مبدأ رجعية القانون الجنائي الاصلح للمتهم على الماضي في التشريع العراقي :

لقد أخذ قانون العقوبات العراقي صراحة بمبدأ رجعية القانون الجنائي الاصلح للمتهم على الماضي. اذ نص في الفقرة الثانية من المادة الثانية منه بانه : / (اذا صدر قانون او اكثر بعد ارتكاب الجريمة وقبل ان يصبح الحكم الصادر فيها نهائيا فيطبق القانون الاصلح للمتهم). من نص هذه الفقرة يظهر ان قانون العقوبات العراقي اخذ بمبدأ رجعية القانون الجنائي الاصلح للمتهم على الماضي غير انه لم يجعل الأخذ به امرا مطلقا بل قيد ذلك بقيد اساسي هو ان يكون هذا القانون الاصلح للمتهم قد صدر قبل الحكم نهائيا في الجريمة التي وقعت في ظل القانون القديم. مما يترتب عليه ان القانون الجديد على فرض انه كان الاصلح للمتهم فانه لا يسري على الماضي ليحكم الجريمة (الواقعة) التي حصلت في ظل القانون القديم اذا جاء صدوره بعد صدور الحكم النهائي على المتهم. ويراد بالحكم النهائي، هو الحكم الذي اخذ درجته القطعية، بان اصبح غير قابل لأن يطعن فيه باي طريقة من طرق الطعن في الاحكام – الاستئناف او التمييز – ، كما لو استنفذت هذه الطرق جميعا او فاتت مواعيدها. والمهم هنا هو تاريخ صدور القانون لا تاريخ نفاذة. فقد جاءت المادة تقول / (.. على أنه اذا صدر قانون او اكثر …). مما يترتب عليه ان مجرد صدور القانون الاصلح للمتهم قبل صدور الحكم النهائي في الفعل المرتكب (الجريمة) يجعل مفعول هذا القانون ساريا على الماضي وحاكما للفعل المرتكب (الجريمة) حتى ولو لم يكن تاريخ نفاذة قد حل بعد. وقد أيد الفقه والقضاء في مصر ذلك (1).

والمحكمة من تقييد مبدأ رجعية القانون الاصلح للمتهم على الماضي بالقيد المتقدم هي احترام القوة المقررة للأحكام النهائية، وهو ما يسمى بمبدأ قوة الشيء المحكوم فيه (La Choso Jugee) الذي يعتبر من مبادئ القانون الجنائي الأساسية. ومع ذلك فقد وجد المشرع العراقي ان التمشي مع القيد المتقدم، وأعني به كون القانون الاصلح للمتهم قد صدر قبل الحكم نهائيا في الفعل، قد يؤدي أحياناً الى ما يجافي العدالة، كحالة ما اذا كان القانون الجديد الصادر بعد الحكم نهائيا في الفعل يجعل هذا الفعل غير معاقب عليه او يجعله معاقبا عليه ولكن بعقوبة اخف. فان عدم تطبيق القانون الجديد بحجة وجوب احترام مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه في هاتين الحالتين يؤدي الى الظلم وعدم العدالة وذلك لمعاقبة الجاني عن فعل ابيح او معاقبته بعقوبة اشد مما قرر له من عقاب. ولذلك استثنى هاتين الحالتين بنص صريح في القانون هو نص الفقرتين الثالثة والرابعة من المادة الثانية مارة الذكر. نادى فيهما بتطبيق القانون الجديد الاصلح للمتهم رغم صدوره بعد صدور الحكم النهائي، مخالفا مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه استثناء بحكم النص، تطمينا للعدالة وحماية لمصلحة المتهم. فقد جاءت الفقرة الثالثة ناصة على حالة ما اذا كان القانون الجديد الذي صدر بعد الحكم النهائي يجعل الفعل غير معاقب عليه قائلة (واذا صدر بعد صيرورة الحكم نهائيا قانون يجعل الفعل او الامتناع الذي حكم على المتهم من أجله غير معاقب عليه يوقف تنفيذ الحكم وتنتهي آثاره الجزائي، ولا يمس هذا بأي حال ما سبق تنفيذ من العقوبات ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. وعلى المحكمة التي اصدرت الحكم ابتداء ان تقرر وقف تنفيذ الحكم بناء على طلب من المحكوم عليه او الادعاء العام).

وقد جاءت الفقرة الرابعة ناصة على حالة ما اذا كان القانون الجديد يخفف العقوبة المنصوص عليها في القانون فقط دون ان يلغيها قائلة : (اذا جاء القانون الجديد، مخففا للعقوبة فحسب جاز للمحكمة التي اصدرت الحكم ابتداء إعادة النظر في العقوبة المحكوم بها على ضوء أحكام القانون الجديد، وذلك بناء على طلب المحكوم عليه او الادعاء العام). ففي الفقرة الثالثة مارة الذكر هناك استثناء على مبدأ أساس من مبادئ القانون الجنائي، اعني به مبدأ قوة الشيء المحكوم فيه. وبمقتضى هذا الاستثناء يحكم القانون الجديد الواقعة التي حصلت في ظل القانون القديم حتى ولو كان صدوره جاء بعد اكتساب الحكم الدرجة النهائية (القطعية) فيما اذا كان هذا القانون الجديد يجعل الفعل الذي حكم على الجاني من أجله غير معاقب عليه سواء في ذلك أن يكون قد حذف نص التجريم او اضاف سبب اباحة او مانع مسؤولية او مانع عقاب يستفيد منه المتهم الذي صدر ضده الحكم النهائي. مما يترتب عليه تطبيقا للقانون الجديد الاصلح للمتهم :

(أولا) وقف تنفيذ الحكم بالنسبة لما تبقى من العقوبات التي لم تنفذ بعد دون المساس بما سبق تنفيذه منها من عقوبات سالبة للحرية او عقوبات بالغرامة او المصادرة الا اذا نص القانون على خلاف ذلك.

(ثانياً) انتهاء آثار الحكم أي صيرورته كان لم يكن بجميع اثاره فلا يحتسب مثلا سابقة في العود، ويكون هذا كله بناء على طلب يقدمه المحكوم عليه او الادعاء العام الى المحكمة التي اصدرت الحكم ابتداء، وهذه هي التي تقرر بدورها وقف تنفيذ الحكم مار الذكر وانتهاء آثاره الجنائية تطبيقا للقانون الجديد الأصلح للمتهم.

وفي الفقرة الرابعة، مارة الذكر هناك استثناء آخر (جوازي) على المبدأ قوة الشيء المحكوم فيه بمقتضاه يجوز ان يحكم القانون الجديد الواقعة التي حصلت في ظل القانون القديم حتى ولو كان صدوره جاء بعد اكتساب الحكم الدرجة النهائية (القطعية) فيما اذا كان هذا القانون الجديد جاء مخففا للعقوبة وعندئذ تطبيقا للقانون الجديد الاصلح للمتهم تخفف العقوبة وذلك فيما اذا ارتأت المحكمة التي أصدرت الحكم ابتداء فأعادت النظر في العقوبة المحكوم بها في ضوء أحكام القانون الجديد. وذلك بناء على طلب مقدم اليها بذلك من المحكوم عليه او من الادعاء العام (2). واذا لم تعد المحكمة التي اصدرت الحكم قائمة عند صدور القانون الجديد فان ذلك يكون من اختصاص المحكمة التي يعينها القانون والا فمن اختصاص المحكمة التي اصدرت الحكم. وهكذا نرى في الصورتين المتقدمتين المذكورتين في الفقرتين 3و4 من المادة الثانية من قانون العقوبات العراقي كيف ان المشرع الجنائي العراقي يرجح اعتبارات العدالة وازالة الظلم على التمسك بمبدأ قانوني أساس كمبدأ قوة الشيء المحكوم فيه (3).

_____________________________

1-انظر الدكتور محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات القسم العام ص115 ن 99، وقد اخذ بخلاف ذلك قانون العقوبات السوري – انظر الدكتور محمد الفاضل، المرجع السابق ص125 وكذلك الفقرة الأولى من المادة الثانية من قانون العقوبات السوري

2-لم يظهر هذا الاستثناء في كثير من قوانين العقوبات الحديثة كقانون العقوبات المصري، وقانون العقوبات البغدادي.

3ومع ذلك فقد صدر لمحكمة تمييز العراق قرار يبدو فيه انها لم تلتزم بهذا الاتجاه الذي تضمنته المادة الثانية في فقرتها ا لثالثة، حيث رفضت النظر في طلب تقدم به محكوم عليه في ظل قانون العقوبات البغدادي عند صدور قانون العقوبات الحالي لإعادة النظر في امر محكوميته في ضوء ما جاء في الفقرة (3) من المادة الثانية من قانون العقوبات وقد جاء في القرار (بان قرار حاكم جزاء الكرخ صودق عليه تمييزا بتاريخ 5/10/1969 أي قبل تاريخ تنفيذ قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 الذي لا يسري حكمه على القرارات السابقة المكتسبة درجتها القطعية …) انظر النشرة القضائية، السنة الأولى، العدد الأول، سنة 1970 ص203

المؤلف : علي حسين خلف + سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : لمبادئ العامة في قانون العقوبات

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .