفإذ قانون السماء حدًّا لشارب الخمر”.

لم يترك المستشار غراب فرصة واحدة ولم يفوت مناسبة إلا وطالب فيها رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية بتطبيق الشريعة الإسلامية، يقول رحمه الله في حيثيات حكمه في قضية أخرى، بعد أن فصَّل حكم الشرع فيها، وبعد أن شرح قصور القانون الوضعي في معالجتها: “تناشد المحكمة كلا من السيد رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية في دورتها هذه – دون تردد ولا هوادة – إبراءا لذمتها أمام الله والناس, تناشدها: اقرار مشروعات قوانين الله ورسوله المقدمة إليهما بصدد حدود الله في الخمر والسرقة والردة والزنا والقذف والحرابة، أيضًا في القصاص والديات وتحريم الفوائد، وذلك قياسًا على قانون حماية القيم من العيب رقم 95/1980م وغيره من القوانين الأخرى المجافية لتعاليم الله”.

ويقول أيضًا رحمه الله: “والمحكمة تناشد السلطة التنفيذية القابضة على مقاليد الحكم في البلاد، أن تضرب بيد من حديد على يد هؤلاء وأولئك حتى تكون كلمة الله هي العليا, وكلمة الذين كفروا السفلى”.

ويقول رحمه الله في قضية أخرى: “وحيث أن هذه المحكمة كانت تهفو إلى أن تطبق حدًّا من حدود الله على مثل هذا الآثم السكير الذي لم يدع إلاًّ ولا ذمة إلا وداسها عندما شرب ثم وجد بحالة سكر بيِّن بالطريق العام، ولئن كانت هذه المحكمة قد غلت يمناها في مرارة وكمد وهي تفتش عن نص إسلامي زاجر تطبقه فخرًا واعتزازًا به، فلا تجد، إلا أنه بقي لها -ولا معقب عليها من أحد- أن تناشد كلا من السيد رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية التوأم، دون تردد ولا هوادة ولا لين، وابراءً لذمتها أمام الله والناس: إقرار مشروعات القوانين المقدمة إلى الأخيرة خاصة بحدود الله، وإخراجها من حيز الطمس إلى نطاق اللمس، ومن حيز الخنوع إلى نطاق الخضوع لله، ومن حيز الأدراج إلى نطاق الإفراج، ومن حيز التنميق إلى نطاق التطبيق، وكل هذا قياسًا على قوانين حماية القيم من العيب وتعديل قانون الأحوال الشخصية وحماية الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى ونص المادة 179 من قانون العقوبات الوضعي، وغيرها كثير، وذلك نزولاً على قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].

لم يجد المستشار محمود غراب أدنى استجابة لنداءاته المتكررة، ولأنه كان يؤمن بأن “القاضى في حكمه ينفذ حكم الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، لا حكم الإمام فهو لا يستمد القانون الذي يحكم به من الإمام، بل يستمده من حكم الله أحكم الحاكمين الذي يخضع له غير الأمير والأمير والحاكم وغير الحاكم، فإذا جاءت القوانين متفقة ونصوص الكتاب والسنة متمشية مع مبادئ الشريعة الإسلامية العامة وروحها التشريعية وجبت الطاعة لها، وحققت العقوبة أثرها على من خالفها، أما إذا جاءت خارجة على مبادئ الشريعة فانها تقع باطلة بطلانًا مطلقًا، وليس لأحد أن يطيعها، بل على كل قاضي مسلم أن يحاربها دون هوادة وينصب من نفسه عدوًا لها”.

ولأن بطلنا رحمه الله كان على يقين تام بأن “كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين، ولو أمرت به السلطة الحاكمة، أو أباحته القوة المهيمنة، لأن حق الهيئة الحاكمة في التشريع مقيد بأن يكون التشريع موافقًا لنصوص الشريعة متفقًا مع مبادئها العامة وروحها التشريعية، فإن استباحت تلك الهيئة لنفسها أن تخرج عن حدود وظيفتها بأن تصدر قوانين لا تتفق والشريعة وتضعها بالقوة موضع التنفيذ فإن عملها ذاك لا يحل هذه القوانين المحرمة، ولا يبيح لمسلم أن يتبعها أو يطبقها أو يطيعها أو يحكم بها أو ينفذها من أي زاوية”.

ولأنه كان يؤمن بأن “من المخازى النكراء أن يتشدق البعض بأن ثمة إلزامًا وحتمًا على القاضي المسلم يكلفه بتطبيق قانون وضعى، طارحًا قوانين الله الخالق الرازق”.

من منطلق هذا الإيمان الصادق وهذا اليقين الجازم، خطا المستشار غراب خطوته غير المسبوقة في تاريخ القضاء المصرى الحديث بأن قضى رحمه الله في إحدى القضايا – بعد أن فاض به – بجلد شارب الخمر.

ولنقرأ جانبًا من حيثيات هذا الحكم التاريخى الذي نقف أمامه فخورين معجبين:

“… والمحكمة تنوه – وهي في عزة الإسلام – إلى ما نصت عليه المادة 112 من الدستور والتي جرى نصها على أنه: “لرئيس الجمهورية حق إصدار القوانين” كما وأن السلطة التشريعية في البلاد قد فوضته رئيسًا لمصر في إصدار قرارات لها قوة القانون, ومن ثم فإن قاضي هذه المحكمة منطلقًا من كلمة التوحيد وأمانة الكلمة، يناشد السيد رئيس الجمهورية استعمال حقه الدستوري ذاك، وعليه أن يبث الروح في مشروعات حدود الله جمعاء، وذلك بإصدارها قانونًا يتلى إلى يوم القيامة، ليطبق وينفذ بين الناس، فهذا حقه الدستوري والإلهي معا، إبراءً لذمته أمام الله والناس، ووضعًا للأمور في نصابها العادل المتين إعمالاً لقول الله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]”.

ثم يقول رحمه الله: “.. وكل تشريع يخالف ما جاء به كتاب الله أو ما قاله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو باطل ورد، يجب تنحيته وطرحه والالتفات عنه تمامًا والاحتكام إلى شريعة الله ورسوله.

وليس لأحد – كائنًا من كان – أن يبدي رأيًا في وجوب ذلك، ولا تقبل مشورة بالتمهل أو التدرج أو التأجيل في إقرار قانون الله، لأن التسويف في ذلك معصية لله ورسوله واتباع لطريق الغي والهوى دون الرشاد والهدى.

وتوجه المحكمة في هذا المقام إلى السيد رئيس الجمهورية قول الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وتثنِّي لسيادته بقول الله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]… “.
ثم يقرر رحمه الله الآتي: “تضع المحكمة حد الشرب الإسلامي موضع التنفيذ، حكمًا بما أنزل الله وما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيث أن الأصل في الحدود أنها لا تقبل عفوًا ولا إسقاطًا، إذ هي من حقوق الله الخالصة، ومن ثم فإن المحكمة تشمل حكمها بالنفاذ، تاركة وزر عدم تنفيذ العقوبة المقضي بها على السلطة المسئولة عن ذلك.

منوهة أنه طبقًا للقواعد الشرعية، وعند التنفيذ، يضرب الجاني بسوطٍ غير يابس، ضربًا متوسطًا لئلا يجرح أو يبرح، وألا يكون بالسوط عقدة في طرفه حتى لا يصاب الجسم، كما يضرب الجاني قائمًا، ويكون الضرب على سائر الأعضاء عدا الوجه والفرج والرأس”.

أحدث هذا الحكم الذي قضى به هذا القاضي المؤمن الشريف النزيه ضجة عالمية ومحلية، ولكننا سنتوقف هنا فقط عند موقف القضاء المصري من الحكم، ثم من المستشار غراب شخصيًا ومن أسرته الصغيرة بعد موته.

تعرض المستشار محمود عبد الحميد غراب بعد هذا الحكم التاريخي للعديد من المساءلات من وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى، بسبب انتصاره للشريعة من فوق منصة القضاء، وانتهى به المطاف إلى دائرة التأديب والصلاحية بمجلس القضاء الأعلى، والتي تنظر في عدم صلاحية القضاة لتولي هذا المنصب لأسباب تتعلق بما يخل بـ(الأمانة والشرف)، ثم أقصي من عمله كقاضي وانتدب للعمل في إحدى الإدارات القانونية التابعة لوزير العدل.

كان هذا هو عقاب القضاء المصري للمستشار غراب في حياته.

أما بعد موته فقد عاقبوه على بمنع أرملته على مدار 11 عامًا من دخول نادي القضاة بالإسكندرية بدعوى أن النادي لا يرحب بدخول المنقبات !

لقد أحال القضاء المصري ذلك الرجل الشريف العفيف المدافع عن الشريعة المطالب بتطبيقها إلى دائرة تأديب تنظر في عدم صلاحية القاضي لأسباب تتعلق بما يخل بالأمانة والشرف، وها هي السيدة أرملته اليوم تقف بباب نادي القضاة بالإسكندرية، يحال بينها وبين دخوله، بينما يسمح للآخرين، وهم ينظرون إليها نظرة استفهام واندهاش, حيث تمنع من حقها في دخول النادي وكأن في شانها ما يشين ( الشرفاء ).

فما بال قضاء مصر؟ هل وصل عداؤه للشريعة إلى هذه الدرجة؟ وهل هذا هو مصير وحال الشرفاء في هذه الوطن المسلم، الذي يعتز بانتمائه للإسلام وثقافته وحضارته وتاريخه؟

إنني على يقين بأن الذي منع السيدة أرملة المستشار محمود غراب -رحمه الله- من ممارسة حقها في دخول نادي القضاة بوصفها أرملة أحد رجال القضاء، لم يمنعها، ولم يعاملها هذه المعاملة فقط لأنها ترتدي النقاب، ولكن لتاريخ زوجها البطل الذي وضع قضاء مصر أمام مسئولياته، وذكر قضاة مصر بواجبهم تجاه شرع ربهم.

إنني هنا لا أطالب قضاة مصر اليوم فقط بالوقوف بجانب حق أسرة زميلهم الراحل، فهذا واجبهم الإنساني والمهني، ولكني أيضًا أطالبهم بإحياء تاريخ هذا القاضي البطل وتتبع آثاره ومواصلة جهوده في سبيل السعى إلى تطبيق شرع الله في حياتنا.
وهذا واجبهم الديني والايماني والعقدي.

حكم الاشتغال بالقضاء القائم على تحكيم القوانين الوضعية

د. عمار الطالبي: الغرب لا يفتأ يخطط للقضاء على ما يظهر ببلادنا من أفكار

قراءة في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (2)