يقوم هذا المذهب على اساس وضع القيود التي تحد من حرية القاضي في تكوين قناعته والخصوم في تقديم الأدلة مستهدفا منع التعسف وقاصدا توحيد الأحكام القضائية في القضايا المتشابهة ، واذا لم تتوفر الشروط التي يستلزمها المشرع، لا يمكن للقاضي ان يعتبر الحادثة محل النزاع ثابتة مهما توفر من الادلة الاخرى، وحتى لو كان القاضي يعرف الحقيقة فيها معرفة أكيدة (1). فيتميز هذا المذهب بالحد من سلطة القاضي في الدعوى والفصل فيها بتحديد طرق الاثبات، وتحديد قيمة الدليل حسبما نص عليه، فهذا المذهب يجعل دور القاضي في تسيير الدعوى واستجماع الادلة دورا سلبيا تقتصر مهمته على الحكم بما يرتبه القانون وعلى ما يقدمه الخصوم من أدلة قانونية بما يجعل وظيفة القاضي آلية ويمنعه من الحكم بالحقيقة الواقعية اذا كان ظهورها له من غير طرق الاثبات التي عينها قانون، مما يباعد كثيرا بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية (2). وبذلك فان هذا المذهب يقوم على اساس تقييد الاثبات بتحديد أدلة الاثبات والحالات التي يجوز فيها الاثبات وتحديد حجية ادلة الاثبات.

المطلب الأول : تحديد الاثبات :

في ظل هذا المذهب يتم تحديد ادلة الاثبات تحديدا دقيقا يتم على أساسها اثبات المصادر المختلفة للروابط القانونية، وبالتالي يمتنع على القاضي اعتماد ما يشاء من ادلة الاثبات، بل عليه ان يتقيد بها وفي النطاق الذي حدده القانون لكل منها (3). وقد حددت القوانين، المصري والسوري والاردني، ادلة الاثبات بما يأتي : 1- الكتابة.2- البينة (الشهادة). 3- القرائن. 4- الإقرار. 5- اليمين. 6- المعاينة والخبرة (4). وحدد قانون الاثبات العراقي أدلة الاثبات بما يأتي : 1- الدليل الكتابي. 2- الإقرار. 3- الاستجواب. 4- الشهادة. 5- القرائن وحجية الأحكام. 6-اليمين. 7- المعاينة. 8- الخبرة (5). وفي الفقه الاسلامي، فان جمهور الفقهاء يذهبون الى حصر الأدلة في طائفة معينة وهي الأدلة الواردة على لسان الشارع ولا يتعداها فيأخذ بالإقرار والشهادة واليمين والقرائن المنصوص عليها، بحيث اذا لم يدل المدعي بأية واحدة من هذه ضاع حقه (6) وذلك للأسباب الآتية : 1- ورود النصوص بالشهادة واليمين وبقية وسائل الاثبات فوجب الوقوف عندها، 2- اذا لم يتم تحديد أدلة الاثبات بطرق معينة، كانت أرواح الناس وأموالهم عرضة للتلف والضياع، لذلك وجد حصر الأدلة وعدم التوسع فيها، وان المصلحة الراجحة تقضي بتقييد أدلة الاثبات (7).

المطلب الثاني : تحديد حجية ادلة الاثبات :

يحدد المشرع، في ظل هذا المذهب القيمة الاثباتية لكل دليل من أدلة الاثبات ويضع تسلسلا لهذه الأدلة، مبتدأ من أقوى الأدلة الى اضعفها من حيث قوة الحجية في الاثبات، فالقانون يحدد الحالات التي تقبل فيها الشهادة والقرائن ويوجب الكتابة في حالات اخرى (8). ويقتصر دور القاضي على تطبيق شبه آني لما حدده المشرع لأدلة الاثبات من قوة في الاثبات، وليس بإمكانه ان يجعل لأي منها قيمة أكثر او اقل مما حدد لها، ولا ان يعدل عن دليل الى آخر، ولو اعتقد ان العدل في العدول (9)، فاذا حصل التعارض بين دليلين مختلفين في سلم الحجية كالكتابة والشهادة، فالقاضي ملزم بالأخذ بالكتابة، ولو اعتقد بصحة الشهادة، بالرغم من ان هذا قد يؤدي الى ان يحكم بعكس ما يحسه من ان حكمه هذا لا يطابق الحقيقة (10). ويستند تقييد حجية أدلة الاثبات الى عامين :

العامل الأول – تزعزع ثقة المشرع ببعض أدلة كالشهادة لصعوبة التحقق من صدقها، لذلك لا يجيز القانون الاثبات لشهادة الشهود الا في حدود معينة.

العامل الثاني – الحد من حرية القاضي في الاثبات، بهدف اسباغ الاستقرار على الاحكام التي قد تختلف وتتعارض لاعتمادها على التقدير الشخصي للقضاة، والذي ربما يختلف من قاض الى آخر وهذا ما يؤدي الى اضطراب سير العدالة وتزعزع ثقة المتعاملين (11). ويلاحظ ان هذا المذهب يجعل دور القاضي في الاثبات سلبيا ومن ثم يترتب على هذا الدور ما يأتي :-

1-التزام القاضي الحياد. فيقتصر دوره على تلقي ادلة الاثبات ثم يتولى تقديرها، مع مراعاة حدود حجية الاثبات التي قررها المشرع لهذه الادلة، فيعد القاضي اجنبيا عن القضية ويكتفي ببيان ما اذا كان الدليل جائز القبول قانونا او يجب رفضه متبعا في ذلك قواعد الاثبات الموضوعية والاجرائية، كما ليس له تغيير الموضوع او سبب الدعوى (12) ويترتب على ذلك، عدم امكانية القاضي الحكم بعلمه الشخصي وعدم امكانية استكمال الادلة لانه ليس من واجب القاضي البحث عن أدلة لم يتمسك بها الخصوم، ولا يجوز له أن يأمر من تلقاء نفسه باستيفاء الادلة كما لا يجوز له ان يسد النقص الذي تركه الخصم، فكما ان عدم وجود الدليل يحتم على القاضي رفض الدعوى، فكذلك حالة تقديم دليل غير كاف (13).

2-امكانية ابتعاد الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية، فالحقيقة القضائية تعد حقيقة نسبية لا يعتد بها الا بالنسبة لطرفي الخصومة، رغم ما أحاط المشروع الاثبات القضائي بشروط، يأمل معها ان يضمن ارفع نسبة من الصحة في اثبات الوقائع محل النزاع (14).فالقاضي عندما يعلن بان شيئاً ما قد ثبت لديه، فأنه يوضح فقط بأن هناك احتمالا كافيا للإقرار بوجود الحق (15). ومع ذلك فان الرجحان الذي يجب ان يتوافر لدى القاضي ينبغي ان يكون بمستوى من الرجحان الكافي الذي لا تكاد تذكر معه احتمالات مخالفة للحقيقة حتى لتعد هذه المخالفة خروجا عن المألوف (16). ولا شك ان تقييد دور القاضي في تقصي الحقيقة الواقعية يؤدي الى احتمال كبير بابتعاد الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية، وهذا ما يجعل دور القاضي دورا آليا، ويمنعه من الحكم بالحقيقة الواقعية اذا ظهرت له عن طريق آخر غير الطرق المحددة للاثبات، خاصة اذا احتاط منكرها بعدم اقامة الدليل، وبذلك يمكن للظالم من ظلمه (17). ومع ذلك فان هذا المذهب يؤدي الى سد الذريعة وتفادي هوى القاضي وتحكمه، فيمتنع التعسف واختلاف الاحكام في القضايا المتشابهة لاختلاف التقدير من قاض الى آخر، وكذلك يؤدي الى بعث الثقة في النفوس والاطمئنان ثم الاستقرار في المعاملات (18).

_________________________

1-النداوي. دور الحاكم المدني ص105.

2-المذكرة التفسيرية لقانون الاثبات في المواد المدنية السوداني لعام 1972.

3-النداوي. دور الحاكم المدني ص111.

4-انظر قانون الاثبات المصري رقم (25) لسنة 1968 والمادة الأولى من قانون البينات السوري لعام 1947 والمادة (72) من القانون المدني الاردني رقم 43 1976.

5-انظر المواد 18-146 من القانون رقم 107 لسنة 1979.

6-احمد ابراهيم. طرق القضاء في الشريعة الاسلامية. بغداد. مطبعة العاني 1984 ص 155. محمد الحبيب التجكاني. النظرية العامة للقضاء والاثبات في الشريعة الاسلامية مع مقارنات بالقانون الوضعي. بغداد. دار الشؤون الثقافية العامة. سنة الطبع بلا ص205.

7-أحمد ابراهيم. طرق الاثبات الشرعية. مجلة الحقوق. القاهرة، العدد الأول 1943 ص3-4.

8-تناغو. النظرة العامة فقرة 2 ص7-8. ادور عيد فقرة 15 ص26.

9-السنهوري. فقرة 23 ص29.

10-حسين المؤمن. نظرة الاثبات ج1 ص24.

11-الدكتور جلال العدوي. مبادئ الاثبات في المسائل المدنية والتجارية. الاسكندرية 1983 ص12.

12-النداوي. دور الحاكم المدني ص131.

13-حجازي. فقرة 5 ص37.

14-الصدة. فقرة 1 ص6. مرقس. أصول الاثبات فقرة 7 ص22.

15-الدكتور سعدون العامري. موجز نظرية الاثبات. مطبعة المعارف 1966 ص8.

16-العدو. ص9 – 10.

17-مرقس. الادلة الخطية واجراءاتها. فقرة 5 ص8.

18-النداوي. دور الحاكم المدني. ص175 – 176.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .