دراسة وبحث قانوني هام عن الحياد الايجابي للقاضي في النزاع المدني

إنّ حسم الامر وتحديد حقيقة دور القاضي في النزاع المدني أمر على غاية من الأهمية. لأن طبيعة الدور الذي يؤديه سيساهم بصفة جوهرية في تكييف عملية البحث والكشف عن الحقيقة التي يكرسها الحكم القضائي.
فهل هي حقيقة موضوعية أقرّها القاضي بعد تأكده شخصيا من وجودها؟ أم أنها مجرد حقيقة ذاتية اعتمدها القاضي لأن صاحبها تمكن من إثباتها فقط لا غير؟و الإجابة عن هذا التساؤل ليس بالأمر الهين خاصة وأن مادة الإجراأت المدنية تتجاذبها العديد من المبادئ المتداخلة والمتشابكة يؤدي الخوض في أي منها إلى التطرق حتما للبقية لهذا فإن الإجابة تكون عبر الإجابة عن الإشكالية التالية: ما هو الدور الحقيقي لكل من القاضي والأطراف في النزاع المدني؟ وتحديدا معرفة إلى أي مدى أقرت القانون التونسي دورا ايجابيا للقاضي في النزاع المدني؟وللإجابة عن ذلك سنتعرض أولا إلى تكريس الدور الايجابي للقاضي المدني.)الجزء الأول( لنمرّ بعد ذلك إلى بيان مظاهر الدور الايجابي للقاضي في النزاع المدني. (الجزء الثاني).
مقدمة الحياد الايجابي للقاضي في النزاع المدني كاملةاخفِ

أوكلت مهمة إشاعة العدل للقضاء بوصفه مرفقا من مرافق الدولة، فأصبحت المحاكم تختص دون سواها بالنظر في جميع النزاعات التي تنشأ داخل المجتمع مهما كان موضوعها أو أطرافها ، وأصبح القضاء يمثل أحد ركائز الدولة الحديثة، باعتباره المكلف بتطبيق القانون ودعم المؤسسات وحماية المجتمع. و يشكل القضاء اليوم مرفقا عاما من مرافق الدولة الحديثة، يجسم مظهرا من مظاهر سيادتها، و يندرج في إطار مهامها الأساسية. وبالإضافة إلى وظيفته الأساسية المتمثلة في تطبيق القانون يقوم القضاء بدور اجتماعي حقيقي باعتبار أنه ضمانة رئيسية لبناء مجتمع سليم تحكمه مبادئ الوفاق الذي لا يتحقق إلا بإشاعة العدل بين الناس.

فالعدل ليس كمثله شي ء في توطيد السكينة والطمأنينة والشعور بالأمن، فهو المفتاح الوحيد الذي يدور في إقفال السرائر مهما كان الشطط في المواقف واللجاجة في الخصام .
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أول قاضي في الإسلام أعطاه القرآن الكريم هذه الصفة إذ قال تعالى في كتابه العزيز ” فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً “. و يقول العلامة ابن خلدون : “أما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للنزاع” . وقد كان للقضاء دورا طلائعيا في بناء الأمم والحضارات على مر التاريخ فهو دعامة العدل، “ويعد من أهم الأسس التي ارتكز عليها الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم”. ففصل الخصومات الناشئة بين الأطراف من قبل القاضي وتحقيق العدالة داخل المجتمع يمثلان “الوظيفة القضائية للدولة ” في الإسلام منذ البداية، غير أن هذا المفهوم للوظيفة القضائية لم يقع تكريسه في العالم الغربي إلا حديثا من ذلك أنه ظهر في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر بعد أن تم إلغاء محاكم الأسياد. فالغاية الأساسية من اللجوء إلى المحاكم لا تتمثل في مجرد استصدار حكم لإنهاء الخصومة بأية طريقة كانت، بل إن مصلحة المتقاضي تقتضي أن يصدر لفائدته حكما عادلا يضمن له الحصول على حقوقه، كما أن المصلحة العامة تقتضي أن تسوى جميع النزاعات طبق القانون مع مراعاة قواعد العدل والإنصاف قدر الإمكان حتى يقع القضاء على جذور الخلافات وبالتالي يسود الأمن والاطمئنان ويتحقق السلم الاجتماعي ويقع فض النزاعات جزائية كانت أم مدنية. فالقضاء سلطة من السلطات الثلاث للدولة، هدفه فض النزاعات وحسمها . ومصطلح النزاع المدني يوحي بوجود ادعاء يعتبر منطلق الخصومة ويعبر عنه اصطلاحا بالدعوى ورغم كثرة استخدام المشرعين لمصطلح الدعوى إلا أنّ البعض منهم لم يتول تعريفه وذلك خلافا للبعض الأخر المتمثل في عديد التشريعات المقارنة. فالدعوى لغة تعني الزعم أي القول الذي يحتمل الصدق أو الكذب كما أنها تعني الطلب والتمني.

فالمدلول اللغوي لدعوى يرتكز على عنصري الزعم والطلب وهو مدلول لا يبتعد كثير عن المفهوم الاصطلاحي المعتمد فيالقانون. ولقد عرفتمجلة الأحكام العدلية الدعوة بالمادة 1613 منها بأنها “طلب إنسان حق على غيره لدى الحاكم”.
أما فقهاء القانون فقد انقسموا في تعريف الدعوى بين عدّة نظريات هي النظرية الذاتية والنظرية الموضوعية والنظرية التوفيقية. فالدعوى حسب النظرية الذاتية ليست سوى الحق في حالة حركية فهذه النظرية تخلط بين الحق والدعوى وهو ما أدى إلى رواج فكرة لا دعوى دون حق . أمّا النظرية الموضوعية فهي تنفي وجود أي علاقة بين الحق والدعوى وتعتبر أن الدعوى وسيلة قانونية لضمان احترام القانون .

بينما ذهبت النظرية التوفيقية نحو إعطاء مفهوم حديث للدعوى وتعريفها بأنّها القدرة الممنوحة للخواص للتوجه إلى القضاء للحصول على احترام حقوقهم المشروعة . وهذا هو المفهوم الذي تبناه المشرع الفرنسي وكرّسه في الفصل 30 م م م الذي جاء فيه “أنّ الدعوى هي حق صاحب الادعاء في أن يقع سماعه في الأصل من طرف القاضي ليقرّر ما إذا كان ذلك الادعاء وجيها أم لا وبالنسبة للخصم فإنّ الدعوى هي الحق في مناقشة صحة الادعاء” . ولقد تعرّضت هذه النظرية للانتقاد باعتبار أن القول بأنّ الدعوى هي الإمكانية القانونية للالتجاء للقضاء لا ينسحب على مدلول الدعوى بل على الحق في رفعها.
وعلى هذا الأساس فإن للدعوى مفهوما ماديا إجرائيا ولا مجرد تصور ذهني فهي تعني الادعاء لدى القضاء. وأكدت محكمة التعقيب هذا المفهوم الصحيح للدعوى في قرار صادر عن الدوائر المجتمعة بتاريخ 24 ديسمبر 1982 الذي جاء فيه: “المقصود بالدعوى في العرف القانوني هو الالتجاء للقضاء لتقرير حق أو حمايته “. وبهذا المفهوم فإن الدعوى لا تختلف عن الخصومة فالثانية هي امتداد إجرائي للأولى أي أنّ الدعوى بمجرد رفعها تتخذ شكل الخصومة لأنها مرحلة المنازعة والمجادلة بين الطالب والمطلوب. وبهذا الاعتبار فالخصومة ليست سوى مرحلة من مراحل الدعوى أو هي الدعوى في مرحلة تحقيقها وتهيئتها للحكم . فالخصومة حسب ابن منظور هي الجدل أي مقابلة الحجة بالحجة وهذا المفهوم يبرز خاصية أساسية من خصائص النزاع القضائي تتمثل في كونه “مبارزة” بين المتقاضين بحضور القاضي.

فالنزاع المدني عبارة عن “مبارزة قضائية” يقتضي بطبيعته دعوة “المتبارزين” ليجابه كل واحد الآخر بما لديه من حجج وذلك في حدود إطار الادعاأت وطلبات كل واحد منهم وفق قيود مضبوطة يعبر عنها بالقواعد الإجرائية تهدف إلى تفادي هضم الحقوق. ولإنصاف المتقاضين أقرّ المشرع جملة من الأحكام القانونية الواجب إتباعها عندما تعرض النزاعات على المحاكم. فعند الحديث عن “مبارزة قضائية” بحضور القاضي فإن المسألة التي تطرحها هذه الوضعية هي معرفة دور كل من القاضي والأطراف أثناء مرحلة تحقيق الدعوى خاصة وأنّ التشريع التونسي فيما يتعلق بهذه المسألة قد مرّ بأطوار هامة. ففي مرحلة أولى تجسمت في مجلة المرافعات المدنية القديمة الصادرة في 24 ديسمبر 1910 اعتمد المشرع النظام الاستقرائي إذ كانت أحكام تلك المجلة تطغى عليها النزعة الاستقرائية حيث كان القاضي المكلف يقوم بدور إيجابي للغاية في تحقيق الدعوى. أمّا المرحلة الثانية فقد تمثّلت في صدور مجلة المرافعات المدنية والتجارية الحالية التي صدرت بمقتضى القانون عدد 130 لسنة 1959 الصادر في 5 أكتوبر 1959 والذي ألغى في ذات الوقت قانون المرافعات القديم وجسمت المجلة الجديدة تحولا جذريا في بعض المفاهيم الأساسية المتعلقة بالنزاع المدني إذ شكلت تخليا عن نظام الاستقرائي وعودة إلى النظام الإدعائي الذي يلعب فيه القاضي دورا سلبيا ويترك تسيير الخصومة للأطراف، فالنظام الإدعائي الذي يمثل تكريسا واضحا لمبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين.

والمقصود بهذا المبدأ أن المتقاضين هم اللذين يملكون وحدهم حقّ إثارة الخصومة وتسييرها وإنهائها باعتبارها ملكا لهم . إلا أن المشرع أدخل على هذه المجلة عدة تنقيحات أبرزها ما تم بموجب قوانين 3 أفريل 1980 وغرة سبتمبر 1986 والتي جاءت أساسا للتخفيف من حدة النظام الإدعائي حتى تعطي للقاضي دورا حيويا في النزاع يحد من سلبيته في الخصومة وبالتالي يحد كذلك من سيطرة الخصوم على الدعوى المدنية. وهو ما أثار عدّة تساؤلات حول المبادئ العامة التي تحكم قانون المرافعات المدنية والتجارية التونسية، وما هو الدور الذي يلعبه القاضي في النزاع الذي يدور بين المتخاصمين؟
وهل سيلتزم الحياد المطلق أم سيلعب دوارا إيجابيا في توجيه النزاع؟
وهل سيترك العنان للطرفين يسيرون الخصومة كما يرغبون؟

أم أن سير الخصومة يخضع لضوابط وقواعد معينة تحدد سلفا دور كل من القاضي والأطراف في إثارة وتسيير وإنهاء الخصومة؟ يرتكز النزاع المدني أساسا على حقوق الخواص وبالتالي وجب على هؤلاء إثبات ادعاأتهم بالطرق القانونية كما يجب عليهم أن يوفروا للقاضي مادة النزاع وخاصة فيما يتعلق بجوانبه المادية وهو ما يسمى مبدأ ملكية الدعوى للخصوم أو للمتقاضين. فمبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين يفرض على القاضي أن يبت في النزاع في حدود الإطار الذي حدده الأطراف أي بالاعتماد على الوقائع التي يستندون إليها في طلباتهم ودفوعاتهم وهو ما يقع تفسيره عادة من خلال مبدأ حياد القاضي. فالقاضي يفصل بي المتقاضين على ضوء ما يدلون به من حجج وما يتمسكون به من دفوعات دون حاجة إلى البحث عن أدلة أخرى أو السعي لاتمام ما كان ناقصا منها مقتصرا على الاكتفاء بما احتوته أوراق الملف من عناصر تجسيما لمبدأ حياد القاضي في النزاع المدني والذي يعتبر من المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها نظام الإثبات في الدعوى المدنية . والمقصود بمبدأ الحياد هو أن القاضي لا يمكنه أن يؤسس اقتناعه إلا على عناصر الإثبات التي أدلى بها الأطراف فالقاضي يكون بمثابة الآلة التي تزود بمواد القضية لنستخرج منها فيما بعد حكما . ولقد تكرس هذا المفهوم (السلبي) لمبدأ حياد القاضي مع مجلة المرافعات المدنية والتجارية لسنة 1959 التي كرست واجب المتقاضين في إعداد ملفاتهم وتهيئة قضاياهم انطلاقا من أن المتقاضي يحتاج إلى قاضي ينصفه من خصمه ولا يحتاج إلى قاضي يحميه من نفسه ومن غلطاته . إذ جاء في الفصل 12 م م م ت أنه “ليس على المحكمة تكوين أو إتمام أو إحضار حجج الخصوم” . واستخلص بعض الفقهاء من ذلك أنه لا يمكن للمحكمة المدنية من تلقاء نفسها عن أدلة جديدة لأن ذلك يؤدي إلى تغيير موضوع الدعوى أو سببها بتعلة أن طلبات كل طرف مرتبطة بعناصر الإثبات التي يعتمدها، وتلك العناصر هي التي تعطي للطلبات طبيعتها ومداها فإدخال عناصر جديدة في القضية يغير نطاقها وموضوعها وهذا يتنافى مع دور القاضي في النزاع المدني. وهو ما أقرته محكمة التعقيب في قرارها الصادر في 16 أكتوبر 1984 والذي جاء فيه “على الأطراف المتنازعة إثبات ادعاأتهم وليس للمحكمة أن تقوم بأي سعي لتكوين أو إتمام أو إحضار حجج الخصوم”. لكن هذا التوجه تعرض لانتقاد شديد لأنه يخلط بين الوقائع التي يركز عليها المتقاضون طلباتهم وبين وسائل الإثبات، فاتخاذ مبادرة في مادة الإثبات من قبل المحكمة لا يؤدي بالضرورة إلى تغيير مادة النزاع المتكون أساسا من مجموع الوقائع التي يستند إليها المدعي باعتباره موضوع الطلب فالعبرة إذن بعدم تغيير الوقائع المعروضة على القاضي وتبقى له حرية اتخاذ الوسائل التي يراها لازمة للكشف عن الحقيقة .

وهو ما أقرته محكمة التعقيب حين أكدت أنه “لا يعد خرقا لأحكام الفصل 12 م م م ت إذا كان الأمر يتعلق بتحقيق حجية الدليل المطروح على المحكمة”.
وفي قرار آخر أكدت محكمة التعقيب على أنه “لا يعد من قبيل تكوين حجج المتقاضين في شيء الاستجابة لطلب إجراء بحث عيني بل إنه من أوكد واجبات المحكمة وإن هذا الاتجاه لا يتنافى مع أحكام الفصل 12 م م م ت. كما اعتبرت محكمة التعقيب أنه “للمحكمة في نطاق حقها في كشف الحقيقة أن تأذن من تلقاء نفسها بإجراء اختبار ولا يعد ذلك سعيا منها لتكوين حجة الخصم وعملها لا يعد خرقا للفصل 12 م م م ت” .
وهو ما كرّسه المشرع الفرنسي في المادة 8 م م م الذي يجيز للقاضي “دعوة الأطراف لمده ببعض التوضيحات المتعلقة بالوقائع الضرورية لحل النزاع”. إنّ حسم الامر وتحديد حقيقة دور القاضي في النزاع المدني أمر على غاية من الأهمية. لأن طبيعة الدور الذي يؤديه سيساهم بصفة جوهرية في تكييف عملية البحث والكشف عن الحقيقة التي يكرسها الحكم القضائي.
فهل هي حقيقة موضوعية أقرّها القاضي بعد تأكده شخصيا من وجودها؟ أم أنها مجرد حقيقة ذاتية اعتمدها القاضي لأن صاحبها تمكن من إثباتها فقط لا غير؟
و الإجابة عن هذا التساؤل ليس بالأمر الهين خاصة وأن مادة الإجراأت المدنية تتجاذبها العديد من المبادئ المتداخلة والمتشابكة يؤدي الخوض في أي منها إلى التطرق حتما للبقية لهذا فإن الإجابة تكون عبر الإجابة عن الإشكالية التالية:
ما هو الدور الحقيقي لكل من القاضي والأطراف في النزاع المدني؟ وتحديدا معرفة إلى أي مدى أقرت القانون التونسي دورا ايجابيا للقاضي في النزاع المدني؟
وللإجابة عن ذلك سنتعرض أولا إلى تكريس الدور الايجابي للقاضي المدني.)الجزء الأول( لنمرّ بعد ذلك إلى بيان مظاهر الدور الايجابي للقاضي في النزاع المدني. (الجزء الثاني).

الجزء الأول – تكريس الدور الايجابي للقاضي في النزاع المدني:

تخضع الخصومة القضائية لجملة من الأحكام والقواعد الإجرائية تهدف جميعها إلى تحديد دور كل من القاضي والأطراف أثناء مرحلة تحقيق الدعوى، وهذه القواعد والأحكام يمكن حصرها في اتجاهين متباينين هما : النظام الإدعائي. النظام الاستقرائي. ففي النظام الإدعائي يكون القاضي بمثابة الحكم الذي لا يبحث بنفسه عن الحقيقة أي أنه يرتكز على مبدأ حياد القاضي الذي لا يتدخل في الخصومة الدائرة أمامه، وإنما يراقب فقط تهيأة المتقاضين للقضية وجمع الأدلة المثبتة لحقوقهم، فالأطراف هم الذي يسيرون الإجراأت . ورغم اندثار النظام الادعائي في القضاء الجزائي فإنه بقي معمول به في النزاعات المدنية على اعتبار أنها لا تتعلق إلا بالمصالح الخاصة، وبالتالي فلا يمكن لعون السلطة العامة أن يتدخل في العلاقات الخاصة وعليه فقط أن يكون على ذمة المتقاضين الذي يملكون حرية تامة في تسير نزاعاتهم حسب مصالحم . فالدعوى في هذا النظام تتحول إلى شكل من “المبارزة” بين الخصمين يحددان فيها بأنفسهما بدء النزال ويستفيد كل منهما من أخطاء الآخر. أما الحاكم فإنه يقف متفرجا أكثر منه موجها لأنه يصبح حكما لمباراة وليس موظف عمومي أنيطت به إدارة مرفق عام ومن هذا المنطلق أصبح دور القاضي سلبيا في النزاع المدني إلى درجة تشبيهه بالآلة التي تزود بمواد القضية لتخرج حكما” .. وبرز هذا النظام بالخصوص خلال القرن 19 نتيجة للأفكار التحررية التي سادت أنذاك، وقد كان هذا التصور الصارم لدور القاضي نتيجة للنزعة التحررية التي سادت بالخصوص في القرن التاسع عشر وتجسم هذا الاتجاه في مجلة المرافعات المدنية الفرنسية القديمة لعام 1806 التي حدد دور القاضي فقط في التدخل عندما تظهر صعوبات إجرائية أثناء الدعوى . أما النظام الاستقرائي فلقد بدأ بالظهور في أواخر القرن 19 على إثر الانتقادات التي وجهت إلى النظام الدعائي والمتمثلة خاصة في أنه يساعد بعض المتقاضين على القيام بمناورات لربح الوقت وتعطيل سير القضاء والابتعاد عن الحقيقة الموضوعية.

فالقاضي في هذا النظام يخرج عن دور الحكم ليلعب دورا في البحث عن الحقيقة بنفسه، فالقضاء مرفق عام يسعى إلى إرجاع وإقرار المشروعية الموضوعية، لذا فمن الطبيعي أن يتدخل القاضي في تسيير الخصومة وخاصة إجراء الأبحاث في نطاق تهيئة القضية للحكم. فالحياد لا يعني الجمود والسلبية باعتبار أن السلبية تتنافى والوظيفة القضائية التي ترمي إلى تحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع. ولقد اعتمد هذا النظام في عدة قوانين إجرائية مثل مجلة المرافعات الألمانية لعام1877 والنمساوية لعام1895، ويعتبر قانون المرافعات المدنية التونسي لسنة1910 الصادر في 24 ديسمبر 1910 من أوائل التشريعات العربية المتأثرة بهذا الاتجاه الذي يجعل القاضي يقوم بدور إيجابي في تسيير الخصومة وتهيئة القضية للحكم . إلا أن المشرع التونسي بعد الاستقلال تراجع عن موقفه هذا عند إصداره لـ م م م ت لسنة1959 التي تضمنت أحكاما تجسم اتجاها معاكسا تماما إلى أن وقع تنقيحها بموجب قانون غرة سبتمبر1986 الذي أعاد من جديد ملامح النظام الاستقرائي الذي يعتبر تراجعا نسبيا عن مبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين.

مبررين أساسيين متكاملين

فهذا النظام ينبني على أفكار تتعارض مع إعطاء المتقاضين سلطة و مطلقة في النزاع المدني وذلك انطلاقا من مبررين أساسيين متكاملين يعتبران وجهين لحقيقة واحدة مفادها أن النزاع المدني لا يهم طرفيه فقط وهذين المبررين هما: ء الصبغة الاجتماعية للنزاع المدني ( الفقرة الأولى). ء التصور الجديد لحقيقة القضائية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى ء الصبغة الاجتماعية للنزاع المدني:
يقوم المفهوم الكلاسيكي للنزاع المدني والذي كان سائدا بالخصوص في القرن 19 الذي تميز بظهور الاتجاهات الفردية التحررية، على أن الخصومة لا تهم سوى مصلحة المتنازعين ولا تعني المجتمع ولا النظام العام في شيء، ومهمة القاضي تنحصر في إنهاء النزاع حسب المعطيات التي يقدمها الأطراف. فغاية الخصومة ليست الكشف عن الحقيقة شأنها شأن الحرب التي لا تهدف إلى انتصار الحق. فالدعوى التي تتعهد بها المحكمة بطلب من المتقاضين تهدف أساسا إلى المطالبة بحقوق ذاتية لا تهم إلا المتنازعين الذي لا يرغبون إلا في كسب القضية واستصدار أحكام لصالحهم مستعملين في سبيل ذلك كل الوسائل والدفوعات، بينما يكون دور القاضي سلبيا إن لم يكن منعدما فالدعوى ملك لأطرافها يشكلون بنيانها الواقعي والقانوني ويسيرونها بالطريقة التي تخدم مصالحهم دون أن يكون للمحكمة سلطان عليهم في ذلك فالقاضي ليس إلا حكما يراقب النزاع ويسجل الأهداف . كما أن الحقيقة التي تقرها المحكمة حسما للنزاع هي حقيقة نسبية من صنع المتقاضين أكثر مما هي من عدل القاضي الذي يقتصر دوره على مشاهدة المبارزة والإعلان عن الفائز الذي قد لا يكون بالضرورة صاحب الحق، فيصبح القاضي أقرب إلى الحكم منه إلى مكلف بتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين، فهو لا يقضي انطلاقا من قناعة باطنية شخصية بل لأن مجموع الحجج المدلى بها أمامه خلقت يقينا مفترضا أعطى الحق لأحد الطرفين.

غير أن هذا المفهوم للنزاع المدني لا يخلو من شطط إذ أنه ولئن كانت المصالح الخاصة هي محور الدعوى المدنية باعتبارها تهدف إلى تحقيق الحقوق الذاتية أو المحافظة عليها فإن أصحاب تلك الحقوق هم في الحقيقة خلية من خلايا المجتمع وما المصلحة العامة إلا مجموع المصالح الخاصة باعتبارها العناصر المكونة لها وأن أي مس بحقوق أفراد المجتمع يشكل نيلا من المصالح الجماعية .

وبما أن القاضي يستمد نفوذه من القانون، ويقوم بوظيفته بتفويض من الدولة، فإن حكمه هو عمل قضائي يجب أن يكون مطابقا للحقيقة الموضوعية، ولبلوغ هذه الحقيقة لا بد من إعطاء القاضي نفوذا وصلاحيات تساعده عن الكشف عنها وتخليصه من قيود الحياد السلبي، فالحياد المفروض عليه لا يجب أن يفسر بالسلبية إذ لا يمكن أن نعتبر أن الحياد يتعارض مع ما للحاكم المدني من أهداف لبلوغ العدالة المثالية . فالخصومة ليست مجرد مبارزة قضائية بين شخصين فعلى الرغم من أن نهايتها لا تهم إلا طرفيها بالدرجة الأولى إذ أنّها تمكن المحكوم له من الحصول على مطالبه، إلا أن لكيفية حسمها أثر على كامل المجتمع لأن التداخل والترابط بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة ثابتان دون شك لهذا ظهر اتجاه واضح في جل التشريعات الحديثة يميل نحو الحرص على أن يسعى القاضي عند البت في النزاعات المدنية إلى الكشف عن الحقيقة المطلقة لا إلى مجرد الحقيقة النسبية التي قد تكون مفتعلة من أحد المتقاضين . فدور القاضي المدني الأساسي هو الكشف عن الحقيقة وإيصال الحقوق خالصة لأصحابها ولأن العدالة مرفق عام خدماته هي توفير العدل للمتقاضين لابد أن يتم منحهم نفس الفرص للدفاع عن حقوقهم ومساعدة من تعوزه الوسيلة للكشف عن الحقيقة وعلى هذا النحو يساهم القاضي من جانبه في توفير الأمن والاستقرار الاجتماعي. ولقد تبنت محكمة التعقيب التونسية هذا التوجه في قرارها عدد 1197 المؤرخ في 21 ديسمبر 1978، والذي جاء فيه “على الحاكم تحرير حقيقة الأمر بنفسه أو بتكليف أهل الخبرة” .

فمحكمة التعقيب في هذا القرار تبرز مختلف إجراأت البحث التي يتخذها قضاة الموضوع بإرادة اكتشاف الحقيقة وبذلك أصبح هذا الهدف من أبرز وظائف القضاء الذي لم يعد يحاول الإسراع في فصل النزاع بل يجتهد في البحث عن الحقيقة . وهو ما جسده المشرع التونسي في م م م ت الفصل 86 المنقح في قانون غرة سبتمبر 1986، الذي ينص على أنه “للمحكمة إجراء أبحاث معينة… أو غير ذلك من الأعمال الكاشفة للحقيقة…”.
فأحكام هذا الفصل تكرس نظرة اجتماعية للنزاع المدني لأن مهمة القاضي لم تعد مجرد فصل القضايا بل فصل النزاعات طبق القانون وعلى أساس معطيات صحيحة، لذلك عليه أن يبحث عن الحقيقة بنفسه إذ أنه لا يمكن أن يكون العمل القضائي إيجابيا إلا إذا انبنى على معطيات صحيحة، فيكون الحكم مطابقا للحقيقة. وبما أن الأحكام القضائية هي من عمل القاضي وتجسم مظهرا من مظاهر العدالة فإنه لا يمكن ترك المتقاضين يتصرفون في الدعوى على هواهم ووفق مصالحهم دون اعتبار لمدى شرعية طلباتهم مستعملين أحيانا وسائل غير مشروعة دون التقيد بالقيم الأخلاقية فهم لا يسعون إلى إدراك الحقيقة الموضوعية، وإنما يسعون إلى إدراك حقيقتهم الذاتية.

ولهذه الأسباب أكدت محكمة التعقيب أن “مهمة القاضي ليست مجرد فصل القضايا بل فصل النزاعات طبق القانون وعلى أساس معطيات صحيحة، وهذا يدعو القاضي إلى عدم التقيد بما يقدمه المتقاضين من وسائل دفاع ومستندات إذ قد تكون منقوصة بل عليه أيضا أن يبحث بنفسه عن الحقيقة ولا يمكن أن يكون العمل القضائي إيجابيا إلا إذا انبنى على معطيات صحيحة فيكون الحكم مطابقا للحقيقة وعلى القاضي الكشف عنها باتخاذ ما يراه ضروريا من الأعمال وقد خوّل الفصل 86 م م م ت للمحكمة الإذن بكلّ الأعمال ذات الصبغة الاستقرائية الرامية أساسا للكشف عن الحقيقة” . كما جاء بالفصل 114 من نفس المجلّة أنه “إذا لم تجد المحكمة بالملف الإيضاحات الكافية يمكنها أصالة منها الإذن بإحضار الشهود أو الخبراء بالجلسة الذين ترى منفعة في سماع شهادتهم”. لهذا فإن النظرة الحديثة للنزاع المدني ترى أنه يرتكز على عنصرين: ء أولهما أن هذا النزاع يتعدى المصالح الخاصة للمتقاضين ليشمل أيضا المصلحة العامة. ء وثانيهما واجب الأطراف في التعاون ومساعدة القاضي للكشف عن الحقيقة الموضوعية أي المطلقة. فالعبرة في النزاع المدني ليست في فصل القضايا بل في إنهاء النزاع بصفة عادلة بإعطاء كل ذي حق حقه، وهذا لن يتحقق إذا ترك القاضي المعركة القضائية تدور بين المتقاضين دون أن يكون له دور إيجابي فيها خاصة في وقت كثرت فيه الخزعبلات والحيل والمغالطات.

فإذا كان الأطراف أحرارا في عدم طرح نزاعهم إلى القضاء فإنه عليهم عند اللجوء إليه أن يقدموا المعطيات الصحيحة إذ لا يمكنهم أن يسيطروا على الوقائع وعلى الحجج إذ المفروض أن يكون النصر حليف صاحب الحق لا حليف الأقوى.
لذا فلا بد أن تتوفر في الخصمين النزاهة اللازمة لكشف الحقيقة، لكن لو تحقق هذا لما كان للنزاع أن ينشب أصلا بينهما، فالبحث عن الحقيقة هو شرط أساسي وضروري للحكم بالحق، ولي يكون الحكم عادلا فلا بد أن ينبني على معطيات صحيحة وعناصر مطابقة للواقع، وحتى ينصف القاضي المتقاضي ويبت في النزاع لصالح صاحب الحق فلا بد أن تتوفر لديه المعطيات الصحيحة ولن يتحقق ذلك إلا إذا أعطى القاضي دورا إيجابيا في البحث عن الحقيقة.

الفقرة الثانية – التصور الجديد للحقيقة القضائية:
يذهب البعض إلى أن المعنى المباشر لمبدأ حياد القاضي هو أن القاضي ليس له أن يتخذ أي مبادرة في البحث عن وسائل الإثبات . فالمقصود بالحياد هو إذا أن يقف موقف سلبيا من كلا الخصمين فيما يتعلق بإثبات الدعوى فالقاضي لا يمكنه أن يأسس قناعته إلا على عناصر الإثبات التي أدلى بها الأطراف ولا يمكنه التدخل تلقائيا في البحث عن الحقيقة . ففي المادة المدنية يقع على كاهل المتقاضين عبء تقديم الأدلة المثبتة لحقوقهم ودعواهم.
فمبدأ حياد القاضي يتمثل أساسا في عدم اتخاذ أي مبادرة للبحث عن الحجج لصالح أحد الطرفين والاكتفاء بما يقدمه المتقاضين من أدلة واعتمادها دون غيرها، وهو ما يندرج في إطار المفهوم الكلاسيكي للنزاع المدني القائم على فكرة أنه مجرد نزاع بين طرفين لا يهم إلا مصالحهم الخاصة.

لكن هذا المفهوم وقع تجاوزه، وأصبحت الدعوى المدنية ينظر إليها لا فقط على أنها مجرد نزاع فردي يدور بين شخصين، إنما أيضا على أنها ظاهرة مرضية في البناء الاجتماعي تل على وجود خلل فيه تلزم معالجته بأسلوب قانون يحد من آثاره الاجتماعية السلبية. ولهذا فلا بد من القضاء على فلسفة القاضي “مكتوف اليدين” التي سادت في القرن 19 كمظهر من مظاهر النزعة التحررية المتطرفة التي ترى أن القضاء وإن كان مرفق عام فإنه يجب أن يكون على ذمة المتقاضين وهم أحرار في تسيير النزاع وفق مصالحهم ويقع عليهم وحدهم واجب الإدلاء بحججهم المثبتة لحقوقهم. فصحيح أن النزاع المدني يهم بالدرجة الأولى مصالح المتقاضين إلا أن الفصل فيه يرجع إلى القضاء باعتباره مرفقا عما بل أنه أحد السلطات الثلاث وأهم وظيفة من وظائف الدولة ومظهر من مظاهر السيادة.
فهو يستمد وجوده من وجود الدولة التي احتكرت لنفسها سلطة الفصل في النزاعات ومنعت الأفراد من اقتضاء حقوقهم بأنفسهم.

فالقاضي هو الشخص المكلف بمهمة تطبيق القانون، لذا حصل تغيير كبير في النظرة إلى دور القاضي في نطاق الدعوى المدنية، أخرجه عن دوره السلبي الذي كان يرسمه له فقه المرافعات التقليدي، من أنه مجرد حكم يعد الأخطاء ليعلن في النهاية تفوق أحد الخصمين، دون أي دور مؤثر وفعال له في الدعوة.
بل على العكس من ذلك ذهبت الكثير من التشريعات اليوم نحو منح القاضي دورا إيجابيا في النزاع كي يتمكن من الوصول إلى الحقيقة وذلك من خلال منحه صلاحيات قانونية تتيح له مثل هذا الدور الإيجابي . فقد برز في السنوات الأخيرة اتجاه مبني على تصور جديد للحقيقة القضائية، مبني على إخراج القاضي المدني من عزلته وحياده وتحطيم القيود الإجرائية المكبلة له والتي تحجب عنه الحقيقة الصحيحة، فيساهم مساهمة إيجابية في البحث عنها . خاصة وأن الأحكام تصدر باسم الشعب وهي تتضمن عنصرين: • ء أولهما فصل النزاع طبق القانون من طرف القاضي. • ء وثانيهما الأمر بتنفيذه بواسطة القوى العامة عند الاقتضاء . • ويتمتع الحكم القضائي البات كذلك بقرينة اتصال القضاء (الفصل 480 م أ ع وما بعده). فحكم هذه خصائصه وتلك هي قوته لا يمكن أن يكون نتيجة لمبادرات المتقاضين دون سواهم ولا يعقل أن يرتكز على الوقائع التي يكيفونها حسب مشيئتهم ومصالحهم ولا يجوز تبع لذلك تجريد القاضي من نفوذ تسيير الدعوى وجعل دوره سلبيا في النزاع لا يتخذ أية بادرة إجرائية للكشف عن الحقيقة، خاصة وأنه يقوم بمهمته بتفويض من الدولة وبالتالي فلا بد أن يكون حكمه مطابقا للحقيقة الموضوعية وينبغي أن تكون له كامل الصلاحيات والإمكانيات لتحقيق المساواة بينهم . تلك المساواة التي اعتبرها البعض أساسا لتكريس الحياد السلبي للقاضي على أساس وأن النزاع المدني يكون عادة بين أطراف أحرار ومتساوين وبالتالي لا يمكن للقاضي أن يحل محل أحدهم للبحث عن حقيقة قد يكون تعمد إخفائها .

لكن هذا الرأي في الحقيقة مبني على تصورات افتراضية تتجافى والواقع، فالمتخاصمين ليسوا دائما متساوين في الذكاء والدهاء والمعرفة بالقوانين والإجراأت، لهذا يمكن أن يكون المحكوم له بالحق ليس بالضرورة هو صاحب الحق فعلا . فالقاضي إذن مطالب بالبحث عن الحقيقة الموضوعية فلا يحكم لصالح الغني أو الفقير أو الغبي أو الفطن بل لفائدة صاحب الحق ، وهو مدعو إلى تمكين المتقاضين من حقهم في إثبات دعواهم وذلك بأن يعمل على إزالة العراقيل التي تعترض المتقاضي وتمنعه من إثبات حقوقه فيمكنه من ممارسة حقه في الإثبات طبق القواعد والإجراأت القانونية واحترام حقوق الدفاع وجعل الأطراف متساوين أمام هذا الحق الأساسي حتى يكون الحكم أقرب ما يكون إلى الواقع الصحيح لأن سير القضاء يقتضي الوقوف على الحقيقة ولا يتحقق ذلك إلا بتوفير الإمكانيات لكل أطراف الخصومة لإقامة الدليل على وجود حقوقهم، ومبدئيا لا يمكن إدراك هذه الغاية إلا بجعل القاضي يقوم بدور إيجابي في الدعوى.

ولقد كرّس المشرع التونسي مبدأ حياد القاضي في الفصل 12 م م م ت الذي ينص حسب صياغته بعد تنقيح 3 أفريل 1980 على ما يلي: “ليس على المحكمة تكوين أو إتمام أو احضار حجج الخصوم”.
وهذه الصيغة أثارت جدلا في القضاء التونسي الذي ذهب في تأويله لأحكام هذا الفصل في اتجاهين متناقضين . يرى الأول أن أحكام هذا الفصل تكرس الحياد الإجباري على القاضي. بينما يرى الاتجاه الثاني بأن هذا الفصل يكرس حيادا اختباريا للقاضي وهو التأويل الأقرب للصواب. وقد أقرت محكمة التعقيب المفهوم الايجابي لحياد القاضي المدني ضمن العديد من القرارات من بينها القرار الصادر في 3 نوفمبر 1993 الذي ورد فيه مايلي: “الإذن من طرف المحكمة لإجراء الأبحاث العينية والاختبارات والبحث وزيادة الإيضاح لا يعد ذلك سعيا منها في تكوين وإحضار حجج الخصوم ولا يجسم خرقا لأحكام الفصل 12 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية بل هو من قبيل وسائل البحث التي يمكن لمحكمة الموضوع أن تأذن بإجرائها ولو تلقائيا للكشف عن حقيقة تحت الحاجة لذلك وفق ما خول لها الفصلان 86 و114 من نفس المجلة.” كما جاء في القرار التعقيبي المدني الصادر بتاريخ 26 جانفي 1993 أن “من أهم واجبات المحكمة الإذن بإجراء الأبحاث العينية والاختبارات وزيادة البحث والإيضاح كلما دعت الحاجة لذلك ولا يعد ذلك سعيا منها في تكوين وإحضار حجج الخصوم”. ومن أبرز القرارات المجسمة لهذا التوجه القرار التعقيبي عدد 6957 الصادر في 26 ماي 1970 الذي جاء فيه : “أن الشيء الذي لا يجب على المحكمة القيام به إنما هو السعي في تكوين أو إتمام أو إحضار حجج الخصوم حسب الفصل 12 م م م ت وإما تحرير الحقيقة في الموضوع بإلقاء الأسئلة على المتقاضين واستجوابهم ومطالبتهم بالإدلاء بمؤيداتهم والإذن بإتمام ما يلزم لفصل القضية فإنه يعتبر من أبرز واجبات المحكمة ودورها من هذه الناحية ليس سلبيا” .
ولهذا يمكن القول ان الدور الايجابي للقاضي المدني مقيد بحدين هما عدم جواز القضاء بالعلم الشخصي وضرورة الحفاظ على مبدأ المواجهة بين المتقاضين.

ويمكن أن نرجع أساس الاعتراف للأطراف بدور أساسي واطغي فيما يخص الوقائع إلى جملة من المبادئ المعروفة والمسيطرة على مادة المرافعات المدنية وأهمها:

الدور الايجابي للقاضي المدني مقيد بحدين

الحد الأول: منع القاضي من الحكم بعلمه الشخصي:
إن المقصود بأن لا يقضي القاضي بعلمه الشخصي هو أن لا يستند عند البت في النزاع على معلوماته الشخصية المتعلقة بالجانب الواقعي للنزاع والتي استقاها من خارج إطاره ودون أن تكون محل نقاش بين المتقاضين سواء توفرت لديه تلك المعلومات بموجب الصدفة أو نتيجة لتحريات خاصة قام بها دون علم المتقاضين. وقد عبر الفقيه أحمد أبو الوفا عن ذلك بقوله: “أن واجب الحاكم هو أن يجلس إلى منصة القضاء وهو خالي الذهن عن أية معلومات عن الدعوى التي تطرح أمامه ويكون من شأنها التأثير في حكمه” .
ولكن لا يعتبر من قبيل القضاء بالعلم الشخصي استناد القاضي في حكمه إلى معلوماته المستمدة من خبرتها العملية وثقافته العامة . ولقد تعرض المشرع التونسي إلى منع القضاء بالعلم الشخصي في الفصل 23 من قانون 14 جويلية 1967 المتعلق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاء والذي جاء فيه ” على القضاة ان يقضوا بكامل التجرد ودون اعتبار للأشخاص أو للمصالح وليس لهم الحكم في قضية استنادا إلى علمهم الشخصي…”. و يمكن أن نستنتج من خلال تكريس المشرع التونسي لهذا المبدأ صلب القانون الأساسي للقضاة، الأهمية التي يوليها لهذه القاعدة باعتبارها من أخلاقيات وسلوكيات مهنة القضاء. وبالتالي فقد أراد أن يجعل منه مبدأ عاما يلازم القاضي في جميع وظائفه القضائية وجعله صفة من بين الصفات التي يجب أن يتحلى بها القاضي كالتجرد والموضوعية ويمكن القول أن الغاية الأساسية من هذا المبدأ هي تحقيق المساواة بين المتقاضين. فالقضاء على أساس معلومات شخصية يؤدي إلى إدخال عناصر جديدة في الدعوى وهذا من شأنه أن يغير سببها أو موضوعها أو يتجافى مع مبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين وسيطرتهم على مادته وتقيد المحكمة بإطاره الذي حدده المتقاضين .
كما أن القضاء بالعلم الشخصي للقاضي يتجافى مع مبدأ المواجهة بين المتقاضين.

الحد الثاني: مبدأ المواجهة بين المتقاضين:
يقتضي هذا المبدأ أن تعرض ادعاأت وحجج و دفوعات كل طرف على الطرف الأخر وأن يتمكن من مناقشتها والرد عليها إذ ينصّ الفصل الرابع من م.م.م.ت: “لكل خصم حق الإطلاع على أوراق النازلة وعلى جميع الوثائق التي أدلى بها خصمه”.
وهذا المبدأ هو تكريس لاحترام حقوق الدفاع للطرفين لأنه لو جاز للقاضي أن يحكم على ضوء طلبات أحد الطرفين فقط وأدلته فإنه يخشى أن يكون حكمه غير عادل ومن باب أولى أن يكون كذلك فيما لو سمح للقاضي باعتماد وقائع لم يثرها أطراف النزاع ولم يناقشوا فيها وإنما أثارها القاضي من تلقاء نفسه. وقد حرص فقه القضاء التونسي على ضرورة التقيّد بهذا الالتزام نظرا لأنه يعتبر مظهرا مظاهر المواجهة بين الخصوم إذ اعتبرت محكمة التعقيب أنه “يكون قابلا للنقض الحكم الذي إعتمد حجة لم يستند إليها الطالب ولم تطرح على المناقشة لدى قضاة الأصل لأن في ذلك إخلال بحقوق الدفاع ”
كما جاء في قرار تعقيبي مدني عدد 5094 ما يلي: “إذا أذنت المحكمة بإجراء بحث تكميلي في القضيّة وتم هذا البحث فلا يسوّغ لها القضاء في الدعوى إلاّ بعد إطلاع الخصوم على نتيجة ذلك البحث وتمكينهم من الوقت الكافي للاستعداد للمناقشة فيها وتفريعا على ذلك يكون مشوبا بالإخلال بحقوق الدفاع وقابلا للنقض الحكم الذي لم يراع تلك الإجراأت الأساسيّة”
ولقد بينت محكمة التعقيب أيضا في قرار صادر في 24 أفريل 2000 تحت عدد 76583 نطاق الواجب المحمول على المدعي في عرض الوقائع إذ جاء في هذا القرار “حيث أوجب المشرع بالفصل 69 م م م ت اشتمال عريضة الدعوى علاوة على أسماء المتقاضين وألقابهم عرضا مفصلا لوقائع الدعوى وطلبات المدعي وأدلتها وهناك من الدعاوي ما تستوجب بحسب طبيعتها الإفاضة في وصف بعض الوقائع أو المستندات وإلا كانت غير مقبولة.
كما جاء في القرار المذكور :”” وحيث اتضح بالاطلاع على عريضة الدعوى اقتصار رافعها على القول أن حصل له حادث أيم بمعهد الرياضة البدنية بدون أن يبين ظروف هذا الحادث والمتسبب فيه وأنه كان مترتبا عن نزاع بينه وبين أحد المترددين على القاعة أو غير ذلك خاصة وأن الشهادة الطبية تشير إلى حمل المتضرر لآثار عنف وأن لم يقع تحرير محضر في الحادث ولا وقع سماع صاحب القاعة في الغرض ورغم الدفوعات التي أبدتها الطاعنة في هذا الخصوص فإن المعقب عليه لم يقم حسبما تدل عليه إجاباته اللاحقة ببيان الظروف التي جد بها الحادث ورغم ذلك فإن محكمة القرار جارت الطالب في طلباته معللة رأيها بالقول أن صاحب القاعة لم ينازع في ماديات الحادث بالرغم من أنه لم يقع سماعه إطلاقا وعدم حضوره للنزاع لعدم استدعائه له لا يتضمن التسليم بصحة وقائع الدعوى وبذلك تكون محكمة القرار قد أقامت قضاءها على وقائع غامضة ومجملة وخالية من البيان التفصيلي قانونا ودون أن تكون مؤيدة بالدليل الذي يصح اعتماده قانونا فاستوجب قضاؤها النقض حفظا لحقوق الأطراف وتأمينا لحسن سلامة تطبيق القانون””. ومن الواضح ان محكمة التعقيب في هذا القرار لم تقتصر على طلب الإفاضة في وصف الوقائع بل أشارت كذلك إلى المستندات أي العنصر القانوني للنزاع. وخلاصة القول أن إخراج القاضي عن دوره السلبي في النزاع المدني وإعطائها دورا إيجابيا هو في حقيقة الأمر تكريس للصبغة الاجتماعية للنزاع المدني الذي تجسده اليوم عدة مظاهر وردت في أحكام م م م ت وغيرها من القوانين.

الجزء الثاني:مظاهر الدور الايجابي للقاضي في النزاع المدني:

تتمثل مظاهر الدور الايجابي للقاضي في النزاع المدني أساسا في الحد من سلطة الأطراف على عناصر الدعوى المدنية خاصة فيما يتعلق بضبط الجوانب المادية للنزاع وجوانبه القانونية. الفقرة الأولى – المساهمة الايجابية للقاضي في تحديد الجوانب المادية للنزاع: تضمنت م م م ت أحكاما عديدة تمكن القاضي من التدخل بصفة إيجابية للبحث عن الحقيقة وقد برز هذا الاتجاه خاصة بعد التنقيح الذي دخل على المجلة بموجب قانون غرة سبتمبر 1986، الأمر الذي يمكّن المحكمة من الخروج من السلبية والقيام بدور هام في البحث عن الحقيقة التي أصبح إدراكها من أبرز اهتمامات المشرع فلم يعد القاضي يقتصر على الحقائق النسبية التي يقدمها المتقاضين بل أصبح يبحث بنفسه عن الحقيقة الموضوعية.
وقد تعرض المشرع لجملة من الوسائل المباشرة وغير المباشرة تمكن القاضي من الوقوف على الحقيقة، والتي يمكن حوصلتها في الدور الاستقرائي للقاضي ودوره في تحديد وقائع النزاع.

أولا: الدور الاستقرائي للقاضي:
يبرز هذا الدور من خلال الأعمال الاستقرائية التي أعطى المشرع للمحكمة سلطة القيام بها والمتمثلة خاصة في سعيها نحو كشف الحقيقة ومساهمتها في الإثبات وتسيير إجراأت الدعوى. فالأعمال الاستقرائية كما تدل تسميتها تهدف أساسا إلى الكشف عن الحقيقة، وهو ما جسده المشرع التونسي في الفصل 86 م م م ت الذي أجاز صراحة للمحكمة القيام “بالأعمال الكاشفة للحقيقة” وهذه العبارة تعبر عن تحول في نظرة المشرع لدور القاضي في النزاع المدني والغاية التي يجب أن يسعى إليها وهي الكشف عن الحقيقة بنفسه دون الاقتصار على اعتماد ما يقدمه المتقاضين من أدلة، فهذا الفصل يكرس ملامح النظام الاستقرائي. ولقد تدعم النظام الاستقرائي بإعادة إحياء خطة القاضي المقرر بالفصول 87 وما بعدها من م م م ت.
ولقد حدد الفصل 87 بوضوح مهمة القاضي المقرر والمتمثلة أساسا في “تهيأة القضية للحكم” فهذه العبارة المطلقة تعني أن القاضي هو المسيطر على الخصومة وهو المسير لإجراأت الدعوى التي لم تعد رهينة مشيئة الأطراف يتصرفون فيها حسب أهوائهم ومصالحهم. ومن خلال أحكام الفصلين 87 و 89 م م م ت نستخلص أن القاضي المقرر أصبح هو المسير للخصومة ويسيطر عليها سيطرة فعلية مباشرة، فهو الذي يشرف على تحديد إطارها الإجرائي، ويتلقى التقارير المؤيدات من المحامين وبذلك فإن تسيير الدعوى إجرائيا أسبح من مشمولاته وبعبارة واحدة أصبحت إدارة الدعــوى بيديه.

وهو ما ذهب إليه محكمة التعقيب حين اعتبرت أن “القاضي هو الذي يسير ويراقب إجراأت تحقيق الدعوى” . ولكن هذا الاتجاه يبرز أكثر في مجلة الحقوق العينية فيما يتعلق بدور الحاكم المقرر أثناء إجراأت التسجيل، حيث أعطى الفصل 329 لهذا القاضي سلطة مطلقة للقيام بمهامه تشبه ما تمتع به قاضي التحقيق في المادة الجزائية، مما جعل البعض يطلق على القاضي المقرر في المحكمة العقارية تسمية “حاكم تحقيق مدني” وذلك راجع إلى طبيعة الأحكام الصادرة عن المحكمة العقارية والتي لا تقبل أي طريقة من طرق الطعن ، فكلما كانت الحقيقة التي يسعى إليها القاضي مطلقة كان نفوذه في البحث عنها بلا حدود. ولم يقف المشرع عند إعطاء القاضي المقرر سلطة القيام بأعمال استقرائية بل إنه أعطى هذه الصلاحية للمحكمة أيضا وذلك من خلال أحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 114 م م م ت “إذا لم تجد المحكمة بالملف الايضاحات الكافية يمكنها أصالة منها الإذن بإحضار الشهود أو الخبراء بالجلسة والذين ترى منفعة في سماع شهادتهم وتأذن عند الاقتضاء بزيادة البحث، كما يمكن لها الإذن بحضور الخصوم بذواتهم”. وهذا الفصل ورد في باب جلسة المرافعة والحكمة مما يعني أن المشرع فتح الباب أمام القضاة في كافة مراحل الدعوى للقيام بأي عمل استقرائي يرونه لازما لكشف الحقيقة وهو ما يمثل حتما حدا لسلطة الاطراف في النزاع المدني خاصة وأن المحكمة يمكن أن تقوم بذلك أصالة منها وتدعمت سلطة القاضي في النزاع المدني أيضا من خلال الدور الذي يلعبه في الاثبات، فعلى الرغم من غياب نصوص عامة في القانون التونسي تمنح القاضي سلطة إجبار الأطراف أو الغير على تقديم بعض الحجج اللازمة لكشف الحقيقة فإن المشرع مكن القاضي المقرر في الفصل 87 م م م ت من مطالبة الأطراف بما يراه لازما من الايضاحات والوثائق الاضافية، وإذا امتنعوا عن ذلك فإن الفصل 89 ينص على أن القاضي المقرر يواصل عمله دون التوقف على عدم الادلاء بما كلفوا بتقديمه. و تجدر الإشارة إلى أن بعض فصول م أ ع أعطت للمحكمة سلطة أوسع في ميدان الاثبات تبرز خاصة من خلال أحكام الفصل 465 م أ ع . فأحكام الفصل المذكور تعطي القاضي إمكانية اتخاذ مبادرات تلقائية إيجابية في إحضار الأدلة وعدم الاقتصار على ما قدمه الأطراف، الملفت للانتباه أن المشرع استعمل كلمة “الإذن بتقديم الدفاتر” وليس مجرد الطلب ومعنى ذلك أنه خول للمحكمة نفوذا واضحا وقويا. ولكن محدودية نطاق هذه الفصول لم يمنع محكمة التعقيب من الذهاب نحو إقرار أن واجب المحكمة هو تحرير الحقيقة وبالتالي فإنه بامكانها أن تطالب الطرف الذي بيديه الدليل ولو كان المدعى عليه أن يقدمه.

ففي قرار صادر في 24 مارس 2000 تحت عدد 75245 أكدت محكمة التعقيب على أن “عدم وجود أصل وثيقة في أوراق القضية كانت مظروفة نسخة مطابقة للأصل منها مع مستندات الدعوى وكانت أساس الحكم المطعون فيه لا يكفي لاعتبار الدعوى غير مؤيدة مادام أنه كان بإمكان المحكمة أن تطالب من بيده ذلك الأصل أن يقدمه، وذلك على أية حال لا يعد من قبيل السعي في تكوين أو إحضار حجج المتقاضين بل يندرج في إطار الواجب المحمول على عاتق المحكمة في تحرير الحقيقة حسب مقتضيات الفصول 85 و 86 و 114 و 140 م م م ت خصوصا وأن المعقبة كانت تمسكت ضمن ملاحظاتها المؤرخة في 16 فيفري 1999 و 12 أفريل 1999 بأن القصاصة المطلوب إضافتها توجد بحوزة المعقب ضدها وأنه كان من الأجدى المطالبة هذه الأخيرة بتقديمها وإضافتها إلى ملف القضية”. ومن الواضع أن محكمة التعقيب في هذا القرار قد ذهبت بعيدا في تحميل المحكمة واجب كشف الحقيقة إلى حد أنها قد خرقت المبدأ التقليدي القائل بعدم الزام شخص بتقديم دليل ضد نفسه أي أنها تجاوزت المفهوم الكلاسيكي للنزاع المدني، هذا المفهوم الذي يبدو أن المشرع التونسي لا زال متأثرا به، إذ لا يوجد نص في القانون التونسي يسمح بإجبار شخص على تقديم دليل ضد نفسه.

ثانيا: دور القاضي في تحديد وقائع النزاع:
مبدئيا فإن الاستناد إلى الوقائع هو من اختصاص المتقاضين دون سواهم، وبالتالي ليس للمحكمة أن تعتمد في قضائها على واقعة لم تعرض عليها ولم تتعهد بها في نطاق إطار النزاع الذي حدده الأطراف. إلا أنه يوجد استثناء لهذا المبدأ يتعلق بالوقائع الموجودة ضمن عناصر القضية المطروحة على المحكمة، فمثل هذه الوقائع يمكن للمحكمة إثارتها واعتمادها رغم أن الأطراف لم يتمسكوا بها صراحة ولقد أقر المشرع الفرنسي هذه القاعدة في الفصل 7 م م م الذي جاء فيه “لا يمكن للقاضي أن يؤسس حكمه على وقائع لم تعرض عليه أثناء التقاضي إلا أنه يمكنه أن يأخذ بعين الاعتبار من بين عناصر المناقشة الوقائع التي لم يستند إليها الأطراف بصفة خاصة لتدعيم طلباتهم”. إلا أن محكمة التعقيب التونسية لها رأي مخالف فهي تلح على ضرورة الاقتصار على التحري فيما يدلي به المتقاضين من أدلة ولا يمكن إجراء أبحاث في غير ما تمسك به المتقاضون إذا انبنى القرار الاستئنافي على حجة لم يستند إليها المعقب عليه ولم تكن حينئذ موضوع مناقشة لدى المحكمة فإنه يستوجب النقض . بينما يرى الفقه الفرنسي أنه يمكن للقاضي الإذن بأبحاث تشمل كل الوقائع سواء وقع التمسك بها أم لا والتي من شأنها أن تؤثر في حل النزاع .

لكن مثل هذا التوجه نحو الإذن بإجراء أبحاث حول وقائع لم يستند إليها المتقاضين يمثل إفراطا في السلطة وتغييرا لسبب الدعوى وتجاوزا لإطار النزاع وبالتالي خرقا لمبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين. وفعلا فإن هذا التوجه أدى بفقه القضاء الفرنسي إلى تبني فكرة الطلبات الضمنية أو المفترضة التي تسمح بتخفيف حدة قيود قاعدة إمكانية القاضي تغيير موضوع الدعوى . والطلب الضمني أو المفترض كما يعرفه الأستاذ J.Nورماند بأنه الطلب الذي لم يطلبه المتقاضين صراحة، ولكنه يفهم ضمنا من مجموع الوقائع التي أوردوها في عرائض دعواهم، بحيث يمكن افتراض اتجاه نيتهم إلى طلبه.

لكن مثل هذا التوجه لا يمكن تأييده إلا في صورة احترام المحكمة لحقوق الدفاع ومبدأ المواجهة بين المتقاضين فلا تعتمد دليل لم يناقشه الأطراف.

ثالثا: إمكانية توسيع نطاق النزاع من حيث الأطراف: مبدئيا فإن المدعي هو الذي يحدد أطراف النزاع من خلال تحديده للمدعي عليه في عرضية الدعوى، إلا أن اعتبار الحكم القضائي عنوان للحقيقة يفرض في بعض الأحيان السماح للمحكمة بتعديل نطاق النزاع من حيث الأطراف وذلك من خلال السماح لأطراف أخرى بالدخول في القضية.
ولقد نظم المشرع التونسي في الفصول 224 و 225 م م م ت التداخل في الدعوى كما أنه ضبط في الفصل 251 تداخل النيابة العمومية في النزاعات. فالفصل 224 يسمح للغير أي الذي لم يكن طرفا في النزاع والذي له مصلحة في القضية أن يتداخل فيها في أي مرحلة من مراحلها، أما الفصل 225 فإنه ذهب أبعد من ذلك واعطى للمحكمة سلطة في تحديد نطاق النزاع من حيث الاطرف إذا جاء بالفقرة الأخيرة من هذا الفصل “للمحكمة أصالة منها وفي كل حيث أن تأمر بإدخال الغير في الدعوى إذا رأت حضوره ضروريا لتقدير النزاع”. ويمكن القول أن أحكام التداخل والإدخال ترجع أساسا إلى تقهقر مبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين الذي يفرض على المحكمة التقيد بإطار النزاع الذي حدده المتخاصمون، وذلك نظرا لإيجابياتها المتمثلة خاصة في تفادي تعارض الأحكام والاقتصاد في الإجراأت وحماية الغير من الغش والتواطؤ الذي قد يقوم به أطراف النزاع وكذلك لاستكمال عناصر الدعوى بغاية استجلاء الحقيقة وتحقيق العدالة. ولعل هذه المبررات هي نفسها التي سمحت بإعطاء النيابة العمومية حق التداخل في الدعاوي طبق أحكام الفصل 251 م م م ت وذلك بصبغة وجوبية بطلب من المحكمة أو بصفة تلقائية .

فالحكم القضائي هو عنوان الحقيقة، ولكي يكون كذلك فعلا فلا بد من تمكين المحكمة من كل الوسائل التي تسمح لها بأن تكشف الحقيقة الموضوعية دون أن تبقى حبيسة لإرادة من كل أطراف النزاع الهادفة أساسا لتحقيق مصالح ذاتية ولعل أهم واجب يتحمله القاضي المدني هو توجيه النزاع الوجهة القانونية السليمة. الفقرة الثانية: دور الايجابي للقاضي في تحديد الجانب القانوني للنزاع. يتفق الفقهاء على أن القانون هو من امتياز القاضي فلسان حال القاضي يقول
“أعطني وقائع أعطيك قانونا” .

وهذا يندرج في نطاق الوظيفة الأصلية للقاضي لأسباب ثلاثة: ء لأن القاضي يعتبر حامي الشرعية القانونية والمسؤول عن تطبيق القانون، فالقانون من مشمولات المحكمة والوقائع من مشمولات الأطراف. ء يقتضي مبدأ المساواة أمام القضاء باعتباره مرفق عام أن يعهد للقاضي وليس للأطراف امتياز اختيار النص القانوني الملائم وتطبيقه. ء من المسلم به من قديم أن حجة القانون على القاضي لأنه محمول على العلم به والإلمام بجزئياته أكثر من المتقاضين، ذلك أن المحكمة تعرف القانون وهذا المبدأ الأصولي مرتبط بالوظيفة القضائية إذ المفروض أن المحكمة لا فقط تعرف القانون بل تتقنه . فهل يعني هذا أن القاضي هو السيد المطلق في تحديد التكييف القانوني للنزاع وأن الأطراف ليست لهم أي سلطة في تحديد العناصر القانونية للنزاع؟ بالرجوع إلى أحكام الفصل 70 م م م ت نجد أن من بين العناصر التي يجب أن يبينها المدعي في عريضة الدعوى هي الأسانيد القانونية لطلباته أي أن الأطراف يساعدون أيضا في تحديد العناصر القانونية للنزاع.
لكن الأستاذ الغزواني يرى أن ذلك لا يعدو أن يكون إلا من قبيل الواجب الأدبي بالنظر إلى أن الفصل 71 م م م ت الذي تضمن ذكر حالات بطلان عريضة الدعوى لم يذكر من بين تلك الحالات إهمال المدعي ذكر النص القانوني المنطبق لا لشيء إلا لأن البحث عن السند القانوني الواجب التطبيق هو من مهام القاضي دون سواه الذي له الاختيار المطلق للنص القانوني وتكليف المدعي بيان أسانيده القانونية في عريضة الدعوى هو فقط لمساعدة القاضي .

إلا أن ما ذهب إليه الأستاذ الغزواني من تبسيط المسألة يجب أن لا يحجب عنا الصعوبات التي تطرحها ذلك على الأقل فيما يتعلق بتحديد حقيقة دور كل من القاضي والأطراف في ضبط الجانب القانوني للدعوى. فعلى الرغم من الميل الواضح لدى فقه القضاء نحو اعتبار أن تطبيق القانون من اختصاص المحكمة إلا أنه توجد قرارات أخرى تسير في الاتجاه المعاكس وتجعل تحديد السند القانوني من قبل الأطراف ملزما للمحكمة لا تملك حق تبديله. فبالنسبة للاتجاه الأول: أقر فقه القضاء التونسي هذا الاتجاه في عدد كبير من القرارات التعقيبية التي يمكن وصفها بفقه القضاء الغالب.

إذ جاء في قرار تعقيبي صادر بتاريخ 11 فيفري 1985 “… ان قاضي الموضوع لا يخضع في تكييفه للدعوى إلى مشيئة الخصوم وإنما يأخذ التكييف من القانون أخذا صحيحا” و يمكن كذلك الإشارة إلى عدة قرارات تعقيبية تبنت هذا الاتجاه مثل القرار التعقيبي عدد 5876 الصادر في 4 مارس 1996 والذي ورد فيه: “ان النصوص القانونية التي تعتمدها المحكمة هي من اختصاصها وحدها دون توقف على ما تمسك المتقاضين به ما دامت منطبقة على الدعوى” . وحسب اجتهاد محكمة التعقيب فإنه لا لزوم لبيان النصوص القانونية التي أستند إليها المدعي عند تحرير العريضة لأن المحكمة هي التي تكيف الوصف القانوني للوقائع وتتخير النص الملائم . كما ذهبت محكمة التعقيب إلى أن اعتماد محكمة الموضوع في فصل النزاع على فصل قانوني لم يسبق التمسك به من قبل الأطراف خلال نشر الدعوى لا يعد من قبل تكوين حجج المتقاضين لأن تكييف الدعوى وإخضاعها للنص القانوني الواجب التطبيق من متعلقات المحكمة. لتؤكد في قرار آخر على أن لمحكمة الموضوع الاستناد للنصوص القانونية التي تنطبق على وقائع القضية دون أن يتمسك بها المتقاضين إذ أن ذلك يعد من جوهر أعمال القاضي ولا يعتبر خرقا لأحكام الفصل 12 م م م ت طالما أن النتيجة التي انتهت إليها المحكمة مأخوذة من الوقائع المعروضة عليها دون تحريف .

وهذا التوجه لمحكمة التعقيب والمجسم لسيطرة القاضي على القانون أقرته أيضا بدوائرها المجتمعية في قرارها الصادر في 30 جانفي 1970 حيث اعتبرت أن “وصف العقود من المتقاضين لا يقيد المحكمة وعليها إعطاء تلك العقود الوصف الواجب قانونا”. وبالرجوع إلى العديد من القرارات نتبين أن فقه القضاء التونسي شبه مستقر على اعتبار أن التكييف القانوني السليم واجب محمول على كاهل القاضي، فلا يمكنه التمسك مطلقا بمبدأ الحياد والتقيد بالوصف القانوني الذي يعطيه الأطراف رغم علمه بأن هذا التكييف غير صحيح. أما بالنسبة للاتجاه الثاني: ومع ذلك فإن بعض دوائر محكمة التعقيب تذهب في اتجاه ثان وتبتعد أحيان عن التوجه السابق وتذهب نحو اعتبار أن المحكمة ملزمة باتباع السند القانوني الذي أسس عليه الطالب دعواه فليس لها أن تغير من تلقاء نفسها ذلك السند . فمثل هذا القرار وغيره يدخل تذبذبا على موقف محكمة التعقيب من مسألة تحديد دور كل من القاضي والأطراف في ضبط السند القانوني للدعوى ويمكن القول أن محكمة التعقيب اتخذت في قرارها الصادر في 20 فيفري 1969 موقفا وسطا حين أكدت على أنه “لا تكون المحكمة ملزمة في كل الصور باعتماد النص القانوني الذي استند إليه القائم بالدعوى وإنما يجب أن تركز حكمها على النص القانوني الذي ينطبق على الدعوى”. ومن هنا يمكن القول بأن إعطاء النزاع التكييف القانوني الصحيح يعد واجبا محمولا على كاهل المحكمة، فلا يمكنها أن تتقيد بما يعطيه الأطراف من أوصاف للوقائع، إضافة إلى ذلك فهي غير ملزمة بتطبيق القاعدة القانونية التي تمسك بها الأطراف إذ عليها أن تستخلص بنفسها القاعدة القانونية الواجبة التطبيق من وقائع الدعوى، ولا يمكن القول بأن إتيان القاضي لمثل هذه الأعمال فيه خرق لمبدأ الحياد وتجاوز القاضي لحدود سلطته باعتبار أن النظر في الجوانب القانونية للنزاع يبقى من أهم وظائف القاضي باعتباره الأقدر على حسن تطبيقها ولذلك فإن القاضي كثيرا ما يجد نفسه ملزما بإعادة التكييف القانوني لوقائع النزاع مما يدعوه إلى إثارة دفوعات قانونية.

ويرى الأستاذ”هنري موتولسكي” أنه ليس هنالك فرق بين إعادة التكييف القانوني وإثارة دفوعات قانونية بما أن إعادة التكييف تؤدي حتما إلى إثارة دفوعات قانونية. كن هل أن حياد القاضي لا يمنعه فعلا من إثارة دفوعات قانونية بحتة من تلقاء نفسه؟ و هل له أن يلازم الحياد أو أن يتدخل إيجابيا في تحقيق الدعوى ويكون الحد الوحيد الذي يمكن أن يقلص من سلطته في إثارة دفوعات قانونية هو احترامه لمبدأ المواجهة بين الخصوم؟ أي أن يعرض ذلك الدفع على المتقاضين لإبداء ما لديهم من ملحوظات حول تلك المستندات القانونية احتراما لمبدأ المواجهة وضمانا لحقوق الدفاع. أجابت محكمة التعقيب بجواب شبه مستقر عن ذلك بأنه فيما يخص تحديد من له سلطة ضبط الطلبات في الدعوى أن السلطة المطلقة في ذلك تعود للأطراف وحدهم دون المحكمة وهذا أمر منطقي خاصة وأن الفصل 175 م م م ت المتعلق بحالات الطعن بالتعقيب ينص في الفقرة سادسا منه على حالة الحكم بما لم يطلب المتقاضين أو بأكثر مما طلبوه ومن الأمثلة على مثل هذه القرارات التعقيبية:
فمن المسلم به فقها وقضاء أن المحاكم مقيدة في قضائها بطلبات المتقاضين أي بالدعوى الأصلية وبدعوى المعارضة ولا حق لها في تجاوز ذلك وإلا أصبح حكمها مستهدفا للنقض .
المحكمة مقيدة في قضائها بطلبات المتقاضين ولا حق لها في تجاوزها وإلا كان حكمها خارقا لأحكام الفقــرة 6 من الفصــل 175 م م م ت.

لا يجوز القضاء بأكثر مما طلبه الخصوم ولا بما لم يطلبوه .
تجاوز السلطة يتجسم عندما تقضي المحكمة بما لم يطلب منها أو بأكثر مما طلب منها
وفي قرار آخر وضحت ما هو المقصود من الحكم بما لم يطلبه المتقاضين أو بأكثر مما طلبوه بأنه ما يشتمل عليه نص الحكم وليس ما اشتملت عليه الأسانيد الموضحة للطريق التي أوصلت إلى نص الحكم.
وبناء على ما سبق يمكن القول أن مبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين فيما يتعلق بتحديد مادة النزاع ينحصر في وقائع النزاع والطلبات أما السند القانوني فالاتجاه الغالب لفقه القضاء التونسي يذهب إلى أنه من اختصاص القاضي دون سواه وهذا هو الاتجاه الأقرب إلى الصواب.

وهو ما تبناه المشرع الفرنسي في الفصل 12 من مجلة المرافعات المدنية الفرنسية “يفصل القاضي في النزاع طبق القواعد القانونية المنطبقة عليه ويجب عليه أن يعطي الوقائع أو التصرفات القانونية المتنازع فيها وصفها الصحيح دون التوقف على الوصف الذي قد يقترحه الأطراف كما له أن يثير تلقائيا الدفوعات القانونية الصرف مهما كان الأساس القانوني الذي يتمسك به الأطراف”. وهو ما أشارت إليه محكمة التعقيب أيضا في قرارها عدد 1043 المؤرخ في 11 فيفري 1985 حين ذهبت إلى القول “ولئن كان قاضي الموضوع غير خاضع في تكييفه للدعوى إلى مشيئة المتقاضين وإنما يأخذ التكييف عن القانون أخذا صحيحا، فإن من واجبه مع ذلك أن يلتزم حدود الوقائع الثابتة وحدود طلبات المتقاضين ولا يطبق إلا القاعدة القانونية اللازم إعمالها للفصل في طلباتهم ودفوعهم ولا يمكنه الفصل في غير ما طلبه المتقاضين و لا في أكثر مما طلبوه”. فهذا القرار وما جاء في الفصل 12 م م م فرنسية إلى جانب حسمهما مسألة الجهة المختصة بتحديد القانون المنطبق فإنهما يمثلان مظهر من مظاهر تكريس الحياد الايجابي للقاضي في النزاع المدني.

الخاتمة

خاتمة دراسة الحياد الايجابي للقاضي في النزاع المدني كاملــــــةاخفِ
ما انفك فقه القضاء التونسي يكرس مفهوم الحياد الإيجابي للقاضي في تحقيق الدعوى المدنية بإطلاق يده للكشف على الحقيقة دون التقيد بالمفاهيم التقليدية للنزاع المدني.
فالقضاء الصالح والعادل هو من أول مميزات الدولة الديمقراطية الحديثة، إذ أنه يمثل أحد أهم مقومات سيادتها وكذلك مظهرا من مظاهر الرقي والتقدم داخل المجتمع. وباعتبار أن القضاة يمثلون الجهاز المحرك للوظيفة القضائية ككل، فإنه لا بد أن تتوفر فيهم صفات أخلاقية ومهنية وعلمية تمكنهم من حسن تطبيق القواعد القانونية وتحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع.
إضافة إلى ذلك، وباعتبار أن القضاء يشكل مرفقا عاما من مرافق الدولة وأحد السلطات الثلاث داخلها، فلا بد من أن يكون للقاضي صلاحيات واسعة ونفوذ كبير عند القيام بوظائفه القضائية، كما لا بد من تخليصه من جميع القيود الإجرائية والشكلية التي من شأنها أن تعيق المبادرة القضائية في سبيل الكشف عن الحقيقة. كما أنه من الضروري التخلي عن مخلفات الفكر الكلاسيكي التقليدي الذي يقيد إلى حد كبير من سلطات القاضي إلى درجة تهميش دوره وفي المقابل يقر بسيطرة شبه مطلقة للمتقاضين على الدعوى بجانبيها الواقعي والقانوني استنادا إلى مبدأ أساسي في الإجراأت المدنية وهو مبدأ حياد القاضي. فلا بد من مواكبة التطورات التشريعية الحديثة التي تعطي للقاضي سلطات واسعة تخول له الاجتهاد في سبيل إصدار أحكام عادلة تضمن الحقوق لأصحابها، كما تقر له أدوارا جديدة تبرز أهمية العمل القضائي ومساهمته في الرقي والنهوض بالمجتمع، إذ أصبح للقاضي اليوم دورا إصلاحيا وحمائيا في المجال الاقتصادي والاجتماعي مما يوفر له مجالا واسعا لإعمال سلطته التقديرية وذلك لإيجاد حلول أكثر عدلا وإنصافا، فالاجتهاد لا زال يلعب دورا هاما في حياة الأمة سواء في المجال التشريعي أو حتى القضائي وحتى في غيرهما من الحياة الاقتصادية والاجتماعية باعتباره يمثل مصدر خلق وإبداع يساير التطور الحاصل على جميع الأصعدة وفي جميع الأزمنة. ومما لا شك فيه أن المشرع التونسي قد ساير التطور الحاصل في الفكر القانوني العالمي، إذ أصبح القضاء يشكل مرفقا عاما وظيفته الأساسية تحقيق العدل داخل المجتمع وتطبيق السياسات التشريعية الحديثة للدولة، كما أعطي فيه للقاضي دورا هاما.

وبالتالي فقد أصبح الدور الموكول للقاضي لتهيئة النزاع للفصل، يقتضي منه تحقيق المعادلة بين التزام الحياد بمفهومه الإيجابي والاجتهاد في سبيل استجلاء الحقيقة، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يحل القاضي محل الأطراف منذ البداية ليبحث عن حجج إثبات دعواهم وفي المقابل فإنه لا شيء يمنع القاضي كلما تبين له وجود نزاع جدي يقتضي منه تدخلا حاسما أن يقوم بالعديد من الأعمال الكاشفة للحقيقة في نطاق ما خولته له النصوص القانونية وذلك لاستكمال أدلة المتقاضين حتى يؤسس حكمه على عناصر واضحة وثابتة من شأنها أن تجعل الأحكام القضائية مطابقة للحقيقة الواقعية. لذلك كان لابد من تكريس نظرة متطورة جدا للنزاع المدني وذلك انطلاقا من اعتباره للقضاء مرفقا عاما غايته الأساسية تحقيق العدل، وبالتالي فإنه لا بد من أن تتظافر فيه جميع الجهود من أجل غاية واحدة وهي تحقيق العدل. فخلافا لما كان عليه دور القاضي في ظل النظام الإستقرائي الذي تبناه المشرّع في مجلّة المرافعات القديمة لسنة 1910 يقتصر على التعهّد بكل ما يتعلق بالدعاوى المعروضة عنه، فأصحبت مكاتب القضاةعبارة عن مكاتب تحقيق مدنية مما أثقل كاهل القضاة وإتسم فيه فصل النوازل بالبطء وتهميش دور مساعدي القضاء لذلك حاول المشرع تجاوز هذه السلبيات الإجرائية نحو الأفضل فتبنى نظام المواجهة بين الخصوم عند سنه لمجلة المرافعات المدنية لسنة 1959 بإعتبار أن النزاع المدني يهم بدرجة أولى الخصوم الذين يتحملون وحدهم عبء إثبات حقوقهم في حين يقتصر دور القاضي على مشاهدة “هذه المبارزة آلقضائية” التي تدور بين الخصوم ويحكم لمن هو أقوى حجة من غيره ظاهريا وهو ما قد يؤدي إلى مخالفة الحقيقة القضائية للحقيقة الواقعية . غير أن مجلة المرافعات الصادرة في 1959 عرفت عدّة تنقيحات أهمها الذي تم بموجب قانون غرّة سبتمبر 1986 والذي منح المحكمة دورا إيجابيا في تحقيق الدعوى المدنية خاصة من خلال الفصل 12 م.م.م.ت الذي ينص “ليس على المحكمة تكوين أو إتمام إحضار حجج الخصوم” والذي أقر الحياد الايجابي الاختياري للقاضي إلا أن بعض القضاة وجدوا فيه سندا قانونيا لملازمة الحياد السلبي فعكفوا عن السعي لتكوين حجج لفائدة الخصوم وهذا الفهم السيئ لهذا الفصل وقع تجاوزه خاصة بإقرار من المشرع بصورة صريحة في عدّة فصول نذكر خاصة منها الفصل 86 و 87 الذي أعطى للقاضي المقرر دور هام في تحقيق الدعوى وكذلك الفصل 114 الذي خوّل للمحكمة كل الصلاحيات للبحث وتحقيق الدعوى وبالتالي فحياد القاضي الذي جاء به الفصل 12 لا يمكن تفسيره بالحياد السلبي بل هو إيجابي و اختياري.