يرى هذا المذهب، ان الاثبات القضائي اقناع لعقل القاضي، والاقناع لا يمكن تقييده بقواعد قانونية بل تقبل لا جله الادلة والوسائل التي يستطيع الخصوم تقديمها، وللقاضي حرية تامة في تقدير قيمة كل دليل من أدلة الاثبات، وبذلك يصبح الاثبات امرا نفسانياً او منطقياً أكثر منه قانونيا (1). ويستند هذا المذهب الى اعتبارات من العدالة المطلقة بالدرجة الأولى. وبغية تطابق الحقيقة القضائية مع الحقيقة الواقعية (2). وكان هذا الاتجاه معروفا في القانون الروماني، حيث كان للخصوم الحق في تكوين اعتقاد القاضي بأية وسيلة يرونها تؤدي الى اقناعه، وللقاضي حرية تقدير اي دليل، وعند انتفاء الدليل او عدم كفايته يميل القاضي الى الحكم بحسب الظاهر، فمثلا في القضايا المتعلقة بالعقار يقضي لمصلحة واضع اليد، الا ان الاثبات تطور بعد ذلك حتى اصبح يجري في عهد الاجراءات غير العادية وفقا لمبدأ الاثبات القانوني (3). وأخذت الشريعة الاسلامية الى حد كبير، بهذا المذهب في الاثبات القانوني. وأخذت الشريعة الاسلامية الى حد كبير، بهذا المذهب في الاثبات، وكذلك القوانين الانكلوسكسونية والقانون الالماني والقانون السويسري وفي كثير من المسائل التجارية في بعض البلاد (4) ويؤخذ بهذا المذهب في المسائل الجزائية على نطاق واسع، ويقوم مذهب الاثبات الحر على مبدأين هما :

1.عدم تحديد أدلة الاثبات.

2.عدم تحديد الحجية لادلة الاثبات وندرسهما في مطلبين اثنين :

المطلب الأول – عدم تحديد أدلة الاثبات :

في ظل مذهب الاثبات الحر، لا يحدد القانون أدلة معينة للاثبات، فالاثبات يمكن ان يحصل باي دليل (5) فمن يقع عليه عبء الاثبات له ان يلجأ الى اي دليل من أدلة الاثبات لاثبات ما يدعيه، حتى اخطر هذه الأدلة وهي الشهادة، لان القاضي لا يكون متأكدا من ان الشاهد يقول الحقيقة، فيما يعلم، والقرينة هي محض استنتاج يستنبطه القاضي لمصلحة واقعة اخرى ولا يكون هذا الاستنتاج مؤكدا دائماً (6). فالمهم انه يشترط في الأدلة التي يلجأ إليها القاضي ان تؤدي الى اقناعه بصحة الواقعة اوالتصرف (7). وعندما لا يقيد القانون القاضي بأدلة اثبات معينة ويترك له استنباط الدليل من الوقائع المعروضة عليه، انما يشترط ان يكون هذا الدليل معقولا ولا يصطدم بقاعدة قانونية او مبدأ من المبادئ الاساسية في التشريع، فان كان الدليل غير معقولا فلا يعتمد عليه، ويعد الحكم الذي يصدر بناء عليه لا قيمة له لمخالفته للقانون (8). وهناك اتجاه في فقه الشريعة الاسلامية يؤيد عدم تحديد أدلة الاثبات فقد ورد في كتاب الطرق الحكمية للامام ابن قيم الجوزية : (فاذا ما ظهرت امارات العدل واسفر وجهة اي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه وتعالى اعلم واحكم وأعدل ان يخص طرق العدل واماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين امارة، فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها)(9).

المطلب الثاني – عدم تحديد حجية ادلة الاثبات :

في ظل مذهب الاثبات الحر، تعد جميع أدلة الاثبات مقبولة، وان اي تسلسل لا يظهر بينها من حيث الحجية، لذا فان اي دليل لا يلزم القاضي الذي يبقى حرا في ترجيح الدليل، فحجية الدليل يترك تقديرها للقاضي، لانه ليس لأي دليل من أدلة الاثبات في ذاته قوة قانونية تجعله يفرض نفسه على القاضي (10) ويلعب القاضي دورا ايجابيا في ظل هذا المذهب، وذلك لما يتمتع به من حرية في ادارة الدعوى وتقييم الادلة التي يتقدم بها الخصوم، وسلوك مختلف الطرق التي يراها ملائمة لاكتشاف الحقيقة، وقد يقوم بأجراء تحقيقات شخصية يجريها بعلم الخصوم او بدونه لاستقصاء الحقيقة وتكوين قناعته حول مزاعم الخصوم (11). فيكون للقاضي سلطة مطلقة في تحري الوقائع التي تعرض عليه، فيسمح له، اذا ما رفع إليه نزاع، ان يتولى تحقيقه بنفسه او ان يتحرى الحقيقة بالوسائل كافة، فيجاز له استدراج الخصوم واستعمال الحيل معهم وسؤال غيرهم ممن يعهد فيه الصدق والامانة ثم يقضي طبقا لعقيدته التي كونها من كل ذلك (12) فيكون للقاضي الحكم بعلمه الشخصي المتحصل من غير مجلس القضاء او من مجلس القضاء، ولكن في غير الدعوى المنظورة (13) ومن الجوانب الايجابية لمذهب الاثبات الحر، ان هدفه عدم تباعد الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية والى التطابق بينهما بما يحقق اكبر قسط من العدالة الحقيقية التي تتطلب تدخل القاضي في التحري عن الأدلة، ليستكمل ما قد يعتريها من نقص او قصور، حتى يصل الى الحقيقة (14). فالقاضي يقدم مساعدة فعالة في حماية الحقوق ويمنع من ان يضار الإنسان جراء جهله بالقانون او بسبب مستواه الثقافي او المالي او غير ذلك من الظروف، فمستلزمات العدالة ومقتضياتها تقتضي ان ينتصر في الخصومة الاحق لا الأقوى (15) وينتقد هذا المذهب، من ناحية، ان العدالة التي يمكن ان يؤدي إليها المذهب، هي عدالة ظاهرية أكثر منها حقيقية لان اطلاق الحرية للقاضي في الاثبات قد يؤدي الى الجور والتحكم، فتبتعد الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية أكثر من ابتعادها في مذهب الاثبات القانوني (16). فالحرية الواسعة الممنوحة للقاضي في ظل مذهب الاثبات الحر تتنافى مع الاستقرار الواجب للمعاملات، لان الخصوم لا يعرفون ماذا كان بوسعهم اقناع القاضي ام لا، لاختلاف القضاة في التقدير مما يزعزع الثقة والتعامل، وقد يكون مغرضا فيحكم بما يهوى دون رقيب من القانون وهو بشر غير معصوم من الخطأ ولا منزها عن الغرض (17). واخيرا فان هذا المذهب يقوم على نزاهة القاضي وعدالته ويكفي ان يكون من بين القضاة واحد غير منزه حتى يظهر خطر ذلك وقد قال الامام الشافعي (رحم الله) : (لولا قضاة السوء لقلت ان للحاكم ان يحكم بعلمه)(18). وحتى لو صلح القاضي، فان تطبيق هذا المذهب يتيح الفرصة للظالمين والمماطلين في المنازعة في الحق الثابت املا في الافادة من اختلاف القضاة في التقرير (19).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- الدكتور أدور عبد. قواعد الاثبات في القضايا المدنية والتجارية، بيروت، ج1 ص1961 ص27 هامش رقم (1).

2- السنهوري. الوسيط فقرة 10 ص27.

3- الدكتور فتحي والي. قانون القضاء المدني، بيروت 1970 فقرة 342 ص 710.

4- مرقس. أصول الاثبات فقرة 4 ص15.

5- خليل جريج. النظرية العامة للموجبات. بيروت 1960 ج3 ص4.

6- الدكتور عبدالحي حجازي. الاثبات في المواد المدنية، القاهرة 1957، فقرة 7 ص9 – 10. الناهي. فذلكة ص35.

7-السنهوري. الوسيط، فقرة 22 ص28.

8-النداوي. دور الحاكم المدني ص65 – 66.

9-ابن القيم. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، القاهرة 1961 ص15.

10-السنهوري. فقرة 22 ص 28. حجازي فقرة 8 ص10.

11-النداوي. دور الحاكم ص75.

12- محمد عبداللطيف. قانون الاثبات في المواد المدنية والتجارية. القاهرة 1970 ج1 فقرة 2 ص3. مرقس. اصول الاثبات فقرة 4 ص15.

13-النداوي. دور الحاكم ص88.

14-السنهوري. فقرة 22 ص28. حجازي. فقرة 9 – 10.

15-النداوي. دور الحاكم، ص99.

16-السنهوري. ص28. تناغو. النظرية العامة في الاثبات فقرة 3 ص7. الدكتور عبدالمنعم فرج الصدة. الاثبات في المواد المدنية، القاهرة 1953 فقرة 4 ص8.

17-أحمد نشأت. رسالة الاثبات، القاهرة 1972 فقرة 14 ص16. محمد عبداللطيف. فقرة 2 ص4.

18-الدكتور عبد الباسط جميعي وآخرون. الوسيط في شرح القانون المدني الأردني ج1 1978، الدار العربية للموسوعات ص731.

19-الدكتور سليمان مرقس. الأدلة الخطية واجراءاتها، القاهرة 1967 ص6.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .