قراءة تحليلية في القيم التي تقوم عليها حقوق الإنسان في الإسلام .

الدكتورة. رقية طه العلواني، أستاذ مشارك، كلية الآداب/جامعة البحرين
ملخص

يُعدّ الوقوف عند مسألة حقوق الإنسان في الإسلام -في وقتنا الحاضر- من أهم القضايا الفكرية والحضارية، فقد باتت قضايا حقوق الإنسان من أكثر الأمور إثارة للجدل.وقد لعب الخلط الحاصل بين ممارسات بعض المسلمين البعيدة عن تعاليم الإسلام -خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان- من جهة وبين تعاليم القرآن والسنة النبوية من جهة أخرى، دورًا بارزًا في توجيه سهام النقد والتجريح لتعاليم القرآن والسنة ومسؤوليتها عن تلك السلوكيات المنحرفة بما تحمله من جور وظلم وتجاوز لحقوق الإنسان في كثير من الأحيان.

من هنا تأتي هذه الورقة لإبراز القيم الأساسية التي قامت عليها نظرة الإسلام للإنسان وحقوقه في تشريعاته. وتذهب الدراسة إلى أن تلك القيم تتمثل في؛ التوحيد واستخلاف الإنسان على الأرض. ومن تلك القيم انبثقت منظومة حقوق الإنسان ونال بها حقوقه كافة من حرية وعدالة ومساواة. كما تؤكد الدراسة أن صيانة حقوق الإنسان في الإسلام ترتبط بتفعيل تلك القيم في الواقع الإنساني.

مقدمة

تعد مسألة حقوق الإنسان في الإسلام -في وقتنا الحاضر- من أهم القضايا الفكرية والحضارية، فقد باتت قضايا من أكثر الأمور إثارة للجدل. وقد لعب الخلط الحاصل بين ممارسات بعض المسلمين البعيدة عن تعاليم الإسلام -خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان- من جهة وبين تعاليم القرآن والسنة النبوية من جهة أخرى، دورًا بارزًا في توجيه سهام النقد والتجريح لتعاليم القرآن والسنة ومسئوليتها عن تلك السلوكيات المنحرفة بما تحمله من جور وظلم في كثير من الأحيان. من هنا تأتي هذه الورقة لإبراز القيم الأساسية التي قامت عليها نظرة الإسلام للإنسان وحقوقه في تشريعاته. وتذهب الدراسة إلى أن تلك القيم الأساس تتمثل في؛ التوحيد واستخلاف الإنسان على الأرض. وأن من تلك اليم انبثقت منظومة حقوق الإنسان ونال بها حقوقه كافة من حرية وعدالة ومساواة. كما تؤكد الدراسة أن صيانة حقوق الإنسان في الإسلام ترتبط بتفعيل تلك القيم في الواقع الإنساني.

ويمكن إجمال أهمية دراسة القيم التي تقوم عليها منظومة حقوق الإنسان في الإسلام في الوقت الراهن في النقاط الآتية:

أولا: اتساع نطاق العولمة الثقافية وطبيعة التحولات العالمية الراهنة نحو الاهتمام بالجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية عالميًا، وما يصاحب ذلك من إعطاء المنظمات الإقليمية والدولية أدوارًا أكثر تأثيرًا وتدخلًا في خصوصيات الأمم والشعوب الثقافية وفي بعض الأحيان الدينية باسم الشرعية الدولية.

الأمر الذي ادى إلى اتساع دائرة الحديث عن القيم الحضارية كالحريَّة والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ وتحرير التجارة وتحقيق معايير الجودة…مما يستدعي الاهتمام بموضوع القيم التي تقوم عليها هذه القضايا المطروحة وخاصة ما يتعلق بحقوق الإنسان في إطار الخصوصية الإسلامية.

ثانيًا: الحديث المتزايد عن قضايا حقوق الإنسان فالناظر في الكتابات الغربية في مختلف المذاهب والإيديولوجيات والتخصصات المعرفية، يلحظ تركيزها على هذه القضايا. الأمر الذي يستدعي اهتمام الباحثين في العالم الإسلامي بإثارة الوسائل الجديدة والأساليب الحديثة الناجعة في دفع دفة الحديث عن قيّم إسلامية أصيلة تقوم عليها منظومة حقوق الإنسان.

ثالثًا:ضرورة الاهتمام بمعالجة الصور السلبية عن الإسلام ومنظومته المعرفية وحضارته الإنسانية لدى المجتمع الغربي، ودوره العالمي اليوم في المساهمة في حلّ أزمات العالم وكسر الحواجز النفسية والفكرية بين أمم العالم وشعوبه. وإشكالية حقوق الإنسان تعد من أبرز هذه الحلقات الخطرة.

رابعًا: ظهور تحديات جديدة تتطلب صياغة رؤى جديدة تتمحور حول وجوب تقديم المشروع الحضاري الإسلامي- على الصعيد الإقليمي والدولي- كمشروع يؤكد قيمة الإنسان ودوره التنموي مع الكون والطبيعة من منطلق التناغم والانسجام، وليس الصراع والسيطرة، مشروع حضاري يؤكد احترام حقوق الإنسان وكرامته من خلال صيانة العدل والحرية والمساواة والمسئولية الأخلاقية.

خامسًا:الدعوة العالمية للقيم التي تقوم عليها منظومة حقوق الإنسان بكل أبعادها الإنسانية ظهرت ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا. فقد دشن النبي الكريم هذه الدعوة للانتقال بالإنسانية من الكيان القومي الضيق إلى الكيان الإنساني الشامل،فأصبحت صيانة تلك الحقوق وحمايتها، وظيفة عالمية يشترك فيها البشر جميعًا.

المبحث الأول: الإطار المفاهيمي للقيّم

أولًا: المعنى اللغوي
وردت لفظة القيم مفردة في القرآن في قوله تعالى: ﴿دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾[1]وكذلك ورد في قوله تعالى: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾أي بها تقوم أموركم.

ومعنى القيمة في اللغة[2]: قيمة الشيء أي قدره وقيمة المتاع: ثمنه ويقال لفلان قيمة: ماله ثبات ودوام على الأمر والجمع قيم[3].

والشيء القيّم الذي له قيمة عظيمة مبالغة، وتشتق كلمة القيمة في اللغة العربية من القيام، وهو نقيض الجلوس، والقيام بمعنى آخر هو العزم، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ﴾[4]أي لمّا عزم. كما جاء القيام بمعنى المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾[5] وأما القوام فهو العدل، وحُسن الطول، وحُسن الاستقامة[6].

ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للقيم
تعددت تعاريف مفهوم “القيم” تبعا للحقول المعرفية التي وردت التعاريف فيها، وجذورها وامتداداتها الفلسفية والاجتماعية والنفسية.

فقد حضي موضوع القيم باهتمام كبير من قِبل المتخصصين في ميادين عدة كالفلسفة وعلم الاجتماع والتربية حيث تعتبر القيم من أهداف التربية والمنهج التربوي الرئيسة. كما اهتم بدراستها الباحثون في علم النفس بمعظم فروعه الاجتماعي والإرشادي والتطوري والتربوي.

فمن الناحية المعجمية، تعرّف القيمة بأنها: ما يتميز به الشيء من صفات تجعله مستحقا لتقدير كثير أو قليل فإن كان مستحقا لتقدير بذاته كالحق والخير والجمال كانت قيمته مطلقة، وأما إن كان مستحقا للتقدير من أجل غرض معين كالوثائق التاريخية والوسائل التعليمية كانت قيمته إضافية[7].

كما اهتمت علوم عدة بالقيم وجعلتها موضوعا لها كعلوم: الأخلاق، علم الجمال، المنطق، والابستيمولوجيا (نظرية المعرفة)، والاقتصاد،وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، والدين، والتاريخ، والفلسفة، وعلم الاجتماع، والانثروبولوجيا والعلوم السياسية. بل إن الحديث بدأ عن تخصصات كاملة حول “القيم” مثل “علم نفس القيم” و”علم اجتماع القيم”… إلخ.

ومع مرور الأيام شاع استعمال كلمة القيمة، فأصبحت تدل على معانٍ أخرى متعددة. فيرى علماء اللغة مثلاً أنّ للكلمات قيمة نحوية تحدد معناها ودورها في الجملة، وأنّ قيمة الألفاظ تكمن في الاستعمال الصحيح لها. كما يستعمل علماء الرياضيات كلمة القيمة للدلالة على العدد الذي يقيس كمية معينة.

ويستخدمها أهل الفنّ كونها تجمع بين الكمّ والكيف، وهي بهذا تعبّر عن كيفية الألوان، والأصوات، والأشكال والعلاقة الكمية القائمة بينها، كما يستخدمها علماء الاقتصاد للدلالة على الصفة التي تجعل شيئاً ممكن الاستبدال بشيء آخر، أي قيمة المبادلة[8].

وعلى هذا فإن مصطلح القيم في الفكر المعاصر أصبح من المفاهيم التي يشوبها نوع من الغموض والخلط في استخدامها، لأنها حظيت باهتمام كثير من الباحثين في تخصصات مختلفة[9].

ومن علماء النفس والاجتماع من يرى أن القيم هي الاهتمامات، أي إذا كان أي شيء موضع اهتمام فإنه حتماً يكتسب قيمة، ومنهم من يعرفها بالتفضيلات و كثير من علماء النفس يرون أن القيمة والاتجاه وجهان لعملة واحدة.

فالقيم لديهم عبارة عن المعتقدات التي يحملها الفرد نحو الأشياء والمعاني وأوجه النشاط المختلفة، التي تعمل على توجيه رغباته واتجاهاته نحوها، وتحدد له السلوك المقبول والمرفوض والصواب والخطأ، وتتصف بالثبات النسبي[10].

أما علماء الاجتماع فيرون أن القيمة صفة للشّيء تجعله ذا أهمّيّة بالنّسبة إلى الفرد أو الجماعة، وهي القرار أو الحكم الّذي يُصدره الشّخص نتيجة لتفاعله مع جماعته وفق السّلوكيّات المعياريّة في المجتمع الّذي يعيش فيه.

فالقيم تشكل الإطار المرجعيّ الّذي يشمل الاتّجاهات والمعتقدات والقناعات في البنية المعرفيّة للفرد الّتي توجّه سلوكه جهة معينة، والتي يحكم من خلالها على هذا السلوك بأنه خير أو شر جميل أو قبيح، مرغوب فيه أم غير مرغوب فيه[11].

وقد عرّف معجم علوم التربية القيم بكونها: مجموع معتقدات واختيارات وأفكار تمثل أسلوب تصرف الشخص ومواقفه وآراءه، وتحدد مدى ارتباطه بجماعته. فهي مجموعة من القوانين والأهداف والمثل العليا التي توجه الإنسان سواء في علاقتهبالعالم المادي أو الاجتماعي أو السماوي[12].

فالقيم انعكاس للأسلوب الذي يفكر الأشخاص به في ثقافة معينة، وفي حقبة زمنية معينة،وهي التي توجه سلوك الأفراد وأحكامهم واتجاهاتهم فيما يتصل بما هو مرغوب فيه أو مرغوب عنه من أشكال السلوك في ضوء ما يضعه المجتمع من قواعد ومعايير. وقد تتجاوز الأهداف المباشرة للسلوك إلى تحديد الغايات المثلى في الحياة، فهي على حد تعبير روكيش إحدى المؤشرات الهامة لنوعية الحياة، ومستوى الرقي، أو التحضر في مجتمع من المجتمعات[13].

من هنا تصبح القيم معايير للحكم على الأعمال والأفعال المادية والمعنوية، وتكون لها من القوة والتأثير على الجماعة بحيث يصبحلها صفة الإلزام والتعميم.

من هنا فإن القيم تؤثر في سلوك الفرد ووعيه الحضاري ومواقفه واتجاهاته وتجلّيات شخصيته العملية، وبعض الباحثين بدؤوا يدرسون القيم من خلال السلوك، باعتبار أن القيم تؤثر في السلوك. فالقيم تزود الفرد بالإحساس بالغرض مما يقوم به وتوجهه نحو تحقيقه. كما توجد لديه إحساس بالصواب والخطأ فهي بمثابة معيار وأداة تقويمية.

والمتأمل في موقع القيم في المجتمعات الإنسانية، يلحظ اهتمام الديانات والفلسفات والتنظيمات الاجتماعية والسياسية، والدراسات والبحوث التربوية والاجتماعية والثقافية بها. وقد اختلفت وجهات النظر في إدراك طبيعة القيم وغايتها، إلا أنها لم تختلف في أهميتها وموقعها.

فالقيم التي يتبناها الأفراد، تسهم في توجيههم في اختيار الأدوار الاجتماعية المعينة وتشجعهم على القيام بالأعباء المسندة إليهم بشكل ينسجم وتوقعات المجتمع.

من هنا لعبت القيم دورًا أساسًا في تحقيق الضبط الاجتماعي، فهي تؤثر في الناس لكي يجعلوا سلوكهم مطابقًا للقواعد الأخلاقية، كما تعمل القيم على كبح جماح العواطف السلبية التي قد تدفع إلى الانحراف والتمرد على نظم المجتمع الأخلاقية وتولّد الشعور بالذنب والخجل في نفوس الناس عند تجاوزهم المعايير.

كما يمكننا القول بأنها تعصم الفرد من الطغيان، والاستبداد، والاستكبار في الأرض والانتقاص من كرامة الآخرين أو غمط حقوقهم.

المبحث الثاني: القيم العليا في الإسلام

جعل الشارع لحياة الإنسان غاية عظيمة ومقصدًا أسمى متمثلُا في توحيد الله واستخلافه للإنسان لإعمار هذه الأرض وإصلاحها وعبادة الله وتأديته لأحسن العمل على ظهرها. قال تعالى:( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) سورة الملك.1-2

من هنا فإن القيم التي تحكم حياة الإنسان وواجباته كافة وتنظم حقوقه تتمثل في؛ التوحيد، والاستخلاف. وتناول حقوق الإنسان وما يتعلق بها من خلال استحضار هذه القيم العليا، يفتح أمام المجتمع آفاقًا رحبة خاصة في مجالات التطبيق. إذ تكتسب تلك الحقوق إلزامية أشد قوة من خلال ربطها بتلك القيم.

أولا: التوحيد

التوحيد يشكل الدعامة الأساس الذي تقوم عليه شرائع الدين كافة وأخلاقياته. فالتوحيد هو المحور الذي تدور عليه عجلة الحضارة الإسلامية، فتنعكس آثاره على كل حكم من أحكام الدين. فالتوحيد يظهر في كل أمر في الحضارة الإسلامية ليستمد شرعيتة من هذا الأصل، سواء كان في السياسة او الاقتصاد او الاجتماع او غير ذلك من ونواحي حضارية. بل إن كافة القيم الحضارية تستمد شرعيتها من أصل التوحيد.

من هنا كان التوحيد بمفهومه الشمولي في الإسلام من أبرز دوافع التغيير والنهوض، من خلال ما رسمه من أهداف دنيوية وأخروية تتمثل بالعمارة والعبادة والخلافة.

وقد تنّبه مالك بن نبي بدقة إلى دور التوحيد في توجيه الإنسان من أجل التحول إلى الفاعلية في صناعة الحضارة والبناء، وحاول صياغة هذا الدور والتركيز عليه في الفكر الحضاري.

فالدور الرئيس في البناء الحضاري يرجع في نظر مالك بن نبي إلى ما أسماه (الدين) ويعني به التوحيد، إذ هو الذي يؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت، ليركب منها كتلة تسمى في التاريخ (حضارة). فجوهر التوحيد مؤثر صالح في كل زمان ومكان، لكن المحور الذي يتجلى فيه تأثيره هو الإنسان الذي يتفاعل مع العناصر الأخرى ليصنع الحضارة.

وإن محورية التوحيد في الحياة الإسلامية، تعني أن هذه الحياة فردية وجماعية تعتمد في أصولها وتعود في جذورها إلى التوحيد. من هنا يتجلى التوحيد في كافة الأنشطة والأعمال التي يزاولها البشر والأحكام التي شرعها الله سبحانه لهم بتستقيم بها أمور حياتهم ومعاشهم ومعادهم. وتنبثق من هذا الأساس سائر القواعد المتينة التي تعتمد عليها الحياة الإنسانية ، مثل الأمن والخير والصلاح والتكامل والتقدم والسلام… .

وتوحيد الله سبحانه يعني الانقياد التام والطاعة الكاملة لله، وهو ما يعني التحرر من كافة العبوديات والانقيادات والتبعات لأية جهة أخرى. وهذا ما يكشف عن التحرر الحقيقي للإنسان من كافة الأغلال والقيود التي طالما كبلت إرادته وفكره وجسمه وروحه. فالتوحيد يحقق للإنسان أسمى أنواع الحرية التي تعد أبرز وأهم القيم الحضارية الغائية. فكان التوحيد واجبًا وحقًا للإنسان في نفس الوقت. فالتوحيد أعظم مكسب وهبه الخالق سبحانه لعباده. تحرر الإنسان به من قيود الظلم والامتهان والاستعباد والأصنام، ومن قيود النفس وأهوائها الجامحة ونزعاتها الجنونية، ليفسح المجال لإطار التزكية الإنسانية.

ويفرض التوحيد على الإنسان الالتزام بالقيام بكافة التكاليف والمسؤوليات التيألقاها سبحانه على عاتقه، والعمل ضمن إطار النهج الالهي. ومن ذلك صيانته لحقوق الإنسان وقيامه بها على أتم وجه.

وبالتوحيد تُحفظ حقوق الإنسان في الإسلام وتُصان عن كل تمييع أو تمويه لها. فالمسلم مطالب بتحقيق مرضاة الله التي تتحقق من خلال رعاية القوانين والتشريعات كافة والأطر الإلهية والقيم الحضارية. بل إنه يدفع بالإنسان إلى الحفاظ عليها وصيانتها من أي تحريف أو تقليص.

ويسهم التوحيد في تشكيل عنصر المسؤوليةفي تفعيل حقوق الإنسان والالتزام بها من قبل الناس، إذ هي مسؤولية نابعة من باطن الإنسان ونافذة إلى اعماقه وماثلة أمامه. وانطلاقًا من عنصر المسؤولية أيضا يجد الإنسان المسلم نفسه مندفعًا لأداء التكليف الالهي بالالتزام بالقيام بحقوق الإنسان في الواقع.

فالتوحيد في أصله ممارسة عملية لأعظم حقوق الإنسان بتخليصه من الظلم والتأله والاستكبار والعبودية لغير الله، وإشاعة قيم الحرية والعدل والمساواة واحترام إنسانية الإنسان، حيث مقصدها الأساس إخراج الناس من عبادة العباد، ذلك أن معظم الشر في الدنيا سببه تسلط الإنسان على الإنسان. فكان التوحيد الدرع الواقي لحقوق الإنسان.

كما أن اطار التوحيد هذا يؤسس لنسق حقوقي إنساني معرفي شمولي يحدد تصورًا متكاملًا لله والكون والإنسان، ينعكس على منهج التفكير والسلوك الفردي والجماعي، ويجعل العمل الصالح هدف الإنسان في هذا الكون. يقول الله عز وجل في سورة الملكّ:﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

فالتوحيد ليس فقط توحيد الصفات والأفعال بل هو عملية إقرار الله خالق كل شيء بالربوبية والإلوهية وإفراده بالعبودية فينتج عن هذا الإقرار وهذا الإفراد تحرير الفرد من كل سلطة وهيمنة أخرى غير هيمنة الله، تحرير مادي ومعنوي شامل لكل مناحي الحياة كما ينتج عنه مساواة جميع أفراد المجتمع.

ويمثل رؤية الكون ومناهج التفكير ومسالك التفاعل الاجتماعي لكل الأفراد في المجتمع.قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ. فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ في سَبِيلِى وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ ثَوَاباً مّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ ﴾[14].

والتوحيد بمعناه الشمولي ليس مجرد تلك العقيدة التي جاء بها الأنبياء والرسل عليهم جميعا صلوات الله وسلامه،ولكنه المفهوم الدال على خضوع كل الموجودات للخالق الموجد لهابالعبودية، وشهادتها له بالوحدانية، فقد شهد الله على نفسه بوحدانيته في قوله عزوجل: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[15].

وعلى أساس هذا المقصد الرئيس لوجود الإنسان تنبني كل العلاقات التشريعية والتكوينية وتفاعلاتها في حياة الإنسان، لتفسر للإنسان الغاية من وجوده على الأرض، وتحدد له إطار المنهج الذي يسير عليه. والتوحيد بهذا المفهوم يعد المرجع الأساس لتشكيل رؤية الإنسان للكون وصياغة مفاهيمه عن الحياة وطبيعة الأدوار التي يقوم بها الأمر الذي ينعكس على نمط علاقاته وأسلوب تبادله لحقوقه وأدائه لواجباته.

من هنا لم يكن التوحيد مفهومًا نظريًا أو تجريدياً بل مقصدًا تتضح من خلاله كيفية تفاعل الإنسان مع الحياة في مختلف المجالات. فالتوحيد بهذا البعد المقاصدي يحرر الإنسان من الخضوع لأي أسلوب تفكير يبعد به عن جادة الصواب، ابتداء من اتباع الإنسان لأهواء نفسه أو غيره. يقول تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾[16].وقال في آية أخرى: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[17].

وبهذا التحرير للإنسان عقلًا وقلبًا وسلوكًا، تتحدد حركة الإنسان وسلوكه الاجتماعي، وتتسق موجبات الأمانة ومقتضيات الاستخلاف، فتتضح أمام الإنسان الهدف والغاية من الوجود الإنساني في تحمل الأمانة بتوحيد الله ومقتضيات الاستخلاف بعبادته دون سواه في أداء العمل الصالح بمختلف مستوياته وأنماطه.

وعلى هذا يتحدد الدور الذي يقوم به الإنسان وما يحققه من قيم حضارية إنسانية تتمثل في كل ما يؤدي إلى العمل الصالح. قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[18].

ويتجلى التوحيد في الحياة من خلال قيم الحرية والمساواة والعدالة التي تشكل منظومة حقوق الإنسان.

فالمساواة – على سبيل المثال- جوهر الحرية في التصور الإسلامي من خلال القيمة الإنسانية المشتركة متصديًا بذلك لاي ادعاء بالتميز على أساس العرق أو الجنس أو اللون جاعلًا الناس سواسية كأسنان المشط ومحددًا التقوى كمعيار تفاضلي. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[19].

وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا في خطبة الوداع حيث قال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إلا ‏ ‏إِنَّرَبَّكُمْ وَاحِدٌوَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ إلا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّوَلَا ‏ ‏لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَاأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُاللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏ثُمَّ قَالَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَاقَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌقَالَ ثُمَّ قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّاللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ وَلَا أَدْرِيقَالَ ‏ ‏أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لَا ‏ ‏كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيشَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَلَّغْتُ قَالُوا بَلَّغَ رَسُولُاللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُالْغَائِبَ”[20].

من هنا فإن إطار التوحيد بهذا المفهوم الشامل تترتب عليه منظومة حقوق الإنسان ومن ذلك:

انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد وهو التوحيد والإيمان بسيد واحد للكون وهو الله سبحانه لا الإنسان كما تذهب إلى ذلك بعض الفلسفات المعاصرة.
اقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله تعالى وتحرير الإنسان من كافة أنواع العبوديات.
تجسيد روح الاخوة العامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو ألوان الاستغلال والتسلط. فما دام الله تعالى واحداً ولا سيادة إلا له، والناس جميعًا عباده, ومتساوون بالنسبة إليه فمن الطبيعي أن يكونوا إخوة متكافئين في الكرامة الإنسانيّة والحقوق.
وهذا هو ما يلخصه المستشرق «برنارد لويس» بقوله: «أنّ العقيدة حلّت محل الدم كرابطةٍ اجتماعية”[21]. فقد كان المجتمع الجاهلي يعجُّ بقيم مختلفة عديدة لا تبغي خير الإنسانية في علومها ولا كرامة الإنسان حريته وتحريره والأخذ بيده في طريق الرُّقيّ، ونزل الإسلام المعركة فقذف فيها بقيم جديدة. فجاء بالقيمة الدينية الكبرى وهي التوحيد والإيمان بإله واحد خالق لهذا العالم، مدبّر له، يريد بالإنسان الهدى والخير[22].

ويعد التوحيد بناء على ذلك أعظم مفهوم حضاري، فهو الذي يحمل المرء على أن يُفرد الخالق بالعبادة، والقصد، والطاعة، والمحبة، والتحاكم، فيحرر العبيد من العبودية للعبيد إلى عبادة رب العباد ..من هنا كان الشرك من اسوأ المفاهيم الحضارية على الإطلاق… فالشرك يؤدي إلى الخلاف حولمفاهيم حضارية أخرى مرتبطة به؛ كمفهوم ” الحرية ” مثلاً؛ وكذلك القيم الحضارية ذات العلاقة بتحديد خصوصيات وحقوق الخالق وخصوصيات وصلاحيات الإنسان في التعامل مع الإنسان والكون والطبيعة..، وحقوقه وواجباته

فالسلوك الإنساني .. أيَّاً كان نوعه .. وكانت نتائجه هو نتاج المفاهيم والتصورات القيمية التي ينتمي إليها هذا الإنسان ويعتقد بها .. والتي أفرزت عنده هذا السلوك .. فإن كان سلوكًا إيجابيًا ممدوحًا، فهذا دليل على وجود قيم إيجابية عند هذا الإنسان. فالسلوك الإنساني هو التعبير الصادق عن نوعية ومدى جودة تلك القيم التي ينتمي إليها الإنسان. لذا كان توحيد الله في الخلق والأمر .. في العبادة، والطاعة، والحكم والتشريع، قيمة عليا حاكمة لسائر تصرفاته وحامية لحقوقه في ذات الوقت.

من هنا كان التوحيد شاملًا لجميع جوانب الحياة: التعبدية، والأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية،والعلمية .. وبالتالي فإن الإنسان مخلوق لله تعالى ومملوك له، وهو مُستخلف في الأرض لإعمارها وفق قانون وشرع الله، وهو محاسب عن ذلك.

فالسلوك الإنساني في ظل هذه القيم، يخضع للشعور والإيمان بمراقبة الله تعالى له والتي لا تغيب عنه لحظة واحدة .. وبالتالي فهو منضبط وملتزم بمبادئ واخلاق دينه وحضارته في السر والعلن.

وقد أكد العلماء المسلمون هذه الحقيقة عبر العصور. فالراغب الأصفهاني أبو القاسم الحسين بن محمد (402ﻫ) في كتابه “الذريعة إلى مكارم الشريعة” وغيره يذهب إلى أن جميع الأعمال الإنسانية تعد من ألوان العبادات الهادفة إلى تهذيب لإنسان طالما أنها تراعي أمر الله في جميع الأمور[23].

من هنا جاءت فكرة الحفاظ على حقوق الإنسان منبثقة من التوحيد، مصانة من خلال تطبيقه في الحياة الإنسانية. وعلى هذا أعادت عقيدةُ التوحيد، بفضل تحريرها الإنسان من الأوهام المدمرة، ومن تسلط البشر بعضهم عل بعض، المساواةَ بين البشر، وألغت كل أشكال التفاضل بينهم إلا على أساس علمهم وأخلاقهم وأعمالهم، وبهذه المساواة تمكَّن البشر من حفظ كرامتهم، واستقلال عقولهم وإرادتهم.

وباستحكام عقيدة التوحيد، في حياة الإنسان، وظهور كل نتائجها الإيجابية في علاقة الإنسان السليمة أولاً بالله، ثم بعلاقته بأخيه الإنسان، وبالكون من حوله، يستعيد الإنسان، تزكيته لنفسه وقدرته على تحقيق عمارة الأرض.

ثانيًا: الاستخلاف
استخلف الله سبحانه وتعالى البشر في الأرض بقصد عمارة الكون وإنمائه وسخر للإنسان كافة كنوزه وثرواته، تحقيقا لهذه الغاية والمقصد. قال الله تعالى: ﴿ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾[24].﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾[25]. وقوله عزّ شأنه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾[26].﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾[27].﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء﴾[28]. وقوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾[29].﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾[30].

والإنسان هو محور كل فعل حضاري أو تاريخي، إلا أن هذا الفعل مرتهن بعلاقة الإنسان بربه:”علاقة بين الله إلهًا وربًا وخالقًا، وبين الإنسان خليفة، والكون مسخَّر وميدان لفعل العمران، والشهود الحضاري الإنساني…فهي علاقة مطلقة بين الإله الأزلي الخالق جلّ شأنه، وبين مطلقين: الإنسان في إنسانيته المتجدِّدة، والكون في استمراره حتى يرث الأرض ومن عليها. فالعلاقة إذن ثلاثية؛ إله خالق، وإنسان مستخلف، وكون مسخر، فدور الإنسان إذن محوري، فهو مخلوق ليحقق أمر الله في هذا الكون من خلال مهمته الوجودية، وهي الاستخلاف في الأرض عبر محاور ثلاثة، عبادةُ الله، وسيادة في هذا الوجود المحكم بسنن الله، وشهادة على الإنسان بمضمون إلهي عدل، هو ميراث النبوات: الإسلام بوحيه المعصوم؛ القرآن والصحيح من السنة المطهرة[31].

وإذا تتبعنا آيات القرآن الدالة على قيمة الإنسان ودوره في تحقيق الاستخلاف، لاحظنا أن الإنسان مطالب بأن يصدر عنه في تحركه الإيجابي الهادف، ويرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة. فالخلافة أمانة والأمانة تقتضي المسؤولية والالتزام بالواجب والقيام به. ومن ذلك حفاظه على الحقوق الإنسانية لذاته وغيره.

فمكانة الإنسان في الكون، وعلاقته بالثروات والأموال، وحقوقه؛ امتلاكُا واستثمارُا وانفاقُا ـ بفلسفة الاستخلاف هذه، فمكانة هذا الإنسان هي مكانة الخليفة المكلف بعمارة الأرض، الحر المسؤول، لأن هذه هي الشروط الضرورية التي تلزم لنهوضه برسالة العمران.. في ظل ضوابط تحكم هذا الاختيار وتلك الحرية في التصرف.فهذا الإنسان المستخلَف، ليس هو المُجْبرَ وهو ـ كذلك ـ ليس سيد الكون، المكتفي بذاته، والمستغني باختياره وقدراته عن رعاية وتدبير الله الخالق وأوامره. وهذا من أبرز وجوه حقوق الإنسان دون شك.

ويؤكد الراغب الأصفهاني أن للإنسان أفعالًا مخصوصة تختص به وحده وهي: عمارة الأرض وعبادة الله وخلافته. ولا يستحق الإنسان الخلافة إلا بتحري مكارم الشريعة[32].

من هنا تتميز الرؤية الإسلامية لنطاق حرية الإنسا وعلاقته ـ كخليفة ـ بالثروات والأموال، ومن ثم بالنظام الاجتماعي في الإسلام، فالإنسان خليفة ومستخلف، تحكم حرياته وعلاقاته بالثروات والأموال بنود عقد وعهد الاستخلاف في العدل والتكافل الاجتماعي، التي تحقق التوازن بين الفرد والطبقة والأمة في التملك والحيازة والاستثمار والانفاق والانتفاع.

فالمالك الحقيقي في الأموال والثروات هو خالقها وهو الله سبحانه، الذي سخرّها كغيرها من كنوز الطبيعة وقواها، ليرتفق بها الإنسان ارتفاق تسخير، لا ارتفاق سخرة، بمعنى القهر – كما هو سائد في الرؤية الغربية- استعانة بها على اداء مهام الاستخلاف ـ عمارة هذه الأرض وتزيينها.

وعلى هذا حضّ الإسلام على الضرب في الأرض والسعي الحثيث في مناكبها، والتنقيب عن موارد الرزق في البر والبحر، والإنشاء والتعمير وتوفير أسباب المعيشة والتنافس المشروع في كسبها…التي هي في حقيقتها تجليات لحقوق الإنسان وواجباته في الوقت ذاته.

لذا فإن عمارة الأرض واستغلالها يتقيدان في الإسلام بطاعة الله والاهتداء بهديه والامتناع عما نهى عنه، والاعتقاد بأن الناس جميعاً شركاء في منتجات الطبيعة المباحة، فكان لا بد لهم من التراحم والتعاون في العمل والنتاج (العطاء) بدون تخصيص، أو تمييز البشر في الجنس أو اللون أو العنصر…فلا معنى لاستغلال جنس من الأجناس، أو بلد من البلدان لجنس آخر أو بلد آخر، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾[33].

وتنبني قيمة الاستخلاف على عبادة الله وتوحيده فهي الأساس، إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾[34]. ولكن العبادة المقصودة بحكم النص القرآني أن الإنسان العابد لا بد أن يكون عاملًا منتجًا، باعتبار أن العمل الجاد هو السبيل لإسعاد الفرد والجماعة، وفى هذا يقول -سبحانه وتعالى-: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[35].

فالعمارة في الفكر الاقتصاديّ تكليف شرعيّ، فهي عبادة؛ لأنّها تؤدّى كما تؤدّى الفروض، إلا أنّ لها صفة إجماليّة تنحلّ إلى أحكام تكليفيّة فتُحفّز بشكل أو بآخر كلّ مسلم، وهدف التسخير تُهيّئهُ الموارد باتّجاه استخدامها لغرض العمارة، والغرض من الاستخلاف إقامة العدل وعمارة الأرض.

يروى عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره لقوله الله تعالى: ﴿وَإِذْقَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[36]. عنى بالخليفة ولد آدم بعضهم بعضاً، وهُم خلفوا آباءهم في إقامة العدل وعمارة الأرض.

وجاء في قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾[37]. ويقول في موضع آخر: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[38]..

فليس في الإسلام دعوة إلى الرهبنة أو انقطاع عن الحياة العامة وإعمارها أو نكران للمتع الحلال المباحة، وإنما هو دعوة صريحة للعمل الذي يتحقق به الإعمار الذي يعود بالخير على العالم. وعلى هذا كان ” علم العمران البشري“ من العلوم الإنسانية التي أدّت إلى نقلةٍنوعيةٍ في كتابة التاريخ، وكان تأسيس هذا العلم منسوباً لأبي زيدعبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت808 هـ)، وذلك في مقدمة مؤلفه التاريخي المشهور “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومنعاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.

ويرى بعض المعاصرين أنه من الأليق بعلم العمران أن يُربط بعلم الفقه للتعريف بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين؛ من حيث الواجب المراد فعله أو الندب إليه، أو المحرم المراد اجتنابه أو التنزه منه.فالداعي الأساس من إيراد هذا الموضوع هو إعادة الربط بين الفقه الحامل للعمل؛ وبين المفهوم المجتمعي المبيِّن لطريق العمل الصحيح؛ من خلال إدراك طبيعة التغيير وفهم مجالات الإصلاح المنشود، والعمران الحضاري المطلوب؛ وفق كل الأحوال والظروف التييعيشها الفرد المسلم في العصر الحاضر.

فالتعمير والبناء وإصلاح أحوال المجتمع هي فروض عامة لا تسقط إلا بالقيام الكافي بهذا المطلوب، وإلاّ أثمت الأمة بتركهم هذا الواجب العام، والناظر في أحوال المسلمين اليوم يرى حجم النقص والتقصير الكبير فيواجب عمارة الأرض وضياع حضارتهم، خصوصاً في المجالات المدنية كالصناعات، والتقنيات الدقيقة، ومجال الاتصالات، وتقنية المعلومات، ومجال المكتشفات الطبية والعلمية المختلفة، ولا أظن أحداً يخالف في أهميتها للمسلمين.

وقد نص أكثر من إمام على وجوب العمل لتغطية الاحتياج العام في هذه المجالات وغيرها، ومنهم الإمام الزركشي فيقوله: “الحرف والصناعات وما به قوام المعاش، كالبيع والشراء والحراثة، وما لا بدمنه حتى الحجامة والكنس وعليه عمل الحديث “اختلاف أمتي رحمة للناس”، ومن لطف الله -عز وجل- جُبلت النفوس على القيام بها، ولو فرض امتناع الخلق منها أثموا ولم يحكَ الرافعي والنووي فيه خلافاً”.[39]

وثمة أوصاف جعلت هذه الأمة شاهدة على الناس كالوعي والقدرة على أداء أعباء الشهادة والقيام بها والتي تستوجب التمكن من الأسباب المادية في مجالات الحياة المختلفة. ويعد مفهوم عمارة الأرض من أولويات هذه المهمة ومتطلباتها.

ولنا أن نتساءل هل من الممكن أن تتم عمارة الأرض بإنسان مسلوب الإرادة والحرية، غير قادر على أن ينال حقه في الكرامة الإنسانية الممنوحة له من ربه عز وجل!. إذ أن معنى ربوبيته سبحانه للعالمين أنه لم يخلق الكون هملًا إنما يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربّيه، وكلّ العوالم والخلائق تحفظ وتتعهّد برعاية الله رب العالمين.

وقوله تعــالى: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها﴾ دليل على عناية الله تعالى بالعالم الأرضي، ولذا جعل فيه خليفـة يخلفـه سبحانه وتعالى فيتدبير شؤون الكون، فدلّ ذلك على أن مراد الله صلاح هذا العالم واستقامة أحواله، التي لا تنضبط دون الحفاظ على الحقوق بين الناس وصيانتها من عبث العابثين وتسلط الطاغين.

كما دلّت نصـوص كثيرة على أن مراد الله مـن خلق العالم صلاحه، كقوله: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾[40]. فهي دليل علـى أن الله لا يحب الفساد في الأرض بعد أن أصلح الله خلقها، وكقوله: ﴿وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الـحرث والنسل والله لا يحـب الفساد﴾[41].

ففيها إشارة صريحة إلى أن الله قصد من خلق العالم صلاح حرثه ونسلـه وكل موجوداته؛ لينتفع بها الإنسان وينعمبها[i] أهل الأرض جميعًا، وهكذا يظهر أن المقصد الأعلى والأسمى من خلق العالم وإيجاده هو عمارة الأرض بالخير والصلاح وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وأنّ ذلك مرهون باستقامة الإنسان وعدله وصلاح عقله[42].

فعمارة الإنسان الأرض ليست غاية ذاتية وإنما هي وسيلة إلى الغاية وهي تحقق الإنسان بعبوديته لله تعالى، بمقتضي إرادة خالق السماء والأرض وتوجيهاته وأوامره.

والعمران الحقيقي في الإسلام عبادة تبدأ من استجابة الإنسان لأمر الله سبحانه، فإذا فقدت هذا الإطار والضبط، تحولت إلى مفسدة ودعاة لانتهاك الحقوق وإفساد الأرض والبيئة …مما يزخر به عالمنا المعاصر اليوم.

وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في قوله: “إن الحضارة مفسدة للعمران”. من حيث وصولها إلى مرحلة الترف المؤدي إلى فساد الأخلاق، وتمزق المجتمع، وذهاب ثروته نحو طبقة متفردة تنتهي بها الدولة.

إن النتيجة التي وصل إليها الإنسان اليوم في عمارته للأرض هي عمارة صورية تكتمل بجوانب التسخير لكل مقدرات الكون وإمكاناته، لكنها ظلت خلافة مبتورة ناقصة، بمعنى أن الإنسان قد فعل كل ما يريد لكنه لم يجد السعادة والحرية والراحة التي ينشدها من السعي في الأرض وإعمارها. فالإنسان قد أقام صورة الخلافة ولم يرتبط بمقاصدها المتمثلة في الاستجابة لأمر الله في تحقيقها ونيل مرضاته، التي تشل منظومة حقوق الإنسان روحها الحقيقية.

تقول الكاتبة كارلين روس في أزمة الإنسان المعاصر:” إن العلوم والتقنيات الحديثة تثير بصورة مشروعة الخوف، إن فكرة خطورة تقنية ترتسم في سياق جديد عبر تغيرات كيفية للعمل الإنساني. فالتقانات الجديدة تنجب زيادة قدرات الإنسان زيادة ضخمة. وقد أصبح هو ذاته فاعل تقنياته وموضوعهما معا. والوضع مشبع بالأخطار الجسام لدرجة أن الإنسان ينزع إلى التجريب والتجديد، لا في قطاع خارجي عنه، بل في قلب الكيان الإنساني ذاته….وعندما يهدد خطر العلم الإنسان، عندما تكون التفاؤلات القديمة عتيقة أو بالية وعندما ندرك أن العلم يحقق أحيانا أعظم الشرور فكيف لا تستلزم هذه الأخطار القاتلة أخلاقا نظرية جديدة إجرائية ومنيرة في السياق المعاصر؟..صار من المطلوب قيام تطلع جديد ينهي لا أخلاقية الإنسان المحروم من المرجعية يجب علينا أن نعمل على ابتكار أسس أخلاق نظرية جديدةسسأسس “[43].

ثالثًا: الآثار الإيجابية لقيم التوحيد والاستخلاف على صيانة حقوق الإنسان

انعكست تلك القيم الرئيسة على بناء أسس رصينة لمنظومة حقوق الإنسان وحمايتها في الإسلام، فالبشرية باتت أسرة واحدة ترجع في أصل خلقتها ونشأتها إلى نفس واحدة هي نفس آدم عليه السلام أبو البشر. وقد قرر القرآن الكريم هذا المبدأ في مفتتح سورة النساء في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾. (الحجرات: 13)، ومن هنا جاءت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية إلى إحياء الشعور بالتعاطف الأخوي الإنساني، مؤكدة وشائج الترابط النسبي بين أفراد الإنسانية في شتى الأزمنة والعصور بما يدعم ذلك الترابط والتعاون المسوق إلى تبادل المنافع والخير وتحقيق المحبة والوئام للبشرية أجمع.

كما قرر القرآن الكريم أن الإنسانية واحدة وقد خُلقت من نفس واحدة، وهذه الوحدة ليست وحدة في الأصل فحسب بل في الهدف كذلك وهو التعارف. والغاية من التقسيم إلى شعوب وقبائل إنما هي التعارف لا التخالف، والتعاون لا التخاذل، والتفاضل بالتقوى والأعمال الصالحة التي تعود بالخير على المجموع والأفراد، والله تعالى رب الجميع يرقب هذه الأخوة ويرعاها، وهو يطالب عباده جميعًا بتقريرها وصيانتها. فيقـول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ [ii]وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. (النساء:1).

ويتمتع كل إنسان بهذه المساواة أمام القانون، وهو أمر رباني لا يحتمل مساومة، يقول تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾(النساء: 58). وهذه الآية الكريمة، تأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، مسلمين أو غير مسلمين، كما تقضي بأن يلتزم العدل في الحكم بين الناس كلهم، دون تمييز، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو الثقافة، أو الجنس، أو اللون. والمؤمنون مأمورون دينًا أن يكونوا قوامين بالقسط في كل موقف، لقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى إلا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8) فلكل إنسان، الحق في التملك والإرث والبيع والشراء.. وجاء في القرآن الكريم: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. (التوبة:71).

هذه الآية تؤكد أنَّ الحياة العامة تحكمها الرابطة الإيمانية في إطار الأمة، وأنَّ المساواة بين الناس ذكورًا وإناثًا، هي الأصل، وتتمثل المساواة في القيمة الإنسانية والحقوق الاجتماعية والمسؤولية والجزاء، وهذه المساواة تتأسس على وحدة الأصل ووحدة المآل والحساب يوم القيامة.

وفي آية أخرى، يُؤكد الله عز وجل هذه المسؤولية ويربطها بالصلاح، الذي هو أساس العمل الجاد المكلف به الرجل والمرأة على السواء، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ في خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ. ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنْصَـٰرٍ. رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَـٰنِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَـئَامَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَـٰتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلاْبْرَارِ. رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ. فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ في سَبِيلِى وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ ثَوَاباً مّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ ﴾ (آل عمران:190-195) .

ففي هذه الآيات حُدد الهدف والغاية من الوجود الإنساني المتمثل في تحمل الأمانة بتوحيد الله وعبادته دون سواه، كما حددت الآيات أن العمل الصالح بمختلف مستوياته وأنماطه عبادة يثاب عليها المرأة والرجل، كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (النحل:97). من هنا فإنَّ الإسلام يراعي الحقوق من حيث اهتمامه برعاية الواجبات فكل حق للإنسان هو واجب على غيره وينادي بتكريم الإنسان ومنحه الحقوق والمكانة التي تؤهِّله للمشاركة في بناء الحياة والتعبير عن إنسانيّته على أساس قيم التوحيد والاستخلاف السامقة.

الخاتمة

تناولت هذه الورقة أهم القيم التي قامت عليها نظرة الإسلام للإنسان وحقوقه في التشريعات كافة. كما أوضحت مفهوم القيم، وأهميتها للفرد والمجتمع. وخلصت الورقة إلى أن هناك قيّمًا أساسية في الإسلام تتمثل في التوحيد، واستخلاف الإنسان على الأرض. وأن من تلك القيم وعلى أساسها، انبثقت منظومة حقوق الإنسان ونال البشر كافة حقوقهم من حرية وعدالة ومساواة. حيث أن تلك القيم تشكّل الضمانة الحقيقية لتطبيق وحماية تلك الحقوق، وأن صيانة حقوق الإنسان في الإسلام ترتبط بتفعيل تلك القيم في الواقع الإنساني.

1- سورة إبراهيم، 161.

[2]- سورة النساء:5.

[3]- المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية، 2004م، ص 768.

[4]- سورة الجن، 19.

[5]- سورة النساء، 34.

[6]- عادل العوا، الفكر العربي الإسلامي، الأصول والمبادئ، تونس: المنظمة العربية للثقافة والإعلام – إدارة البحوث التربوية، 1987م، ص 215-216.

[7]- جميل صليبيا، المعجم الفلسفي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1994م، ج2، ص 213.

[8]- صلاح الدين رسلان، القيم في الإسلام بين الذاتية والموضوعية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1990م، ص 10.

[9]- w.mcGuire; Nature of Attitude and Attitude change, In; G. Lundzey&E.Asonson (eds), The Handbook of social psychology, New York; Random House, 1985, 233-246.

[10]-مرعي، توفيق وبلقيس، أحمد، الميسر في علم النفس الاجتماعي، ط2، عمان: دار الفرقان للنشر والتوزيع،1984م، ص 216-217

[11]- جيهان العمران، مجلة الطفولة، العدد السابع.2003م.

[12]- الهادي عفيفي محمد، الأصول الفلسفية للتربية، مكتبة الانجلو مصرية ، 1978، ص 286. سويف، مصطفى، مقدمة لعلم النفس الاجتماعي. القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية، 1979م.

[13]- عبد اللطيف محمد خليفة. ارتقاء القيم، سلسلة عالم المعرفة .أبريل 1992.العدد 160؛ ص:14/15. راجع كذلك في قريب من هذا المعنى:هناء عطية محمود، هناء، التوجيه التربوي والمهني، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة، 1959م، نقلا عن: نبيل سفيان، التغير القيمي لدى طلبة علم النفس في جامعة تعز….دراسةتتبعية عبر ثلاث سنوات، http://bafree.net/nabil/bohowth/s3.htm

[14]- آل عمران:190-195.

[15]- آل عمران:18.

[16]- الجاثية: 23.

[17]- يوسف:39.

[18]- النحل:97.

[19]- سورة الحجرات، 13.

[20]- مسند أحمد، حديث رقم 22391.

[21]- برنارد لويس، العرب في التاريخ، تعريب نبيه أمين فارس، محمود يوسف زايد، دار العلم للملايين، بيروت، 1954، ص 56.

[22]- أحمد شلبي، تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1970 م، ج 1، ط 5، ص 227.

[23]- الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحقيق السعادتين، سلسلة الثقافة الإسلامية، العدد 28، 1380ﻫ/1961م، ص 48.

[24]- سورة هود: 61.

[25]- سورة الأعراف: 10.

[26]- سورة البقرة: 29.

[27]- سورة الجاثية: 13

[28]- سورة البقرة: 22.

[29]- سورة طـه: 53

[30]- سورة الملك:15.

[31]- الطيب برغوث، منهج النبي صلى الله عليه وسلم حماية الدعوة والمحافظة على منجزاتها، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1416هـ، 1996م، ص:59.ص 81.

[32]- الراغب الأصفهاني، تفضيل النشأتين، مرجع سابق، ص 48.

[33]- سورة الروم.

[34]- سورة الذاريات، 56.

[35]- سورة الحـج، 41.

[36]- سورة البقرة: 30

[37]- سورة القصص: 77

[38]- سورة الجمعة: 10.

[39]- بدر الدينالزركشي، المنثور في القواعد، تحقيق: محمد إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م، ج2، ص 35.

[40]- الأعراف:85.

[41]- البقرة: 205.

[42]- ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي، الدار العربية للكتاب، تونس، 1979م، ص: 41، 42·علال الفاسي: مقاصد الشريعة ومكارمها، مطبعة النجاح الجديدة، المغرب، الطبعة الرابعة، 1991م، ص:54، 64·

[43]- جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة وتحقيق: عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت،2001م، ص 18.