شهادة الزور في القانون اللبناني

بواسطة باحث قانوني
شاهد الزور في قانون العقوبات اللبناني – محاماة نت
د.خليل حسين

أوجبت قوانين اصول المحاكمات الجزائية في جميع الدول العربية، تحليف شهود اليمين قبل الإدلاء بأقوالهم أمام الجهات القضائية المختلفة، ومن بين هذه القوانين قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني، حيث أوجبت المادة (87) من القانون على قاضي التحقيق ان يحلّف الشاهد اليمين الآتية «أقسم بالله العظيم بأن أشهد بالحق كل الحق ولا شيء غير الحق» وكذلك أوجبت المادة (181) من ذات القانون على القاضي المنفرد في اجراءات المحاكمة والتثبت من أدلة الدعوى ان لا يستمع إلى الشاهد الذي يرى فائدة من سماعه إلا بعد تحليفه اليمين الآتي «أقسم بالله العظيم بأن أشهد الحق ولا شيء غير الحق» وفي هذا المعنى جاء نص المادة (248) من القانون نفسه ليلزم محكمة الجنايات بأن لا تسمع إلى الشهود إلا بعد تحليفهم اليمين القانونية. وقد يفهم للوهلة الأولى مما تقدم بأن الإدلاء بالأقوال امام قضاة التحقيق والمحاكم لا يصدق عليها وصف الشهادة ما لم تكن مسبوقة بحلف اليمين، إلا إذا تم السماح قانوناً للشخص بالإدلاء بأقواله من دون حلف اليمين، وتطبيقاً لهذا نصت المادة (91) من قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني على ما يلي:

” يستمع قاضي التحقيق إلى القاصرين الذين لم يتموا الثامنة عشرة من عمرهم على سبيل المعلومات، إذا كان القاصر الذي يتجاوز الخامسة عشرة من عمره قد حلف اليمين القانونية فلا تكون إفادته باطلة ولا يلاحق بجريمة شهادة الزور، يمنع من الشهادة اصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته وأصهاره الذين هم من درجة الأخوة وزوجته ولو بعد الطلاق والمخبرون الذين يمنحهم القانون مكافأة مالية على الاخبار، لقاضي التحقيق ان يستمع إلى كل من هؤلاء على سبيل المعلومات، كما نصت المادة (248) من ذات القانون كما سبق ان ذكرنا، يتعين على رئيس محكمة الجنايات سماع الشهود بعد تحليفهم اليمين ما لم يعترض احد الفرقاء في الدعوى على سماع بعضهم لسبب قانوني فيقرر صرف النظر عنه أو سماعه على سبيل المعلومات…الخ”.

هذا من ناحية ضرورة تحليف الشاهد اليمين القانونية قبل الإدلاء بشهادته. ولكن هل هناك تلازم بين حلف اليمين في قوانين اصول المحاكمات الجزائية وبين قيام جريمة شهادة الزور في قوانين العقوبات المختلفة، على نحو لا تقوم هذه الجريمة من دون حلف الشاهد لليمين؟ لا بد من القول بأن التشريعات الجزائية في العالم لم تتواضع على ذلك، فمن اعتبر شهادة الزور جريمة ضد الذين اشترط ان تكون الشهادة قد أديت بعد حلف اليمين، فلفظ او حلف اليمين في ذاته ينطوي على معنى ديني، يقوم على الاعتقاد بأن من يحنث في يمينه، يتعرض لغضب الله ونقمته، ومن اعتبرها جريمة ضد العدل لم يشترط حلف اليمين، وإنما اعتبر حلف اليمين مجرد ظرف مشدد.

ويترتب على اشتراط حلف اليمين لقيام الجريمة، ان الشاهد الذي يسمع بغير يمين سهوا من قاضي التحقيق او المحكمة، او إذا سمع على سبيل الاستدلال لأنه لم يبلغ سن الرابعة أو الخامســة عشـرة او الثامنة عشرة من عمره على اختلاف في القوانين فيما بينها، او لأنه محكوم عليه بعقوبة جنائيـة وتعمد الكذب في أقواله، أفلت من عقوبة شهادة الزور، مع ان أقواله تؤثر في أذهان القضاة، حيث يصح ان تبنى عليها الأحكام ولو خالفت الشهادات التي أديت في نفس الدعوى بيمين، وهو وضع مؤسف على ما لاحظه المرحوم الاستاذ أحمد أمين، اول شارح لقـانون العقوبات المصري، واقترح علاجاً لذلك، احتذاء حذو التشريعات الأجنبية الايطالية والبلجــيكية التي جعلت الفعل من دون حلف اليمين ضمن افعال شهادة الزور، مع جعل العقوبة مخففة. فهل اعتبر المشرع الجزائي اللبناني الحنث باليمين جريمة ضد الدين ام جريمة ضد العدل؟ ان الإجابة على هذا السؤال تقتضي الوقوف على نص المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني في مقام تحديدها لتجريم شهادة الزور في قولها:

«من شهد امام سلطة قضائية او قضاء عسكري او إداري فجزم بالباطل او أنكر الحق او كتم بعض او كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات. إذا أديت شهادة الزور في أثناء تحقيق جنائي او محاكمة جنائية قضي بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر.
وإذا نجم عن الشهادة الكاذبة حكم بالإعدام او بعقوبة مؤبدة فلا تنقص الأشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن إبلاغها إلى خمس عشرة سنة، إذا كان قد استمع من دون حلف اليمين خفض نصف العقوبة.
مما تقدم فإننا نخلص إلى ان قانون العقوبات اللبناني يعتبر الشخص شاهد زور حتى ولو لم يحلف اليمين القانونية استناداً إلى الحجج التالية:

ـ إن المشرع الجزائي لم يشترط صراحة او ضمناً في المادة (408) من قانون العقوبات التي تجرّم شهادة الزور ان يكون الشخص قد حلف اليمين أمام السلطات القضائية او ما في حكمها من السلطات الأخرى، وإنما يكفي ان يكون قد جزم بالباطل او أنكر الحقيقة كلياً او جزئياً.

ـ إن المادة (408/2) من قانون العقوبات اللبناني كانت صريحة في الفقرة الأخيرة منها على اعتبار الشاهد الذي يحنث بيمينه شاهد زور، ويعاقب على هذا الأساس، حتى ولو لم يحلف اليمين لأي سبب، فالنص جاء مطلقاً والقاعدة ان المطلق يجري على إطلاقه ما لم يتم تقييده. وبمعنى آخر فإن المشرع الجزائي اللبناني لم يقيد قيام جرم شهادة الزور بأي قيد كحلف اليمين، وكل ما في الأمر انه خفض العقوبة إلى النصف في حالة عدم حلف اليمين، أي انه اعترف له بعذر قانوني مخفف من دون ان ينفي قيام شهادة الزور علماً بأن المادة (82) من قانون اصول المحاكمات الجزائية اللبناني قد أشارت إلى بعض حالات سماع بعض الشهود من دون حلف اليمين في قولها «لا تقبل مبدئياً شهادة اصول المدعى عليه وفروعه وإخوته وأخواته ومن هم في درجتهم عن طريق المصاهرة والزوج والزوجة حتى بعد الطلاق، يمكن للقاضي سماع شهادة أي من هؤلاء إذا لم يعترض عليها المدعي الشخصي او المدعى عليه ولا تكون باطلة شهادة هؤلاء، غير ان اعتراض احدهما على سماعهم لا يمنع القاضي من ان يسمع على سبيل المعلومات. لا تقبل شهادة القاصر الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره الا على سبيل المعلومات.ولا يسمع من كان دون السابعة من عمره الا على سبيل المعلومات وبقرار مطلق.

ـ ويتصل بما تقدم ان المشرع الجزائي اللبناني قد أبقى على هذا الشخص صفة شاهد زور حتى ولو لم يحلف اليمين ـ والفرض ـ لأسباب قانونية، غاية ما في هذا الأمر انه خفض العقوبة عليه إلى النصف، ألا يعتبر من لا يحلف اليمين لأسباب غير قانونية مرتكباً لجريمة شهادة الزور.

4ـ لم يعلق المشرع الجزائي اللبناني قيام جرم شهادة الزور والعقاب عليه على اقتناع السلطة القضائية بما ورد في هذه الشهادة والحكم بالاستناد إليها، حيث يتم العقاب وحتى ولو لم تقتنع المحاكم بها او تستند إليها في احكامها، وانما تسلم بقيامها وفرض العقاب عليها حتى ولو لم يترتب عليها الحكم بالإدانة ما دام ان العدالة قد تأذت، وبعبارة أخرى ما دام ان الضرر الذي لحق المشتكى عليه كان ناجماً عن عدم تحقيق العدالة، وكلما كان المساس بالعدالة أجسم والضرر أشد تبعاً لذلك، كلما كانت العقوبة هي الأخرى أشد وأغلظ، مما يدل على ان الهدف من حلف اليمين هو تحقيق العدل ومنع وقوع الضرر، وما نقول به جسدته المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني.

وبعبارة أخرى اعتبر عدم حلف اليمين عذراً قانونياً مخففاً، في حين يعتبر حلفه اليمين مع الحنث به جرماً تقوم به شهادة الزور لمساسه بالعدالة متى توافرت الشروط المنصوص عليها في المادة (408) من قانون العقوبات من باب أولى، وأما الضرر فيشكل ظرفاً مشدداً كأثر المساس بالعدالة.

ان اشـتراط حلــف اليمين والحــنث به لقيام جريمة الزور ـ مـن قبل البعض ـ على الرغـم من عدم النــص عليـه في المادة (408) من قانون العقوبات، هـو في نـظرنا اضافة وتطلباً لشـرط لم يتطلـبه القانون، وربما نجم عن فهم مخالف لذيل نـص المادة (408) من قانون العقوبـات الذي يعترف بقيام شهادة الزور على الرغـم من عدم حلـف اليـمين مع فرض العقـاب المخفـف، اي يكـون ناجـماً عن فهم بمفهوم المخالفة بأن الفـقرات الاولى من المادة (408) تفتـرض حلف اليمين وفرض العقاب المشدد في حال الحـنث به، وهو امر لا يجوز قبوله او الموافقـة عليه لاســباب عدة، اهمها انه لا مجال للاحكام الافـتراضية او التخيلية او الاعتباريه في قانون العقوبات، فمجــال هـذه الاحكام هـو القــانون الخــاص، اي القـانون المدني او التجاري، هذا بالاضـافة الى ان مـؤدى الطــرائق الاصــولية فــي التفــسير تتـمثل في انه «اذا اراد الشــارع قــال وان ابى سكت»، ويلاحظ انه سكت عن تطلب حلف اليمين في النص القانوني المذكور باعلاه .

لا بد من التفرقة بين الدور الذي تؤديه الشهــادة في قانون اصول المــحاكمات الجـزائية وقانون العقوبات، فاذا كان مقتضى عدم حلف اليمين من قبل الشــخص في قضـية ما يؤدي الى بطلانها وعدم الاعـتداد بها كدليل تستند اليه المحكمة في الاثبـات او النـفي في قانون اصول المحاكمات الجزائــية، فـان مقتضى الحنث باليمين في قانون العقوبات ما دام انه كذب امام احـدى السلطـات القضائية عـن علـم مـنه بأنـه يكـذب وتمثل هـذا الكذب اما بجزمه بالباطل او بانكار الحـق او كتمه كلياً او جزئياً لما يعرف عن وقائع القضـية، هو تعرضه للعقاب بجـرم الزور، لـكن هذا لا يعني ولا يجب ان يعـني ان عدم حلـفه يميـنا لاي سبب يجعله بمنأى عن العقـاب، وان كان العقاب مخففاً كما بينا قـبل لحظات بموجب المادة (408) من قانون العقوبات اللبناني، وبعبارة اخيرة فعدم حلف اليمـين في قانون اصول المحاكمات الجزائيــة يرتب بطلان الشهادة، بينما الحنث باليمين في قانون العقوبات يعرضه للعقاب بجـرم شــهادة الزور، فالجزاء في قانون الاصول لعدم حلف الشهادة هو جزاء شكلي يتــمثل بالبطلان، في حين ان الجزاء للحنث باليمين في قانون العقوبات جزاء موضوعي يتمثل في فرض العقاب .

} ان الاحكام القضائية التي توجب حلف اليمين لقيام شهادة الزور، انما تستند الى تشريعات لا تتضــمن نصاً كنص المادة (408) من قانون العقــوبات اللــبناني الذي يجّرم شاهــد الزور حـتى لـو لـم يحــلف اليــمين، وان كان عدم حـلفه للــيمين يشكـل عذراً قانونياً مخففا للعقاب، وخلاصة هذه الجزئية ان حلف اليـمين او عدم حلف اليمين ليس حاسماً في قيام جريمة شهادة الزور .
هذا في ما يتعلق بالنقطة الاولى من الجدل الذي يدور بين الاوساط السياسية اللبنانـية، اما النقــطة الثانية فتتعلق بما اذا كان القضاء اللبناني مختصاً بالتحقيق مع هؤلاء الشهــود ومحاكمتهم ام لا.

لا نتردد في الاجابة عن هذا السؤال بالايجاب، ما دام هــؤلاء الشــهود قد ارتكبوا جريمتــهم هــذه ـ في حال ثبوتها ـ على الارض اللبنانية، فقــانون العقوبات اللبناني دون غيره هو القانون الواجب التطبيق على الارض اللبــنانية سـنداً لمبدأ الصلاحية الاقليمـية الذي نصت عليه المادة (15) من قانون العـقوبات اللبناني في قولها «تطبق الشريعة اللبنانية على جميع الجرائم المقترفة في الارض اللبنـانية»، ثم حددت هذه المادة متى تعـد الجــريمة مقترفه على الارض اللبنانية في البندين (1)و(2) من هذه المادة في قولها «تعد الجريمة مرتكبة على هذه الارض اذا تم احد العناصر التي تؤلف الجريمة او فعل من افعال جريمة غير متجــزئة او فعل اشتراك اصلي او فرعي او اذا حصلت النتيجة في هذه الارض او كان متوقفاً حصولها فيه ».

وحيث انه من الثابت ان هؤلاء الشهود قد ادلوا بشهاداتهم الكاذبة امام لجان التحقيق الدولية على الارض اللبنانية، فانهم يكونون قد ارتكــبوا جرائمهم على هذه الارض، ويكون القضاء اللبناني هو الذي ينعقد له اختصاص النظر في هذه الجرائم، وذلك بغض النظر عن جنسية مرتكبيها سواء اكانو لبنانيين ام عربا ام يحملون جنسيات اخرى. ولا يرد عـلى هذا القــول بانهم لم يدلوا باقوالهم امام القضاء اللبنـاني، فلــيس هذا مهماً انما المهم وفقـاً لنص المــادة (15) المنوه عنها باعلاه انهم ارتكبوا جرائمهم على الارض اللبنانية بغض النظر عن الجهة التي ادلوا باقوالهم الكاذبة امامها، فلا يصح ان تكون شهاداتهم امام هذه الجهة مانعـة من محاكمتهم او مفضية عليهم حصــانة قضائية تحول دون محاكمتـهم ووسيـلة لهم من الافــلات من العقاب، ذلك انه لا يجوز ان يفلت مجرم من العقاب وفقاً لقواعد القانون الوطني او الدولي، خاصة وقد اعلنت المحكمة الجنائية ذات الطابع الدولي عدم اختصاصها في التحقيق معهم ومحاكمتهم .

كما انه يبـقى من حـق القضاء اللبناني النظر او البحـث في امكانية قيـام هذا الجرم حتى لو لم يثــبت وقـوع هذا الجـرم او عـدم وقـوعـه الا بعد اجراء المحاكمة، اذ تفـترض قـوانين العقوبات ان الحقيقة بخصوص وقوع الجريمة من عدمها قد لا تظهر الا بعد المحــاكمة النــهائية، وليس ادل على ذلك ما نصت عليه المادة (304) من قانون الاجراءات الجنائية المصري في قولها «اذا كــانت الواقعة غير ثابتة او كان القــانون لا يعــاقب علـيها، تحكم المحـكمة ببـراءة المتهم ويفرج عنه ان كان محبوساً من اجل هذه الواقعة وحدها، اما اذا كانت الواقعة ثابتة وتكون فعلاً معاقبا عليه، تقضي المحكمة بالعقوبة المقررة في القانون».

واخيراً فإننا نستمد الدفـع لرأينا هذا من مبادئ القانون الجنائي الدولي المتمثلة في ما اشار اليه النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيث نصت ديباجــته والمــادة الاولى منه انها مكملة للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنـية، بمعـنى ان القــضاء الجنائي الوطنـي هو الاصل، وان القـضاء الجنائي الدولي هو الاستــثناء او الاحتياط، فما لم يثبت ان القــضاء الجـنائي الوطـني غير راغب او عاجز عن تحقـيق العدالة الجنائية، فإن القضاء الوطني هو المختص حتى بالنسبة للجرائم الدولية المنصوص عليها في النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية .
وعلـيه فـما دام الامــر واضــحاً لهـذا الحد فإن القضاء الجنائي اللبــناني هو المختص اصلاً في كل ما لا يختص به القضاء الجنائي الدولي او القضاء الجنائي ذو الطابع الدولي .

فإعلان المحــكمة الجــنائية ذات الطابع الدولي التي تم انشاؤها للنظر في قضيه اغتيال رفيق الحــريري بانها غــير مختصة بالنظر في جــرائم الــزور، إما لان النظام الاساسـي للمحكــمة لم يتضمن نصاً بهذا الخصوص او لاي سبب آخر يتعلق بها، يعني ارتداداً للأصل الذي يتمثل في ان القضاء الجنائي اللبناني هو المختص بالنظر في هذه القضية .
فلا عدل بغير حق، ولا حق بغير حقيقة، ولا حقيقة بغير تحقيق، تحقيق في كل ما يمكن ان يوصّل الى الحقيقة الموضوعية المجردة.