دراسة وبحث قانوني هام عن سياسة التجريم في الشريعة الاسلامية والقانون المغربي

يكتسي القانون الجنائي جانبا واسعا من اهتمام الدارسين وفقهاء القانون الوضعي إذ يعتبر من أنجح الطرق التي تلجأ إليها المجتمعات الإنسانية منذ القدم لمكافحة الظاهرة الإجرامية التي تنال من وجودها وتقف حجر عثرة في طريق سموها وتقدمها، والقانون الجنائي داخل أي نظام قانوني يقوم على مقاصد وأهدافينشدتحقيقهاتتمثل أساسا في : تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، تحقيق العدالة موازاة مع حماية وضمان حقوق الأفراد والمجتمع. و تحقيقا لهذه الأهداف السامية تلجأ الدول إلى وضع استراتيجية عامة لبيان المبادئ التي تجب أن يقوم عليها التشريع الجنائي في مجال تجريم الأفعال أو العقاب عليها، بالإضافة إلى التدابير الاحترازية التي تساعد على التقليل من الجرائم، فيما يصطلح على تسميته بالسياسة الجنائية .

والتجريم باعتباره أحد أهم العناصر المكونة للسياسة الجنائية، ارتبط ظهوره بتكون الجماعة البشرية الأولى وتزايد أهمية المصالح المشتركة التي تستدعي حمايتها الحفاظ عليها من كل اعتداء قد يطالها من الداخل أو الخارج، وهو بذلك يعتبر من أقدم الوسائل التي تلجأ إليها التشريعات لحفظ كيان الجماعة وتحقيق الأمن والاستقرار لها، واعتبارا لذلك فإن التجريم يعد من المواضيع الحساسة التي تكتسي أهمية خاصة سواء في القانون الجنائي الوضعي أو القانون الجنائي الإسلامي، وقد كرست هذه هده الأهمية مختلف المدارس الفقهية التي عرفها القانون الوضعي .

ونظرا لخطورة التجريم باعتباره يشكل استثناء على الأصل العام لقواعد العدالة الجنائية التي تقتضي بأن الأصل في الأفعال الإباحة فإن كلا من التشريعين الجنائيين قيداه بمبدأ عام، هو مبدأ الشرعية الجنائية، والذي يقتضي بأن المشرع وحده الذي يتولى تحديد الجرائم والعقوبات المقررة لها، بيد أن الإشكالية التي تطرح هنا هي تعيين الجهة التي ينعقد لها هذا الاختصاص –

التجريم- وكذا الضوابط والمعايير التي ينبغي على هذه السلطة أن تتقيد بها حينما ترفع الشرعية على الأفعال وتجرمها، وإذا كان القانون الجنائي الإسلامي قد تجاوز مثل هذه الإشكالات، فإن القانون الجنائي المغربي لا يزال يتخبط ذات اليمين وذات الشمال في هكذا عوائق .

والتجريم كما أسلفنا من قبل يعد خروجا عن المبدأ العام الذي يقضي بأن الأصل في الأفعال الإباحة، وهو من هذا المنطلق يشكل تهديدا خطيرا ومباشرا على حقوق الأفراد وحرياتهم، إن تم استغلاله بشكل تعسفي وتسلطي من قبل الدولة.

ولمزيد من إلقاء الضوء على موضوع سياسة التجريم في كل من القانون الجنائي المغربي والقانون الجنائي الإسلامي، والإحاطة بمختلف عناصره، سنعمل على دراسته من خلال الإجابة على الأسئلة التالية:

-ماذا تعني السياسة التجريمية ؟ هل تبنت كل من السياسة التجريمية المغربية والسياسة التجريمية الإسلامية أهم المبادئ التي تقوم عليها سياسة التجريم ؟ وهل تعاملت معها بنفس الكيفية ؟

-وإذا كانت سياسة التجريم مقيدة بمبدأ الشرعية الجنائية فما هي السلطة المخولة بالحق في التجريم ؟ وما هي الضوابط التي ينبغي أن تستند عليها في ذلك ؟

-وإذا علمنا أن المجتمع المغربي هو مجتمع إسلامي وأن لكل سياسة أهداف تسعى إلى تحقيقها فإلى أي حد يمكن القول أن المصالح التي تشغل بال المشرع الجنائي المغربي هي نفس المصالح التي تسعى السياسة التجريمية الإسلامية حمايتها ؟ وبمعنى آخر إلى أي حد يمكن القول أن سياسة التجريم المغربية هي سياسة نابعة و منبثقة من واقع المجتمع المغربي وقناعة أفراده ؟

المبحث الأول:ماهية السياسة الجنائية وسياسة التجريم

سنحاول التطرق في هذا المبحث لمفهوم السياسة الجنائية وسياسة التجريم في كل من الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي .

المطلب الأول: مفهوم السياسة الجنائية

نتعرض في هذا المطلب لمفهوم السياسة الجنائية في كل من التشريع الجنائي الوضعي (الفقرة الأولى) و التشريع الجنائي الإسلامي (الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى : المقصود بالسياسة الجنائية في القانون الوضعي

حظيت السياسة الجنائية بقدر كبير من الاهتمام من قبل المهتمين بشؤون الجريمة والوقاية منها والتصدي لها، ويعتبر الفيلسوف الألماني فويرباخ أول من استعمل تعبير السياسة الجنائية وذلك في بداية القرن التاسع عشر وكان يقصد بها ” مجموع الوسائل التي يمكن اتخاذها في وقت معين في بلد ما من أجل مكافحة الإجرام فيه” ويبقى هذا التعريف غامضا لأنه لا يحدد نطاق هذه السياسة1

وقد ظهرت عدة اتجاهات فقهية في تعريف السياسة الجنائية وكانت هي الأخرى قاصرة لأنها لم تعطي السياسة الجنائية دورها الحقيقي في تطوير القانون الجنائي ومنها تعريف فون ليزت الذي عرفها بأنها “المجموعة المنظمة من المبادئ التي تعتمدها الدولة لتنظيم عملية محاربة الجريمة “2.

واعتبر دونديو دوفايير ” أن دور السياسة الجنائية يكمن في مواجهة الجريمة بالجزاء والقمع”3. وقد تبلورت فكرة السياسة الجنائية أكثر فأكثر ببروز مدرسة الدفاع الاجتماعي بزعامة مارك انسيل والذي عرفها بأنها “علم وفن غايتهم

___________________________

1- د. أحمد فتحي سرور : أصول السياسة الجنائية . ص11 ، دار النهظة العربية ، طبعة 1972 .

2- د. مصطفى العوجي : دروس في العلم الجنائي . ص123 ، مؤسسة نوفل بيروت طبعة 1980.

3- د. مصطفى العوجي : مرجع سابق . ص125 .

صياغة قواعد وضعية في ضوء معطيات العلوم الجنائية بغية التصدي للجريمة”1 .

والملاحظ أن أغلب التعريفات الحديثة لمفهوم السياسة الجنائية تسير في نفس هذا الاتجاه الأخير مركزة على الأساس العلمي، وهكذا نجد الدكتور عبد السلام بنحدو عرفها بأنها “تلك الوسائل الفنية التي يعتمد عليها المشرع عند تحديد سياسة التجريم والعقاب “2 وعرفها الدكتور أبو الفتوح بأنها ” الفلسفة التي تكمن وراء الخط الذي يرسمه المشرع عند تحديده الجرائم والعقوبات”.

الفقرة الثانية: المقصود بالسياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية

بعد أن بين ابن خلدون في مقدمته الشهيرة بأن الجريمة واقعة اجتماعية لابد من وجودها في كل مجتمع بشري، استطرد هذا المفكر المسلم العربي بعد ذلك ليقدم الحل الذي أرتاه لمواجهتها، حيث يرى بأنه لابد من وجود حاكم يزع الناس ويحكمهم و أنه لابد لهذا الحاكم من أداة ولابد لأداته من سياسة ينتظم بها أمر الناس.

يقول ابن خلدون :”…وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله، وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم” .3

فما المراد بهذه السياسة لتي ينبغي على الحاكم اتباعها في مواجهة حتمية الإجرام في المجتمع ؟

أولا: المراد بالسياسة الشرعية

ارتأينا قبل أن نتعرض لتعريف السياسة الجنائية الشرعية أن نحاول أولا

___________________________

1- د.مصطفى العوجي : دروس في العلم الجنائي . ص126 ، مؤسسة نوفل بيروت طبعة 1980

2- ا د. عبد السلام بن حدو : الوجيز في القانون الجنائي المغربي ، ص32 ، الطبعة الرابعة 2000.

3- عبد الرحمان بن خلدون : مقدمة بن خلدون ، ص156 ، شرح و تعليق د. عبد الواحد وفي دار الكتب العلمية طبعة 1996.

الإحاطة بالسياسة الشرعية بصفة عامة، لأن السياسة الجنائية جزء من السياسة الشرعية ومعرفة الأعم تفضي إلى معرفة الأخص، وفيما يلي نستقصي معنى السياسة الشرعية في الشريعة الإسلامية، وقد ذكر الفقهاء تعاريف كثيرة للسياسة الشرعية منها:

1-هو ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسو[i]ل صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي1 .

2-هي التوسعة علىولاة الأمر في أن يعملوا ما تقتضي به المصلحة ممالا يخالف أصول الدين وإن لم يقم عليه دليل2 .[ii]

3-يؤكد فقيه آخر بأن السياسة الشرعية هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنياوالآخرة، فهي من الأنبياء على العامة والخاصة في ظاهرهم وباطنهم والسياسةمن السلاطين والملوك على كل متم في ظاهره لا غير والسياسة من العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير3 .

4-وعرفها آخرون بأنها تغليظ جزاء جناية لها حكم شرعي حسما لمادة الفساد4.

تشترك التعاريف السابقة في وصف السياسة الشرعية بأنها الأحكام الشرعية وما يصدر عن الحاكم من تدبير وتصرف، لكنها اختلفت في بعض الجوانب، ومن ذلك التعريف الأخير الذي قصر السياسة الشرعية على بعض مشمولاتها حينما خصها بتشديد وتغليظ العقوبة، في حين أن هذه الأخيرة جزء من السياسة الجنائية التي بدورها جزء من السياسة الشرعية.

ولعل أهم تعريف وقفنا عليه هو ذاك الذي وضعه الدكتور محمد بوساق والذي جاء فيه بأن السياسة الشرعية هي العمل على جلب أقصى ما يمكن من المصالح للجماعة ودفع ما أمكن من المفاسد عنها بإقامة الشريعة تنفيذاواجتهاد

ـــــــــــــــ

1- ابن القيم الجوزية : طرق الحكمية في السياسة الشرعية ، ص10 ، الجزء الثالث ، تحقيق محمد حامد الفقي ، دار الكتب العلمية لبنان . بدون طبعة .

2- أحمد حصري : السياسة الجزائية في فقه العقوبات الإسلامي المقارن ، ص106 ، المجلد الأول ، در الجيل بيروت ، طبعة 1993 .

3- أحمد حصري : مرجع سابق ، ص 107 .

4- أحمد حصري : مرجع سايق ، ص 104 .

أو استفراغ لوسع وبذل الجهد للوصول إلى الأنظمة المناسبة زمانا ومكانا، وفي جميع المجالات الاقتصادية والسياسة والإدارية والثقافية والأخلاقية والاجتماعية، وفي حال الاختيار والاضطرار والسلم والحرب، وتصريف الشؤون اليومية بالتدبير والحكمة والتذرع بكافة الوسائل والطرق المادية والفكرية والحسية والمعنوية في ضوء نصوص الشريعة وروحها ومقاصدها”1

ثانيا: معنى السياسة الجنائية الشرعية

كانت الشريعة كما وصفها بحق ابن القيم الجوزية مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها .2والسياسة الشرعية من ثم لا تخرج عن تحقيق هدفين أساسيين أولهما : جلب المصالح أو بناء الكليات الخمس بإيجادها وإقامتها وتنميتها، وثانيهما : دفع المفاسد أو حماية البناء المقام للكليات الخمس بمنع زوالها والإخلال بها والاعتداء عليها.

والسياسة الجنائية باعتبارها جزءا من السياسة الشرعية، فإنها تعمل على ترسيخ هذين الهدفين في جانبهما الجنائي، وذلك بدفع المفاسد الناتجة عن الجريمة أو المتوقع حصولها منها علاوة على توفير الأمن للأمة وصيانة الحقوق والممتلكات، والعمل على تحقيق ذلك بكافة الطرق والوسائل كاستصدار الأنظمة المناسبة واتخاذ الإجراءات الملائمة سواء أكانت مادية أم فكرية حسية أم معنوية، دون الخروج عن أسس الشريعة وقيمها ومقاصدها وأهدافها، وهكذا تدخل ضمنها سياسة التجريم وتغليظ العقوبات أو تخفيفها والتعازير بصفة عامة،لكنها لا تكون مرادفة للتعزيز على اعتبار أن السياسة الجنائية تشمل

اتخاذ الإجراءات الوقائية والمنعية والتدابير الاحترازية وغيرها من الوسائل

____________________

1- د. محمد بن المدني بوساق : اتجاهات السياسة الجنائية المعاصرة و الشريعة الإسلامية ، ص 15 ، الرياض أكاديمية نايف للعلوم الأمنية 2002 .

2- ابن القيم الجوزية : أعلام الموقعين عن رب العالمين ، ص 3 ، المجلد الثالث دار الفكر بيروت الطبعة الثانية 1977 .

التي تمنع الاعتداء والإخلال بالأمن وانتهاك الحرمات ونهب الأموال وسفك الدماء وغيره سواء اتصل ذلك بالجماعة أو بالأفراد.

على ضوء ما تقدم، فإن التعريف المختار للسياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية هو : “العمل على درء المفاسد الواقعة أو المتوقعة عن الفرد والمجتمع بإقامة أحكام الحدود[iii]والقصاص وغيرها، والتذرع لتحقيق الأمن

بكافة الوسائل والطرق الممكنة فكرية كانت أم مادية حسية أو معنوية في ضوء مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها وروحها”1.2

المطلب الثاني: مفهوم سياسة التجريم

نتعرض في هذا المطلب إلى إبراز مفهوم سياسة التجريم في كل من القانون الوضعي (فقرة الأولى) والقانون الجنائي الإسلامي (الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى : مفهوم سياسة التجريم في القانون الوضعي

تتضمن سياسة التجريم بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية العقابية ومنع إلحاق الضرر بها بإهدارها وتدميرها كليا أو جزئيا والتهديد بانتهاكها لأن الأضرار الجنائية ما هي إلا نشاط مخل بالحياة الاجتماعية والذي يلحق المصالح المحمية يحصيها المشرع ويبينها في نصوص تلحقها بالأفعال المتضمنة بالتجريم كما تشمل سياسة التجريم بيان العقوبات والتدابير المناسبة لكل جريمة حسب نتائج العلم الحديث وكل ذلك ضمن نصوص القانون الجنائي الذي يحدد النتائج الضارة التي تستوجب التجريم ومقابلتها بالجزاء الملائم تحقيقا وتأكيدا للمبدأ المشهور ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ” وعليه فلا يعد

كل ضرر اجتماعي ضررا جنائيا لأن الأضرار الجنائية محصورة والاجتماعية كثيرة وغير محصورة3.

_______________________

1- د. محمد بن المدني بوساق : مرجع سابق ، ص 16 .

2- وقفنا على تعارف أخرى للسياسة الجنائية الشرعية منها تعريف الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي : ” السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية هي عبارة عن نظرية عامة ، شاملة تحكم نظام الحياة في المجتمع ، و تعبر عن مصالحه الرئيسية و تنبني على مجموع المبادئ التي يقوم على دعائمها هدا المجتمع ، منظمة قواعد المسؤولية و الجزاء فيه على أن يتولى هدا المجتمع حاكم صالح تكون وظيفته الأخذ بهده المبادئ و الحفاظ على أسسها “.

3- د. محمد بن المدني بوساق : مرجع سابق ، ص 50 .

وتتعدد المصالح الجديرة بالحماية الجنائية وفقا لظروف واحتياجات كل مجتمع وتتأثر بتقاليده ونظمه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعليه يعتبر التجريم هو أقصى مراتب الحماية التي يضفيها التشريع على نوع معين من المصالح التي تهم المجتمع.

ولما كانت المجتمعات بنظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتفاوت فيما بينها في تحديد هذه المصالح فإنه ولابد تبعا لذلك من اختلاف سياسة التجريم فيمابينها1.

وإذا كانت القيم والمصالح ذات الأهمية القصوى في المجتمع تحظى بحضر انتهاكها والتهديد به تحت طائلة العقاب فإن القيم والمصالح الأقل أهمية لا تعرى من الحماية بإطلاق، وإنما تترك في العادة للقانون المدني أو القانون الإداري أو للمربين أو للوعاظ والجمعيات الخاصة والنقابات للمحافظة عليها.

الفقرة الثانية : مفهوم سياسة التجريم في التشريع الجنائي الإسلامي

يقوم مفهوم التجريم في الشريعة الإسلامية على إضفاء الحماية الجنائية على مجموعة من المصالح والقيم والمبادئ التي تعمل الشريعة السمحة على حفظها باعتبار أهميتها في حفظ كيان المجتمع، فالشريعة الإسلامية تعتبر الأخلاق الفاضلة أولى الدعائم التي يقوم عليها المجتمع، ولهذا فهي تحرص على حماية هذه الأخلاق وتتشدد في هذه الحماية بحيث تكاد تعاقب على كل الأفعال التي تمس الأخلاق،2 والعلة في اهتمام الشريعة بالأخلاق على هذا الوجه، أن الشريعة الإسلامية تقوم على الدين الذي يأمر بمحاسن الأخلاق ويحث على الفضائل ويهدف إلى تكوين الجماعة الصالحة .

فالنظام الجنائي الإسلامي جزء من الشريعة الإسلامية التي تقوم على أساس الدين، والدين بما له من قدسية وحرمة يكفل للنظام الجنائي الإسلامي قوة

_____________

1- د. أحمد فتحي سرور : مرجع سابق ، ص 18 و 19 .

2- عبد القادر عودة : التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقوانين الوضعية ، ص 69 الجزء الأول مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة العاشرة .

وفاعلية لارتباطه بعقيدة المسلم ووجدانه الديني،حيث لا يخفى أن تكوين الفرد الصالح الذي يكون في مجموع تصرفاته نزاعا إلى الخير عزوفا عن الشر من أهم مقاصد الإسلام، وهو ما جعل المشرع الإسلامي في تجريمه للعديد من التصرفات والأفعال يهتم بالجانب الديني والعقائدي .

إلى جانب ذلك ، إن النظام التجريمي في الشريعة الإسلامية ينحو في تجريمه لبعض السلوكات والأفعال إلى حماية مصالح الأفراد في مختلف تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية، فالمقاصد الرئيسية للشريعة الإسلامية تشتمل على مصالح العباد، فما من أمر شرعه الإسلام بالكتاب أو السنة إلا كانت فيه مصلحة حقيقية.

وحاصل القول أن الفقهاء الشريعة قد جمعوا مختلف هذه المصالح التي عمل المشرع الإسلامي على حفظها وحمايتها في أصول خمسة يأتي في مقدمتها حفظ الدين باعتباره المقوم الأساسي لكيان المجتمع الإسلامي، لذلك نجده جرم بعض السلوكات التي تطال هذا المقوم منها جريمة الردة وتشدد في العقاب عليها.ثم نجد حفظ النفس، وهكذا جرم كل فعل اعتداء عليها ويأتي حفظ العقل في المرتبة الثالثة (تجريم الخمر والمخدرات والمسكرات…) ويحتل حفظ المال المرتبة الرابعةيليه حفظ النسل (تجريم القذف للمحصنات…).

المبحث الثاني: الأساس النظري لسياسة التجريم في القانون الجنائي المغربي والشريعة الإسلامية

تنبني سياسة التجريم على مجموعة من المبادئ والأسس النظرية والفلسفية التي تضع النموذج العام الذي تعتمده التشريعات الجنائية في تجريم أفعال وسلوكات الأفراد والجماعات. وقد عرفت هذه الأفكار والنظريات تطورات متلاحقة منذ ظهور القانون الجنائي مع المجتمعات القديمة التي كانت وراء انبعاث فكر جنائي جديد تمثل في بروز

مجموعة من المدارس الفقهية (المطلب الأول) . وبالمقابل فإن فلسفة التجريم في الشريعة الإسلامية ارتبطت أساسا بتحديد المسؤولية الجنائية للأفراد، وهو ما أعطاها صبغة متميزة عن غيرها من التشريعات الجنائية الوضعية (المطلب الثاني)

المطلب الأول : مراحل تطور سياسة التجريم في القوانين الوضعية

تتأثر قواعد التجريم بوصفها قواعد اجتماعية، بالمتغيرات الاجتماعية التي تعكس ما ينشأ في المجتمع من تحول في القيم الأخلاقية والسياسية والثقافية… ، وإذا ما استعرضنا التاريخ العام لسياسة التجريم نجده مر بمراحل رئيسية ثلاث : مرحلة الأسرة والعشيرة قبل تكون الجماعة السياسية، ثم مرحلة قيام الدولة الحديثة، وأخيرا مرحلة البحث العلمي والدراسة الفلسفية .

الفقرة الأولى : التجريم في المجتمعات القديمة

1-مجتمع الالتقاط

ارتبط مفهوم التجريم في هذه المرحلة بالحاجة إلى الطعام، فظهرت جرائم الاعتداء على الأشخاص، أما جرائم الأموال والجرائم الأخرى فلم تكن موجودة لكون الملكية سواء الخاصة أو الجماعية لم يعطى لها أي أهمية.وفي غياب قانون مكتوب اعتمدت المجتمعات البدائية على وسائل غيبية لحل مشاكلها، ومع مرور الوقت تركزت لدى الإنسان في تلك الفترة جملة من القواعد التي كان عليه احترامها، وإلا تعرض لجزاء من طرف قوى غيبية، فالمخالف لهذه القواعد كان يذهب به الوهم إلى أن الجزاء الخفي قريب الحلول به فينتابه الخوف الشديد الذي يؤدي إلى مرضه وموته، وقد سمي هذا النوع من التجريم ” بالتابو”.

2-مجتمع الصيد

في هذه المرحلة بدأ الإنسان ينظم نفسه في عشائر تحترف الصيد والعمل بالأرض، فتولدت الحاجة إلى حماية رجالها من الاعتداء عليهم، وإلى حماية أرضها من الاغتصاب1وذلك في صورة رد فعل جماعي تمثل في الانتقام في مرحلة أولى ليتطور بع ذلك إلى جرائم القصاص .

ولما تطور مجتمع الصيد إلى الرعي بدأت أهمية العامل الاقتصادي الناتج عن تملك المواشي والأبقار، وحينها ظهرت أهمية جرائم الأموال، فتزايدت الحاجة إلى تجريم كل اعتداء عليها.

3-مجتمع الزراعة

في هذه الفترة نشأت الملكية الخاصة، وظهر مفهوم الأسرة التي أضحت تملك قطعة أرضية تستغلها لإشباع حاجاتها،2 وهكذا فقد أدى ظهور الملكية

إلى انقسام المجتمع لطبقات اجتماعية، الشيء الذي أدى إلى ارتفاع جرائم الاعتداء على الأموال، وفي المراحل الأولى لمجتمع الزراعة كانت سلطة التجريم والعقاب كلها بيد الأب، فهو السيد والقاضي يأمر وينهى ويعاقب من يخالفه .

4-الدولة الدينية3

لما ظهر نظام الدولة الدينية ظهرت أهمية رجال الدين في مجال التجريم، مما نتج عنه تعاظم الأهمية الجنائية لجرائم انتهاك الأديان وعلى وجه الخصوص جرائم الإلحاد والسحر وانتهاك المقدسات والتي أضحت أشنع الجرائم وأبشعها4.

وفي عصر ملوك الحق الإلاهي تضخمت جرائم الاعتداء على الملك حفاظا على شخصه وملكه وسلطته، هذا إلى جانب ما نالته جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال من أهمية خاصة .

_____________

1- د. المهدي السرسار : الثوابت و المتغيرات الأساسية في تطور المؤسسات و الوقائع الاجتماعية ، ص 15 ، مطبعة سبارطيل 2001/2002.

2- د. المهدي السرسار : مرجع سابق ، ص 20 و ما بعدها .

3- لن نتعرض في هده المرحلة من الدولة الدينية للرسالات السماوية الثلات ، و على وجه التعيين الشريعة الإسلامية ، على أننا سنقف على دلك في مواضع أخرى من هدا البحث و خاصة في فصله الثاني .

4- أحمد الخمليشي : شرح القانون الجنائي العام ، ص 18 و ما بعدها ، مكتبة المعارف الطبعة الأولى 1985 .

الفقرة الثانية : التجريم في المجتمعات الحديثة

كان التجريم في المجتمعات القديمة وخاصة مع الدولة الدينية يتميز بالعشوائية وتحكم الأهواء في تجريم أفعال وتصرفات الأفراد، إضافة إلى غياب تقنين واضح وما كان يترتب عن ذلك من جهل المخاطبين بمقتضيات النص الجنائي المسلط عليهم .

لكن بعد التطورات الفكرية والعلمية والاقتصادية …التي عرفتها أوربا، انقلبت هذه الوضعية رأسا على عقب، وانعكس ذلك على التشريعات الحديثة التي أصبح تحرير مشاريعها من اختصاص ” اللجان الفنية ” وبذلك ملك الفقه كما يقول الأستاذ أحمد الخمليشي التوجيه العام لسياسة التجريم والعقاب،1 وكان من أثر ذلك أن استولت الدولة بصفة نهائية على سلطتي التجريم والعقاب

وتقرر المبدأ الأساسي الشهير لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص سابق على يد المدرسة التقليدية الأولى .

الفقرة الثالثة : أهم المدارس الفقهية المنظرة لسياسة التجريم

استحوذت دراسة السياسة الجنائية بصفة عامة وسياسة التجريم بصفة خاصة، منذ منتصف القرن 18م باهتمام المفكرين وفقهاء القانون الوضعي، فيما عرف بمرحلة الدراسات الفلسفية أو مرحلة الدراسات العقلية والعلمية للقانون الجنائي الحديث، وقد شكلت هذه المرحلة بحق قفزة نوعية في الفكر الجنائي الحديث، وثورة بيضاء في مواجهة النظم التجريمية التقليدية وتفسير الظاهرة الإجرامية، وهو ما تم تكريسه على صعيد مختلف المدارس الفقهية بدءا بالمدرسة التقليدية الأولى ومرورا بالمدرسة التقليدية الحديثة، فالمدرسة الوضعية وانتهاء بمدرسة الدفاع الاجتماعي .

1- أحمد الخمليشي : مرجع سابق ، ص 23 .

أولا : المدرسة التقليدية الأولى [1]

يطلق عليها كذل المدرسة الكلاسيكية، من أهم روادها نذكر الإيطالي بيكارياbeccaria

(1794-1738) والإنجليزي بنتامbentham (1832-1779) والألماني فويرباخfuerbaach (1833-1775). وقد قامت هذه المدرسة على انتقاد النظم الجنائية القائمة آنذاك على استبداد الحكام وتعسف القضاة خصوصا في الجرائم الدينية والسياسة، نظرا لقلة النصوص الجنائية من جهة وجهل العامة المخاطبين بها بالموجود منها من جهة أخرى .

وقد شكلت هذه المرتكزات البناء الفكري والنظري عند أقطاب المدرسة التقليدية في ميدان تجريم أفعال وتصرفات الأفراد وحق الدولة ودورها في هذا الباب . وتتلخص فلسفة المدرسة التقليدية في مجال التجريم بتأكيدها على أن إضفاء الصفة الجرمية على أفعال وتصرفات الإنسان يمثل مساسا خطيرا بالحريات والحقوق الطبيعية والمكتسبة التي يتمتع بها الأفراد .وتفاديا لأي تعسف أو تحكم فإنه يتوجب على المشرع أن يبين في نصوص تشريعية مكتوبة الأفعال التي يجرمها،ليتبصرها الأشخاص ويكونوا على بينة منها حتى إذا ما اقترفوها صاروا مذنبين يحق عليهم العقاب، وبذلك أرست المدرسة التقليدية على يد مؤسسيها بيكاريا مبدأ الشرعية الجنائية القاضي ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص سابق “1-2 في حين، يرى بنتام بأن معيار التجريم الذي يجب أن يتقيد به كل مشرع عند وضعه لسياسة التجريم، هو تحقيق ما يعرف ” بالمصلحة أو المنفعة العامة “، فالدولة وقد آل إليها حق التجريم بمقتضى العقد الاجتماعي الذي أقر لها بموجبه الأفراد بهذا الحق، يجب عليها أن تتمثل مصلحة المجتمع والتي تشكل أساس هذا الحق وألا تتجاوزها عند وضع النصوص والقواعد الجنائية، بحيث يكون مناط التجريم هو الضرر الذي يحدثه الفعل بالمجتمع ولا يجوز بالتالي أن يتناول التجريم مجرد النوايا أو المعتقدات .

ثانيا : المدرسة التقليدية الجديدة

تزخر هذه المدرسة بأسماء لامعة من العلماء أمثال :روسيrossi، وكارسونgarçon، وكاروgarraud، وكوزوgozot، وكراراgarrara .

وقد ارتكزت المدرسة النيوكلاسيكية على نظرية العدالة للفيلسوف الألماني كانتkant ، واتخذتها أساسا لأفكارها ونظرياتها في التجريم والعقاب، وتقوم فلسفة التجريم عند هذه المدرسة على ضوء نظرية مفكرها “كانت” على منظومة من المبادئ ولأسس النظرية نجملها فيما يلي :

أ- فيما يتعلق بحق الدولة في التجريم :

فإننا نجد “كانت” يرفض بشدة تبرير سلطة الدولة في التجريم بناء على نظرية العقد الاجتماعي1 التي أخذت بها المدرسة التقليدية الأولى والتي ذهبت إلى القول بأن الأفراد قد تنازلوا للدولة عن هذا الحق (حق التجريم) مقابل شراء أمنهم وطمأنينتهم، واقتصر “كانت” على التأكيد بأن الحياة داخل المجتمع وفقا لنظام من القوانين العامة يخضع له الجميع هي التي تكفل حماية حقوق ومصالح الأفراد .

ب-فيما يتعلق بمعيار التجريم :

فمن الواضح بأن تأثير نظرية العدالة المطلقة التي قال بها “كانت” أدى إلى تغيير معيار التجريم، فبعد أن كان قاصرا على تحقيق المصلحة الاجتماعية في المدرسة الكلاسيكية امتد أيضا ليشمل فكرة العدالة، وقد عبر “كانت” عن ذلك بمبدئه الشهير القاضي بأن التجريم يجب أن يكون لا أكثر مما هو عادل ول أكثرا مما هو نافع ،2 وهو ما يترتب عنه أن المشرع بامتلاكه للسلطة التجريمية يجب عليه ألا يتجاوز عند تجريمه لأفعال وتصرفات الأشخاص ما

________________

1- أحمد فتحي سرور مرجع سابق ، ص 47 .

2- د. عبد السلام بنحدو : مرجع سابق ص 66 .

تقتضيه المصلحة سواء العامة أو الخاصة، بحيث يكون ملزما دائما بالعمل على التوفيق بين المصالح الفردية من جهة والمصالح الجماعية من جهة ثانية، كما

أنه يتوجب على المشرع الجنائي أيضا ألا يتجاوز ما تقتضيه العدالة، وهو الشرط الجوهري الذي يضمن للأفراد حمايتهم من أي شطط أو تعسف من قبل السلطة صاحبة الحق في التجريم، فلا يتسنى لها إذ ذاك التلويح بعصى التجريم في وجوه الأفراد كلما شاءت ذلك . وهكذا فإنه من الواضح بأن سياسة التجريم عند المدرسة التقليدية الحديثة تنبني على معيارين أساسين لابد من تحقيقهما عند ممارسة الدولة لحقها في التجريم هما : معيار المصلحة من جهة، معيار العدالة من جهة ثانية .

ثالثا: المدرسة الوضعية أو الواقعية

نشأت هذه المدرسة على يد ثلاث فقهاء إيطاليين هم لومبروزرlombroso (1836-1909) وكان أستاذا للطب الشرعي وهو صاحب كتاب ” الإنسان المجرم ” وفيريferri (1856-1929) وكان أستاذا للقانون الجنائي وهو صاحب كتاب ” الأفاق الجديدة للعدالة الجنائية ” الذي نشر فيما بعد تحت عنوان ” السوسيولوجية الجنائية ” وأخيرا كاروفالوcarrofalo الذي كان قاضيا ونشر كتابه في علم الإجرام سنة 1885.

وقد استندت المدرسة الوضعية على المنهج العلمي في تنظيرها للسياسة الجنائية الوضعية، ففسرت الجريمة على ضوءه، واستعانت به في تحديد رد الفعل ضد الجريمة والتدابير المانعة لها، ومن خلال هذا التفسير العلمي للظاهرة الإجرامية نشأ لأول مرة علم الإجرام، وكانت نتائج هذا العلم هي المصدر الذي تحددت على أساسه السياسة الجنائية . وهكذا فإن سياسة التجريم باعتبارها عنصرا من عناصر السياسة الجنائية- تنبني عند المدرسة الوضعية على إعطاء الأولوية لحماية المجتمع والمصالح المرتبطة به وجعلها فوق جميع الاعتبارات والمصالح الأخرى، ولتحقيق ذلك فإنه يجب على المشرع التوسع في تجريم الأفعال التي تهدد بالخطر مصلحة المجتمع دون انتظار وقوع الضرر.

فالمشرع عليه أن يكون بالتالي نشيطا وفعالا في تجريم أفعال وتصرفات الأفراد التي تمس كيان ومصالح الجماعة ولا يكتفي بانتظار وقوع الخطر وتحقق الضرر ليقوم بهذه المهام.

ولعل أهم ما جاءت به المدرسة الوضعية، فيما يتعلق بالسياسة التجريمية وهو تقسيم الفقيه كاروفالو للجرائم “جرائم طبيعية” و”جرائم مصطنعة”1.

فالجريمة الطبيعية هي كل سلوك غير أخلاقي يكون منافيا لمشاعر العدل والخير والاستقامة في المجتمع، كالقتل والسرقة وهتك الأعراض، وهذا النوع من الجرائم يتميز بتوافق جميع المجتمعات على تجريمه منذ أولى التشريعات التي عرفها الإنسان2.

أما الجريمة المصطنعة أو الاعتبارية : فهي التي تكون من صنع ووضع المشرع وتختلف من مجتمع إلى آخر حسب الظروف الحضارية والتاريخية لكل بلد، ويتيح هذا النوع من الجرائم للمشرع بسط سلطته التجريمية على كل فعل قد يرى في حدوثه مساسا بالمصالح العامة أو الخاصة التي يتولى حمايتها بالنصوص والقواعد الجنائية، وعليه فإنه يتوجب على المشرع –كما سبق –أن يكون نشيطا وفعالا وألا يتردد في إضفاء الصفة الجرمية على مثل هذه الأفعال الضارة والخطيرة حماية لمصالح المجتمع والأفراد.

رابعا: مدرسة الدفاع الاجتماعي

ظهرت مدرسة الدفاع الاجتماعي كآخر مرحلة في تطور الفكر الجنائي الحديث، وهي تعتبر بحق الثورة الثالثة في مسيرة هذا الأخير. وتضم هذه المدرسة اتجاهان رئيسيان : الأول وتمثله مدرسة جنوا للدفاع الاجتماعي التي

1- د . عبد السلام بنحدو : مبادئ علم الإجرام ص 101 المطبعة و الوراقة الوطنية ، الطبعة الثانية 1999 .

2- من هده التشريعات مثلا نجد القوانين الفرعونية القديمو ، قانون حامورابي ، قانون الألواح الإثنى عشر

تطرفت في مبادئها فانحسرت، أما الاتجاه الثاني فجسدته مدرسة باريس للدفاع

الاجتماعي التي دافعت عن القانون الجنائي، وأعادت للشرعية الجنائية مكانتها القانونية المعاصرة .

1-مدرسة جنوا للدفاع الاجتماعي

أسس هذه المدرسة المحامي الإيطالي الشهير كراماتيكا gramaticaفي الأربعينيات، وقدم نظرياتها في كتابه ” مبادئ الدفاع الاجتماعي” وقد عرض كراماتيكا تصورا جديدا للجريمة، حيث اعتبرها عبارة عن حالة نفسية وشخصية لدى بعض الأشخاص نتيجة لما سماه بالاضطراب أو الخلل الاجتماعي، المتولد عن عدم قدرة المجتمع على توفير الظروف والوسائل التي تجعل سلوك الأفراد متلائما مع التعايش الاجتماعي والطبيعي، فالمجرم إذن لا يعدو أن يكون إ[iv]نسانا لا اجتماعيا، ولذلك يدعو كراماتيكا إلى جعل المجتمع وليس الجريمة أو المجرم محور النظام القانوني، ويمكن تجميع أفكار كراماتيكا فيما يتعلق بالسياسة التجريمية للدول فيما يلي :

أ‌- نادى كراماتيكا بإبدال قانون العقوبات1المرتكز على معايير موضوعية أساسها : الفعل، الجريمة، المجرم، الضرر…بطريقة جديدة لمكافحة الجريمة تكون أكثر واقعية وبعيدة عن النظريات التشريعية التي لم تستطع تفادي الإجرام .
ب‌-نفي الصفة الجرمية عن الفعل الذي يخرق به الإنسان النظام الاجتماعي، ويعتبره عملا اجتماعيا يوجب معاملة تختلف عن أحكام القانون الجنائي المعروفة .

__________________

1- د. حسن صادق المرصفاوي : الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة و وضعه في المجتمع العربي ، ص 45 المجلة العربية للدفاع الاجتماعي العدد : 18 مطبعة النجاح الجديدة 1981 .

ت‌-يقترح كراماتيكا تصحيح مساوئ القانون الجنائي بمقوماته وأدواته الحالية وذلك بربطها بمفهوم ” الدفاع الاجتماعي ” ويرى ضرورة استبدال مصطلحات مثل قانون جنائي، جريمة، مجرم، بأدوات ومصطلحات مماثلة هي : قانون الدفاع الاجتماعي، الفعل الاجتماعي، الفرد الاجتماعي .
من هذه النظرة المتطرفة لكرماتيكا ومحاولته القضاء على القانون الجنائي، وكل أدواته المعروفة من مدرسته، لم يكتب لأفكاره التطبيق ولا الذيوع بل كانت سببا لظهور التيار الاجتماعي الحديث .

2-مدرسة باريس للدفاع الاجتماعي

إذا كان كراماتيكا قد أخرج بتطرفه ودعوته الإنسانية المبالغ فيها الظاهرة الإجرامية من مجال القانون الجنائي، بل نادى بإقصاء هذا الأخير والاستعاضة عنه بجملة من مبادئ الدفاع الاجتماعي، فإن مارك آنسل استفاد من هذه الانتقادات الموجهة لكراماتيكا في بناء نظرية جديدة للدفاع الاجتماعي1 بعيدا عن الغلو والتطرف الذين ميزا نظرية كراماتيكا . و تنبني السياسة التجريمية عند مارك آنسل في ظل نظريته الجديدة للدفاع الاجتماعي على مجموعة من الأسس والمبادئ، نوردها مختصرة في هذه النقط:

أ‌) سياسة التجريم باعتبارها عنصرا من عناصر السياسة الجنائية، يجب أن تنشد في المقام الأول حماية
الفرد ومصالحه على اعتبار أن الدفاع عن المجتمع لا يتحقق إلا عن طريق خليته الأولى وهو الفرد2، ولكنه لم يبالغ في تقديس حقوق الأفراد على حساب مصلحة المجتمع كما فعل كراماتيكا، الذي اعتبر بأن الفرد هو أصل المجتمع وغايته، وأن الدولة لا تملك تقييد حريته من أجل السعي لتحقيق أهداف بعيدة عن غايات الإنسان ككائن اجتماعي .

________________________

1- مارك أنسل : الدفاع الاجتماعي الجديد ، ص 12 ، ترجمة حسن علام طبعة 1967 .

2- أحمد فتحي سرور : مرجع سابق ، ص 88 .

ب‌) على نقيض كراماتيكا، أكد مارك آنسل على أهمية وجود تشريعات جنائية لمواجهة الجرائم داخل المجتمعات البشرية،1 ولضمان حقوق الأفراد من أي تعسف من قبل هذه التشريعات دعا مارك آنسل إلى احترام القوانين الجنائية التي تضعها الدول لمبدأ الشرعية الجنائية، والعمل ما أمكن على التقليص من النصوص والأحكام التجريمية مع توفير الضمانات اللازمة لحماية حقوق ومصالح الأفراد . وبذلك أعاد مارك آنسل للقانون الجنائي قيمته النظرية والعملية في مواجهة الظاهرة الإجرامية .

المطلب الثاني : فلسفة التجريم في الشريعة الإسلامية

إن هدف المشرع من التجريم هو تبيين الفعل الشرير الذي على الفرد اجتنابه .لكن بالاضطلاع على المذاهب الفقهية الإسلامية التي تعرضت لموضوع المسؤولية الجنائية للجاني، نجد أن هناك اتجاه ينفي أي جدوى للتجريم لأنه يعتبر الجاني مجبر فيما يقوم به من أفعال وغير مسؤول عنها وهو مذهب الجبرية .

وبالمقابل يرى مذهب المعتزلة أن الجاني مسؤول مسؤولية مطلقة على ما اقترفته يداه، وعليه لابد من وجود نصوص شرعية تجريمية تحد من نتائج أفعاله وتصرفاته وتقننها ويتوسط مذهب ثالث وهو مذهب الاشاعرة المذهبين السابقين .

الفقرة الأولى : مذهب الجبرية

تعتبر الجبرية عند البعض بدعة وتنسب إلى اليهود فهي من قبيل الإسرائيليات التي دست على الإسلام وقوامها أن الإنسان لا يخلق أفعاله، وأصلا لا إرادة له ولا اختيار ذلك لأن الله هو خالق الأشياء و الإرادات

والأفعال فالفعل لله وحده، وإنما تنسب الأفعال للأفراد على سبيل المجاز ونتيجة لذلك لا يجوز تكليف الإنسان بعمل لا دخل له فيه ولا يصح تواب الإنسان ولا

________________________

1- د. حسن الصادق المرسفاوي : مرجع سابق، ص 49 .

عقابه تجاه شيء لم يفعله . ويستند مذهب الجبرية على أساسين :

-1-سبق علم الله بأفعال الناس وقد كتب عليهم هذه الأفعال ولا قدرة لهم على تغيرها.

-2-أن الله هو خالق الإنسان1

وقد تصدى لهم بعض العلماء في الرد على مذهبهم كالحسن البصري، وقد قال عنهم ابن تيمية، هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف أثبتوا القدر وأمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، وإنه خالق كل شيء، وهذا حسن وصواب، ولكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد وأفرطوا حتى غلا بهم إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا ” لو شاء الله ما أشركنا ولا آباءنا ولا حرمنا من شيء ” .2

الفقرة الثانية : مذهب المعتزلة

نشأ المعتزلة في العراق واشتهروا بالقول أن الله خالق لكل شيء وقد خلق في الإنسان قوة تمكنه من سلوك الطريق الذي يريده ومن ثم فإن أتى بمعصية فهي مسندة أليه أي إلى إرادته، فالله سبحانه وتعالى لا يعاقب الإنسان على أمور ليست من أفعاله، ولا يقبل أن يقدر عليه أمرا ثم يفرض عليه عقوبة لارتكابه، فللإنسان إرادة حرة مطلقة في كل ما يفعله3 وبذلك فهو مخير في أفعاله وله أن يختار بين الشر والخير والدليل قوله تعالى ” أنا هديناه السبيل أما أن يكون شاكرا إما كفورا ” وكذاك ” وهديناه النجدين ” وسبق علم الله بأفعال الناس لا يجوز أن يكون مانعا من الإيمان، وأن الله غير خالق لأفعال الناس وأن العامل الداعي أو الموجب لفعل الإنسان ليس من خلق الله بل من خلق الشيطان والنفس الأمارة بالسوء4 .

وهكذا فإن توفر الإنسان على حرية اختيار يفرض توضيح وتحديد الأفعال

________________________

1- مجلة الدفاع الاجتماعي ، ص 59 العدد 19-20 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 1985 .

2- أحمد فتحي بهنسي : موقف الشريعة من الدفاع الاجتماعي ص23 دار الشرق بيروت بدون طبعة .

3-المجلة العربية للدفاع الاجتماعي : ص 52 العدد 18 مطبعة النجاح الجديدة 1982 .

4- المجلة العربية للدفاع الاجتماعي : ص 60 العدد 19-20 .

الشريرة حتى يعلمها الفرد ويجتنبها ويعاقب إذا ما قام بها.

الفقرة الثالثة : مذهب الأشاعرة

عند الجبرية لا قدرة لإنسان ولا إرادة ولا فعل ، وعند المعتزلة للإنسان قدرة مطلقة ، وهذا الرأي الأخير يتعارض مع قوله تعالى ” لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين “1 .

أما عند الأشاعرة له قدرة ولكن لا تأثير لقدرته بجوار قدرة الله، وله أفعال والله خالقها، وله إرادة أيضا تستند أفعاله إليها، وبدلك يعد مختار في أفعاله ويكفي في تسمية أفعاله أفعال اختيارية لاستناد تلك الأفعال إلى إرادته واختياره، ولكن هذه الإرادة والاختيار عند الأشاعرة ليست من الإنسان، بل خاصة بخلق الله ولذا يقال عندهم أنه مختار في أفعاله مضطر في اختياره . وبالنظر إلى أن فعله وإرادته لفعله مخلوقان لله تعالى لزم أن يكون مضطرا فيهما جميعا .إلا أن استناد فعله إلى اختيار وعدم استناد اختياره إلى اختيار آخر بسبب وصف الأفعال بالاختيارية وهو المعنى بكون الإنسان مختار في أفعاله عند الأشاعرة، أما أفعاله فمستندة إلى اختياره وإن لم يكن هذا الاختيار بيده .2

المبحث الثالث : خصائص سياسة التجريم في القانون الجنائي المغربي والشريعة الإسلامية

تتميز سياسة التجريم في التشريع الجنائي المغربي بخصائص عديدة لعل أهمها كونها سياسة وضعية من جهة ودينية من جهة ثانية (المطلب الأول) ، أما في التشريع الجنائي الإسلامي فإن سياسة التجريم تنبني على خاصيتين أساسيتين هما : تدرج التجريم واقتصاره على الكليات دون الجزئيات ( المطلب الثاني)

ــــــ

1- سورة التكوير : الآية 27-28.

2- أحمد فتحي بهنسي : مرجع سابق ص 25.

المطلب الأول : خصائص التجريم في القانون الجنائي المغربي

لقد ظلت سياسة التجريم المغربية موزعة مند بداية الاستقلال وإلى الآن بين اتجاهين، فهي سياسة وضعية من جهة وسياسة دينية من أخرى.

الفقرة الأولى: سياسة وضعية

تتميز سياسة التجريم المغربية بكونها سياسة وضعية وهذا التوجه يبدوا من خلال أنها مقتبسة في جزء منها من سياسة التجريم الفرنسية ، كما نجد أن المشرع المغربي تأثر بأفكار المدرسة النيوكلاسيكية1 فاشرط لقيام المسؤولية الجنائية توافر الأهلية الجنائية القائمة على الإدراك والاختيارولم يستثني من دلك إلا الحالات التي حددها القانون، وهي التي تناولها الفصل 132(2)-134(3) في القانون الجنائي المغربي.

كما أخذ لمشرع بالأعذار القانونية وهي إما أن تكون معفية من العقاب وإما أن تكون مخففة4.

إضافة إلى ما سبق فإن المشرع المغربي تأثر بالمدرسة الوضعية فقسم الجرائم إلى جرائم تقليدية وجرائم اصطناعية5.

الفقرة الثانية : سياسة دينية.

إن توجه سياسة التجريم المغربية توجه ديني لأنها متأصلة من الدين ومستقاة من الفلسفة الجنائية الإسلامية .

وهكذا نجد أن القانون الجنائي المغربي نص على الجرائم المتعلقة بالإفطار في رمضان6 وشرب الخمر7 والعلاقات الجنسية غير الشرعية8 بالإضافة إلى جرائم أخرى .

ـــــــــــــــ

1- د. سامي النصراوي : النظرية العامة للقانون الجنائي المغربي في الجريمة و المسؤولية الجنائية ، ص 40 ، الجزء الأول دار المعارف الطبعة الثانية 1986 .

2- و يتعلق بالطفل غير المميز .

3- يتعلق بالحالات التي يستحيل معها الإدراك لخلل في القوى العقلية .

4- الفصل 143 إلى الفصل 145 من القانون الجنائي المغربي .

5- د. عبد السلام بنحدو : مرجع سابق ، ص 101.

6- الفصل 222 من القانون الجنائي المغربي.

7- المرسوم الملكي رقم 66 – 724 في شعبان 1387ه الموافق ل 14 نونبر 1967 .

8- الفصل 491 من القانون الجنائي المغربي .

لكن بالتمعن في النصوص الجنائية التي قامت بتجريم هذه الأفعال يتبين أن المشرع قد تعامل مع هذه الجرائم معاملة نفاقية مما دفع بالبعض إلى نفي التوجه الديني لسياسة التجريم المغربية.1

المطلب الثاني : خصائص سياسة التجريم في الشريعة الإسلامية

إن سياسة التجريم التي ينتهجها المشرع الإسلامي تتميز بخصائص جوهرية تهدف أساسا إلى التأكيد على شموليتها وسموها عن باقي التشريعات الأخرى، سواء السماوية منها أم الوضعية، وتتجسد أهم هذه الخصائص في تدرج لتشريع الجنائي الإسلامي من جهة واقتصاره على الكليات دون الجزئيات والعموميات دون الخصوصيات من جهة ثانية.

الفقرة الأولى : تدرج التشريع الجنائي الإسلامي

لقد تدرج التشريع الجنائي الإسلامي في وضعه للأحكام التكليفية الجنائية، وذلك تبعا لحاجة الزمان وقدرة الناس على استيعاب وتقبل ما فرض عليهم من أوامر ونواهي، ضمن المعلوم أن الإسلام قد جاء والعرب في إباحة مطلقة استحكمت فيهم عادات منها ما هو صالح للبقاء ولا ضرر منه، ومنها ما هو فاسد لا يصح السكوت عليه أو البقاء على وجوده. لذا اقتضت الحكمة الإلاهية رحمة بالناس ألا يفاجئوا بالأحكام جملة واحدة، فيعسر عليهم تقبلها والامتثال لها2. ولهذا فقد نزل القرآن الكريم منجما وجاءت الأحكام الشرعية متدرجة حتى يكون السابق منها ممهدا للنفوس لقبول اللاحق .

ولعل أهم مثال قد يستشهد به على تدرج التجريم في التشريع الجنائي الإسلامي هو التدرج في تحريم الخمر،3 حيث إن المشرع الإسلامي قد وقف موقفا حازما من شرب الحمر، لكنه مع ذلك لم يجرمها جملة واحدة، إذ لما كان

ـــــــــــــــ

1- سنوضح هده المعاملة النفاقية في الفصل الثاني .

2- السياسة الجنائية في ظل النظام العقابي الإسلامي : إعداد مجموعة من طلبة كلية الحقوق بطنجة ، ص 5 السنة الجامعية 2003-2004 .

3- مناع القطان : تاريخ التشريع الإسلامي ، ص54 مؤسسة الرسالة الطبعة السابعة و العشرون 1998 .

العرب قبل الإسلام يدمنون شربها ويتغنون بها في أشعارهم ونثرهم لم يكن قط من السهل تجريمها عليهم دفعة واحدة ، فلم يكن تحريمها كلية وإنما على مراحل عدة :

· المرحلة الأولى:
قال تعالى ” ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا أو رزقا حسنا، إن في ذلك لآية لقوم يعقلون”1 . جاءت هذه الآية الكريمة للتفرقة بين الرزق الحسن وهو الطعام الحلال والسكر، وذلك ما يؤيده العطف الذي من شأنه المغايرة بين المعطوف (السكر) والمعطوف عليه (الرزق الحسن) ،2 كما تتضمن هذه الآية إشارة دقيقة وتوجيها إيحائيا لأولى الألباب للتفكير في هذه التفرقة . ومن ثم نجد بعض الصحابة رضوان الله عليهم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب أدركوا حرمة شرب الخمر انطلاقا من الآية المتقدمة .

· المرحلة الثانية:
قال تعالى : ” يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما”3 . أثناء هذه المرحلة لم يكن الخمر محرما، حيث استمر شربها حتى بعد نزول هذه الآية، وقال الناس نشربها للمنفعة لا للإثم، وإثم الخمرة الذي ذكره العلماء هو ما يصدر عن شاربها من المخاصمة و المشاتمة وقول الفحش والزور وزوال العقل وتعطيل فروض الله4.أما المنافع التي عرفت عن الخمر فهي من قبيل ربح التجارة إذ كان العرب يجلبونها من الشام بثمن زهيد ويبيعونها في الحجاز بربح وافر، وقد قيل في منافعها أيضا بأنها تهضم الطعام وتقوي الضعيف وتشجع الجبان وتصفي اللون، إلا أن الله

ـــــــــــــــ

1- سورة النحل : الآية 67 .

2- أحمد فتحي بهنسي : السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية ، ص 20 دار العروبة 1965 .

3-سورة البقرة : الآية 217.

4أحمد فتحي بهنسي : مرجع سابق ص 22.

عز وجل أكد مباشرة بعد ذلك بأن إثم شرب الخمر هو أكبر من نفعها، فما فيها من الأضرار والأوزار يفوق ما فيها من المنافع، وهكذا فبنزول هذه الآية كان المسلمون بين شارب للخمر راغبا في منافعها، وبين ممتنع عن شربها لما فيها من آثام ومفاسد .

· المرحلة الثالثة :
قال تعالى ” يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون”1-2 . ذهب غالبية الفقهاء إلى أن هذه الآية الكريمة أقرب دلالة على تحريم الخمر من الآية الواردة في سورة البقرة وأشد منها إيعازا لذلك، على اعتبار أنها حرمت شرب الخمر في أغلب أوقات اليوم، لأن من يريد الصلاة يجب أن يمتنع عن شربها مدة كافية لزوال أثرها قبل دخول الصلاة. وهكذا كان المسلمون يشربونها بعد انتهاء صلاة العشاء وقبل دخول وقت صلاة الفجر

· المرحلة الرابعة :
قال تعالى ” يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون”.3 نزلت هذه الآية لتقطع يقينا ونهائيا بحرمة الخمر على اعتبارها رجسا من عمل الشيطان، وبابا من أبوابه التي يتسلل منها إلى قلوب وعقول شاربيها ليوسوس لهم ما يذكي بينهم نار العداوة والبغضاء والتشاحن ويأججها، فأراد الشارع الحكيم بتحريمه الصريح للخمر في هذه الآية أن يسد

ـــــــــــــــ

1- سورة النساء : الآية 43 .

2- نزلت هده الأية على ما رواه الترميدي عن على بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمان بن عوف طعاما فدعانا و سقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلات فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، و نحن نعبد ما تعبدون ، قال فأنزل الله تعالى : “يا أيها الدين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ” . خرجه الترميدي و صححه / أحمد فتحي بهنسي مرجع سابق ، ص 23.

3-سورة المائدة : الآيتان 92-93 .

هذا المنفذ الشيطاني لما يترتب عنه من مفاسد ومضار تلحق البلاد والعباد.1

وقد توالت بعد هده الآية الأحاديث النبوية التي أكدت في نفس الاتجاه على

تحريم الخمر منها قوله صلى الله عليه وسلم : ما أسكر كثيره فقليله حرام ”

و ما روي عنه أيضا عليه الصلاة والسلام من أنه لعن الخمر ولعن معها عشرا: بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها.

الفقرة الثانية :الاقتصار على الكليات دون الجزئيات والعموميات دون الخصوصيات

لقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وقد اقتضت الحكمة الإلاهية أن تكون رسالة الإسلام خاتمة الرسالات السماوية.2 يقول الحق عز وجل : ” قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا.”3ويقول أيضا : ” وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا “4 ويقول أيضا : ” ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين”.5

لذلك كان لزاما أن يتميز التشريع الجنائي الإسلامي عامة ومنهجه التجريمي على وجه التعيين بنظام فريد وخصائص نوعية، لعل أهمها كون التشريع التجريمي الإسلامي يقتصر في وضعه للأحكام على الكليات دون الجزئيات والعموميات دون الخصوصيات .

ومقتضى ذلك، أن الشارع الحكيم عمل عند تعيينه للجرائم والمحظورات الشرعية على الاقتصار على وضع الأصول الكلية والقواعد العامة والأحكام

ـــــــــــــــ

1- تعددت الروايات في أسباب نزول هده الآية ندكر منها ما رواه الطبري و الترمدي و غيرهما بأن هده الأية نزلت في – ملاحاة – جرت بين سعد بن أبي وقاص و رجل من الأنصار يدعى عتبة بن مالك و هما على شراب لهما ، و قد انتشيا فتفاخرة الأنصار و قريش فأخد الأنصاري لحى جمل فضرب به أنف سعد فشقه ، فنزلت هده الآية / أحمد فتحي بهنسي : مرجع سابق ، ص 25 .

2- نزلت مناع قطان : مرجع سابق ص 16 و ما بعدها .

3- سورة الأعراف : الآية 158 .

4- سورة سبأ : الأية 28 .

5- سورة الأحزاب : الآية 40 .

الإجمالية من غير التعرض إلى جميع الجزئيات والتفاصيل والكيفيات والمراحل.1 وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي في الموافقات : ” الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداد لا تنحصر ” ويقول ابن حزم في أصول الأحكام : ” فلم يبق في الدين حكم إلا وهو هاهنا منصوص جملة.

وتكمن العلة والمقصد في وضع النصوص التجريمية الإسلامية على هذا الشكل في أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التعديل والتبديل، فوجب أن تكون نصوصها -الجنائية وغير الجنائية- من المرونة والعموم ما يمكنها من استيعاب ما يستجد من التغييرات والتطورات البشرية مهما تغيرت ظروف الزمان والمكان والأشخاص. إن هذه الخاصية المتميزة في التشريع الجنائي الإسلامي تتيح للحاكم وأولي الأمر من أهل الحل والعقد في الأمة الإسلامية منفذا واسعا ومجالا فسيحا في باب السياسة التجريمية، بحيث تستطيع الدولة المسلمة تجريم كل فعل أو سلوك جد في المجتمع وإن لم يكن قد نص على حكمه تفصيلا. وذلك كله في ظل الشريعة السمحة لا تخرج عنها ولا تحتاج إلى غيرها .

وفيما يلي نورد شاهدا واضحا لما ذكرناه آنفا :

· تجريم السرقة : يقول تعالى :” السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما …”2. فقد جرمت هذه الآيةالكريمة السرقة حينما نصت على عقوبتها، والسرقة عند فقهاء الشريعة الإسلامية هي أخذ مال الغير دون علمه و رضاه، فإذا أخذ المال في حضوره وليس على سبيل القهر والمغالبة، فالفعل اختلاس لا سرقة، أما إذا أخذ في غيبة صاحبه ولكن برضاه فلا جريمة في الأمر .3

ـــــــــــــــ

1- د. عبد الخالق أحمدون : فصول في المدخل الى دراسة الشريعة الاسلامية ص 34 و مابعدها مطبعة سبرطيبل 2000-2001

2- سورة المائدة الآية 38 .

3- الإمام محمد أبو زهرة : الجريمة و العقوبة في الفقه الإسلامي ، ص 122 الجزء الثاني دار الفكر العربي بدون تاريخ .

من هذا التعريف يتضح أن أركان هذه الجريمة هي :

-الأخذ خفية

-أن يكون المأخوذ مالا مملوكا للغير

-القصد الجنائي1

إن الآية السابقة عند تحريمها للسرقة، قد جاءت بحكم تجريمي عام دون أن تتعرض للتفاصيلوالجزئيات. وعليه فإن أي فعل أو سلوك ينطبق عليه

التعريف السالف ذكره ، وتتحقق فيه الأركان السابقة في أي عصر من العصور وفي أي مصر من الأمصار يعد جريمة سرقة يعاقب عليها، ولنا في عصرنا هذا خير شهيد على مثل هذا القول، بحيث ظهرت فيه بعض أنواع السرقة التي لم تكن معروفة من قبل، وذلك من قبيل ما يعرف بجرائم السرقة عن طريق الحواسب وشبكات الإنترنت، وجرائم سرقة التيار الكهربائي، وجرائم سرقة براءات الاختراع والأعمال الفنية وما يعرف بجرائم الأموال بمختلف أنواعها وغيره مما استجد في عصرنا من أنواع السرقة التي لم يكن لها وجود عند نزول آية السرقة، والتي ما كان أمكن تجريمها لولا هذا العموم والمرونة التي وضعت به آية تجريم السرقة

_________________

1- عبد الخالق النواوي : جرائم السرقة في الشريعة الإسلامية و القانون الوضعي ، ص 10 المكتبة العصرية – بيروت لبنان – بدون تاريخ .

المبحث الأول : مبدأ الشرعية الجنائية

من المعروف أن سياسة التجريم الحديثة تقوم على مجموعة من الدعائم الأساسية التي تستهدف حماية حقوق الأفراد و صيانة مصالحهم في ظل الحرص التام على تحقيق التوازن والأمن داخل المجتمع، من أهمها مبدأ الشرعية الجنائية، الذي يقضي بضرورة تحديد الأفعال التي تعد جرائم سلفا.

المطلب الأول : مبدأ الشرعية في القانون الجنائي المغربي

يقصد بمبدأ الشرعية ” ضرورة خضوع الفعل أو الامتناع لنص من نصوص التجريم ” انه لكي يكون أو يعتبر فعل ما أو امتناع ما جريمة فلابد من وجود نص جنائي يجرم هذا الفعل أو الامتناع ، ويضفي عليه صبغة عدم المشروعية، وهذا المبدأ هو ما يعبر عنه أحيانا بمبدأ (شرعية الجرائم و عقوباتها) ،وأحيانا بمبدأ (لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص)، أو مبدأ (النصية )الذي يعني حصر مصادر التجريم و العقاب في مصدر واحد وهو النص القانوني الجنائي(1).

وترجع هذه القاعدة في أصلها إلى تطور تاريخي طويل بدأ منذ العهد الجمهوري للقانون الروماني وانتهى بإقرارها في إعلان حقوق الإنسان و المواطن الذي صدر عن الثورة الفرنسية عام،1789و في الدستور الفرنسي الصادر عام 1793 ثم في قانون نابليون الصادر عام 1810.

لكن قبل الثورة الفرنسية كان هذا المبدأ مرادفا للتعسف ، خصوصا و أن القضاء الجنائي كان قبل هذه الفترة محل انتقاد من طرف المفكرين و الفلاسفة بسبب قساوة التدابير التي كان يأخذ بها و بسب انعدام المساواة التي كان يقوم عليها، و يعتبرMONTESQUIEU في هذا الإطار، أحد أهم المفكرين الذين نادوا بضرورة وضع قوانين محددة يعتمدها القضاء الجنائي.

_________________

1- د. عبد الواحد العلمي : المبادئ العامة للقانون الجنائي المغربي ، ص 86 ، الجزء الأول – دار النشر مطبعة النجاح الجديدة 1990 .

لكن أحسن تعبير عن مبدأ الشرعية، ورد في كتاب صدر للإيطاليC.BECCARIA ، ولقد تأثر هذا الأخير بأفكار مونتسكيو بصفة خاصة وبأفكار فلاسفة القرن الثامن عشر بصفة عامة.ولهذا فعندما نشر كتابه حول الجرائم والعقوبات سنة 1764 فإن ذلك الكتاب جاء كتعبير ممنهج ومنظم لتلك الأفكار متضمنا في نفس الوقت أفكار جديدة تقدم البديل للمبادئ والمؤسسات التي كانت محل انتقاد.

ورغم تعرض أفكارBECCARIA لانتقادات شديدة لكن ذلك لم يمنع انتشارها وانتشار مبدأ الشرعية الذي جاءت به و الذي سارعت الكثير من القوانين الجنائية إلى الأخذ بمضمونه الجديد الذي تم تحديده بصفة نهائية في تصريح حقوق الإنسان والمواطن(1).

كما اكتسب هذا المبدأ إقرارا عالميا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر عام 1948 ، وبعد ذلك أصبح مبدأ دستوريا تنص عليه مختلف الدساتير وتحترمه القوانينالجنائية(2).

ويعتبر هذا المبدأ بمثابة الحجر الأساسي للتشريع الجنائي ، فهو يقوم بحماية مصالح متضاربة ، فمن جهة يهدف إلى حماية المصلحة الفردية عن طريق تحديد الأفعال الممنوعة ليتجنبها الفرد كما أنه يحمي الفرد من تحكم كل من المشرع والقاضي ، فالمشرع لا يملك سوى سلطة التشريع الذي لا يسري على الماضي و لذلك فكل فرد سيكون على علم بكل المحضورات فلا يسعه إلا أن يجتنبها، أما القاضي فلا يستطيع معاقبة الأشخاص إلا على الأفعال التي وصفها المشرع بأنها جرائم(3).

_________________

1- د. محمد الملياني : دروس في القانون الجنائي العام ، ص 109-110 ، دار النشر الجسور الطبعة الولى 1995.

2- د. عبد السلام بنحدو : الوجيز في القانون الجنائي المغربي ، ص 113 المطبعة و الوراقة الوطنية 2000 .

3- د. عبد السلام بنحدو : مرجع سابق ، ص 111.

ومن جهة أخرى فهو يهدف إلى حماية مصلحة الجماعة، إذ أن النصوص الجنائية تتضمن مختلف القيم الاجتماعية التي يجب احترامها ولو باللجوء إلى العقوبة إذا اقتضى الأمر ذلك، ووجود هذه النصوص يضمن احتراما لتلك القيم على مستوى الجماعة، وذلك على خلاف ما إذا توقف أمر السهر على تأمين احترامها على إرادة القاضي فقط، لأن الأمر في هذه الحالة الأخيرة يصبح احتماليا وهو ما يكون له تأثير على الجانب الردعي(1).

وما يجب لفت الانتباه إليه أن هناك أسس لا يقوم مبدأ الشرعية إلا بها ولقد حددها كل من بيكاريا ومشروع الثورة الفرنسية، وتتمثل أهم هذه الأسس في ضرورة جعل أمر وضع الجرائم والعقوبات من اختصاص القانون وحده، وذلك في إطار نظام يقوم على فصل السلطات كما نادى بذلك منتسكيو.

ويقصد بالقانون هو ما يصدر عن السلطة التشريعية دون باقي السلطات كالسلطة التنفيذية والسلطة القضائية .

أما المقصود بالسلطة التشريعية بالنسبة لبيكاريا فهو الهيأة التي تمثل كل المجتمع الذي يربط أفراده عقد اجتماعي وقد أصبحت هذه الهيئة تتمثل في البرلمان(2).

كما يفرض مبدأ الشرعية أن تحصر مصادر القاعدة الجنائية في التشريع المكتوب وحده دون غيره من الصادر غير المكتوبة، كالعرف والشريعة الإسلامية ومبادئ العدالة أو القانون الطبيعي(3).

ولأهمية هذا المبدأ فقد كرسه المشرع الجنائي المغربي على غرار أغلب التشريعات في الدستور الذي ينص في فصله العاشر على أنه ” لا يلقى القبض على أحد ولا يعتقل ولا يعاقب إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون” وإلى جانب الدستور نجد أن القوانين بدورها تنص على هذا المبدأ، فنص الفصل الثالث من مجموعة القانون الجنائي المغربي على أنه “لا يسوغ مؤاخذة أحد

_________________

1- د. محمد الملياني : مرجع سابق ، ص 111.

2- د. محمد الملياني : مرجع سابق ، ص 112.

3- د. عبد الواحد العلمي : مرجع سابق ، ص 91-92.

على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون”(1).

وإذا كانت مزايا مبدأ الشرعية من الأهمية كما سبق التنويه لذلك فإنه مع ذلك تعرض للنقد من طرف خصومه، ومن أهم الانتقادات التي وجهت إليه أن الأخذ به يؤدي إلى جمود القانون الجنائي وهذا القصور يظهر في بعض الأحيان من حماية مصالح الجماعة .

كما أن عدم مرونة نصوص القانون الجنائي تؤدي إلى عجزها على مواجهة التطور الذي يطرأ على النشاط الإجرامي نتيجة تطور المجتمع(2).

لكن إذا كانت القوانين الوضعية قد سادتها عدة نظريات ومبادئ عرفت تأرجحا بين التبني والنقد، فالشريعة الإسلامية قد تنزهت عن العيوب التي شابت النظريات الوضعية وسلمت من الانتقادات التي وجهت إليها.

ولعل مما يدهش الكثيرين أن التجريم والعقاب في الشريعة لا يأتيه النقد، ذلك أن القوانين الوضعية بالرغم مما وصلت إليه من تقدم، إلا أنها تبقى تسير في أثر الشريعة وترتسم خطابها، على اعتبار أنها هي أول من عرفت نصوصها المرونة تماشيا مع الظروف المستجدة وتطور المجتمع.

المطلب الثاني : مبدأ الشرعية في التشريع الجنائي الإسلامي

خلافا لما هو شائع عن أن مبدأ الشرعية جاء بعد الثورة الفرنسية لسنة 1789 فإن أصل هذا المبدأ نجده في الشريعة الإسلامية التي عرفت هذه القاعدة من مدة تزيد عن أربعة عشر قرنا.

والواقع أنه ليس في نصوص القرآن والسنة نص واضح الدلالة على العمل بهذه القاعدة في مجال التشريع الجنائي وبعبارة أخرى فإنه ليس هناك نص بعينه يفيد الأخذ بهذه القاعدة في التشريع الجنائي الإسلامي مع ذلك فإنه يمكن استنتاج القاعدة من بعض النصوص القرآنية والسنة ومن بعض القواعد الأصولية استنتاجا سائغا

_________________

1- د. عبد السلام بنحدو : مرجع سابق ، ص 113-114.

2- عبد الواحد العلمي : مرجع سابق ، ص 99.

فأما آيات القرآن الكريم فمنها قوله تعالى : ” وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ” سورة الإسراء –الآية 15. وقوله تعالى : “وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث

في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا ” سورة القصص –الآية 59 .وقوله تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم : ” قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ” سورة الأنفال –الآية 38 ، وقوله تعالى بعد النص على تحريم بعض صور السلوك: ” إلا ما قد سلف ” سورة النساء – الآية 22-23 ، وقوله تعالى ” عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه ” سورة المائدة –الآية 95 .

وأما أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقرر تطبيقا لمبدأ الشرعية منها قوله في حجة الوداع: ” الا وان دم الجاهلية موضوع وأول دم أبدأ به دم الحارث بن عبد المطلب ، وأن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبدأ به ربا عمى العباس بن عبد المطلب ” ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص: ” الإسلام يهدم ما قبله “.1و من هذه الآيات والأحاديث استخرج الفقهاء القاعدتين الأصوليتين اللتين تفيدان أن مضمون قاعدة ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ” : قاعدة أنه لا تكليف قبل ورود الشرع . وقاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة وتطبيق هاتين القاعدتين في مجال الفقه الجنائي يعني حضر العقاب على صور السلوك التي لم يرد نص بتجريمها ، وقصر العقاب على صور السلوك المجرمة على حالات ارتكابها التي تقع بعد ورود النص القاضي بالتجريم2

غير أن الشريعة لا تطبق هذه القاعدة على إطلاقها في كل الجرائم والعقوبات بل غيرت في كيفية التطبيق بحسب ما إذا كانت الجريمة من جرائم الحدود، وجرائم القصاص، والدية، أو جرائم التعزير3.

فبالنسبة لجرائم الحدود فكل جريمة من هذه الجرائم نصوص خاصة بها في القرآن الكريم والسنة تحدد الفعل المعاقب عليه والعقوبة المقدرة له وهذه الجرائم تمثل اعتداء على المال والأمن كجريمتي السرقة والحرابه، وبعضها الآخر، يمثل

_________________

1- محمد سليم العوا : المجلة العربية للدفاع الاجتماعي العدد 7 مارس 1978.

2- محمد سليم العوا : أصول النظام الجنائي الإسلامي ، ص 58-59 دار المعارف ا لطبعة الثانية 1983.

3- هبة أحمد : موجز أحكام الشريعة الإسلامية في التجريم ، ص 27-28 .

اعتداء على العرض والشرف كجريمتي الزنا والقذف1.

وأما جرائم القصاص فهي جرائم الاعتداء على النفس بالقتل والجرح والضرب وتقررت هذه الجرائم وعقوباتها بنصوص القرآن والسنة.

والجرائم التي يعاقب عليها بالدية فهي جرائم القصاص إذا عفا عن القصاص أو امتنع القصاص لسبب شرعي، ثم القتل شبه العمد والقتل الخطأ، وإتلاف الأطراف خطأ والجرح خطأ2.

أما بالنسبة لجرائم التعزير فإن الأصل فيها أن ينص على الجريمة دون العقوبة التي يترك أمرها للسلطة المختصة في الدولة تفرضها إن كانت هي السلطة التشريعية وتوقعها إن كانت السلطة الفضائية في إطار العقوبات المسوح بتوقيعها في الشريعة الإسلامية3.

ونذكر بعض الأمثلة لجرائم التعازير التي جاءت في القرآن والسنة على سبيل البيان والتمثيل :

1. تحريم بعض الأطعمة : يقول الله تعالى ” وإنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيرالله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ” سورة البقرة –الآية 173، ويقول في آية أخرى : ” ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث “.
2. خيانة الأمانة : يقول الله تعالى ” إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أنيحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا”.
3. أكل الربا: يقول الله تعالى ” وأحل الله البيع وحرم الربا “4.
ومن هنا يتبين أن تطبيق قاعدة لا جريمة ولا عقوبة بغير نص يتم في الفقه الجنائي الإسلامي في أحد إطارين : إطار محدد في جرائم الحدود والقصاص، حيث يأتي النص محدد للفعل المجرم و للعقوبة المقررة له، وإطار مرن في جرائم التعزير

_________________

1- المجلة العربية للدفاع الاجتماعي ، العدد 7 ، ص 39.

2- هبة أحمد : مرجع سابق ، ص 30.

3- محمد سليم العوا : مرجع سابق ، ص 60.

4- سورة البقرة : الآية .

حيث تبين النصوص الأفعال التي تعتبر أو يمكن أن تعتبر جرائم تعزيرية وتترك تحديد العقاب عليها للسلطة المختصة بذلك في الدولة الإسلامية تراعي في تقريره وتوقيعه ظروف الزمان والمكان وشخص الجاني1.

ومن خلال نظام التعازير تمارس السلطة التشريعية في الدولة الإسلامية المعاصرة واجبها في حماية المصالح الاجتماعية المتجددة وذلك بتجريم الأفعال التي تشكل إخلال بهذه المصالح وتحديد العقوبات.

فقد انعقد إجماع الفقهاء المسلمين على أن كل ما يحدث للناس من وقائع في الحياة له في الشريعة الإسلامية أحكام .فالقاعدة أن لكل فعل حكما شرعيا، والأحكام إما أن تكون قد وردت صراحة في الكتاب أو السنة وإما أن تعرف من دلائل أخرى مثل الإجماع، والقياس. والدلائل الأخرى هذه أرشدت إليها الشريعة ليعرف حكم ما لم يرد بحكمه نص في الكتاب أو السنة .

فالجرائم في التشريع الإسلامي معرفة سلفا ومحددة وليس للقاضي سلطة تجريم الأفعال وإنما له فقط حق الاجتهاد والبحث عن حكم الله فيما هو معروض عليه بتفسير ما ورد في الكتاب وفي السنة، أو التماس الحكم من الأدلة الشرعية الأخرى.

فالنصوص الشرعية غالبا ما ترد مقترنة بذكر علة التجريم أو الحكم أو المصلحة التي شرعت لأجلها، وهذا يدل على أن أحكام الله تدور مع مصالح العباد، وإرشاد المسلمين إلى قياس ما لم يرد فيه نص، وعلى هذا اجتهد المجتهدون وتوصلوا إلى حكم الله سبحانه وتعالى، ولهذا فالحكم الذي يتوصل إليه المجتهد لا يعتبر شرعا جديدا، وإنما هو اهتداء إلى حكم الله في الواقعة.

ولا شك أن أسلوب الشريعة في النص على بعض الأحكام وتبيان عللها والمصالح التي بنيت عليها وترك التفصيل هو أسلوب حكيم لأن التفاصيل تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والبيئات وترك التفاصيل للاجتهاد أدعى إلى مسايرة التطور وأهدى إلى إقامة العدل بين الناس ودفع الحرج عنهم وعلى هذه الصورة تختلف الشريعة عن القانون، فالقانون يحصر الجرائم بالنص عليها كتابة مع تحديد

_________________

1- محمد سليم العوا : مرجع سابق ، ص 60.

عناصرها وأركانها، وما لم يرد تجريمه بالنص في النصوص لا يمكن أبدا اعتباره جريمة مهما كان قبيحا أو مستهجنا، أما في الشريعة فقد استبان لنا أن لكل فعل حكما، فالشريعة إذن من هذه الناحية أوسع من القانون نطاقا وأقدر على ملاءمة الزمن ومسايرة التطور1.

إذا صح ذلك كله فإنه يبين مدى مجانبة الصواب للرأي القائل أن قاعدة لا جريمة و لا عقوبة بغير نص قاعدة لا تعرفها الشريعة الإسلامية، ولا يمكن الأخذ بها في نظام جنائي مستمد من الفقه الإسلامي وأن أعمالها أو القول بوجوبها في مثل هذا النظام يعد افتئاتا على نصوص الشارع الإسلامي.

وإذا كان الفقه الجنائي الإسلامي يأخذ بقاعدة لا جريمة ولا عقوبة بغير نص فإنه من العسير أن نقبل في ضل هذه القاعدة بأن بعض الأفعال في الفقه الإسلامي لا يمكن معرفة كونها جريمة إلا بعد وقوعها، ذلك أن مثل هذا القول يهدم القاعدة المشار إليها من أساسها، ويجعل من النصوص والقواعد الأصولية المتقدم ذكرها مجرد كلمات خاوية من كل معنى علمي .2

وهكذا فإن القوانين الوضعية لم تأت بجديد وإنما أخذت النظرية التي ابتكرتها الشريعة ولم تطورها وفقا لأحكام الشريعة الغراء بل اتسمت بجمودها، فهي تجعل التشريع الجنائي نصوصا جامدة وتجرده من المرونة اللازمة لمواجهة الإجرام وتطوره تبعا لتقدم الحضارة وارتباط المصالح بين الناس وتعقد الحياة الاجتماعية مع ما يبديه المجرمون من التفنن في أساليب الإجرام، مما يجعلهم في كثير من الحالات في منجاة من سلطان القانون الذي غالبا ما يكون قد وضع في ظروف مختلفة، وليس التشريع من المرونة بالقدر الكافي لمواجهة ذلك في الوقت المناسب في كل الأحوال الأمر الذي يقتضي، على الأقل المرونة في تعزير القاعدة في كل الأحوال ونهج مسلك الشريعة في هذا الشأن فالدين الإسلامي الخالد من الخصائص

_________________

1- عبد الخالق النواوي : مرجع سابق ، ص 10-11.

2- محمد سليم العوا : مرجع سابق ، ص 60.

الفذة ما تجعله يحمل بين ثناياه من العناصر والبذور الحية ما يمكنه من محاربة الجرائم المنظورة والمستوردة للقضاء عليها فيوفر للمجتمع جو من الاطمئنان والصفاء1.

المبحث الثاني : تصنيف الجرائم

عرف المشرع المغربي الجريمة في الفصل الأول من القانون الجنائي والذي جاء فيه ” يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي .” وأضاف في الفصل 110 بأن ” الجريمة هي الفعل المخالف للقانون الجنائي والمعاقب عليه بمقتضاه ” أما في الفقه الإسلامي فتتعدد التعريفات المقدمة للجريمة من أهمها تعريف المواردي لها بأنها ” محظورات شرعيةزجرالله عنها بحد أو تعزير ”

فما هي مختلف التقسيمات التي قدمها القانون الجنائي والفقه الإسلامي للجريمة؟

المطلب الأول : أنواع الجرائم في القانون الجنائي المغربي

تتعدد المعايير التي تعتمدها التشريعات الجنائية في تقسيم الجرائم وتبويبها وذلك بحسب المصالح والقيم التي يستهدف المشرع حمايتها بنص التجريم (الفقرة الأولى)، ويصنف المشرع المغربي الجرائم إلى أنواع يراعي فيها جانب الخطورة وهو يلحق بكل جريمة من هذه الجرائم العقوبة التي تتناسب معها في نظره ويعتمدها كمعيار لتقسيم الجرائم (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : المعايير المعتمدة في تقسيم الجرائم

إذا تصفحنا أغلب المعايير التي اعتمدتها التشريعات الجنائية نجدها مختلفة ومتعددة ومنها :

_________________

1- خالد عبد الحميد فراج : المنهج الحكيم في التجريم و التقويم ، ص 63-63 ، منشأة المعارف 1984.

1. معيار القانون الروماني
قسم الرومان الجرائم إلى جرائم عامة وخاصة . فالعامة هي تلك المتعلقة بالمصلحة العامة ، لذلك فالدولة تباشر الدعوة العمومية بمجرد ارتكابها . أما الجرائم الخاصة فهي التي يتطلب للمعاقبة عليها تقديم شكوى من المجني عليه، هذا وكانت الجرائم العامة تنقسم إلى عدة تقسيمات فرعية :

-تقسيم يعتمد على السلطة التقديرية للقاضي في الحكم بالعقوبة، وعليه فإن الجرائم إما عادية لا يستطيع القاضي أن يحكم بأكثر أو بأقل من العقوبة المقررة لها في القوانين أو القرارات الإمبراطورية.وإما استثنائية يكون للقضاة سلطة التشديد أو التخفيف في العقاب .

-تقسيم يعتمد على نوع العقوبة، وهي جرائم ذات عقوبات قصوى كالإعدام والنفي وجرائم ذات عقوبات بدنية، وقد اتبعت معظم التشريعات هذا الأسلوب في تقسيم الجرائم ومن بينها القانون الفرنسي القديم .

2. معيار القانون الفرنسي
نصت المادة الأولى من القانون الجنائي الفرنسي، على أنه يتحدد نوع كل جريمة بحسب العقوبة المقررة لها، بحيث تقسم الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات وهو نفس اتجاه المشرع المغربي (الفصل 111ق.ج)

وقد قسمها المشرع الفرنسي إلى طائفتين1: جرائم تعتدي على المصلحة العامة. وجرائم ترتكب من الأشخاص، ثم قسم كل طائفة إلى مجموعات فرعية : الطائفة الأولى تضم جرائم ماسة بأمن الدولة وسلامتها وجرائم ضد الأمن العام، بينما الطائفة الثانية تضم جرائم ضد الأشخاص وجرائم الأموال.

1- نكبي منير : تقنيات التجريم في التشريع الجنائي المغربي ، ص 15 سنة 1996) بحث نهاية التمرين ، معهد القضاء الرباط( .

3. معيار المال القانوني محل الاعتداء
يرجع الفضل في دراسة هذا المعيار وبيان كيفية الاستعانة به في تصنيف الجرائم إلى الفقيه الإيطالي فرتشسكو كرارا، ويعتمد على فكرة موضوعية وهي ” المال القانوني ” وهكذا قسم الجرائم حسب أنواع القيم الاجتماعية المعتدى عليها. هذا يعني أن الجرائم تقسم إلى مجموعات وكل مجموعة تضم جرائم مشتركة في وحدة الحق والمال القانوني التي تعتدى عليه، ومن ثم فهناك :

-الجرائم الطبيعية : وهي التي تمس حق الحياة والسلامة في جسم الإنسان وشرفه، والجرائم التي ترتكب ضد الملكية والأسرة .

-الجرائم الاجتماعية : وهي التي تعتدي على حقوق عامة في المجتمع وينتج عنها إضرار بالعدالة والأخلاق والأمن العام والصحة العامة والدين والجرائم السياسية1. هذا المعيار أخذت به إيطاليا سنة 1889م.

4. معيار يعتمد الدوافع
ذهب بعض الفقه إلى الأخذ بعين الاعتبار الدوافع في تصنيف الجرائم، فطبقا لنظرية الخطورةالإجرامية، تعتبر الجريمة وسيلة للكشف عن مدى خطورة الجاني،وهذا ما دفع أنصار هذا الاتجاه إلى الحث على وجوب دراسة أنواع المجرمين، ومدى خطورة كل طائفة ثم تصنيف الجرائم على أساس ما يظهره مرتكبوها من خطورة إجرامية.

هكذا يقترح الفقيه الأرجنتينيJosé pecoأن يتضمن القسم العام من القانون الجنائي تصنيفا للجرائم طبقا لمدى خطورة الدافع إليها. ولعله يرمي من خلال ذلك إلى أن المصلحة حين يكون الامتناع عن الإضرار بها سهلا يكون مقدار هذا الضرر ثقيلا وجسيما. لهذا فالإفراط في التجريم يسبب الإضرار بمصالح لا تستهدف إلا غاية تنظيمية، أو اقتصادية، الأمر الذي يخرج القانون الجنائي عن إطاره العام وتحوله إلى مجرد أداة للرعب .2

_________________

1- نكبي منير : مرجع سابق ، ص 17.

2- أحمد فتحي سرور : المجلة العربية للدفاع الاجتماعي ، ص 85 العدد 11 سنة 1984.

الفقرة الثانية: العقوبة كمعيار لتقسيم الجرائم في القانون الجنائي المغربي

سار المشرع المغرب في نفس الاتجاه الذي أخذ به القانون الجنائي الفرنسي في تقسيمه للجرائم اعتمادا على العقوبة المخصصة لها، فقسم الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات(أولا) إلا أن لهذا التقسيم القائم على هذا الأساس بعض النقائص التي ينبغي معرفتها(ثانيا).

أولا: التقسيم الثلاثي للقانون الجنائي المغربي1

ينص الفصل 111 من القانون الجنائي على ما يلي : ” الجرائم إما جنايات أو جنح تأديبية أو جنح ضبطية أو مخالفات …” ثم ينطلق نفس الفصل من العقوبات المخصصة لكل نوع من هذه الجرائم ليحدد المقصود منها، فبنص على أن :

” الجريمة التي تدخل عقوبتها ضمن العقوبات المنصوص عليها في الفصل 16 تعد جناية، الجريمة التي يعاقب عليها القانون بالحبس الذي يزيد حده الأقصى عن سنتين تعد جنحة تأديبية.

الجريمة التي يعاقب عليها القانون بالحبس حده الأقصى سنتان أو أقل أو غرامة تزيد عن 200 درهما تعد جنحة ضبطية.

الجريمة التي يعاقب عليها القانون بإحدى العقوبات المنصوص عليها في الفصل 18 تعد مخالفة “وقد يوحي الفصل 111 بأن القانون الجنائي يأخذ بتقسيم رباعي للجرائم (جنايات، جنح تأديبية، جنح ضبطية، مخالفات) لكن الحقيقة أنه يأخذ بتقسيم ثلاثي2(جنايات، جنح، مخالفات) وهو ما تؤكده الفصول 16، 17، 18، من القانون الجنائي ذاته، وبمقتضيات أخرى.

وهكذا فقد تم تقسيم الجنايات والجنح في القانون الجنائي المغربي وفق الشكل التالي :

_________________

1- هناك تقسيمات عديدة يأخذ بها الفقه في تقسيم الجرائم و تبويبها ، لعل أبوابها التقسيم الفقهي الشهير الذي يصنف الجرائم إلى جرائم تقليدية و جرائم قانونية . كما تقسم الجرائم بالنضر إلى الركن المادي إلى : الجرائم الوقتية ، و الجرائم المستمرة / و الجرائم البسيطة ، و جرائم الاعتياد / الجرائم البسيطة ، و الجرائم المركبة / الجرائم المادية ، و الجرائم الشكلية . كما تقسم الجرائم بحسب طبيعتها إلى جرائم عادية و جرائم سياسية …) انظر عبد السلام بنحدو : مرجع سابق ، ص 213 و ما بعدها( .

2- هبة أحمد : مرجع سابق ، ص 30.

-جنايات وجنح ضد أمن الدولة الداخلي والخارجي (الفصول 163-218ق ج) وأهمها جرائم المؤامرة، التجسس، حمل السلاح…

-جنايات وجنح ماسة بحرية المواطنين وحقوقهم، وهي تتعلق بممارسة حقوق المواطنة والعبادات (الفصل 219-232ق ج) كجريمة الإفطار في رمضان، وجرائم الاعتداء على أماكن العبادات …

-جنايات وجنح يرتكبها الموظفون ضد النظام العام (ف232-262ق ج) كجرائم تواطؤ الموظفين، وتجاوز الاختصاص، والاختلاس، والرشوة، واستغلال النفوذ…

-جنايات وجنح يرتكبها الأفراد ضد النظام العام (ف263-292ق ج) كجرائم تكوين العصابات المسلحة، وإخفاء المجرمين، التسول…

-الجنايات والجنح ضد النظام العام (ف293-333ق ج)

-جنايات وجنح تتعلق بحماية الاقتصاد الوطني ( ف 334-391ق ج) كجرائم التزوير والتزييف والانتحال…

-جنايات الاعتداء على الأشخاص (ف392-448ق ج) كجرائم القتل والضرب والجرح والتسميم، وعدم تقديم المساعدة لمن كان في خطر…

-جنايات وجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة (ف449-504ق ج) وتشمل جرائم الإجهاض، إهمال الأسرة، إهمال الأطفال…

-جنايات وجنح متعلقة بالاعتداء على الأموال (ف505-607ق ج) وتضم السرقة بمختلف أنواعها وخيانة الأمانة…1

وبقراءة متأنية لهذا التقسيم يتبين بوضوح بأن الفصول التي خصصت لحماية كل ميدان من الميادين المذكورة سالفا ينعدم التوازن بينهما، خاصة فيما يتعلق بالجنايات والجنح الماسة بحريات المواطنين وحقوقهم التي لا يخصص لها إلا 33 فصلا .

_________________

1- نكبي منير : مرجع سابق ، ص 21.

وإذا أحصينا النصوص التي تحمي بها الدولة نفسها، فإننا نجدها تغطي 163 فصلا (جرائم ضد أمن الدولة، جرائم يرتكبها الموظفون ضد النظام العام، الجرائم التي يرتكبها الأفراد ضد النظام العام…)

وربما قيل أن هذا التعارض ظاهري فقط، خاصة وأن الظهائر المتعلقة بالحريات العامة التي صدرت سنة 1957 قبل ظهور المجموعة الجنائية تغطي عددا وافرا من النصوص. وهذا اعتراض غير مقبول1لأن الملاحظة الكمية تلازمها ملاحظة كيفية حيث إن الهاجس الأمني ساد النصوص الجنائية بصورة واضحة على حساب حماية حقوق الأفراد وحرياتهم.

ثانيا : انتقادات التقسيم

يتعرض التقسيم الثلاثي المبني على أساس العقوبات المخصصة لها لمجموعة من الانتقادات من أهمها:

· طابعه الاصطناعي :
من بين أهم الانتقادات الموجهة للتقسيم، كونه يكتسي طابعا اصطناعيا، فهناك بعض الجرائم التي تنتمي لفئة معينة، لكنها تعاقب بعقوبة فئة أخرى، وهو ما يجعل التقسيم المتبع تقسيما اصطناعيا، مثل ذلك الجنح التي تطبق عليها عقوبة الجناية عندما تقترن بظرف من ظروف التشديد (الفصل 505ق ج والفصول من507 إلى 514ق ج بخصوص جرائم الأموال) أو الجنح التي ينص القانون الجنائي بشأنها على عقوبة تفوق عقوبة الجنحة (الفصل 197ق ج بخصوص بعض جرائم أمن الدولة الخارجي) ومثال ذلك بالمقابل الجنحة الضبطية التي قد تطبق عليها عقوبة المخالفة عند اقترانها بظرف من ظروف التخفيف (ف150) وما يصلح بالنسبة لجنح يصلح كذلك بالنسبة للجنايات التي يمكن أن تطبق عليها عقوبات جنحية، تحت تأثير ظروف التخفيف (147ق ج).

_________________

1- عبد السلام المريني : سياسة التجريم في القانون المغربي – تساؤلات الفاعلية و الشرعية – ص 38 مجلة المحاماة العدد 37 السنة 2000.

وأخيرا، فإن الطابع الاصطناعي للتقسيم يظهر على مستوى التمييز بين الجرائم التي يتطلب فيها القصد الجنائي والجرائم التي لا يتطلب فيها ذلك(المخالفات). والتقسيم الثلاثي يقوم في هذا الإطار على التمييز بين الجنايات والجنح، في حين أن عنصر القصد يتطلب في الجنايات وفي أغلبية الجنح.لهذا فهناك من يدعو للقيام بتقسيم ثنائي فقط.1

· عدم تناسبه مع المعطيات العلمية :
يرتكز التقسيم الثلاثي للجرائم على معطيات تفترض وجود ثلاثة أنواع من المجرمين:المجرم الذي يجب أن تتخذ في حقه عقوبة مثالية، والمجرم المتوسط الخطورة الذي يكون فعله مجرد انحراف عن الطريق والذي يكون قابلا للتقويم، وأخيرا المجرم الذي يرتكب مخالفة بسيطة والذي يجب أن يتخذ في حقه عقوبة ضبطية فقط، ويتم تقدير خطورة الشخص من هذا المنظور ومن ثم العقوبة على أساس الخطورة الموضوعية للجريمة التي يرتكبها، لكن بينت المعطيات الحديثة لعلم الإجرام أن هناك علاقة بعيدة بين خطورة الشخص على المجتمع والفعل الإجرامي الذي يرتكبه، لأنه قد يحصل أن يرتكب شخص فعلا إجراميا خطيرا كالقتل في ظروف معينة، بدون أن يكون ذلك الشخص خطيرا على المجتمع، كما أنه قد يوجد أشخاص يحترفون ارتكاب بعض الأفعال الأقل خطورة لكنهم يعتبرون خطيرين على المجتمع، لكونهم من ذوي الاحتراف الإجرامي .

· خلقه لصعوبات من الناحية العلمية:
يعتمد على العقوبات في التمييز بين الجرائم في التقسيم الثلاثي، وهو ما يؤدي إلى خلق بعض الصعوبات من الناحية العلمية، فنجد مثلا أن الفصل150 ق ج يسمح بالنسبة للجنح الضبطية بالنزول بالعقوبة الحبسية إلى حدود ستة أيام وبالغرامة إلى 120درهما أو إلى 50دراهم، أي إلى عقوبة المخالفة.فهل تطبق هنا أحكام الجنح أم أحكام المخالفات؟

_________________

1- محمد الملياني : مرجع سابق ، ص 175.

كما أن المشرع وبالنسبة لبعض الجنح، قد يأخذ تارة بعقوبة المخالفة (مثلا الفصل 325ق.ج بالنسبة للعقوبة السالبة للحرية ) وتارة أخرى بعقوبة الجناية (مثلا الفصل 197ق.ج) .

لكن رغم الصعوبات التي قد يخلقها اعتماد العقوبة في التقسيم، فإن ذلك لا يبرر التخلي عن مبدأ تقسيم الجرائم على أساس عقوبتها .

المطلب الثاني : اتجاه القانون الجنائي الإسلامي في تقسيم الجرائم

ينطلق الفقهاء المسلمون من العقوبات المخصصة للجرائم في تقسيمهم لهذه الأخيرة، وهو نفس الاتجاه الذي أخذ به المشرع المغربي كما رأينا ذلك سالفا، وعلى هذا الأساس، فإنهم يقسمون الجرائم إلى جرائم الحدود ( الفقرة الأولى ) وجرائم القصاص والدية ( الفقرة الثانية ) وأخيرا جرائم التعزير (الفقرة الثالثة ).

الفقرة الأولى : جرائم الحدود

يعرف الفقهاء جرائم الحدود بأنها ” محظورات شرعية زجر الله عنها بعقوبة مقدرة تجب حقا لله تعالى”.1وكلمة الحد في الفقه الإسلامي تطلق على الجرائم وكذلك على عقوباتها .

فكون الحدود عقوبات تجب حقا لله تعالى، فيعني أن منفعة توقيعها ترجع إلى مجموعالأمة أو ما يسمي الآن بالمصلحة العامة، فكل جريمة تعود المصلحة في العقاب عليها إلى مصلحة الأمة العامة تعتبر من جرائم الحدود. لهذا قدرها الشارع مقدما من حد واحد، بحيث لا يملك ولي الأمر ولا القاضي إلا أن ينزلها بالمذنب كما هي بدون زيادة أو نقصان، لأن علة تشريعها حفظ الضروريات الخمس من الدين والنفس والعقل والمال والنسل.

على أنه إذا كانت هذه العقوبات لا تقبل النزول عنها، إلا أنها تندرئ بالشبهات لقوله عليه الصلاة والسلام ” إدرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم ” ويؤخر استيفائها

_________________

1- محمد سليم العوا : أصول النظام الجنائي الإسلامي ، ص 127.

لمصلحة وتسقط في حالات الضرورة،1 فهذا النوع من الجرائم يتميز بثلاث عناصر أساسية هي :

-1وجوبها تحقيقا للمصلحة العامة

-2عدم جواز الزيادة فيها أو النقص منها

-3عدم جواز العفو عنها من قبل القاضي أو السلطة السياسية ولا من قبل المجني عليه.

· أما كونها محظورات شرعية فمعناه أن الخالق سبحانه وتعالى، هو الذي أضفى الصفة الجرمية علىالأفعال التي تكون هذا النوع من الجرائم، واختص سبحانه وتعالى نفسه بتجريمها ولم يترك الباب مفتوحا للاجتهاد أو القياس لتحديدها.
وعليه فإنه ليس باستطاعة أي شخص مهما سمت مكانته وارتقت في العلم مدارجه أن يضيف أو يدخل في جرائم الحدود المحددة العدد جريمة أخرى ويجعلها منها .

· وأخيرا فإن معنى كون العقوبة فيها مقدرة، أن الله سبحانه وتعالى قد نص عليها في القرآن الكريم وحدد مقدارها بدقة، كما هو الشأن في عقوبة السرقة والزنى والقذف والحرابة وغيرها، كما سنرى ذلك في أوانه .
وتجب الإشارة إلى أن فقهاء الشريعة قد تواطؤ في اعتبار بعض أنواع الجرائم من الحدود، في حين اختلفوا في بعضها هل هي من جرائم الحدود أم لا وذلك على الشكل التالي :

أولا : الجرائم المتفق على كونها من الحدود

وهي جرائم السرقة والحرابة والقذف والزنى :

1 جريمة الزنى: يرجع تجريم هذا الفعل للقرآن الكريم لقوله تعالى : ” ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةوساء سبيلا “2وقوله تعالى أيضا :” الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة “3.

_________________

1- ابن القيم الجوزية : أعلام الموقعين ، ص 8 الجزء الثالث.

2- سورة الإسراء : الآية 32 .

3- سورة النور الآية 2 .

ومن السنة النبوية لقوله (ص) ” خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عاموالثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة”
2جريمة القذف :لهذه الجريمة بدورها سند في القرآن، إذ جاء في الآيتين 4و5 من سورة النور :”والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهن ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ” فهذا النص يجرم القذف ويعاقب عليه، فهو من ثم من جرائم الحدود .

3 جريمة السرقة: سند هذه الجريمة من الكتاب، قوله تعالى :” والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهماجزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم .”1والمقصود بالسرقة عند الفقهاء، هو أخذ مال الغير خفية بنية التملك، وهذا النص صريح في تجريم السرقة .

4جريمة الحرابة: وتسمى أيضا بجريمة قطع الطريق وفي تجريمها جاء في القرآن الكريم قوله تعالى :”إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم …”2

ثانيا : الجرائم الغير متفق على كونها من الحدود

توجد بعض الجرائم لم يتفق الفقه الإسلامي على اعتبارها من جرائم الحدود،3 وهذه الجرائم هي البغي وشرب الخمر والردة.

1 جريمة البغي :ورد ذكر البغي في القرآن الكريم في قوله تعالى :” وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين …”

_________________

1- سورة المائدة : الآية 38 .

2- سورة المائدة : الآيتان 33 – 34 .

3- محمد الملياني : مرجع سابق ، ص 69 .

استنادا إلى هذه الآية يذهب أغلبية الفقهاء إلى اعتبار البغي من جرائم الحدود مستندين كذلك على بعض الأحاديث النبوية الشريفة،1لكن هناك من الفقهاء من يعتبر أن القتال الوارد في الآية الكريمة يقصد به الإصلاح بين المختلفين من المؤمنين.” وأنه حتى إذا اقتضى الأمر دفع البغاة بقتالهم، فإن ذلك لا يسمح بالقول بأنهم مجرمون وبأن قتالهم حدا .

2جريمة شرب الخمر: سندها من الكتاب قوله تعالى:” إنما الخمر والميسر والأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون “2من هذه الآية يتأكد بأن شرب الخمر يعتبر جريمة في الإسلام، ويلحق بالخمر كل مسكر لقول النبي (ص):” كل مسكر خمر وكل خمر حرام.” غير أن عقوبة هذه الجريمة موضع اختلاف، هل هي عقوبة حدية أم لا ؟ فلم يرد في القرآن الكريم تحديد لعقوبة شرب الخمر، أما في السنة النبوية، فإن هذه العقوبة لم تكن واحدة (الضرب بالنعال، بالثياب، باليد…) وليس هذا من خصائص العقوبات الحدية، وهو ما يؤكد الطابع التعزيري لعقوبة شرب الخمر ومن ثم طابع هذه الجريمة3 – 4

3 جريمة الردة : ورد تجريمها بنص صريح من الكتاب حيث قال تعالى:” ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .”5أما من السنة النبوية فقد روي عن النبي (ص) أيضا:” لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول الله إلا

_________________

1- من هده الأحاديث قولهصلى الله عليه و سلم : ” من أتاكم و أمركم على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم و يفرق جماعتكم فاقتلوه” . وقولهصلى الله عليه و سلم أيضا : “ستكون هنات و هنات فمن أراد أن يفرق هده الأمة و هي جمع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ”

2- سورة المائدة :الآية 90.

3- محمد الملياني : مرجع سابق ، ص 60.

4- لا نؤيد ما دهب إليه الأستاذ محمد الملياني ، حينما اعتبر الطابع التعزيري لعقوبة شرب الخمر يخرجها من دائرة جرائم الحدود و يجعلها من جرائم التعازير . و دلك لاعتبارين ، أولهما : أن فقها ء الشريعة الإسلامية قد اتفقا غالبيتهم على الفتوة الشهيرة للإمام علي رضي الله عنه في تحديد عقوبة شارب الخمر حينما أفتى بأن شارب الخمر : ” إدا شرب سكر ، و إدا سكر هدا ، و إدا هدا قذف ، و حد القاذف ثمانون جلدة ” فاجتمع سلف الأمة و في مقدمتهم جهابذة الصحابة و من بعدهم التابعين على هدا الرأي، و لم يعلم منهم مخالف لهدا القول إلا قليلا . أما ثانيهما : هو الخلط الواضح الذي وقع فيه أصحاب هذا الرأي) من يعتبرون شرب الخمر من جرائم التعازير( عند التمييز بين جرائم التعزير و جرائم الحدود ، إذ اعتبروا جريمة شرب الخمر من جرائم التعزير في حين أن هده الأخيرة كما هو معلوم هي من وضع أولي الأمر و أهل الحل و العقد من المسلمين ، أي أن إضفاء الصفة الجرمية على هذا النوع من الجرائم يختص به من ذكرناهم آنفا . بينما يكون تقرير نص التجريم في جرائم الحدود من وضع الخالق سبحانه و تعالى . و تحصيل ذلك أن جريمة شرب الخمر و قد تم تجريمها بنصوص قطعية الدلالة والثبوت من الكتاب و السنة لا يمكن إلا أن تكون من جرائم الحدود .

5- سورة البقرة : الآية 127 .

بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة.”

فهذه النصوص تحرم الردة وتعاقب عليها بعقوبة حدية هي القتل.

لكن هناك من له رأي خاص في هذه الجريمة.1.2باعتبار أن هناك من القرائن ما يبين أن صيغة الحديث الأول لا تفيد الوجوب. وأن المقصود ب ” المارق من

الدين التارك للجماعة” في الحديث الثاني هو “المحارب” الذي تطبق عليه عقوبة الحرابة، ويرى صاحب هذا الرأي بأن عقوبة الردة تعزيرية، سواء كانت عقوبة إعدام أو عقوبة أخرى.

الفقرة الثانية : جرائم القصاص والدية

القصاص –بالكسر-القود، يقال: أقص الأمير فلانا من فلان اقتص له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله قودا، وأقص الرجل من نفسه. مكن من الاقتصاص منه. وأقصه الموت وقصه أي دنا منه، وضربه حتى أقصه من الموت وقصه على الموت أي أدناه منه، ويقال أيضا : تقاص القوم أي قاص كل واحد منهم صاحبه.3

أما الدية فهي المال الذي يقوم الجاني بدفعه للمجني عليه أو لأوليائه كعوض عن الجناية التي ارتكبها، سواء كانت الجناية على النفس أو على ما دون النفس، إلا أن الفقهاء اصطلحوا على أن يطلقوا “الدية ” على العوض الذي يدفعه الجاني بدلا عن الجناية على النفس، والإرش على العوض الذي يدفعه الجاني بدلا عن الجروح .4

أما الجرائم التي يعاقب عليها بالقصاص هي : القتل العمد، وإتلاف الأطراف عمدا، والجرح العمد.

أما الجرائم التي يعاقب عليها بالدية فهي، جرائم القصاص إذا عفي عن القصاص أو امتنع القصاص لسبب شرعي، ثم القتل شبه العمد والقتل الخطاء، وإتلاف الأطراف خطاء، والجرح الخطاء.

_________________

1- محمد سليم العوا : مرجع سابق ، ص 146 .

2- نستغرب هذا الرأي الذي ذهب إليه د. محمد سليم العوا ، مع أن منطوق الحديث صريح قاطع في قتل المرتد . فلما و الحالة هذه الاجتهاد في تفسير معنى الحديث و القول بأن ” المارق من الدين التارك للجماعة ” الذي ورد في الحديث الثاني هو ” المحارب ” إذا كانت جريمة الحرابة و قطع الطريق لها أحكامها الخاصة التي تميزها عن جريمة الردة .

3- محمد فاروق النبهان : مباحث في التشريع الجنائي الإسلامي ، ص 63 دار القلم 1977 .

4- محمد فاروق النبهان : مرجع سابق ، ص 144 .

أولا : الجرائم التي يعاقب عليها بالقصاص

جمع الفقهاء هذه الجرائم في ثلاث أنواع هي:

1 القتل العمد: يقول تعالى :” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق “1ويقول أيضا :” يا أيهاالدين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان .”2

ومن السنة المطهرة قوله الرسول (ص) :” من اعتبط مؤمنا بقتل فهو قود به إلا إن رضي ولي المقتول.” ويقول (ص) أيضا :” من قتل قتيل فأهله بين خيرتين : إن أحبوا فالقود-القصاص-وإن أحبوا فالعقل-الدية-“.

2 جريمتي إتلاف الأطراف عمدا والجرح العمد:
يقول تعالى :” ولكم في القصاص حياة يا أوليالألباب لعلكم تتقون3ويقول أيضا:” وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين، والأنف بالأنف والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص ، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.”4ويضيف في سورة أخرى:” فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم “1 فهذه النصوص صريحة في تحريم إتلاف الأطراف والجراح، وفي جعل عقاب الجريمة القصاص في حالة العمد.

ثانيا : الجرائم التي يعاقب عليها بالدية
حدد الفقهاء هذه الجرائم في أربع أنواع هي:

1 جريمة القتل شبه العمد :يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :” ألا إن في قتيل عمد الخطاء قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل ” فهذا النص يحرم القتل شبه العمد، ويعاقب عليه بالدية .

_________________

1- سورة الإسراء : الآية 33 .

2- سورة البقرة : الآية 178 .

3- سورة البقرة : الآية 179 .

4- سورة المائدة : الآية 45 .

2 جريمة القتل الخطاء : يقول الله تعالى :” وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطاء و من قتل مؤمنا خطاء فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، وكان الله عليما حكيما .”1 ويقول رسول الله (ص) :” وفي دية الخطاء عشرون حقة، وعشرون جدعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبنون، وعشرون بنو مخاض ” فهذه النصوص تحرم القتل الخطاء وتعاقب عليه بالدية وتبين مقدارها وأوصافها.

3 جريمة قطع الأطراف خطاء : حدد الرسول (ص) العقوبة على أساس ما كان في الجسم منهعضو واحد كالأنف والذكر واللسان ففيه الدية كاملة، وما كان في الجسم منه عضوان ففيه نصف الدية قال صلى الله عليهوسلم :” في الأنف إذا أوعب ما رنه جدعا الدية” وقال أيضا :” وفي اللسان الدية، وفي الذكر الدية .” وفي حديث آخر : ” في اليدين الدية وفي الرجلين الدية .”

4 جريمة الجرح خطأ : حدد النبي (ص) عقوبة بعض هذه الجرائم، فجعل أرش الموضحة خمسامن الإبل، وأرش الهاشمية عشرا من الإبل، وفي الآمة والدامغة ثلث الدية وجعل في كل جرح يصل إلى الجوف ثلث الدية .
والقاعدة العامة في الشريعة: أن كل تلف أو جرح لم يحدد له الرسول صلى الله عليه وسلم دية أو أرشا فيه حكومة: وهي ما يحكم به القاضي بناء على تقدير أهل الخبرة بحيث لا يمكن أن تصل الحكومة إلى الدية أو الأرش الذي عينه الرسول (ص) للتلف أو الجرح الذي يليه في الشدة .

الفقرة الثالثة : جرائم التعزير

أولا : تعريف التعزير في الفقه الجنائي الإسلامي

لا يختلف كثيرا مفهوم التعزير في اللغة عنه في اصطلاح الفقهاء:

فالتعزير في اللغة مأخوذ من عزر وعزر بمعنى منع وأدب ووقر، فهو من ألفاظ

_________________

1- سورة البقرة : الآية 194 .

الأضداد، ويستعمل كذلك بمعنى النصرة قال تعالى :” لتعزروه وتوقروه ” ومن المنع سميت العقوبة غير المقدرة تعزيرا، لأنها تمنع من معاودة الفعل المعاقب عليه .1

أما التعزير في اصطلاح الفقهاء فيطلق على كل ” عقوبة غير مقدرة تجب حقا لله تعالى أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة “2

وقد تختلف عبارة بعض الفقهاء في تعريف التعزير اختلافا يسيرا منها أن التعزير “عقوبة” تكون في كل معصبة لا حد فيها ولا كفارة وفي كل حد لم تتكامل أركانه تجب حقا لله تعالى أو لآدمي .”3ولفض الحد الوارد في التعريفين يأتي بمعنى التقدير وليس بمعناه الاصطلاحي كعقوبة محددة لأفعال معينه وردت بتحديد عقوباتها نصوص القرآن والسنة.

وبناء على التعريفين السالفين، يتبين بأنه يعاقب بالتعزير في صنفين من الجرائم:

-1 الجرائم المعاقب عليها بالحد أو بالقصاص إن تخلف ركن من أركانها، ففي السرقة مثلا يعزر من يسرق من غير حرز أو من يسرق دون النصاب، وفي الزنى يعاقب بالتعزير من يجامع دون الفرح، وفي القذف يعزر من يقذف بالسب والشتم دون الزنى وهكذا.

-2 الجرائم التي لا حد فيها ولا قصاص وهي غالبية الجرائم، وقد ساق ابن تيمية4طائفة من جرائم التعزير بقوله ” المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذي يقبل الصبيان ويقبل المرأة الأجنبية، أو يباشر بلا جماع، أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة …كالذين يغشون في الأطعمة والشباب ونحو ذلك أو يطفف المكيال والميزان، أو يشهد بالزور، أو يرتشي في حكمه…فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي.”

_________________

1- أمير عبد العزيز : الفقه الجنائي في الإسلام ، ص 417 دار السلام الطبعة الأولى 1997 .

2- محمد سليم العوا : مرجع سابق ، ص 259 .

3- عبد العزيز عامر : التعزير في الشريعة الإسلامية ، ص 36 الطبعة الثالثة 1956 .

4- عبد القادر عودة : مرجع سابق ، ص 687 .

ثانيا : جرائم التعزير ومبدأ شرعية التجريم والعقاب

يعتبر التعزير من أوسع أنواع الجرائم نطاقا في الفقه الجنائي الإسلامي، وهو لمرونة قواعده يعد من أصدق الأدلة على صلاحية الجانب الجنائي في الشريعة الإسلامية للتطبيق في عصرنا هذا، وفي كل العصور.

ولقد ذهب بعض الكاتبين من المستشرقين خاصة1إلى القول بتعارض نظام

التعزير في الشريعة الإسلامية مع قاعدة التجريم والعقاب، على اعتبار أن جرائم التعزير هي جرائم لا نص عليها لا من الكتاب ولا من السنة، وأنه لما ترك أمر تحديدها وتقريرها لأولى الأمر من أهل الحل والعقد، فإن ذلك أتاح لهؤلاء سلطة تقديرية واسعة، كانت سببا في تعسفهم وشططهم وتحكيم الأهواء عند وضع نصوص وأحكام ومقتضيات هذا النوع من الجرائم.

وقد رد الفقهاء على هذه الادعاءات مؤكدين بأن الشريعة الإسلامية قد طبقت قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ذلك أن الشريعة وإن تركت لأولى الأمر في الأمة أن يحرموا ما يرون أنه ضار بمصالح الجماعة أو أمنها أو نظامها، وأن يعاقبوا على مخالفتها إلا أنها لم تترك لهم حرية مطلقة فيما يحلون أو يحرمون، بل أوجبت وقيدت ذلك بأن يكون متفقا مع أحكام الشريعة ومبادئها العامة ومقاصدها الجليلة وروحها السمحة .

فيما ذهب البعض الآخر2 إلى الخلوص إلى أنه لا مناضاة ولا تعارض بين نضام التعزير في الشريعة الإسلامية، وبين قاعدة شرعية التجريم والعقاب، فإذا كان مقتض القاعدة الأخيرة أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص فإن جرائم التعزير لم تحد عن هذا النهج على اعتبار أن نص التجريم في هذه الجرائم هو ذلك الأمر أو النهي الذي خالفه مرتكب المعصية مع التقرير بأن كل معصية في نظر الفقه الجنائي الإسلامي تعتبر جريمة موجبة للعقاب.

_________________

1- جميل عبد الباقي الصغير : الشرعية الجنائية ، دراسة تاريخية و فلسفية . ص 38 دار النهضة العربية 1993 .

2- محمد سليم العوا : مرجع سابق ، ص 231 .

ومن ثم فليس هناك خروج عن قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات، بل إن الأمر يتعلق فقط بتطبيق مرن يتيح توفير الحماية القانونية للمصالح الاجتماعية المحمية بحيث لا تقف محدودية النصوص حائلا دون العقاب على الإخلال بهذه المصالح.

وفي تأصيل جرائم التعزير في القانون الجنائي الإسلامي، فينبغي الإشارة إلى ورود العديد من النصوص سواء في الكتاب أو السنة والتي تناولت هذا النظام التجريمي الفريد نورد بعضها كالآتي :

-فمن الكتاب الكريم : يقول تعالى :” واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا “1 .وقد اعتبر بعض الفقهاء هذه الآية هي الأصل في التعزير، وهم يؤسسون هذا النظر على قياس الحاكم أو أولى الأمر في الدولة المسلمة على الزوج في البيت المسلم، فكما أعطي الزوج حق القوامة في بيته أعطي أولى الأمر حق القوامة في المجتمع كله.2

كما نجد في سورة النساء أيضا تطبيقا آخر من تطبيقات التعزير، وذلك في قوله تعالى بعد أن ذكر عقاب النساء اللاتي يأتين الفاحشة ” واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا أو أصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما .”3 فهذه الآية تقرر عقوبة إتيان الرجال أو الشذوذ الجنسي، والأمر بالعقوبة هنا موجه إلى أولي الأمر في الدولة المسلمة، وليس في الآية الكريمة بيان نوع العقوبة ولا مقدارها ولا كيفية تنفيذها، وهي من ثم عرضة للتباين والاختلاف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان .

-أما السنة النبوية : فقد تعددت النصوص المؤصلة لبعض جرائم التعزير في الشريعة الإسلامية، بحيث تتضمن تطبيقات كثيرة لهذا النوع من الجرائم نذكر منها:

· التعزير على الإساءة لقائد الجيش
· التعزير على مماطلة المدين الموسر
· التعزير على منع الزكاة
· التعزير على سرقة لا توجب الحد
_________________

1- سورة النساء : الآية 34 .

2- أمير عبد العزيز : مرجع سابق ، ص 418 .

3- سورة النساء الآية 16 .

المبحث الثالث : الضوابط المقيدة للسلطة المختصة بالتجريم

المطلب الأول : السلطة المختصة بالتجريم

سنحاول التطرق في هذا المطلب إلى السلط المخول لها حق التجريم في كل من القانون الجنائي المغربي (الفقرة الأولى) والشريعة الإسلامية (الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى : السلطة المختصة بالتجريم في القانون الجنائي المغربي

لا يعد كل نص متضمن لمقتضيات جنائية نصا تشريعيا جنائيا تلتزم المحاكم بتطبيقه وإنما ينبغي زيادة على ذلك أن يكون صادرا من الجهة أو السلطة المخول إليها التشريع في الميدان الجنائي دستوريا1

ويقضي مبدأ الشرعية في الميدان الجنائي بأن تكون قواعد القانون الجنائي من مستوى القانون، أي أن تصدر عن السلطة التشريعية الممثلة في مجلس النواب، ويسير الدستور المغربي في هذا الاتجاه، إذ أن الفصل 46منه ينص صراحة في فقرته الثالثة على أن مجلس النواب يختص في ” تحديد الجرائم والعقوبات الجارية عليها والمسطرة الجنائية ” ويمكننا هذا من تحديد الجهة المختصة في وضع قواعد القانون الجنائي في مجلس النواب وحده، عملا بمبدأ الشرعية الذي ينص عليه الدستور في فصله102.

ولكن مع ذلك فإن هناك بعض الاستثناءات التي يجوز للسلطة التنظيمية بموجبها ممارسة صلاحية التشريع على أساس تفويض إداري من السلطة التشريعية أو على أساس تفويض تلقائي وبقوة القانون.

وبناء على الاستثناء الأول، فإنه ” يمكن للبرلمان أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود ولغاية معينة بمقتضى مراسيم تدبيرية يختص القانون عادة باتخاذها.

_________________

1- د. عبد الواحد العلمي : مرجع سابق ، ص 93 .

2- د. محمد الملياني : مرجع سابق ، ص 123 .

وبناء على الاستثناء الثاني يمكن للحكومة بين الدورات البرلمانية ودونما حاجة إلى إذن من البرلمان، ممارسة صلاحية التشريعية بواسطة مراسيم قوانين( الفصل 55 من الدستور) إلا أن رقابة السلطة التشريعية تبقى قائمة على مراسيم القوانين هذه التي يتعين الحصول بشأنها على موافقة اللجان البرلمانية المعنية من جهة وعلى مصادقة البرلمان عليها في أول دوراته العادية التالية لآخر مرسوم قانون، من جهة أخرى.

وترتيبا على ذلك، يسوغ الاستنتاج من خلال تحليل الفصول الدستورية أن الحكومة أو السلطة التنظيمية لا تتمتع، خارج التفويض المشار إليه بأي اختصاص أصيل في التشريع، وبالتالي في التجريم والعقاب.

إلا أن هذا الاستنتاج لا يستقيم تماما والمقتضيات المنصوص عليها في الفصل 609 الذي يسمح بالعقاب بغرامة تتراوح ما بين 10 و120 درهما، من يخالف مرسوما أو قرارا صدر من السلطة الإدارية بصورة قانونية إذا كان هذا المرسوم أو القرار لم ينص على عقوبات خاصة (الفقرة 11)أي أنه يسمح للسلطة الإدارية بالقيام بعملية التجريم.1

ومع هذه الوضعية نتساءل عن جدوى التنصيص على عقوبة (الفصل609 الفقرة 11)منه التي تشكل تناقضا لمضمون الفصل 45من الدستور مما يستوجب معه تدخل المشرع لتنسيق نصوص القانون الجنائي مع الدستور .2

ومن جهة أخرى قد يتولى ملك المغرب التشريع في الميدان الجنائي بظهائر في الحالات الآتية :

· في حالة الاستثناء طبقا للفصل 35 من الدستور، ذلك أن إعلان حالة الاستثناء تسمح للملك -كما هو معلوم- بممارسة التشريع رغم وجود أي نص مخالف، في جميع الميادين و من ضمنها الميدان الجنائي.

_________________

1- محمد الملياني : مرجع سابق ، ص 123-124 .

2- د.عبد السلام بنحدوت : مرجع سابق ، ص 110 .

· حالة النيابة طبقا للفصل 71 حيث يخول للملك تلافيا للفراغ الذي يحصل نتيجة لحل مجلس النواب، وفي انتظار انتخاب مجلس نيابي جديدا أن يمارس السلطة التي يختص بها مجلس النواب ضمن جملتها التشريع في النطاق الجنائي.
· في حالة الانتقال طبقا للمادة 102 من الدستور التي تخول للملك وإلى أن يتم تنصيب مجلس النواب المنصوص عليه في الدستور أن يتخذ كل الإجراءات التشريعية اللازمة لإقامة المؤسسات الدستورية ويسير السلطات العمومية وتدبير شؤون الدولة ويدخل ضمنها بطبيعة الحال التشريع في الميدان الجنائي.1

الفقرة الثانية : مصادر التجريم في التشريع الجنائي الإسلامي

تعددت المصادر التشريعية التي بها تعرف الأحكام منها ما هو مختلف فيه ومنها ما هو متفق عليه، فلا خلاف على مصادر ثلاث، القرآن، السنة، والإجماع أما باقي المصادر وهي القياس والمصلحة – وتشمل الاستحسان والمصلحة وسد الذرائع والعرف –والاستصحاب فمختلف عليها.

وسنقتصر في هذه الفقرة على القرآن والسنة والإجماع والقياس

1. القرآن :هو مصدر هذه الشريعة الأول، ومرجع كل أدلتها والأصل الذي تفرع عنه كل ما جاءبه محمد صلى الله عليه وسلم . نصوصه قطعية الورود كما أنزلت على الرسول من ربه، حجة على كل مسلم ومسلمة واجبة الاتباع أيا كان نوعها وهي على نوعين: أحكام يراد بها إقامة الذين وتشمل أحكام العقائد والعبادات، وأحكام يراد بها تنظيم الجماعة الإسلامية وتنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم وتشكل أحكام المعاملات والعقوبات وغيرها.
وقد ذكر القرآن بعض الجرائم وبين عقوبتها وهي تلك التي يعد الاعتداء فيها أكبر اعتداء على الجماعة والأفراد، لأنه اعتداء على ما هو ضروري في المصالح التي أوجب الإسلام حمايتها وهي: حفظ النفس والدين والمال والنسل والعقل، فالاعتداء بالقتل والردة وقطع الطريق والزنا والقذف والشرب، اعتداء على ما هو

_________________

1- عبد الواحد العلمي : مرجع سابق ، ص 94 .

ضروري للحياة الإسلامية الكريمة بالنسبة لهذه الأمور الخمسة، فنص فيه على أكبر عقوبة لأكبر جريمة ثم يكون التدرج النزولي لمن يقيس على ما نص القرآن على عقوبته.

وقد ذكر القرآن في مواضع النهي جملا من المعاصي الإنسانية التي تعتبر رؤوسها، وبعض هذه المعاصي ذكره بالنص، وهي تلك التي تمس مصلحة الجماعة مباشرة، ونص على بعض آخر بالتعميم، عبر عنه بالفواحش والبغي في قوله تعالى في آية جامعة لمعاني الإسلام ” إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ويعضكم لعلكم تذكرون “.1

2. السنة:يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص، مما لمينص عليه في الكتاب العزيز، بل إنما نص عليه من جهته عليه الصلاة والسلام، كان بيان لما في الكتاب أولا.
ويطلق أيضا في مقابلة البدعة، يقال ” فلان على بدعة ” إذ عمل على خلاف ما عمل عليه صلى الله عليه وسلم2 .

وتنقسم السنة من حيث ذاتها إلى قولية وفعلية وتقريرية ولا خلاف بين علماء المسلمين الذين يعتد برائيهم في أن السنة أصل من أصول التشريع ومصدر من مصادر الفقه، يجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها وإنها متى صحت نسبتها إلى الرسول (ص) كانت كالقرآن في تحليل الحلال والحرام وقد دل على حجية السنة ما جاء في القرآن الكريم من الأمر بطاعة رسول الله (ص) ثم ما ورد من الوعيد الشديد لمن خالفه يقول تعالى ” وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهون ” سورة الحشر آية 7 ” من يطع الرسول فقد أطاع الله ” سورة النساء الآية 79 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدل دلالة قاطعة على حجية السنة في الجملة ووجوب العمل بها واعتبارها مصدرا من مصادر الشريعة3

_________________

1- هبة أحمد مرجع سابق : ص 20-21 .

2- الشاطبي ” موافقة ، ص 3-4 الجزء الرابع دار المعرفة بيروت الطبعة الأولى بدون تاريخ .

3- د. عبد الخالق أحمدون و د. مرزوق آيت الحاج : مباحث في أصول الفقه ، ص 54-55 مطبعة سبارطيل 2003 .

والسنة قد تكون مفصلة تبين المراد من القرآن وتقيد مطلقه وتفصل مجمله .. ذلك أن حد النصاب في السرقة مجمل في قوله تعالى ” والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكلا من الله ” مجمل في النصاب الذي يقطع به، وشروط النصاب وشروط القطع، فجاءت السنة وبينت كل ذلك.

وإما قد تكون سنة متضمنة حكما سكت عنه القرآن وذلك مثل دية الجنين ومثل كون الديات تورث أو تكون للعصبة.

والسنة هي التي بينت طريق إثبات الجرائم الخاصة بالقصاص، فهي التي بينت أن القصاص يثبت بالإقرار ويثبت بشهادة رجلين ، ولم يثبت أن الرسول (ص) سوغ شهادة رجل وامرأتين.

والسنة هي التي بينت حد الشرب، وهي التي بينت طريقة إثبات الحدود في الجملة وطريق درئها بالشبهة، وماهية الجريمة فيها .

وبالجملة فإن النبي (ص) قد تركنا بعد أن بلغ رسالة ربه، وترك فينا ما أن أخذنا به لا نضل من بعده أبدا، ترك فينا كتاب الله وسنته التي أصبحت مصدرا تشريعيا واجب الاتباع في قوله تعالى ” وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا” سورة الحشر1

3. الإجماع : هو اتفاق مجتهدي أمة محمد (ص) بعد وفاته في عصر من العصور، على حكم شرعيوالمراد بالاتفاق الوارد في التعريف الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل.
وأساس الإجماع هو القرآن والسنة واعتباره مصدرا تشريعيا مرده إلى نصوصهما ففي قوله تعالى ” يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ” وقال الرسول (ص) ” لا تجتمع أمتي على خطأ ” وقال ” لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلالة “2

1- هبة أحمد مرجع سابق : ص 22 .

2- د. عبد الخالق أحمدون و د. مرزوق أيت الحاج : مرجع سابق ، ص 64 .

وقد ثبتت بعض العقوبات بإجماع الصحابة، فحد الشارب قد أجمعوا عليه وثبت بإجماعهم، ومن المسائل أيضا التي ثبتت بالإجماع قتال المرتدين واعتبار مانع الزكاة إن كان من جماعة لها قوة ومنعة من المرتدين، وأجمع الصحابة على أن القتل بالسوط أو ما يشبهه مما لا يقتل به عادة لا قصاص فيه.

وقد سلم الفقهاء بإجماع الصحابة خصوصا في عهد عمر رضي الله عنه، فقد منع الصحابة من الخروج إلى الأمصار لينتفع من علمهم ولكيلا يفتن الناس بهم فكان الإجماع ممكنا،أما بعد الصحابة فكان الإجماع بعيد الحصول لأنه لا ينعقد إلا بعلماء الأمة المجتهدون في عصر من العصور مهما تباعدت الأمصار، ولهذا أنكر الشافعي وأحمد وقوعه .1

4. القياس: هو المصدر الرابع من مصادر التشريع، أرشد إليه القرآن في مواضع كثيرة تارة دل عليهبوجوب العمل به، وتارة بذكر علل للأحكام وتارة بضرب الأمثال كما أرشدت إليه السنة الكريمة، وقد ثبت أن الرسول (ص) قاس حتى بلغت أقسيته ما يزيد على المائة، ويعتبر القياس أهم مصادر التشريع الإسلامي
والقياس هو إلحاق أمر لم ينص على حكمه في كتاب أو سنة أو الإجماع، بأمر نص عليه في إحداها لاشتراكهما في علة الحكم2

وكما سبق وأشرنا فالنصوص الشرعية غالبا ما ترد مقترنة بذكر علة الحكم أو المصلحة التي شرعت لأجلها مما يدل على أن أحكام الله تدور مع مصالح العباد وإرشاد المسلمين إلى قياس ما لم يرد فيه نص بما ورد فيه.

وثبوت التعزير بالقياس أمر لا خلاف عليه، لأنه كله مبنى على تقدير ولى الأمر أو تقدير القاضي الذي يفوض إليه ذلك …ولكن الخلاف في جواز القياس في الحدود والقصاص … فمن قائل بجوازها لأن القياس من طرق الاستنباط الصحيح وطرق القضاء العادل ومن قائل أن الحدود والقصاص لا تثبت في جرائم بالقياس لأن الأمور المقدرة لا يدخل فيها القياس .3

_________________

1- هبة أحمد مرجع سابق : ص23 .

2- د. عبد الخالق أحمدون و د. مرزوق آيت الحاج : مرجع سابق ، ص 72-73 .

3- د. هبة أحمد : مرجع سابق ، ص 24 .

و من أمثلة القياس:

– تحريم النبيذ قياسا على الخمر وذلك لاشتراكهما في العلة وهي الإسكار

-وقد حكم أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بقتل الجماعة الذين قتلوا واحد، إذ توقف عمر في قتل الجماعة بالواحد قال له علي أرأيت يا أمير المؤمنين لو أن جماعة اشتركوا في سرقة جزور و ذبحوه فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت قاطعهم؟ قال نعم، فكذا لك هذا فأمر بقتلهم .

-قول علي في شرب الخمر أنه إذا شرب سكر وإذ سكر هذى وإذ هذى افترى، فحده حد المفترين

-قياس عمر الخمر على الشحم، وأن تحريمها تحريم لثمنها.

وهذه بعض الأمثلة التي تدل دلالة قاطعة على العمل بالقياس

إن نصوص القرآن والسنة محدودة متناهية لانتهاء الوحي، وحوادث الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية والمتناهي لا يفي بأحكام غير المتناهي، فلا سبيل إلى إعطاء الوقائع الجديدة حكمها في ضل الشريعة الإسلامية التي جعلها الله خاتمة الشرائع السماوية، وتعهد بها البشر إلى يوم القيامة، إلا عن طريق القياس وبذلك تكون الشريعة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان وفية بحاجات الناس المتجددة ومستجيبة لمطالب الأمم المختلفة ومحققة لسعادتها على أكمل وجه1

وهكذا إذا كانت القوانين الوضعية توضع من طرف الإنسان الذي تغلب عليه الأهواء والشهوات فإن واضع أحكام الشريعة الإسلامية هو خالق هذا الكائن الإنساني، العليم بما يصلحه ويصلح له، وهو المطلع على خفايا تكوينه وتركيبه، وخفايا الملابسات الأرضية والكونية كلها في مدى الحياة البشرية كذلك.

فإذا وضع له منهجا كان ملحوظ في هذا المنهج كل هذه العوامل التي يستحيل على البشر أفرادا ومجتمعين في جيل من الأجيال وفي جميع الأجيال كذلك أن يطلعوا عليها لأن بعضها في حاجة إلى استحضار جميع التجارب والظواهر للحياة البشرية في جميع أجيالها السابقة والحاضرة والمستقبلية التي لم توجد بعد.

_________________

1- د. عبد الخالق أحمدون و د. مرزوق أيت الحاج : مرجع سابق ، ص 79 .

وهذا مستحيل وبعضها في حاجة إلى الاطلاع على كل خفايا الكون المحيط بالإنسان ، وهذا مستحيل كذلك وذلك إلى قصور الإدراك البشري ذاته عن الحكم الصحيح المطلق حتى على ما يمكن أن تستحضر فيه التجارب والظواهر، لأنه محكوم بطبيعته الجزئية -غير المطلقة- ومحكوم بالهوى والضعف ومن ثم يقول الله (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات ولأرض) ويقول جل قدرته (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)1

كما أن الأحكام التي جاء بها الرسول (ص) الذي لا ينطق عن الهوى ما هي إلا وحي يوحى.

أما الإجماع فقد أكد الرسول (ص) على عدم اجتماع أمته على خطأ .

ويبقى القياس أهم اختلاف بين الشريعة الإسلامية والقانون الجنائي المغربي الذي يحرم القياس في المادة الجنائية هو بدوره –أي القياس-تحكمه قواعد وضوابط فقهية دقيقة حتى لا يخضع القياس لأهواء المجتهدين مما يترتب عليه الخروج عن مقاصد الشريعة.

إن الأحكام الفقهية الإسلامية بالإضافة إلى كونها أحكام قانونية تحكم علاقات الناس بعضهم مع بعض، هي أحكام دينية تستمد من الوحي مباشرة أو من طرق الاستنباط ارشد الوحي إلى جواز العمل بها ولاعتماد عليها، وتستوي في ذلك الأحكام الجنائية في الفقه الإسلامي مع الأحكام غير الجنائية فيه2

المطلب الثاني : ضوابط التجريم

كيف يتحدد تجريم فعل من الأفعال وعلى أي أساس ؟ هل هناك شيء في الطبيعة الداخلية للفعل تمكن من الجزم بأن الأمر يتعلق بجريمة أو لا ؟ أو بمعنى أوضح ما هي الضوابط التي على المشرع مراعاتها.

_________________

1- خالد عبد الحميد فراج : مرجع سابق ، ص 64 – 65 .

2- محمد سليم العوا : مرجع سابق ، ص 48-49 .

تعددت الأجوبة الفقهية على هذه الأسئلة، ويمكن حصرها في فكرتين أساسيتين أولهما : الضرورة وثانيهما : العدل.

الفقرة الأولى : الضرورة

ينصرف مفهوم الضرورة إلى ما يفيد أن المشرع يجب أن ألا يجرم سلوكا أو يؤثم تصرفا إلا إذا كانت هناك ضرورة تقتضيه، بحيث لا تمتد يد المشرع التجريمية إلا على الأفعال التي تمثل بغيا واعتداء على المصالح والقيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يستهدف حمايتها نص التجريم.

ومن هنا كانت الضرورة في التجريم إحدى الضوابط الشرعية في مجال الحماية الجنائية لحقوق الإنسان.1

وعلى هذا النحو إذا كان ارتباط التجريم بالضرورة يمثل أحد أسس وضوابط شرعيته، فإن هذه الأخيرة تستلزم توافر أمرين :

· أن تكون المصلحة جديرة بالحماية الجنائية .
· ضرورة أن يمثل السلوك المؤثم بغيا حقيقيا وجسيما على المصلحة المحمية جنائيا .
إلا أن عنصر الضرورة وعلى رغم أهميته فإنه لا يكفي دائما لرسم الخط الفاصل بين الممنوع والمباح لذلك فقد تعرض لمجموعة من الانتقادات من عدة أوجه :

-فمن جهة، يرتبط مضمون الضرورة بالزمان، وليست ضرورة الأمس هي ضرورة اليوم، فإذا كانت هناك أفعال نتفق مع أسلافنا على ضرورة تجريمها، فإننا نختلف معهم حول تجريم أفعال أخرى.2

_________________

1- خيري أحمد الكباش : الحماية الجنائية لحقوق الإنسان) دراسة مقارنة( ص 388 طبعة 2002.

2- محي الدين أمزازي : العقوبة ، ص 229 .

-ومن جهة أخرى، تفتقر فكرة الضرورة لعناصر مضبوطة ومحددة تجعل الإجماع عليها في زمان معين ممكنا، فإذا ما أخذنا مثلا جريمة الإجهاض فإننا نجد تداخل العديد من الاعتبارات التي تتباين من مجتمع إلى آخر ومن زمان إلى آخر، فمن الواضح أن تجريم كل أشكال الإجهاض يجد في الاعتبارات الأخلاقية والدينية سندا له، لكنه ينتج في نفس الوقت آثار سلبية على مفهوم الحرية الفردية ولا يراعي ضرورة المحافظة على صحة وحياة الأم كما ذهب إلى ذلك العديد من التشريعات الجنائية الحديثة.

وأخيرا فإنه لا يمكن القبول بفكرة الضرورة كمعيار للتجريم، إلا إذا تبين بوضوح أن تحديد الضرورة يقوم على مقياس مقبول .

إن كل هذه الاعتبارات دفعت بالعديد من التشريعات الجنائية الحديثة إلى الاستعاضة عن المعيار السابق بمعيار آخر هو معيار العدل .

الفقرة الثانية: العدل

فرضت فكرة العدل نفسها كمعيار وضابط للتجريم إثر بروز سلبيات وحدود معيار الضرورة، ومؤدى هذه الفكرة : أن المشرع عليه ألا يجرم سوى الأفعال التي تقوي معاقبتها الإحساس الجماعي بالعدل.1 وقد عرف التنظير لهذا المعيار تطورا جعله يبتعد تدريجيا عن المجال الأخلاقي ليلتحم بفكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وهكذا فقد كانت النظرية الأولى ترى في القانون الجنائي صياغة متطورة لقواعد الأخلاق، بالنظر إلى العلاقة الوطيدة التي تجمع بين التشريع الجنائي والأخلاق والدين، هذا الأخير شكل مبادئ وقيم من قبل العدل إحدى أهم مرتكزاته وتوجهات إصلاحية.

فإذا ما سلمنا بالمكانة الخاصة التي يتبوؤها الإسلام باعتباره الدين الرسمي للدولة، وكمرجع دائم للقانون وكمنبع ينهل منه المجتمع والأفراد، الضوابط الفاصلة بين الحلال والحرام، فإننا نجد بأن فكرة العدل بمختلف تجلياتها شكلت قبلى للمشرع الجنائي عند وضعه للقواعد الجنائية، وهاجسا ذا أهمية بالغة في تجريمه لأفعال

_________________

1- محي الدين أمزازي : مرجع سابق ، ص 231 .

وسلوكات الأفراد والجماعات على الأقل بالنسبة للجرائم التقليدية، أو هذا ما قد يبدوا في ظاهر الأمر.

أما النظرية الثانية، فقد اعتمد أصحابها على تبرير العدل كمعيار للتجريم انطلاقا إما من مفهوم الديمقراطية أو من مفهوم حقوق الإنسان .

فبالنسبة للتيار الأول الذي يربط بين العدل والديمقراطية، فقد ظهر كنتيجة لفصل الدولة عن الدين وفشل معيار الضرورة في تحقيق العدل وحماية الحقوق والحريات وينطلق أصحاب هذا التيار من اعتبار الديمقراطية الأساس الذي يسمح بالتعبير عن مفهوم العدل وتحديده، لذلك فهم يؤكدون بأن أي مجتمع ديمقراطي لا يمكن أن يقبل سوى بتجريم الأفعال والتصرفات التي تشكل اعتداء على القيم المعتبرة أساسية من طرف أغلبية المواطنين، وليس تلك القيم أو المصالح التي كان يرى سلفهم ضرورة الحفاظ عليها، وهو ما يعني إمكانية تنظيم مراجعة منتظمة لمضمون القانون الجنائي والسهر على مسايرته للإحساس الجماعي بالعدل.

أما التيار الثاني الذي يربط فكرة العدل بحقوق الإنسان، فقد ظهر كرد فعل ضد التجاوزات والتعسفات التي شهدها القانون الجنائي في بعض الدول حيث استغلت القانون لفرض سلطتها وحماية مصالح الطبقة المهيمنة، وتذرعت بالضرورة لبسط يدها التجريمية على حقوق وحريات الأفراد.لذلك نادى أصحاب هذا التيار بمراعاة حقوق الإنسان وضمانها وحمايتها من خلال مراقبة دستورية القوانين الجنائية من جهة، وإلزام المشرع بما تنص عليه المواثيق الدولية من جهة ثانية.