توزيع الأجور بين الشريعة والقانون الغربي

في كل يوم، وبين الفينة والأخرى، تشهد ساحات البلاد الأوروبية والآسيوية بل في بعض الدول العربية، اضطرابات عمالية جراء الغبن في توزيع الأجور, وقد وضعت الشريعة الإسلامية منهاجاً قيماً يضمن علاقة سوية بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال، وتمنع مثل هذه الخروقات، وتلك الاضطرابات التي تصل لمرحلة تطاير النيران في الهشيم وتحدث فوضى لا يحمد عقباها في البلاد، ومع شريعتنا الغراء نتعرف على غيض من فيض في هذه العلاقة..

1 – كان لاهتمام الإسلام بالأجور وتوزيع متاع الدنيا بين بني آدم، بما يكفل تعاونهم وتوادهم وتراحمهم أثر بالغ في دراسات علماء الإسلام, فبرز عنصر الأجر يحتل المكانة الأولى في العلاقة التي تقوم بين صاحب رأس المال “والعامل”، وأطلق على هذه العلاقة “عقد إجارة منافع الأشخاص”أو عقد إجارة منافع الأعمال”.

ولمس الفقه الغربي الحديث في هذه التسمية خطراً على أصحاب رؤوس الأموال لإبرازها حقائق تثير الأذهان، منها أن العنصر الجوهري في العقد هو الأجر، وبما أن هذه العلاقة تقوم بين أشخاص فهي إنسانية في طرفيها، ومن ثم فإن تنظيمها يكون من نوع خاص يكفل للإنسان العامل إنسانيته وشخصيته، كما يكفل في الوقت ذاته أجره ولقمة عيشه، ومن ثم حاول الفقه الغربي الحديث أن يطرح هذه التسمية جانباً وأن يثخن فيها الجراح، فرماها بأن فيها تشبيه الأشخاص بالأشياء، الأمر الذي يحط من قدر الإنسان لأن العامل لا يكون شيئاً مؤجراً.

2- الحقيقة الفاحصة تثبت أن الفقه الإسلامي كان أدق علمياً واقتصادياً ودينياً من الفقه القانوني الحديث في تكييف علاقات العمل وإعطائها الوصف الصحيح، وكانت نظرته في ذلك أعمق وأشمل وأوفى.

فمن الناحية الدينية قص الله – سبحانه وتعالى – علينا قصة موسى – عليه السلام – وكيف عمل “أجيراً” لشعيب عليه السلام – وموسى هو رسول بني إسرائيل، أولئك الذين جمعوا أموالاً أكلوا السحت بها، وظلموا الناس عندما استأجروهم، وما زالوا يظلمون, انظر إلى قوله جل شأنه:

}فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ{ [القصص:24-28]

ومن الناحية العلمية والاقتصادية، يعد الأجر هو العنصر الجوهري في العقد، لأنه يمثل ثمرة مجهود الإنسان كله، وعليه تتوقف حياته ومن يعول, أما العمل ففي نطاق العقد يمثل زيادة ربح لصاحب رأس المال، ولا تتوقف عليه حياة بشر, ومن جهة أخرى قد يوجد الأجر ولا يوجد العمل، لأن الأجير نوعان: أجير خاص كالخادم والعامل، وأجير مشترك كالصانع. والأول يقصر عمله في دائرة علاقة واحدة تربطه بصاحب عمل واحد, أما الثاني فيعمل لأي صاحب رأس مال يقدم له أجر ما يعمل, والأجير الخاص – على خلاف الأجير المشترك – يستحق أجره ولو لم يكن هناك عمل ما دام نشاطه مقصوراً على صاحب العمل الذي يعمل عنده.

ونتساءل: من الذي خصص عقد الإجارة بالأشياء؟ فأصبح هذا الإطلاق يحط من قدر الإنسان؟

ليس هناك غير الذين حاولوا الانتقاص من الأجور وإبراز عنصر العمل في الأهمية الأولى تمويهاً وإخفاءً لطبيعة العلاقة وجوهرها..

حقاً إن الأجير غير الشيء المؤجر، وهذه التفرقة يعرفها الإسلام وتعرفها الإنسانية اليوم، ولم يكن يخلط بينهما إلا القانون الروماني، إذ كان لا يعمل في عصره إلا الرقيق، وكان يعده شيئاً, ولكن الإسلام الذي عرف إنسانيته عرف حقه في الحياة تماماً كحق الحر فيها، وأمر الحر بالعمل كما أمر الرقيق به, قال الله تعالى: }وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [غافر:40]

3- وفي الفقه الإسلامي قواعد مفصلة لتوزيع الأجور, وفي القرآن الكريم نجد ذكر العمل مقروناً بذكر الأجر في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: }وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ{

وقوله تعالى: }مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ{

وقوله جل شأنه: }إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ{

وقوله تعالى: }وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا{

وفي السنة الشريفة يرشدنا المصطفى – عليه السلام – إلى تلازم الأجر والعمل فيقول – صلى الله عليه وسلم -: “أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه”. رواه ابن ماجه.

كما يقول – صلى الله عليه وسلم -: “لا يغرس مسلم غرساً ولا زرعاً فيأكل منه سبع أو طائر أو شيء إلا كان له فيه أجر”. رواه مسلم.

4- وبعد – فإننا في سبيل بناء مجتمعنا الجديد – ينبغي قبل أن نتجه إلى الغرب أو إلى الشرق أن ندرس الفقه الإسلامي دراسة عميقة، نعرف بها حكم الله في سياسة العمل والأجور ونبنيها بذلك على أسس من العدالة دقيقة وقواعد من الحق راسخة، تستمد أصولها من كتاب الله وسنة رسوله: }وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{.