سوف نتناول بالبحث هذه القاعدة في كلا الفقهين الاسلامي والقانوني.

اولا- الاصل بقاء ما كان على ما كان في الفقه الاسلامي:

اي اعتبار الحكم الثابت في زمن ما مستمراً في سائر الازمان حتى يظهر الدليل على خلافه، اي اذا ثبت كون الشيء في زمن على حال، فاذا لم يقم الدليل على تغير حاله يعتبر انه قد بقى بتلك الحال، لان البقاء والاستقرار هو الاصل والعدم طارئ ويطلق على هذا الاعتبار عند الفقهاء تسمية الاستصحاب اي اعتبار الحالة الثابتة في وقت ما مستمرة في سائر الاوقات حتى يثبت انقطاعها او تغيرها، وبتعبير اخر هو الحكم ببقاء امر محقق لم يتحقق عدمه(1). والاستصحاب هو الحكم بتحقق وثبوت شيء ما بناء على تحقق وثبوت ذلك الشيء في زمن من الازمان والاستصحاب حجة واقعة لا حجة مثبتة وهو على قسمين.

القسم الاول: استصحاب الماضي بالحال (المستقيم). وهو الحكم ببقاء الشيء على الحالة التي كان عليها بالماضي، ما لم يقم الدليل على خلافه او هو الحكم بكون الشيء ثابتاً مستقر الحال لتحقق ثبوته في الماضي من غير ان يقوم الدليل على عدم حصوله في الماضي(2). ومن امثلته ما لو ادعى المقترض رد القرض الى المقرض، وانكر المقرض ذلك، فان القول هنا قول المقرض مع يمينه، لان هذا الدين يعد باقيا في ذمة المقترض (الملتزم به) ما لم يدفعه بعدم صحة قول المقرض؛ وذلك لثبوت استحقاق القرض عليه؛ ولان الاصل في الاشياء الاستقرار والبقاء والعدم طارئ(3). وكذا المفقود وهو الغائب غيبة منقطعة بحيث لا يعلم حياته او موته يعتبر حياً في حق نفسه في الحال باستصحاب الزمن الماضي وبقول اخر ان حياته كانت قبل غيبته متيقنة معلومة فيعد حياً في الحال الى ان يثبت موته بالبرهان الصريح وتعكس هذه الرؤية الفقهية بان ماله لا يقسم بين ورثته، ولا يحق لزوجته ان تتزوج بزوج غيره الى ان تحقق وفاته(4) وكذا ما جاءت به المادة (1777) من مجلة الاحكام العدلية في حالة حصول اختلاف في كون المسيل الحاصل من دار احدهما الى دار الاخر في كونه قديما او حديثا وعجز كلا الخصمين عن اثبات صحة ادعائه فالفصل في الخصومة يكون بالنظر الى حال المسيل في وقت رفع الخصومة فاذا ثبت جريان الماء قبل الخصومة من ذلك المسيل يحكم ببقاءه على الحال التي وجد عليها(5).

القسم الثاني: استصحاب الحال بالماضي (المقلوب)؛ وهو اعتبار الحالة التي عليها الشيء في الزمن الحاضر هي التي كان عليها في الماضي ما لم يقم الدليل على خلافه(6). او هو الحكم بكون الشيء ثابتا مستقرا في زمن الماضي لتحقق ثبوته واستقراره في الحال من غير ان يستند في عدمه في الماضي بالبينة(7). مثال ذلك لو استأجر رجل طاحونة، وادعى بعد انتهاء عقد اجاره الطاحونة وطلب في دعواه امام مجلس القضاء تنزيل الاجرة عن المدة التي انقطع فيها الماء وصاحب الطاحونة ينفي عدم انقطاع الماء رغم ادعاء المستأجر، فالحكم يكون بالنظر الى الحال التي يكون فيها وضع الماء في الطاحونة فاذا كان جاريا غير منقطع وقت رفع الدعوى فيستصحب الحال بالماضي والقول للمؤجر مع يمينه وبالعكس لو كان وضع الماء مقطوعا فالقول للمستأجر مع يمينه(8). ايضا لو انفق الاب شيئا من مال ابنه الغائب لسد حاجاته، ثم حضر الولد وادعى امام القضاء ان اباه حين انفق من ماله كان موسراً وليس هنالك حاجة للانفاق من ماله ولا يستحق النفقة عليه وطلب تضمينه قيمة ما انفق، فانكر الاب انه كان موسراً وقت صرفه المال، ولم يكن كل منهما يستند في ادعائه الى بينة تدحض ادعاء الاخر. فيحكم في هذه الحالة بالنظر الى حال الوالد وقت رفع الدعوى فان كان موسراً فالقول لولده مع يمينه، وان كان معسرا فالقول له مع يمينه، وهذا هو الاستصحاب المقلوب او استصحاب الحال بالماضي(9). ايضا ما لو ثبت ان شخصا ملك شيئا بالميراث او البيع او بغير ذلك من طرق اكتساب الملكية، ثم حصل بعد ذلك نزاع في ملكيته في الوقت الحاضر، فان الحكم يكون ببقاء الشيء في يده استصحاباً للحال، حتى يثبت من يدعي عكس ذلك(10). لكن هذه القاعدة يرد عليها استثناء هام هو: الوديع اذا ادعى رد الوديعة الى صاحبها الشرعي يصدق بيمينه مع انه مقر بوجود الوديعة بيده في الماضي، وكان المفترض هو تحليف صاحب الوديعة بحكم الاستصحاب الا ان الوديع يدعي براءة ذمته من الضمان والاصل براءة الذمة، اما المودع فهو يدعي شغل ذمة الامين وذلك خلاف الاصل(11). ولهذه القاعدة تشابه مع قاعدة الاصل براءة الذمة، لكن الفرق بينهما يظهر في ان قاعدة الاصل براءة الذمة تنصرف الى حالة عدم انشغال الذمة فقط في حين هذه القاعدة تتطرق للحالتين حالة براءة الذمة وحالة انشغالها، فاي الحالتين امكن ثبوتها بالبينة يعمل بها ما لم يوجد ما يغيرها وهذه القاعدة تحمل معنى قاعدة : (ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه) نفسها. (12).

ثانيا- الاصل بقاء ما كان على ما كان في الفقه القانوني:

ان فقهاء القانون لم يتطرقوا لهذه القاعدة بشكل منفرد خاص، الا ان نصوص قواعد الاثبات توضح قبول هذه القاعدة وعدم مخالفتها واعتبر من الاساسيات التي تلقي عبء الاثبات على عاتق من يدعي ما يخالفها(13).

________________

1- د. مصطفى احمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، ط1، مطبعة الجامعة السورية، 1952م ، ص647؛ د. محي هلال السرحان، القواعد الفقهية و دورها في اثراء التشريعات الحديثة، مطبعة اركان، بغداد، 1986م ، ص37.

2- د. محمد فتح الله النشار، احكام و قواعد عبء الاثبات، دار الجامعة الجديدة للنشر، مصر، 2000،ص140؛ منير القاضي، ملتقى البحرين، مطبعة العاني بغداد، 1951، ص59؛ عبد اللطيف عبد الله عزيز البرزنجي، الاستصحاب، بحث منشور في مجلة كلية الامام الاعظم العدد (4) 1978م، مطبعة الارث بغداد، ص297.

3- غمر عيون البصائر شرح الاشباه و النظائر،(محمد بن محمد الحنفي الحموي) المتوفي سنة (1098هـ)، مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ- 1985م ، ج1، ص198؛ علي حيدر، شرح المجلة (درر الحكام)، ج1، ص21؛ د.احمد مصطفى الزرقا، المصدر السابق، ص647.

4- سليم رستم باز، شرح مجلة الاحكام العدلية، ج1، ص20.

5- علي حيدر، شرح مجلة الاحكام (درر الحكام)، ج1، ص21؛ منير القاضي، شرح مجلة الاحكام، ص59.

6- شرح مجلة الاقسام العدلية- سليم رستم باز، ط3، المطبعة الادبية، بيروت 1923، ج1، ص20؛ درر الحكام، شرح مجلة الاحكام العدلية، علي حيدر، مطبعة غزه، 1352هـ/1033م ، ج1، ص23؛ د. محمد فتح الله النشار، المصدر السابق، ص140.

7- منير القاضي، شرح مجلة الاحكام، ص59؛ عبد اللطيف عبد الله البرزنجي، الاستصحاب مجلة كلية الامام الاعظم ببغداد العدد (4) 398هـ – 1978م ، ص298.

8- م (1776) مجلة الاحكام العدلية؛ علي حيدر، شرح المجلة (درر الحكام)، ج1، ص24؛ منير القاضي، شرح المجلة، ص59؛ شرح مجلة الاحكام العدلية، محمد سعيد المحاسني، كتاب القواعد والبيوع، مطبعة الالترقي، دمشق، 1927، ص34.

9- سليم رستم باز، شرح مجلة الاحكام العدلية، ج1، ص20؛ علي حيدر، شرح المجلة، درر الحكام، ج1، ص24؛ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، القواعد والاصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة، مطبعة المدني العربية السعودية بالقاهرة، 1956، ص44.

10- د. محمد فتح الله النشار، المصدر السابق، ص146.

11- علي حيدر، شرح مجلة الاحكام (درر الحكام)، ج1، ص21؛ محمد سعيد المحاسني، شرح مجلة الاحكام، 35؛ منير القاضي، شرح مجلة الاحكام، ص60.

12- علي حيدر، شرح مجلة الاحكام (درر الحكام)، ج1، ص24.

13- (المقرر في قواعد الاثبات ان من يتمسك بالثابت اصلا لا يكلف باثباته، اما من يدعي خلاف الاصل فعليه هو عبء الاثبات ما يدعيه، ولما كان الطاعنون قد اقاموا دعواهم على سند من القول بان المطعون عليها تركت الاقامة مع والدتها بعين النزاع بعد زواجها بالاردن، فانكرت المطعون عليها ذلك تمسكا منها بالاستمرار في الاقامة في عين النزاع قبل الزواج وبعده، وعدم الاقامة حتى الان، فان المطعون عليها تكون بذلك قد تمسكت باثبات اصلا فلا تكلف باثباته، ولا يقدح في ذلك ابدائها الاستعداد لاثبات تلك الاقامة؛ لان الحكم المطعون فيه قد وجد في اوراق الدعوى ما يكفي لتكوين عقيدته لايكون – وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض، ملزما باجابة طلب الاحالة الى التحقيق) نقض مدني مصري في 23/12/78 طعن رقم 12س48ق؛ قرار محكمة التمييز العراق رقم 591/956 في 29/12/1956، عبد العزيز سهيل المحامي احكام القضاء العراقي، ج2، ص135؛ رمضان ابو السعود، دروس في مبادئ الالتزام، ط1، 1977، ص346؛ د.محمد فتح الله النشار احكام وقواعد عبء الاثبات، ص142.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .