فقد الإدراك او الارادة :

ليس الجنون او العاهة في العقل في ذاته مانعا من المسؤولية الجنائية، وانما تمتنع المسؤولية بسبب ما يترتب على أي منهما من فقد للإدراك، أي الشعور، او فقد للاختيار أي الارادة او فقدهما معا. ذلك ان فقد الادراك او الاختيار او كليهما وقت العمل هو العلة في منع المسؤولية ورفعها مما يترتب عليه فقد الادراك او الاختيار وقت ارتكاب الفعل (الجريمة) بقي صاحبها مسئولا جنائيا رغم ذلك لعدم العلة في منع المسؤولية فعاهة الحمق والسفه، وهي كما هو معروف لا تؤدي الى فقد الادراك او الاختيار، لا تؤدي تبعا لذلك أيضاً الى المنع من المسؤولية الجنائية لأنها لا تحقق علته (1). وفقد الادراك او الاختيار إنما يقتضي الحرمان الكلي من احداهما كي ينتج اثره ويمنع المسؤولية أما اذا كان الحرمان جزئيا، بان احتفظ الجاني بقدر من الادراك او الاختيار يكفي لفهم أعماله وتوجيه ارادته على نحو ما فلا يمنع من المسؤولية غير انه يصح ان يكون عذرا او سببا لتخفيف العقوبة في حدود ما يبيحه القانون للقاضي (2).

___________________

1-انظر استئناف مصري 14 ديسمبر 1989 القضاء س6 ص76. كما قررت محكمة النقض المصرية انه (اذا ثبت ان المتهم مريض بمرض التدرن وفي حالة ارتباك ذهني خطير بسبب مرض أولاده، وإرهاقه بالعمل، فان مسؤوليته لا تمتنع طالما انه لم يكن فاقد الشعور او الاختيار وقت مقارفة الجرائم المسندة إليه (نقض مصري 23 يونيه 1958 مجموعة احكام النقض س9 ن176 ص698.

2-انظر الدكتور السعيد مصطفى السعيد، المرجع السابق ص433 جندي عبد الملك، الموسوعة الجنائية ج1 (أسباب الإباحة) ن 28. ويرى بعض الكتاب ان المراد بفقد الادراك او الاختيار هنا ليس هو الزوال الكلي والتلاشي التام، انما الانتقاص منها الى حد يجعلهما غير كافيين لاعتداد القانون بالارادة المتكونة منهما مما يعني انه من المتصور ان تمتنع المسؤولية على الرغم من بقاء قدر من الادراك والاختيار اذا كان هذا دون ما يتطلبه القانون. وتقدير ذلك من صميم عمل قاضي الموضوع وله الاستعانة بذوي الخبرة لتقدير ذلك. الدكتور محمود نجيب حسني المرجع السابق ن 632 ص626. وهذا ما لا نؤيده اذ نرى فيه مخالفة لصريح النص. انظر المادة 60 عقوبات عراقي.

فقد الادراك او الارادة بسبب السكر او التخدير لتناول مواد مسكرة او مخدرة :

تكلم قانون العقوبات العراقي عن حالة فقد الادراك او الارادة بسبب تناول مسكر او مخدر في المادتين (60/، 61) منه تقول : المادة 60 : (لا يسال جزائيا من كان وقت ارتكاب الجريمة فاقد الادراك او الارادة ….. بسبب كونه في حالة سكر او تخدير نتجت عن مواد مسكرة او مخدرة اعطيت له قسرا او على غير علم منه لها….. المادة 61 : (اذا كان فقد الادراك او الارادة ناتجا عن مواد مسكرة او مخدرة تناولها المجرم باختياره وعلمه عوقب على الجريمة التي وقعت ولو كانت ذات قصد خاص كما لو كانت وقعت منه بغير تخدير او سكر. فاذا كان قد تناول المسكر او المخدر عمدا بغية ارتكاب الجريمة التي وقعت منه عد ذلك ظرفا مشددا للعقوبة). من دراسة هاذين النصين يظهر لنا انه يشترط لتحقق مانع المسؤولية بسبب فقد الادراك او الارادة لتناول مسكر او مخدر ان تتحقق الشروط التالية :-

1.تناول المتهم مواد مسكرة او مخدرة اعطيت له قسرا او على غير علم منه بها

2.ان يقضي ذلك الى فقده الادراك او الارادة بسبب كونه في حالة سكر او تخدير.

3.معاصرة ذلك لارتكاب الفعل المكون للجريمة.

اولا – تناول المواد المسكرة أو المخدرة قسرا او عن غير علم:-

اشترط القانون لتحقق هذه الصور لامتناع المسؤولية الجنائية ان يتناول المتهم مواد مسكرة او مخدرة. ولم يتضمن القانون في صلبه تعريفا للمواد المسكرة او المخدرة انما ترك ذلك لاجتهاد الشراح وأحكام القضاء وحسنا فعل في مسلكه هذا للتطور العلمي السريع الذي قد لا يستطيع المشرع ان يلحقه او يواكبه بنصوصه عند وضع التعريف (1). ويقصد بالمواد المسكرة او المخدرة، تكل المواد التي يؤدي تعاطيها الى فقد الوعي للاسكار او التخدير الذي تحدثه. ولا عبرة بنوعها اذ يدخل في معناها المواد الكحولية كالخمور بانواعها، كما يدخل فيها المواد المخدرة كالحشيش والافيون والمورفين والهيروين وغيرها. كما لا عبرة بوسيلة اخذها، فقد تكون ما يؤخذ بالأكل او الشرب او الحقن او الشم وليس كل تناول لمواد مسكرة او مخدرة يمنع المسؤولية انما الذي يمنعها هو حالة ما اذا كان التناول هذا قد حصل قسرا او على غير علم من الجاني. مما يترتب عليه ان التناول الاختياري لها لا يحقق منع المسؤولية. ويراد بالتناول قسرا هو ان يتناول الشخص المادة المسكرة او المخدرة بالاكراه أي جبرا او ما في حكم الاكراه كضرورة العلاج، ذلك فيما اذا تناوله على شكل دواء موصف لعلته. ويراد بالتناول على غير علم، هو ان يتناول المسكر او المخدر وهو يجهل خواصه وبالتالي لا يعلم انه مسكر سيفقده وعيه. إما اذا تناول المتهم المسكر او المخدر باختيار وبمحض ارادته وعلمه به فانه يسال عن الجريمة الواقعة، ولو كانت ذات قصد خاص كما لو كانت قد وقعت منه بغير تخدير (2). اما اذا كان السكر او تناول المخدر مسبوقا بالاصرار على ارتكاب الجريمة وذلك بان كان الجاني قد تناول المسكر او المخدر للاقدام على ارتكاب الجريمة التي وقعت منه فان ذلك يحقق ظرفا مشددا للعقوبة (3). واثبات حالة السكر مسألة موضوعية خاضعة لتقدير محكمة الموضوع من غير رقابة عليها من قبل محكمة التمييز.

ثانيا – فقد الادراك او الارادة :-

ليس تناول المسكر او المخدر قسرا او على غير علم في ذاته ولوحده مانعا من المسؤولية الجنائية، وانما تمتنع المسؤولية بسبب ما يترتب على أي منهما من فقد للادراك او الاختيار أو كليهما معا. ذلك ان هذا هو العلة، في الحقيقة، في منع المسؤولية لولاها لما رفعت وامتنعت. مما يترتب عليه انه لو تناول الجاني المسكر او المخدر قهراً أو من دون علم وبقي محتفظا بكامل ادراكه واختياره، فلا تمتنع عنه المسؤولية بل يبقى مسئولا عن جيمع أعماله وتصرفاته. وفقد الادراك او الاختيار انما يقتضي الحرمان الكلي من احداهما كي ينتج اثره ويمنع المسؤولية. اما اذا كان الحرمان جزئيا فلا يمنع من المسؤولية ما دام يكفي لفهم أعماله وتوجيه ارادته على نحو ما غير انه يصح ان يكون سببا لتخفيف العقوبة (المادة 60 عقوبات فقرة أخيرة).

ثالثا – معاصرة فقد الادراك او الارادة لارتكاب الجريمة

ان فقد الجاني للإدراك او الارادة بسبب تناول المسكر او المخدر لا يكفي لتحقق امتناع المسؤولية عن الجريمة بل لا بد لذلك من ان يكون ارتكاب الجريمة قد وقع خلال الوقت الذي كان فيه الجاني فاقدا للادراك او الإرادة بسبب السكر او التخدير وهذا واضح في نص المادة 60 مارة الذكر حينما تقول : (لا يسال جنائيا من كان وقت ارتكاب الجريمة فاقد الادراك او الارادة….). وتطبيق هذا الشرط يقتضي تحديد وقت ارتكاب الجريمة ثم التحقق من حالة الجاني في هذا الوقت فان ظهر أنه كان فاقد الادراك او الاختيار فيه امتنعت مسؤولية وإلا فلا انطباق للنص هذا على حالته.

__________________________

1-ولقد سلك نفس هذا المسلك كافة قوانين العقوبات العربية – انظر الدكتور حسن صادق المرصفاوي ص201.

2-وفي ذلك تقول المادة 61 : (اذا كان فقد الادراك او الارادة ناتجا عن مواد مسكرة او مخدرة تناولها المجرم باختياره وعلمه عوقب على الجريمة التي وقعت ……… كما لو كانت وقعت منه بغير تخدير او سكر).

3-وفي ذلك تقول المادة 61 مارة الذكر : (……… فاذا كان قد تناول المسكر او المخدر عمدا بغية ارتكاب الجريمة التي وقعت منه عد ذلك ظرفا مشددا للعقوبة).

فقد الادراك او الارادة بسبب الجنون او عاهة في العقل :

كانت التشريعات القديمة تسلم بان حالة الجنون يتنافى معها قيام المسؤولية الجنائية، فقد عرف ذلك القانون الروماني ونادت به الشريعة الإسلامية. ولكن الأمر اختلف في القرون الوسطى، حيث اصبح الراي السائد، نتيجة الاوهام والخرافات التي كانت تسيطر على أفكار الناس آنذاك، والتي كانت تصور لهم الجنون بانه مس من الشيطان وان المجنون لذلك يعمل بوحي منه، اذ انه جن لكثرة ذنوبه، هو ان المجنون يسأل عما يرتكبه من جرائم كغيرة من الناس الاسوياء (1) وقد بقيت هذه النظرة الخرافية هي السائدة حتى اواخر القرن الثامن عشر حين بدأت طلائع النهضة العلمية، وبدأت مؤثراتها تعمل عملها فقوضت كل ما كان يمت الى النظرة الخرافية بصلة ومنها مسؤولية المجنون الجنائية حيث تبنى قانون العقوبات الفرنسي الصادر عام 1810 لأول مرة فكرة عدم مسؤولية المجنون ونص عليها في المادة 64 منه ثم أخذت هذه الفكرة تعم التشريعات الجنائية الحديثة حتى سادتها جميعا.

والواقع ان فكرة عدم مسئولية المجنون هي من ثمرات المدرسة التقليدية، تلك المدرسة التي نادت بوجوب قيام المسؤولية الجنائية على الادراك والاختيار وبالتالي فان فقد أي منهما يمنع من قيامها. وقد عارض هذه الفكرة أصحاب المدرسة الوضعية أي الجبريون، وحذروا من الاخطاء الناجمة عن الأخذ بها على إطلاق معللين ذلك بان المجنون وهو خطر على الجماعة وأمتها، بسبب عدم ادراكه، اذن ليس من المصلحة ان يترك طليقا بل لابد من اتخاذ اجراءات وقائية تجاهه لحماية الجماعة منه بل ولحماية هو نفسه. وقد ظهر راي وسط بين الرأيين نادى بعدم مسؤولية المجنون جنائية كما نادي في نفس الوقت باتخاذ الاجراءات الوقائية ضده كي تحمي الجماعة من شروره اذا ظهر ان لذلك موجبات وبذل كجاء هذا الراي الوسط جامعا لمحاسن الرأيين. وقد سلكت اغلب القوانين الجنائية الحديثة طريق الرأي الوسط هذا ومنها قانون العقوبات العراقي، حيث تبنى مبدأ عدم مساءلة المجنون جنائيا، وأجاز في الوقت نفسه للمحكمة اذا وجدت ان المجنون المجرم خطر على الأمن، ان تأمر بإيداعه مصحة الامراض العقلية لابعاد شره عن الناس ومعالجته عله يشفى. وفي ذلك تقول المادة (60) لا يسأل جزائيا من كان وقت ارتكاب الجريمة فاقد الادراك او الارادة لجنون او عاهة في العقل …..) من دراسة هذه المادة يظهر لنا انه يشترط لامتناع المسؤولية، في هذه الحالة، ان تتوافر الشروط التالية :-

1.اصابة المتهم بجنون او عاهة في العقل.

2.ان يفضي ذلك الى فقد المتهم للإدراك او الارادة.

3.معاصرة ذلك لارتكاب الجريمة.

___________________________________

1-انظر الدكتور عبد الوهاب حومد، شرح قانون الجزاء الكويتي القسم العام ص261 – بوزان المرجع السابق 319 – الدكتور محمد مصطفى القللي المسؤولية الجنائية ص387.

المؤلف : علي حسين خلف – سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .