المحررات وحجيتها في الإثبات في الفقه الإسلامي والقانون اليمني

المحررات وحجيتها في الإثبات في الفقه الإسلامي
والقانون اليمني
د. عبد الله أحمد فروان
الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن
كلية الشريعة والقانون – جامعة صنعاء

المقدمــــة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ، الحمد لله الذي علَّم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .. وبعد :
فإن هذا البحث يهدف إلى دراسة المحررات وحجيتها في الإثبات وقد اخترت هذا الموضوع لما له من أهمية في الحياة العملية في معظم معاملات الناس.
أهمية البحث:
وتتلخص أهمية دراسة هذا الموضوع في الأمور الآتية :
1. أن الاعتماد على المحررات في تعامل الأفراد والجماعات قد اتسع وشمل جميع جوانب الحياة وصارت هذه المحررات من أهم وسائل الإثبات .
2. أن وسائل الإثبات الأخرى قد أعطيت حقها من الدراسة والبحث وخاصة الشهادة والإقرار واليمين والقرائن وغيرها.
3. هذه الوسائل رغم أهميتها فإنها تحتاج في أكثر الأحوال إلى إثباتها بواسطة هذه المحررات، علاوة على أن هذه المحررات وسيلة للإثبات فهي كذلك أداة من أدوات حفظ الأدلة وتصرفات الأفراد الأخرى.
4. أن تحرير وكتابة معاملات الناس من الأمور المندوب إليها شرعاً وقد حثنا القرآن الكريم على توثيق تصرفات الأفراد بالكتابة لأن الكتابة كما يقول البعض تزيد الحق وضوحاً .
5. أن الكم الهائل من القضايا المرفوع أمام المحاكم التجارية والمدنية في جميع البلدان الإسلامية هو ناتج في أغلبها عن عدم تقيد الأفراد بأحكام الإسلام وعدم فهمهم لأبعاده والذي حرص أشد الحرص على ضرورة كتابة وتدوين المعاملات والتصرفات صغيرة كانت أو كبيرة.
وعلى هذا سوف أقسم هذا البحث إلى ثلاثة فصول على النحو التالي:
الفصل الأول : ماهية المحررات وأهميتها في الإثبات الشرعي.
الفصل الثاني: حجية المحررات في الإثبات.
الفصل الثالث: طرق الطعن في المحررات.
هذا والله أسأل أن يلهمني الصواب وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المحررات ماهيتها وبيان أهميتها في إثبات الحقوق
تمهيـــــد:
يقوم الأفراد بالتعبير عن الإرادة إما باللفظ أو الكتابة أو الإشارة عند العجز عن النطق. ورغم أن اللفظ هو الأصل في التعبير عن الإرادة إلا أن الكتابة صارت هي الأهم في إثبات إرادات الأفراد وإثبات وتوثيق الحقوق، ذلك أن اللفظ يحتاج إلى إثباته بالكتابة نظراً لما يطرأ على الإنسان من تغيرات، فقد يموت، أو يغيب، أو يفقد القدرة على النطق، أو ينسى كثيراً من الأقوال التي تصدر منه، إذا لم تثبت هذه الأقوال في محرر ويوقع عليه ويُشهد على ذلك فإن ذلك التعبير الذي يصدره في يوم ما قد لا يفيد في شيء، من هنا جاءت أهمية المحررات في إثبات الحقوق، وعلى هذا نبين في هذا الفصل تعريف المحررات في مبحث أول ثم نبين مشروعية الكتابة في مبحث ثانٍ وأهمية الكتابة في مبحث ثالث على النحو الآتي:
المبحث الأول : تعـريف المحــررات

المطلب الأول : تعريف المحررات في الفقه الإسلامي
لم نجد تعريفاً لكلمة المحررات في الفقه الإسلامي ولكن وردت تسميات عديدة كلها تعطي نفس المعنى فقد أطلق الفقهاء على المحررات تسميات عدة كل مسمى يدل على معنى محدد تدل على الإثبات عن طريق الكتابة ، ومن هذه المسميات : الصك ، الحجة ، المحضر ، السجل، الوثيقة .
1. فالصك : هو الكتاب الذي تكتب فيه المعاملات والأقارير(1). وقد قصره بعض العلماء على الإقرار الكتابي بوقوع العقد أو التصرف الانفرادي(2).
2. الحجة: وهي الكتابة التي تبين الواقعة وتتضمن علامة القاضي في أعلاها وخط الشاهدين في أسفلها وتعطى للخصم(3).
وتستعمل في اللغة بمعانٍ : كالبرهان ، والبينة ، والدليل . وكل ما يستدل به على صحة الدعوى.
3. المحضر : هو الكتاب الذي يتضمن الوقائع وكلام الخصوم وحججهم.
4. السجل : هو الكتاب الذي يتضمن حكم القاضي ، ويرى الحنفية والزيدية أن المحضر والسجل لفظان مترادفان معناهما واحد وهو الذي يتضمن الوقائع وكلام الخصوم وحججهم والجواب عنها وحكم القاضي بها على وجه يرفع الخلاف(4).
5. الوثيقة : تشمل الحجة والمحضر والسجل(5).

ومن كل ما سبق يتضح أن المحرر هو الكتاب أو الخطاب المعبر عن الإرادة وإظهار النية وإبراز العزيمة على إحداث تصرف ما ، وتمتاز الكتابة عن اللفظ بالثبات والضبط كما يقول العرب: الخط أحد اللسانين وحسنة أحد الفصاحتين(6).

وعلى هذا فالمحررات هي كل ما يثبت بها من حقوق وما يدون فيها من معلومات تكون حجة لصاحبها أو عليه . إذا وقَّع على محتواها وأشهد على مضمونها. وهي بهذا تعني وسيلة الإثبات الذي عرَّفه الفقهاء بأنه: “إقامة الدليل على حقٍ أو واقعة. وبمعناه الخاص: “إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حقٍ أو واقعة معينة تترتب عليها آثار”(7). والذي يعني أن المحررات هي وسيلة من وسائل الإثبات إذا أعدت وفقاً للقواعد الشرعية.

المطلب الثاني : تعريف المحررات في القانون اليمني
أفرد قانون الإثبات اليمني الصادر بالقرار الجمهوري رقم (21) لسنة 1992 باباً للأدلة بالكتابة بيَّن في الفصل الأول منه أنواع المحررات فنص في المادة
(97) على أن الأدلة بالكتابة نوعان :
1. المحررات الرسمية .
2. المحررات العرفية .
وجاء في تعريف المحررات الرسمية ما نصت عليه المادة (98) بالقول: (المحررات الرسمية هي التي يثبت فيها موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة ما تم بين يديه في حدود اختصاصه أو ما تلقاه من ذوي الشأن وذلك طبقاً للأوضاع القانونية وفي حدود سلطته واختصاصه).

وعرف المحررات العرفية في المادة (99) بالقول:(المحررات العرفية هي التي تصدر من الأشخاص العاديين فيما بينهم ويجوز لهم تعميدها في الجهة المختصة في حضورهم وبعد التأكد من أشخاصهم وموافقتهم على ما جاء فيها فتأخذ حكم المحررات الرسمية).

من خلال نص المادتين (98) ، ( 99) يتبين أن المحررات الرسمية هي كل ما يكتب ويدون لإثبات الحقوق عبر الموظف العام أو المكلف بخدمة عــامة بحيث لا يخرج ما يكتبه عن اختصاصه وحدود سلطاته.

المبحث الثاني: مشروعية الكتابة

تظهر مشروعية الكتابة من خلال عناية القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بالكتابة وإثبات الحقوق وعناية الصحابة والتابعين واهتمامهم بكتابة المعاملات، ونبين عناية الإسلام بالكتابة وذلك في المطلبين الآتيين :

المطلب الأول : عناية القرآن الكريم والسنة بالكتابة

أولاً : عناية القرآن الكريم بالكتابة
ويتضح من خلال أمرين هما:
1. إن أول سورة نزلت في القرآن الكريم تدعو إلى العلم والتعلم والكتابة. قال تعالى : (اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)( 8) .
ولما كان إثبات الحقوق وحمايتها مرتبط بهذه الوسيلة الهامة، فقد أقسم الله بوسيلة الكتابة وهو القلم في سورة سميت سورة القلم .
فقال تعالى : (ن ، والقلم وما يسطرون) والله عز وجل لا يقسم إلا بما له شأن أو فيه نعمة . كما وجد في القرآن الكريم ذكر لأدوات الكتابة وهي : القلم، والمداد ، والقرطاس ، والرق : (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي)(9) .
والرق : (في رق منشور)(10).
والقرطاس : (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس)(11).
وبيان هذه الأدوات والقسم بها يدل كما قلنا على عظم شأن الكتابة.
2. عناية القرآن الكريم ودعوته إلى توثيق المعاملات . فقد وردت كلمة الكتابة في آيات كثيرة سنقصر الحديث هنا عن الكلمات المستخدمة في الكتابة المعدة للإثبات . قال الله تعالى : (ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا)(12).
وجه الدلالة من الآية: الآية أمرت بالكتابة وقد اختلف الفقهاء والمفسرون في هذا الأمر هل هو للوجوب أو الفرض أم هو للندب أو الإرشاد(13).
وسواءً كانت الآية جاء الأمر فيها بالوجوب أو الفرض أم الندب أو الاستحباب فإنها قد أقرَّت الكثير من الأحكام تجاه المعاملات ، وأهمها:
1. إقرار مبدأ الكتابة عند التداين حتى لا ينسى الناس هذه الحقوق وتضيع بفعل النسيان أو موت أحد الأطراف أو لأي أمر قد يكون سبباً في ضياع هذه الحقوق.
2. وجوب أن يكون الكاتب والموثق لهذه المحررات عدلاً يخشى الله ويتقيه فالموثق أو الكاتب تقع عليه أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة في إثبات الحقوق وفق أحكام الشرع وعناية القرآن باختيار الكاتب العدل للدلالة على حرص الإسلام على وضع الضوابط والضمانات التي تجعل من المحررات حجة في الإثبات.
3. الدقة في تحرير وبيان المعلومات التي تحتويها هذه المحررات وعدم البخس فيها أو النقص على أحد الأطراف . قال تعالى : (ولا يبخس منه شيئاً).
4. عدم جواز الامتناع عن الكتابة وتوثيق المعلومات وإثبات الحقوق بين الناس عند أن يطلب منه ذلك، لأن في ذلك مخالفة لأمر الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم . قال تعالى : (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله)(14).

ثانياً : عناية السنة بالكتابة
تظهر عناية السنة بالكتابة من خلال اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بالكتابة وتعليم الناس إياها وجعل تعليمها صدقة للمسلم وفدية للكافر من الأسر، وقد كانت الكتابة هي وسيلة إبلاغ ونشر رسالة الإسلام وكتابة المعاهدات والصلح وغيرها ومن أمثلة اهتمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالكتابة ما يلي :
1. أخرج الجماعة عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم قال: “ما حق امرء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه “(15).
وقد قال الشوكاني وكذا الشافعي أن في هذا دلالة على وجوب الكتابة والاحتياط للمسلم من التفريط بالحقوق(16).

ووجه الدلالة من الحديث : أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد حث على أن يكتب الإنسان كل ما يهمه ويستلزم إثباته بالكتابة حتى أنه لا يجوز أن ينام إلا وقد أثبت ذلك بالكتابة حتى لا تضيع الحقوق ويحدث النزاع والخصام بين الناس.

2. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل فداء أسرى بدر تعليم بعض المسلمين القراءة والكتابة وفي هذا دليل على اهتمام الإسلام بالكتابة على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في حينها أحوج ما يكون إلى أخذ الفداء مالاً حيث بلغ فداء الأسرى المشركين يوم بدر أربعة آلاف درهم ، فكون تعليم عشرة من الصبيان الخط يساوي أربعة آلاف درهم لهو دليل عظيم على عناية النبي صلى الله عليه وسلم وعناية الإسلام بالكتابة(17).

ومن كل ما سبق يتضح أن الإسلام قد اهتم بالكتابة وإثبات الحقوق بين الناس وأن الكتابة مشروعة في المعاملات بل وقد ترقى إلى مرتبة الوجوب في بعض الحالات إذ أنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

المبحث الثالث : أهمية الكتابة في الإثبات
بيَّنا في المبحثين السابقين ماهية المحررات ومشروعية الكتابة وعناية الإسلام بالكاتب والمحرر والحث على إثبات الحقوق والدقة في تحرير الوثائق وعدم بخسها أو إنقاصها في شيء ونبين في هذا المبحث أهمية الكتابة والتي تتم وفق الشرع الإسلامي ومقتضى العدل ونوجز ذلك فيما يلي:
1. النسيان الذي يحدث بين أطراف التصرف : فقد يعتري طرفي التصرف النسيان نظراً لمرور السنوات العديدة على إجراء ذلك التصرف وإثبات هذه الحقوق في المحررات يذكِّر أطراف هذا العقد بما أبرموه منذ زمن بعيد.
2. فقد الأهلية لأحد طرفي العقد : قد يحدث لأحد طرفي العقد اختلال في العقل فلا يقدر على معرفة شيء مما أبرمه مع الآخرين من تصرفات فتكون المحررات هي المرجع بما كان قد أبرمه ولم يعد قادراً على معرفته نظراً لمرضه. هذا وفقد الأهلية قد يكون بجنون أو عتهٍ أو غير ذلك من مسببات فقد الأهلية.
3. موت أحد أطراف التصرف أو كليهما مما يجعل الورثة غير قادرين على تمييز الحقوق . فهذه المحررات هي المرجع لإثباتها وحفظها وضبط التصرفات.
4. تغير معالم الحق (محل التصرف) فقد تتغير معالم الحق محل التصرف مع مرور الزمن بحيث لا يستطاع معه التعرف عليه إلا من خلال المحررات التي تثبت أوصاف هذا الحق وحدوده وما له وما عليه.
5. تناقص الحق وتغيّر مسمياته : قد يتناقص الحق مع مرور الزمن وتتغير مسمياته ومعالمه مما يحدث النزاع والخصام بين الأفراد فيكون المرجع في حل هذا النزاع هو الرجوع إلى المحررات.
6. جهل بعض أطراف العقد الحق نتيجة وصوله وانتقاله إليهم عن طريق الميراث أو الوصية أو الهبة فلا يمكن في هذه الحالة الوصول إلى هذا الحق إلا من خلال المحررات.
7. كتابة المعاملات والحقوق تمنع منذ نشأة الحق حدوث النزاع والخصام بين الأطراف(18).
8. المحررات ضمان قوي لسلامة النظر في النزاع وسلامة الحكم نظراً لكون المقدمات في أي معاملة مؤثره على النتائج.
9. المحررات لها علاقة قوية بعدد من وسائل الإثبات: كالشهادة والإقرار واليمين والقرائن، ونبين في إيجاز طبيعة هذه العلاقة كما يلي(19):
أ- الكتابة والشهادة : يتأيد بعضهما ببعض، فالكتابة تتأيد بالشهادة في كثير من الأحوال، والشهادة هي في أحوج ما تكون للكتابة ولذلك لم تذكر الكتابة في القرآن الكريم إلا بتأييدها بالشهادة إذ أن الشهادة بحاجة إلى حفظ عن طريق الكتابة ، ولذلك قال تعالى : (وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا)(20). فالكتابة تحفظ الشهادة وتقيم عوجها وتنفي كل ارتياب بين الأفراد.

ب- الكتابة والإقرار : فالإقرار كما عرفه الفقهاء هو إخبار بحق لآخر(21). وفي القانون اليمني: “لإقرار هو إخبار الإنسان شفاها أو كتابة عن ثبوت حق لغيره على نفسه”(22). والإقرار نوع من الشهادة إذ هو شهادة الإنسان على نفسه ، وتتجلى العلاقة بين الكتابة والإقرار في أن الإقرار يحتاج إلى الكتابة لضبط هذا الإقرار أولاً . وثانياً أن كتابة الإقرار يدل على كون المقر جازماً في إقراره . وثالثاً لحفظ هذا الإقرار وإثباته كما صدر من المقر.

جـ- الكتابة واليمين : الكتابة تتأيد باليمين فتصبح حجة لصاحبها يأخذ بها الحق الذي يدعيه وطبيعة العلاقة بين الكتابة واليمين لا تقتصر على كتابة الأيمان أو توثيق أن الحق قد أخذه فلان من الناس بناءً على اليمين فحسب. بل أن الكتابة تبين للورثة ما لهم من حقوق عند الآخرين دونت في محررات أو مستندات فيجوز لهم بعد التأكد من عدم استيفاء مورِّثهم لهذه الحقوق المدونة ولم يشر في المحررات ما يفيد استيفاؤها، حيث يجوز لهم في هذه الحالة أن يحلفوا الأيمان ويأخذوا ذلك الحق بناءً على هذه المحررات واليمين.

د- الكتابة والقرائن : الكتابة تتأيد بالقرائن ، والقرائن تتأيد بالكتابة من ذلك:
– أن توجد كتب ومنقولات بالمساجد وقد كتب عليها وقف ، فإذا كان وجود هذه الكتب والمنقولات في المساجد قرينة على أنها وقف فإن الكتابة أيدت هذه القرينة على أنها وقف لذلك المكان.

– أن توجد أمتعه ومستلزمات الدراسة في المدارس والربط وقد كتب عليه وقف وتعارف الناس أنها تابعة لمدرسة من هذه المدارس فإن القرينة تأيدت بالكتابة.

– وجود فرس في دار فلان من الناس وهناك محرر يثبت ملكيته لهذا الفرس فإن هذا المحرر قد أيَّد ملكية صاحب الدار للفرس.

هـ – الكتابة وتقارير الخبراء : ما يصدر من الخبراء من نتائج ومعلومات تفيد في كشف الحقيقة وبيان وجه الصواب فيها يحتاج إلىإثبات لهذه النتائج وذلك عن طريق الكتابة ، فالكتابة إذن هي المعبرة عن ما صدر من قبل الخبراء وهي في نفس الوقت حفظ لهذه النتائج التي قد يُثار النزاع فيها ويكون لهذا التقرير المحرر الحجية في حسم وفصل هذا النزاع.

الفصل الثاني : حجية المحررات في الإثبات

لكي يكون للمحررات حجية في الإثبات لابد أن يتم تحريرها وإعدادها وفق شروط وضوابط شرعية وقانونية صحيحة وبحسب نوع ذلك المحرر وعلى هذا سوف نبين حجية المحررات في خمسة مباحث على النحو الآتي:
المبحث الأول: حجية المحررات الرسمية.
المبحث الثاني: حجية المحررات العرفية.
المبحث الثالث: حجية المحررات غير المعدة للإثبات.
المبحث الرابع: حجية المحررات في إثبات المسائل الجنائية.
المبحث الخامس: حجية صور المحررات في الإثبات

المبحث الأول : حجية المحررات الرسمية
المحررات الرسمية حجة بما جاء فيها من أمور قام بها مُحررها في حدود مهمته الرسمية أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره أو صودق منه على توقيعاتهم عليها بحضورهم بعد التحقق من أشخاصهم وذلك ما لم يتبين تزويرها بالطرق القانونية المقررة كما نصت على ذلك المادة (100) من قانون الإثبات ويكون لصورة المحرر المعمَّد نفس الحجية ما لم ينازع في ذلك أحد الطرفين وقد صرح الفقهاء من الحنفية في قبول المحررات واعتبارها حجة للإثبات، ولم يفرقوا بين المحررات الرسمية التي تعد من قبل موظف عام والمحررات التي تكتب بين الأفراد ويشهد عليها ويتم توقيعها من أطراف العقد. مع مراعاة توافر شروط صحة المحرر الرسمي. وعلى هذا سوف نتكلم في هذا المبحث عن شروط صحة المحررات الرسمية، حجية المحررات في الفقه الإسلامي، حجية المحررات في القانون، وذلك في مطالب ثلاثة هي:
المطلب الأول: شروط صحة المحررات في القانون والشريعة الإسلامية.
المطلب الثاني: حجية المحررات في القانون.
المطلب الثالث: حجية المحررات في الفقه الإسلامي.
المطلب الأول : شروط صحة المحررات في القانون والشريعة الإسلامية
أولاً: شروط صحة المحررات الرسمية في القانون اليمني:
الشرط الأول: أن يكون المحرر الرسمي قد صدر من موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة.
الشرط الثاني: كما يشترط في اعتبار الورقة الرسمية أن تكون داخلة في حدود سلطة الموظف العام(23) أن لا يقوم به مانع شخصي يجعله غير صالح لتوثيق هذه الورقة وتحريرها، ومن ذلك:
1. أن يكون أحد أقاربه أو أصهاره إلى الدرجة الرابعة أو يكون هو
طرفاً فيها(24).
2. أو أن يكون شريكاً أو كفيلاً أو وكيلاً لأحد ذوي الشأن في الورقة التي يوثقها ويحررها.
3. أو أن تكون بينه وبين أحد شاهدي الورقة صلة قرابة أو مصاهرة إلى الدرجة الرابعة.
4. أن يكون قد عزل من وظيفته أو فصل أو نقل وزالت سلطته من تاريخ إبلاغه ذلك، فإن وثَّق أو حرَّر ورقة بعد ذلك فهي باطلة.

وإذا كان الموظف مختصاً بجمع الاستدلالات دون إجراء التحقيق فإن ما يتخذه من إجراءات التحقيق وما يدونه بشأنها لا يعتد به، بل إن محضر جمع الاستدلالات بحسب طبيعته يكون معداً للتمحيص بواسطة السلطة المختصة. وبذا فإن الورقة تكون خاضعة للمناقشة والتمحيص وقابلة لإثبات عكسها بكافة الطرق دون حاجة لسلوك طرق الطعن بالتزوير(25).

الشرط الثالث: مراعاة الأوضاع المقررة لكتابة المحرر الرسمي حيث قرر القانون أوضاعاً وقواعد يلتزم بها الموظف العام وكافة الأفراد عند كتابتهم للمحررات، حتى تعتبر هذه الورقة ويكون لها حجتها القانونية كما هو مبين فيما يلي عند الحديث عن نواحي الحجية في الورقة الرسمية في المطلب الثاني من هذا المبحث.

ثانياً: الشروط الواجب توافرها في المحرر في الشريعة الإسلامية:
حرص المشرع الإسلامي على سلامة المحررات وذلك من خلال اشتراطه توافر العدالة والتقوى في كاتب المحررات وعدم الإضرار بالآخرين أو ما يوجب الخصام والتنازع بين الأطراف ويتضح هذا من كتاب الله عز وجل في آية المداينة، ونبين ذلك على النحو التالي:
1. العدالة في تحرير الوثائق والتي تقتضي من الكاتب أن يتحرى الحق وأن لا يميل إلى أحد من أطراف العقد بالزيادة أو النقصان أو ترك الثغرات التي تؤدي إلى حدوث الصراع والنزاع بين الأطراف.

2. العلم بأحكام الشرع الموصلة إلى معرفة الحق حتى لا يقع الكاتب في الظلم أو الجور أو يتسبب بجهله في الخروج عن قواعد الشرع وعن العدل الذي أمر الله به في كل شيء.

3. عدم إضرار أحد أطراف العقد أو غيرهم كالشهود أو من له علاقة بذلك العقد ويتم هذا عن طريق الدقة في كتابة المحررات وعدم ترك أي موجب لنزاع أو إهمال في أي معلومة أو بيان من بيانات المحرر كما قال تعالى (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً). (ولا يضار كاتب ولا شهيد). (ولا يبخس منه شيئاً). وكل هذه التوجيهات الربانية قد جاءت لمصلحة الإنسان.

4. تعريف المتصرفين ذوي الشأن من متعاقدين وغيرهم كالبائع والمشتري والمستأجر والمؤجر أو الراهن والمرتهن أو الواقف والموقوف له وما إلى ذلك من تصرفات ويكون تعريف أطراف هذا التصرف تعريفاً جامعاً مانعاً من الاشتراك ويكون ذلك بذكر اسم المتصرف واسم أبيه وأمه وجده ولقبه ومهنته (صناعته) ومحل إقامته حتى يمتنع الاشتراك مع شخص آخر وحتى لا ينصرف هذا الاسم إلى اسم مشابه.

5. تعريف العين محل العقد: ينبغي تعريف محل العقد وتحديده تحديداً جامعاً مانعاً يبين كل ما يدخل فيه وكل ما يخرج عنه وما لها وما عليها وإذا كان محل العقد عملاً ما فإنه يجب أن يوصف هذا العمل وصفاً دقيقاً لا يترك مجالاً لتأويل ومثال ذلك عقود المقاولات وعقود الأعمال بأنواعها المختلفة.

وإذا كان العين عقاراً وجب ذكر موقعها وبيان وصفها والموقع الواقع فيها أو بها العقار كالحي أو الشارع أو القرية أو البلدة وذكر العنوان بتفصيل لا ينصرف إلى غيره من العقارات الأخرى مع بيان المساحة وحدودها من الجهات الأربع وكذلك بيان أطوالها بالوحدة القياسية (الذراع أو المتر) فيقال عند تحديد الحدود مثلاً أن الحد من الجهة الغربية ينتهي إلى الأرض المنسوبة إلى فلان وليس المملوكة لفلان حتى نتفادى أي خطأ في تحقيق الملكية المجاورة وإذا كان العقار أرضاً زراعية وجب تحقيق الموقع والطريق وحقوقها كاملة حق المرور وحق السقي وغيرها.

وإذا كان العقار أرضاً للمباني وجب بعد ذكر الموقع، وتحديد ووصف العقار على الوجه المذكور آنفاً بيان أدوار هذه العقار ورقمها ونوع البناء وحقوقها من تهويةٍ ونور وغيره.

6. التعريف بالثمن : يتعين ذكر الثمن وتحديده تحديداً دقيقاً مانعاً للجهالة أو الشك أو الالتباس سواءً كان الثمن نقداً أو غير نقد مع تعريف كل نوع بحسب طبيعته:
– فإذا كان الثمن نقداً يتعين بيان جنس النقد ونوعه وصفته؛ (ذهب، فضة، ريال، دينار.. وهكذا).
– وإذا كان الثمن عقاراً وجب تعريفه تعريفاً مانعاً جامعاً على النحو المبين سابقاً .
7. النص على قبض المشتري للمبيع والبائع للثمن إذا كان العقد أو التصرف عقد بيع وعلى قبض المستأجر للعين والمؤجر للأجرة إذا كان عقد إجارة .. وهكذا في سائر التصرفات .
8. النص على رؤية الطرفين للعين المتصرف فيها منعاً للخلاف بين المتعاقدين في هذا الخصوص وثبوت خيار الرؤية أو عدم ثبوته واقتناع كل طرف من الأطراف بالتصرف الذي قام به ولم يعد هناك ما ينقض أو ما يوجب نقض هذا التصرف أو إبطاله .
9. أن تتضمن الوثيقة ما يفيد أن التصرف صدر ممن يملك هذا الحق، وأنه وقع ممن هو أهل له في حالة كمال العقل وصحة البدن وبالإرادة والاختيار دون جبر أو إكراه .
10.أن يراعي في وثيقته حقوق كل من الطرفين والتوازن بينهما وعدم المساس بهم .
11.أن تتضمن الوثيقة النص على الشهادة وعلى تعريف الشهود على نحو ما بيناه في تعريف المتصرفين .
12.أن يبين تاريخ كتابة الوثيقة منعاً لتغيير الحقوق والالتزامات.
13.إلزام الأطراف بالتوقيع وكذلك الشهود في نهاية المحرر أو الوثيقة .

المطلب الثاني: حجية المحررات الرسمية في القانون
للورقة الرسمية حجية في ثلاث نواحي:
1. حجيتها بصدورها من الأشخاص المنسوب إليهم توقيعها وبسلامتها المادية.
2. حجيتها بصدق ما دون بها.
3. حجيتها بالنسبة إلى الأشخاص.

أولاً: حجية الورقة الرسمية بالنسبة لما تحمله من توقيعات وبسلامتها المادية
الورقة الرسمية حجة في ذاتها بصدورها من الأشخاص المنسوب إليهم توقيعها بصرف النظر عما إذا كان صلب الورقة محرراً بخطهم أو بخط

غيرهم(26) سواء كان في ذلك الموظف العام الذي قام بتحريرها وذوو الشأن الذين حضروا تحريرها ووقعوها دون الحاجة إلى الإقرار بها وهذا خلافاً للورقة العرفية إذ هي لا تكون قبل الإقرار بها حجة بما دون فيها(27) والورقة الرسمية حجة كذلك بسلامتها المادية أي بعدم حصول تغيير في محتوياتها التي دونت فيها وقت إنشائها. ولا يشترط في ذلك إلا أن يكون مظهرها الخارجي غير باعث على الإرتياب في مصدرها وفي سلامتها فإذا وجد في الورقة كشط أو محو أو تحشير أو غير ذلك من العيوب المادية كان للمحكمة أن تقدر ما يترتب على ذلك من إسقاط قيمة الورقة في الإثبات أو إنقاصها(28).

ثانياً: حجية الورقة الرسمية بصدق ما دُوِّن بها
نصت المادة (100) من قانون الإثبات الشرعي اليمني رقم (21) لسنة 1992 ، أن المحررات الرسمية حجة بما جاء فيها من أمور قام بها محررها في حدود مهمته الرسمية أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره أو صودقت منه على توقيعاتهم عليها في حضورهم بعد التحقيق من أشخاصهم وذلك ما لم يتبين تزويرها بالطرق المقررة قانوناً. وعلى هذا فإن حجة الورقة هو بحقيقة ما دون بها من بيانات وصحة الإجراءات التي تم ذلك بها.

ويجب هنا التفريق بين نوعين من البيانات الواردة في الورقة الرسمية:
النوع الأول: وهو الذي لا تُدحض حجيته إلا عن طريق الطعن بالتزوير فيشمل: كل ما يثبت الموظف العام من وقائع أو أمور داخلة في اختصاصه وقام هو بضبطها بنفسه أو تصدر من ذوي الشأن بحضوره ووقع عليها على أن هذه الحجية وعدم إدحاضها إلا بالتزوير مقصوران على المواد المدنية والتجارية أما المواد الجنائية فمتروك لقناعة القاضي المختص بنظر الدعوى(29).

ثالثاً: حجية المحررات الرسمية بالنسبة للأشخاص
الورقة الرسمية لها حجية بين أطراف التصرف إذا لم يتقدم أحد أطرافها بما يخالف ما جاء فيها وإذا حررت هذه الورقة من قبل الموظف العام أو ما في حكمه وفي حدود اختصاصه وسلطاته أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره ما لم يتبين تزويرها بالطرق المقررة قانوناً.

قيمة الورقة الرسمية الباطلة:
1. الورقة الرسمية التي لم تكتسب صفة الرسمية فإن هذا لا يؤثر في قيام التصرف الذي دوِّن فيها ما لم يكن الطرفان قد اتفقا على عقد الاتفاق على نحو ما ولا يخالف القانون رغم بطلان الورقة الرسمية.
2. إذا وقِّعت الورقة من البعض ولم توقع من البعض الآخر تكون سارية في حق من وقع عليها ولا تكون سارية في حق من لم يوقع عليها.
3. إن تاريخ الورقة لا يعتبر تاريخاً ثابتاً استناداً إلىصدورها من موظف عام طالما لم تكتسب الورقة صفة الرسمية وهي ناقصة أحد الشروط الهامة.

وعلى هذا الأساس لا تتقيد المحكمة بما هو مدون بالتحقيق الابتدائي أو محاضر جمع الاستدلالات لأن الأدلة المستمدة من هذه التحقيقات ليست سوى عناصر إثبات تخضع في تقديرها لمطلق تقدير القاضي شأنه شأن أي ورقة عرفية أو رسمية، ولهذا استقر المبدأ أن الأدلة الكتابية في المواد الجنائية إقناعية. فللمحكمة أن تلتفت عن دليل النفي ولو حملته أوراق رسمية ما دام يصح في العقل أن يكون غير مطابق للحقيقة أو الواقع(30).

سريان أثر المحررات على الغير :
حجية المحررات على الغير لا تسري في المبدأ العام إلا إذا كان الغير هم الخلف العام أو الخلف الخاص والدائن والوقائع الواردة في السند العادي حجة على الجميع وخاصة في الأوراق المدنية ما لم يثبت عكس ذلك بالطرق
القانونية.(31)

المطلب الثالث: حجية المحررات في الفقه الإسلامي
الفقه الإسلامي لم يفرق بين المحررات الرسمية والعرفية في الحجية، ولم يفرق كذلك في حجية المحررات بين المسائل المدنية والمسائل الجنائية بل اعتمد بشكل كلي على قوة وصحة الدليل والبينة سواء في المسائل المدنية أو الجنائية وسواء كان ذلك قد جاء في محررٍ رسمي أو عرفي دوَّنه موظف عام أو فرد عادي.. وعلى هذا سنبيّن في هذا المطلب حجية المحررات في الإثبات في الفقه الإسلامي على النحو التالي:
أولاً: حجية المحررات التي تتضمن شهادة.
ثانياً: حجية دفاتر البيَّاع والصرَّاف والسمسار.
ثالثاً: حجية خط المورث.
رابعاً: حجية الرسائل.

أولاً: حجية المحررات التي تتضمن شهادة
الأصل أن الشاهد يدلي بشهادته أمام القاضي وفي مجلس القضاء ويبين ما علمه واطلع عليه ولكن قد يدلي بهذه الشهادة في ورقة تسلم للقاضي كدليل من أدلة الإثبات على الدعوى المقدمة لديه.. فهل يجوز الاعتماد على هذه الشهادة المكتوبة؟ وما حجيتها؟. والحقيقة أن الفقهاء قد فرقوا بين ثلاث حالات للمحررات التي تتضمن شهادة وهي:
الحالة الأولى:
المحرر الذي يتضمن شهادة الكاتب على نفسه لغيره.
الحالة الثانية:
المحرر الذي يتضمن شهادة الميت الغائب ونحوهما على آخر.
الحالة الثالثة:
المحرر الذي يتضمن إقرار الكاتب على نفسه.

الحالة الأولى: شهادة الكاتب على نفسه
اختلف الفقهاء: في جواز الشهادة على خط نفسه على ثلاثة آراء:
الـرأي الأول: أن الشهادة على خط نفسه غير جائزة متى تذكر الكاتب الشهادة. وقد ذهب إلى ذلك الإمام أبو حنيفة والإمام مالك والشافعي وأحمد في رواية له والزيدية والإباضية والإمامية(32) نظراً لكون الخط يشبه الخط والخط يجري فيه الاحتيال والتزوير وكثيراً ما يظن المرء أن الخط خطه للتشابه بينهما.

الـرأي الثاني: أن الشهادة على خط نفسه جائزة وإن لم يتذكر الشهادة وتقبل شهادته متى كانت الورقة مصونة ومحفوظة في مكان أمين. ذهب إلى ذلك الإمام مالك في رأيه الأول وجماعة من المالكية وأبو يوسف من الحنفية والإمام أحمد في رواية ثانية وجماعة من الزيدية وهو ما أجازه البخاري في صحيحه(33).

واحتجوا على ذلك بأن القصد من الشهادة حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه والخط دال على اللفظ لأن كتابة الشهادة بخطه وختمه تدل على تحملها ويدل على صحة ذلك لقوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) أي لا تشكّوا، والخط ليس لمجرد التذكر فقط بل هو للضبط وحفظ الحقوق ونقل المعلومات، فالكتابة كالنطق واللفظ سواء بسواء.

الــرأي الثالث: أن الشهادة على خط نفسه جائزة إذا كان المكتوب محفوظاً عند صاحبه وفي حرزه وإن لم يحفظ الشهادة أو لم يتذكرها وهذه رواية ثالثة عن أحمد(34)، لأن الكتابة المحفوظة في حرزه وتحت رعايته لا يمكن أن يتطرق إليها التغيير ولا يعتريها التزوير، ولا تطولها يد التحريف والمشابهة.

وأساس الخلاف أن الخط هل هو للتذكر أم هو للضبط والحفظ؟ ذهب الفريق الأول إلى كونه للتذكر فقط، فلا يصح أن يكون بنفسه مصدراً للشهادة، وقال الفريق الثاني: إنه للضبط والحفظ فيصح الإعتماد عليه كالنطق لأن الكتابة صنو اللفظ والكلام، وإن الكتابة تفيد مدلولها كما يفيد اللفظ مدلوله، وإن الكتابة تحفظ المعلومات وتضبط المعاملات والشروط، وهي وسيلة لنقل الأفكار والمحافظة عليها إلى المستقبل(35).

والراجح هو القول الثاني لما فيه من مراعاة الاحتياط والحذر والأمن من التغيير والتزوير ولأنه يحقق مصالح الناس الذين يحفظون كتاباتهم أو شهاداتهم في أماكن مضمونة ومصونة، ولا يشترط أن تكون الكتابة في حرزه وحفظه لما فيه من الحرج، لأن الإنسان قد يكتب شهادته في دفاتر الدولة أو في الديوان العام أو في الأماكن المحفوظة.

على أن الآية الكريمة في المداينة تشير إشارة قوية لجواز الشهادة على الخط لأن الله تعالى أمر بالكتابة لأنها أحفظ للحق، وأضبط للشاهد، وأقرب إلى نفي الريبة والشك والتهمة، قال الله تعالى: (ذلكم أقسط عند الله، وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) فشرعت الكتابة باعتبارها أقوى وأضبط للشهادة(36).

الحالة الثانية: الكتابة التي تتضمن شهادة الميت والغائب(37) ونحوهما على آخر:
إذا كتب الشاهد شهادته في ورقة ثم مات، أو غاب غيبة بعيدة أو أصبح مجهول الإقامة، فهل تجوز الشهادة على شهادته المكتوبة؟.
اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين:
القول الأول: أن الشهادة على خط الشاهد الغائب أو الميت أو الشاهد الذي يتعذر حضوره عند القاضي لعلة جائزة. ذهب إلى ذلك المالكية في المشهور عندهم وأحمد في قول(38)، لأن كتابة الشهادة كالنطق بها، وكما تجوز الشهادة على الشهادة المنطوقة، فكذلك تجوز الشهادة على الشهادة المكتوبة، ولأن الكتابة تدل على المشهود به كدلالة اللفظ لأن الشاهد يحصل له العلم بالكتابة.

ويشترط في ذلك ألا يكون في الكتابة ريبة من مَحوٍ أو كشط، وأن الشاهد الكاتب استمر على عدالته إلى موته، وأنه كان يعرف المشهود عليه معرفة كاملة، كما يشترط أن يكون الخط المشهود عليه، موجوداً في مجلس الحكم، وأن يكون الشاهد من أهل اليقظة والفطنة والمعرفة التامة بالخطوط، وحسن تمييزها، ولا يشترط إدراك الشهود لصاحب الخط لإمكان معرفة الخط بالخبرة والتجربة(39).

وتجوز الشهادة على خط الشاهد الغائب أو الميت في المال وما يؤول إلى المال، أما غير المال فلا يشهد على خطه وعليه الفتوى عند المالكية.

الـقول الثاني: أن الشهادة على خط الشاهد الغائب أو الميت غير جائزة، لأن الشاهد يشهد بما يعلم عن طريق السمع والمعاينة، والكتابة ليست واحد منهما، ذهب إلى ذلك الجمهور والإباضية(40).
والراجح في رأينا هو القول الأول عند توافر الشروط الصحيحة لتدوين المحرر.

الحالة الثالثة: الكتابة التي تتضمن إقرار الكاتب على نفسه
أي الشهادة على خط المقر، وذلك بأن يكتب الشخص بيده أو يأمر آخر بكتابة ما في ذمته لآخر، أو أن عنده لفلان كذا، فإذا كتب الشخص إقراره أمام الشهود وعلموا بكتابته، أو إذا أمر الكاتب أن يكتب ما في ذمته لآخر، أو كتب ما عليه في ورقة ثم قرأها أمام الناس؛ فيجوز للشهود في هذه الحالات الشهادة على كتابة إقراره، لأن كتابته إقرار منه، ولأن الكتابة تعبير عن إرادته، ولأن الشاهد يشهد بما يسمع أو يرى، ومن المرئيات الكتابة، أما إذا لم يحضر الشهود كتابة الإقرار ولا إملائه على الكاتب فلا تجوز لهم الشهادة، لأنهم لا علم لهم بما في الكتاب إذا لم يقرأه عليهم(41). وأما المحرر فإنه في هذه الحالة تكون حجيته نسبية يستأنس بما جاء فيه القاضي.

وتجوز الشهادة على خط المقر في جميع الحقوق المالية وما يؤول إلى المال، وفي الزواج والطلاق والوصية والوقف(42).
وخلاصة القول أن الكتابة الصادرة من الأفراد تقوم مقام التعبير عن الإرادة في سائر التصرفات عند اكتمال الشروط اللازمة لتحرير تلك التصرفات.

ثانياً : حجية دفاتر البيّاع والصرّاف والسمسار
ذكر الفقهاء بعض حالات الكتابة التي تصدر من الأفراد العاديين وأقروا فيها قوة الإثبات . وصحة الاعتماد عليها واعتبروها وسيلة لإثبات ما ورد فيها من غير إشهاد عليها وبدون توثيق أو تسجيل لدى المحاكم أو لدى الدوائر الرسمية ودون تكليف من الكاتب (الأمين) أو القاضي المختص، ومن هذه الحالات : دفاتر التجار والصراف والسمسار وخط المورث وإرسال الرسائل(43).

قرر العلماء من الحنفية أن ما دُوّن من قبل البياع والصراف أو السمسار واعتبروا ما دُوّن في دفاترهم حجة عليهم يعمل بها وحدها دون حاجة إلى انضمام شيء آخر معها، ولا يشترط فيها أن تكون منظمة بل يكفي كتابتها حسب العرف الجاري(44).

واستندوا في مشروعيتها على العرف والعادة . فإن التجار يكتبون في دفاترهم ما لهم وما عليهم ويستبعد جداً أن يكون هناك من يكتب في دفاتره التجارية للتسلية أو التجربة أو الهزل . فانتفاء الشبه مضمون فيه وقد جرت عادة التجار بكتابة شئون تجارتهم وتسجيلها في دفاتر خاصة فما وجد في دفاترهم يكون حجة عليهم ويجب العمل بما فيه دفعاً للمشقة في إحضار الخصوم وكتابتها في محررات عرفية أو رسمية وصيانة لحقوق العباد.

وتقتصر حجية هذه الدفاتر على إثبات الحقوق والديون التي تترتب في ذمتهم للآخرين أما حقوقهم وديونهم لدى الناس فلا يحتج عليهم بالدفتر لأنه لا يعقل من المدعي تقديم الدليل الذي كتبه وأعده بنفسه. ولأنه لو نطق بحقه على الآخر لفظاً صريحاً فلا يستحقه بمجرده لما ورد في الحديث الشريف “لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أُناس دماء رجال وأموالهم . ولكن البينة على المدعي واليمن على من أنكر”(45).

وتشمل حجية الدفاتر ما يرسله التجار إلى شركائهم وأبنائهم في البلاد لتعذر الإشهاد في مثله فيكتفون بالمكتوب في الكتاب أو الدفتر يجعلونه فيما بينهم حجة عند تحقق الخط أو الختم وتكون هذه الحجية أيضاً للإيصالات التي يكتبها من له عند آخر أمانة قبله أو له عليه دين فيقر عليه بوصل ذلك إليه . ويختمه بختمه المعروف خصوصاً بين الأعيان والأفراد الذين لا يتمكن من الإشهاد عليهم(46) وقد صرح الحنفية أن حجية هذه الدفاتر تقوم على العرف الشائع بين التجار والعادة الجارية بينهم وقد أفتى علماء الجمهور بحجية هذه الدفاتر إذا استوفت الشروط الشرعية وكانت صحيحة(47).

ومن هذه الشروط أن تكون الدفاتر منظمة وبخط التاجر وإلا فلا يعتبر حجة عليه(48) وإذا أنكر التاجر الحق المدون في دفتره فلا يقبل إنكاره سواءً أكان معترفاً بخطه وكتابته أم كان منكراً له وقامت البينة على صحة خطه.

والخلاصة فإن دفاتر التجار في رأي الفقهاء تعتبر حجة أمام القضاء ووسيلة من وسائل الإثبات على ما يكتبه التجار بأيديهم لأن التاجر لا يكتب على سبيل التجربة والهزل.

وإذا لم يعمل بما في الدفاتر لزم ذلك ضياع أموال الناس فإن أغلب معاملاتهم لا يحضرها الشهود واحتمال أن التاجر قد دفع المال وأبقى الكتابة في الدفتر نادر أو بعيد جداً ولا يقع إلا ممن عادته الإهمال. ونقل ابن عابدين عن العيني قوله : “ولأن البناء على العادة الظاهرة واجب”(49).

فالعرف القائم على مصالح الناس شرط أن لا يخالف نصاً أو إجماعاً ، واجب الاعتبار في التشريع والقضاء. ويعد دليلاً من الأدلة الشرعية التي اعتمدها جمهور الفقهاء وإن لم يعدّوه دليلاً مستقلاً وإنما يقوم على مراعاة المصالح المرسلة(50).

ثالثاً : حجية خط المورث
ذهب فقهاء الشافعية والحنابلة والحنفية(51) إلى أن الوارث إذا وجد كتابة بدين بالإقرار به أو الإبراء عنه أو باستيفائه سواءً كان في دفتره أو في ورقة خاصة فيعتمد على هذه الكتابة ، وتعتبر حجة فيما ورد فيها وتكون بمثابة إقرار من المورث فيما عليه ، ولكن لا يعمل بها فيما له ولا تعتبر حجة على غيره إلا أنه يجوز للوارث أن يعتمد على هذا الخط إذا وثق من خط مورثه ويدعي الحق على المدين ويحلف على البت اعتماداً على خط مورثه ، وكذلك يعمل بخط المورث على كيس أو أمانة أنها لفلان(52).

وأهم من كل ذلك كتابة الوصية عند الحنابلة . ويظهر من الاعتماد على خط المورث أن الفقهاء اعتبروا الخط المجرد كافياً لإثبات ما ورد فيه مع أن هذا الخط صدر من شخص عادي لا يقوم بوظيفة معينة ، وإنما يكتب وصية بما عليه من ديون ويسجل ما قبض من أموال أو ما استوفاه من غرمائه . فهذه الكتابة تعتبر حجة عليه وكل ما يشترط فيها أن يُعرف خط الكاتب.

قال إسحاق بن إبراهيم : “قلت لأحمد الرجل يموت ويوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها أو أعلم بها أحد هل يجوز إنفاذ ما فيها؟. قال : إن كان عُرف خطه وكان مشهور الخط فإنه ينفذ ما فيها ووافق المالكية الجمهور في ذلك إلا في الوصية بشروط . وقد أجاز الاعتماد على المورث كما سبق أن بينا في الكلام عن دفتر التاجر والسمسار والصراف بعد الموت.

 

رابعاً : حجية الرسائل
إن القائلين بجواز الكتابة مطلقاً والمانعين لها اتفقوا على حجية الرسائل في الإثبات بين الغائبين سواءً أشهد عليه أم لم يشهد .
وقد بحث الفقهاء صحة التصرف في الكتابة وأفاضوا في جوازها بين الغائبين وصرحوا بالقاعدة المشهورة : »الكتاب بين الغائبين كالخطاب بين الحاضرين .

وأن الكتاب كالخطاب في التعاقد . فإذا أرسل شخص إلى آخر رسالة وكتب له فيها بطريقة مستبينة مألوفة أن لك في ذمتي كذا أو ضمنت لك كذا أو أرسل إلى زوجته بالطلاق أو طلب الزواج أو لعقد من امرأة كتابة أو كتب وكالة لآخر أو هبة في جميع هذه الصور وغيره تعتبر الرسالة حجة عليه سواءً أشهد أم لم يشهد ، فإذا حضر الشهود أثناء كتابة الرسالة فيشهدون على كتابه وخطه أو على ما في رسالته ولو لم يشهدهم ، وكذلك إذا أقر بخطه وتوقيعه وختمه كانت الكتابة دليلاً لحاملها يمكن بواسطتها إثبات حقه أمام القضاء(53).

وحجية الرسائل شاملة لجميع الحقوق ما عدا الحدود والقصاص فيثبت فيها المال وما يؤول إلى المال وكذلك الزواج والطلاق والوكالة والهبة والوصية والوقف وغيرها(54). واستند الفقهاء في هذا إلى العادة والعرف لدفع المشقة ولأجل المحافظة على حقوق الناس. وقد جرت العادة بين الناس أن لا يكتبوا رسائلهم بالطريقة العادية إلا لإظهار ما عليهم من حقوق وواجبات ولأن المسلم يميل بفطرته إلى الخير ومأمور بقول الحق والإقرار به رغم حبه للمال وطمعه في جمعه واقتنائه. فإذا كتب الرسالة حمل مضمونها عليه بدليل العرف.

المبحث الثاني: حجية المحررات العرفية
إن قوة الورقة العرفية من حيث الإثبات تأتي من نواحي عدة أولاً: من ناحية صحة صدورها عن الشخص المنسوب إليه توقيعها وسلامتها المادية. وثانياً: بصدق ما دون فيها من أمور. وثالثاً: نسبتها إلى الأشخاص أي أطراف النزاع أو غيرهم. وعلى هذا سأتكلم باختصار عن هذه الجوانب حتى يظهر بجلاء قوة الورقة العرفية وحجيتها في الإثبات. في ثلاثة مطالب على النحو الآتي:

المطلب الأول:حجية الورقة العرفية بصدور الختم عليها وإنكار التوقيع بها
قد يعترف الشخص المنسوب إليه توقيع ورقة عرفية بأن بصمة الختم الموقع بها على الورقة هي بصمة ختمه ولكنه ينكر حصول هذا التوقيع منه شخصياً.. فما أثر ذلك على حجية الورقة؟.

لقد استقر قضاء محكمة النقض المصرية على أنه لا يجوز تكليف المتمسك بالورقة أن يثبت توقيع خصمه عليها في حالة اعتراف ذلك الخصم ببصمة خصمه عليها وإنكاره التوقيع بها بل هذه الحالة يجب اعتبار الورقة صحيحة حتى يطعن فيها بالتزوير فلا يقبل بشأنها دعوى الإنكار أصلاً وتبقى للورقة حجيتها مؤقتاً إلى أن يطعن فيها بالتزوير(55). وإذا كان الختم ختم المورث واعترف الوارث بصحة بصمته ولكنه قرر أنه يجهل أن مورثه وقع به فلا يقبل منه هذا التمسك بجهله وتبقى للورقة حجيتها إلا أن يطعن فيها بالتزوير(56).

والحقيقة أن هذه الافتراضات كلها واردة في الحياة العملية إلا أن القانون اليمني لم يعالجها وكذلك القضاء اليمني ينقصه إصدار السوابق القضائية في شكل مجلدات على غرار ما يصدر من القضاء المصري وغيره من الأنظمة حتى تكون هذه السوابق مرجعاً يمكن الاهتداء من خلاله إلى تلك الأحكام وهذا ما نأمله بإذن الله تعالى أن يتم في القريب العاجل من قبل المحكمة العليا. وما يجب الإشارة إليه هنا أن المادة (122) إثبات يمني قد أشارت إلى هذا المعنى وأنه يمكن إثبات حالة الإنكار للسند أو التوقيع بالبينة القانونية وعن طريق تحقيق الخطوط بواسطة خبير فني (عدل) أو أكثر.

 

المطلب الثاني: حجية الورقة العرفية بحقيقة المدوَّن بها
الأصل أن الورقة العرفية المعترف بها تكون لها فيما بين موقعيها وخلفهما حجية الورقة الرسمية ذاتها. غير أن القانون اعتبر ما دون في المحرر الرسمي حجة لا يجوز الطعن فيه إلا بالتزوير إلا أن المحرر العرفي يجوز إثبات عكس ما جاء فيها بالطرق القانونية ولابد هنا أن نفرق بين الورقة العرفية المعدة للإثبات وبين الورقة غير المعدة للإثبات وكذا بين البيانات الإخبارية والبيانات غير الإخبارية؛ فالبيانات الإخبارية لا تصلح أن تكون دليلاً كاملاً على ما جاء فيها من أخبار وتخضع هذه الأخبار من حيث قوتها في الإثبات لقواعد ومبدأ الدليل الكتابي. وفي كل الأحوال لا يجوز مواجهة الدليل الكتابي إلا بدليل آخر يدحضه أو يقويه، لأن الوقائع القانونية تحتاج في إثباتها إلى أدلة إثبات معتمدة قانوناً.

المطلب الثالث:حجية الورقة العرفية بالنسبة إلى الأشخاص
تنص المادة (104) على أنه: “يعتبر المحرر العرفي الموقع من الخصم حجة عليه وعلى وارثه أو خلفه. ما لم ينكر صراحة ما هو منسوب إليه من خط أو إمضاء أو ختم أو بصمة فإذا لم يقم المدعي بتقديم البرهان على الخط حلف المدعى عليه البتّ والقطع أما الوارث أو خلفه فإنه يحلف على نفي العلم”.

على أنه لا يكون المحرر العرفي حجة على الغير حيث جاء في المادة (108) إثبات: “لا يكون المحرر العرفي حجة على غير من صدر منه الذي يضار من التاريخ الثابت فيه ولو كان وارثاً، أو خلفاً، وذلك بالنسبة للتاريخ إلا إذا أقام خصمه بينة قانونية على وجه صحة التاريخ المعطى للمحرر أو منذ أن يكون للمحرر تاريخ ثابت…” وعلى هذا فالاستثناء هنا يأتي من القاعدة العامة التي تجعل المحرر العرفي حجة على الكافة بكل ما دون فيه بشرط أن يكون هناك تاريخ ثابت فإن لم يكن كذلك لا يعول على هذا التاريخ. والسؤال الذي يلزم الإجابة عليه هو:

منهم (الغير) المقصودين في المادة آنفة الذكر؟
استعمل المشرع لفظ (الغير) في المادة (108) إثبات وهذا اللفظ له معنى هنا غير المعنى الذي قد يرد في الشهر العقاري أو في بعض العقود، وعلى هذا لابد من توضيح المقصود بالغير في هذه المادة الأشخاص المقصودين بالغير في المادة (108) إثبات يمني هم كل من يكتفى منهم بالتمسك بعدم ثبوت تاريخ المحرر العرفي بوجه رسمي ولا يطالبون بإقامة الدليل على عدم صحته فهم كل شخص لم يكن طرفاً في المحرر ولا ممثلاً فيه وكان حاصلاً بمقتضى تصرف صادر من أحد المتعاقدين بذلك المحرر أو بمقتضى نص في القانون على حق خاص متعلق بمال معين من أموال الشخص الملتزم بهذا المحرر بحيث يؤثر في هذا الحق التصرف المدون في المحرر العرفي يوضح أن تاريخه سابق على تاريخ هذا الحق(57) ويشمل ذلك:

أولاً: الخلف الخاص، لأن تصرفاته مرتكزه على تصرفات سلفه المتعلقة بهذا المال ذاته ويتوقف هذا التصرف على تاريخ تلك التصرفات فإن كانت صادرة بتاريخ سابق على تلقيه حقه اعتبر خلفاً للمتصرف وتعدى إليه أثرها. وإلاّ اعتبر من الغير بالنسبة إليها ولم ينصرف إليه أثرها(58).
ثانياً: الدائنون المرتهنون وذوو الحقوق المقيدة الأخرى من وقت تسجيل تنبيه نزع الملكية بالنسبة للمحررات المثبتة لتصرفات متعلقة باستغلال العقار الذي سجل عليه تنبيه نزع الملكية.
ثالثاً: الدائنون المقيدون التالون بالنسبة للمحررات المثبتة للاتفاق على الوفاء مع الحلول بين دائن مقيد متقدم عليهم وبين الموفي له بدينه إذ يشترط القانون في صحة الوفاء مع الحلول في هذه الصورة ألا يتأخر الاتفاق على الحلول عن وقت حصول الوفاء(59) (327) مدني مصري.
فإذا ثبت حصول الوفاء في تاريخ معين كان للدائنين المقيدين التاليين للدائن الموفى له أن يتمسك باعتباره غيراً في معنى المادة (108).
رابعاً: الدائنون العاديون الذين اتخذوا إجراء يرتب عليه القانون تعلق حقهم بمال معين من أموال المدين هو المال ذاته موضوع التصرف المدون في المحرر العرفي ويدخل في ذلك:
1. الدائن الحاجز، سواء كان المال المحجوز عليه منقولاً أو عقاراً، أو دين لمدينه في ذمة الغير، إذ أن القانون يرتب على الحجز حبس المال المحجوز ووضعه تحت يد القضاء على ذمة الدائنين الحاجزين حتى يستوفوا من ثمنه حقوقهم(60). أي أنه يرتب للدائن حقاً خاصاً على المال المحجوز ويتعارض مع حق المتصرف إليه بالمحرر العرفي ويحصل الدائن بذلك في مثل مركز الخلف الخاص فلا يحتج عليه بتاريخ ذلك المحرر العرفي ما لم يكن ثابتاً بوجه رسمي.

2. الدائن الذي يتدخل في إجراءات التنفيذ بعد توقيع الحجز من غيره على مال معين من أموال مدينه وقبل توزيع ثمن المال المحجوز لأن القانون يرتب لهذا الدائن مثل حق الدائن الحاجز(61).

3. الدائن الذين يعارض في أن تتم قسمة المال المشترك دون تدخله إذا أوجب القانون على الشركاء إدخاله في إجراءات القسمة. ولذا فهو يعتبر بمجرد توجيه معارضة في القسمة إلى جميع الشركاء بمثابة حاجز على مدينه لدى سائر الشركاء. فلا يحتج عليه بتاريخ المحررات العرفية الصادرة من مدينة بالتصرف في نصيبه في المال المشترك ما لم يكن ثابتاً بوجه رسمي.

4. الدائن الذي يستعمل حقوق مدينه عن طريق رفع الدعوى غير المباشرة ضد مدين مدينه وذلك لأن الدائن وإن كان يعتبر نائباً عن مدينه في رفع هذه الدعوى إلا أنه يرفعها لمصلحة نفسه ويرتب له القانون على رفعها ما يرتبه على الحجز من آثار.

5. دائنوا المفلس بالنسبة إلى المحررات الصادرة منه بمعاملات مدنية لأن القانون ترتب على الحكم بشهر إفلاس التاجر رفع يده عن إدارة أمواله ونشوء حق للدائنين على أمواله كالحق الذي يترتب للدائن الحاجز على المال المحجوز(62).

طرق ثبوت هذا التاريخ ليكون للمحرر العرفي حجة على الغير:
نصت المادة (108) إثبات يمني على أنه: “لا يكون المحرر العرفي حجة على غير من صدر منه الذي يضار من التاريخ الثابت فيه ولو كان وارثاً أو خلفاً وذلك بالنسبة للتاريخ إذا أقام خصمه بيّنة قانونية على صحة التاريخ المعطى للمحرر أو منذ أن يكون للمحرر تاريخ ثابت بوجه قطعي على النحو المبين في المادة التالية.

المادة (109) يكون للمحرر تاريخ ثابت بوجه قطعي في الأحوال الآتية:
أ- من يوم أن يقيد في السجل المعد لإثبات التاريخ لدى الجهة المختصة.
ب- من يوم أن يثبت مضمونه في ورقة أخرى ثابتة للتاريخ.
ج- من يوم أن يؤشر عليه موظف عام مختص مبين تأريخ تأشيرته.
د- من يوم وفاة أحد من لهم على المحرر أثر معترف به من خط أو إمضاء أو بصمة أو من يوم يصبح مستحيلاً على أحد هؤلاء أن يكتب أو يبصم لعلة في جسمه.
هـ- من يوم وقوع أي حادث آخر يكون قاطعاً في أن الورقة قد صدرت قبل وقوعه« أي قبل وقوع التاريخ.
الأشخاص الذين ليسوا من الغير وفقاً لما جاء في المادة ( 108) إثبات شرعي:
أولاً: الأشخاص الذين وقعوا المحرر، سواء أكان توقيعهم إياه بصفتهم الشخصية أم بالنيابة عن أشخاص آخرين.
وثانياً: الأشخاص الذين كانوا ممثلين في توقيع المحرر، ويدخل في هذه الفئة
1. الأصيل بالنسبة للمحرر الذي وقعه نائبه سواء كان هذا النائب وكيلاً أو ولياً أو وصياً أو قيماً… إلخ.
2. ورثة المتعاقد لأنهم بعد وفاته يخلفونه في حقوقه وفي مركزه فيجري عليهم ما كان يجري عليه ويحتج عليهم بتاريخ الأوراق العرفية الصادرة منه.
3. الموصى لهم بحصة من تركة المتعاقدين لأنهم كالورثة يعتبرون من الخلف العام ويخلفون الموصي في حقوقه ومركزه(63).
4. دائنوا المتعاقد العاديون أي الذين ليس لهم إلا حق الضمان العام مادام لم يترتب لهم من طريق توقيع الحجز أو تسجيل تبنيه نزع الملكية حق خاص على المال موضوع التصرف المدون في المحرر العرفي الصادر من مدينهم(64)، ويدخل في ذلك كل دائن له حق رفع الدعوى كالمستأجر المتعدي وغير ذلك من الدائنين.
فهؤلاء جميعاً ليسوا من الغير.
5. دائنوا المتعاقد المرتهنون وغيرهم من ذوي الحقوق المقيدة على عقاره المتعلقة به التصرف المدوّن في المحرر العرفي طالما أنهم لم يسجلوا تنبيه نزع الملكية على هذا العقار.

المبحث الثالث :حجية المحررات غير المعدة للإثبات
تمهيد: هناك محررات يقوم بها الأفراد ويعدُّونها ليس بغرض أن تكون وسيلة لإثبات التصرفات ولكنها تُعدُّ للتذكر ومن ذلك دفاتر التجار والسمسار والدفاتر المنزلية والرسائل والبرقيات البريدية فهذه المحررات كلها لا يشترط فيها ما يشترط في المحررات المعدة للإثبات كالمحررات الرسمية أو المحررات العرفية مثل اشتراط الإشهاد عليها والتوقيع أو الختم فيها من قبل أطراف التصرف وعلى هذا نبين حجية هذه المحررات وفقاً لنصوص القانون اليمني وقد سبق الكلام في هذا عند الحديث عن حجية هذه المحررات في الفقه الإسلامي..
ونبين حجية هذه المحررات في القانون على النحو الآتي :
أولاً : حجية الدفاتر التجارية
نصت المادة (120) من قانون الإثبات اليمني على أن دفاتر التجار لا تكون حجة على غير التجار غير أن البيانات المثبتة فيها عما أورده التجار أساسٌ يجيز للقاضي أن يوجه اليمين المتممة إلى أي من الطرفين وذلك فيما يجوز إثباته بالبينة، وتكون دفاتر التجار حجة على هؤلاء التجار بشرط أن تكون هذه الدفاتر منتظمة.

فلا يجوز لمن يريد أن يستخلص منها دليلاً لنفسه أن يجزء ما ورد فيها ويستبعد منها ما كان مناقضاً لدعواه.
والملاحظ أن هذه المادة قد عالجت حكمين:
الحكم الأول: حجية الدفاتر التجارية تجاه غير التجار واعتبرتها غير حجة تجاه غير التجار إلا أنه يجوز للقاضي الاستئناس بما جاء في هذه الدفاتر وعلى أساسها يمكن أن يوجه اليمين المتممة إلى أي من الطرفين في موضوع النزاع القابل لاثباته بالبينة الشرعية.

كما نصت المادة (14) من القانون رقم (23) لسنة 1991 تجاري على أنه:
»دفاتر التجار لا تكون حجة على غير التجار على أن البيانات عما أورده التجار تصلح أساساً يجيز للقاضي أن يوجه اليمين المتممة إلى أيٍ من الطرفين وذلك حتى فيما لا يجوز إثباته بالبينة وتكون دفاتر التجار حجة على هؤلاء التجار ولكنه إذا كانت هذه الدفاتر منتظمة فلا يجوز لمن يريد أن يستخلص منها دليلاً لنفسه أن يجزء ما ورد فيها ويستبعد منه ما كان مناقضاً لدعواه.
والحكم الثاني: حجية الدفاتر التجارية تجاه التجار واعتبرتها حجة عليهم بشرطين اثنين ، وهما :
1. أن تكون هناك دفاتر منتظمة .
2. عدم تجزئة الدليل، فلا يجوز استبعاد ما كان مناقضاً لدعواه(65).

وقد نظمت الدفاتر التجارية مواد القانون التجاري ومنها المادة (43) تجاري يمني حيث نصت على أنه: “يجب أن تكون الدفاتر التجارية خالية من أي فراغ أو كتابة في الحواشي أو كشط أو تحشير فيما يدون بها. ويجب قبل استعمال دفتر اليومية والجرد أن ترقم كل صفحة من صفحاتهما وأن يختم على كل ورقة فيهما الموثق. ويقدم التاجر إلى الموثق خلال شهرين من انقضاء كل سنة مالية هذين الدفترين للتأشير عليهما بما يفيد انتهاءهما وذلك بحضور التاجر ودون حجز الدفترين لدى الموثق فإذا انتهت صفحات هذين الدفترين قبل انقضاء السنة المالية تعين على التاجر أو ورثته في حالة وقف المحل التجاري تقديم الدفترين المشار إليهما إلى الموثق للتأشير عليهما بما يفيد ذلك. ويكون الختم والتأشير في الحالات المتقدمة بغير رسوم”.

وتكون هذه الدفاتر التجارية الإلزامية حجة لصاحبها التاجر ضد خصمه التاجر الآخر إذا كان النزاع متعلقاً بعمل تجاري وكانت الدفاتر منتظمة بحسب القواعد السالف ذكرها. وتسقط هذه الحجة بالدليل العكسي ويجوز أن يؤخذ هذا الدليل من دفاتر الخصم التجارية المنتظمة(66)، بينما تكون الدفاتر التجارية منتظمة كانت أو غير منتظمة حجة على صاحبها التاجر فيما إذا استند خصم التاجر على أن تعتبر القيود التي في مصلحة صاحب الدفاتر أيضاً..(67).

ثانياً : الرسائل والبرقيات البريدية
تكون للرسائل والبرقيات الموقع عليها نفس حجية المحررات العرفية. فقد نصت المادة (111) من قانون الإثبات على أن »تكون للرسائل الموقع عليها قيمة المحرر العرفي من حيث الإثبات وتكون للبرقيات هذه القيمة أيضاً إذا كان أصلها المودع في مكتب التصدير موقعاً عليه من مرسلها ، وتعتبر البرقية مطابقة لأصلها حتى يقوم الدليل على عكس ذلك وإذا انعدم أصل البرقية فلا يعتد بها إلا لمجرد الاستئناس«. وهذا ما ذهب إليه الفقه الإسلامي كما بيَّناه سابقاً.

المبحث الرابع: حجية المحررات في إثبات الواقعة الجنائية
قد يكون للأوراق دور في إثبات الواقعة الجنائية إذا كانت تحمل في ذاتها جسم الجريمة كالتهديد أو القذف بالكتابة، أو كانت مجرد دليل على وقوعها كاعتراف المتهم أو شهادة الشاهد.

والمبدأ أن الأوراق – رسمية كانت أو عرفية – لا تتمتع بحجية خاصة في الإثبات وبالتالي فإن الدليل المستمد منها يخضع شأن كل الأدلة في المواد الجنائية لتقدير قاضي الموضوع(68).

وعلى هذا الأساس فإن المحكمة لا تتقيد بما هو مدون في التحقيق الابتدائي أو بمحاضر جمع الاستدلالات إلا إذا وجد في القانون نص على خلاف ذلك. فللمحكمة أن تلتفت عن دليل النفي ولو حملته أوراق رسمية مادام يصح في العقل أن يكون غير ملتئم مع الحقيقة التي اطمأنت إليها المحكمة من باقي الأدلة القائمة في الدعوى(69)، ولها أن تعتمد على أية ورقة من أوراق الدعوى في حكمها وتطرح شهادة الشهود الذين سمعتهم(70).

ومن ناحية أخرى فكل كتابة تصلح أن تكون مبدأ ثبوت بالكتابة أياً كان الغرض منها ما دام من شأنها أن تجعل الأمر المراد إثباته قريب الاحتمال وتقدير ذلك مما يستقل به قاضي الموضوع. غاية الأمر أنه إذا رأت المحكمة أن تتخذ من ورقة دليلاً في الدعوى فعليها أن (تطلع) عليها(71) إلا إذا كان ذلك متعذراً لتلفها أو ضياعها من ناحية(72) وأن تمكن الخصوم من (الإطلاع عليها) ومناقشة ما ورد فيها وإلا أخلت بحق الدفاع(73).

المبدأ إذن أن الأوراق -عرفية أو رسمية- ليس لها حجية خاصة في الإثبات بل تخضع لمطلق تقدير القاضي ولهذا فيجوز للقاضي الجنائي أن يحكم ببراءة متهم اعترف – كتابة – بتزويره طالما لم يقتنع هو بثبوت الواقعة عليه بصرف النظر عن أقواله ومسلكه في دفاعه. والعلة في ذلك هي أن القاضي الجنائي يسعى لبلوغ الحقيقة الواقعية أو المادية لا القانونية كما يسعى القاضي
المدني(74).

المحررات ذات الحجية الخاصة في الإثبات:
ومع ذلك فقد جعل القانون استثناء لبعض الأوراق قوة خاصة في الإثبات بحيث تعتبر حجة على صحة ما ورد فيها إلى أن يثبت ما ينفيها، وهذه الأوراق هي:
أولاً: (مادة 30 من ق النقض) محاضر الجلسات والأحكام
إذ لا يجوز إذا ذكر في أي منهما أن الإجراءات قد اتبعت (كإثبات أن الحكم قد نطق به في جلسة علنية)، إثبات عدم اتباعها إلا بطريق الطعن بالتزوير(75).
فالقانون هنا؛ نقل عبء الإثبات على عاتق المتهم من جهة، وحدد الأدلة المقبولة للإثبات من أخرى فحصرها في طريق الطعن بالتزوير.
ثانياً: (مادة 301 أ.ج) المحاضر المحررة في مواد المخالفات(76)

تعتبر حجة بالنسبة للوقائع التي يثبتها المأمورون المختصون إلى أن يثبت ما ينفيها بكافة طرق الإثبات كالشهادة والكتابة والقرائن، دون اشتراط الطعن بالتزوير وحجية هذه المحاضر لا تستوعب سوى (الوقائع المادية) المكونة للمخالفات أما الجرائم الأخرى كالقتل الخطأ والاعتداء على مأمور الضبط فلا تشملها تلك الحجية. وتعتبر من الوقائع المتعلقة بالمخالفة اعتراف المتهم بها أو شهادة الشاهد عليها، فتكون حجة على صدور الاعتراف أو الشهادة لكن المحضر لا يكون حجة على صحة الاعتراف أو صدق الشهادة فذلك سلطان المحكمة. هذه الحجية ليست في حقيقتها إذن إلا مجرد نقل لعبء الإثبات على نحو لا تلتزم فيه النيابة العامة بإثبات تلك الوقائع، بل يكون على المتهم عبء إثبات عدم وقوعها.

ويشترط في المحضر لتتوافر له تلك الحجية أن يكون مستوفياً لشروط صحته، فيلزم أن يكون صادراً من مأمور الضبط المختص فيما رآه بنفسه لا نقلاً عن الغير. وينحصر معنى هذه الحجية في إعطاء المحكمة الحق في الاعتداد بها دون أن تلزم بإعادة تحقيق ما ورد فيها. لكن لها بطبيعة الحال أن تلتفت عنها وتجري التحقيق كما في الأحوال العادية(77).

المبحث الخامس: حجية صور المحررات في الإثبات
عالج المشرع اليمني أحكام صور المحررات في الفصل الثاني من الباب الرابع من قانون الإثبات الشرعي رقم (21) لسنة 1992م الأدلة الكتابية، فبيَّن في المادة (101) منه حجية صور المحررات في الإثبات الشرعي بالقول: “إذا كان أصل المحرر الرسمي موجوداً فإن صورته الرسمية خطية كانت أو فوتوغرافية تكون حجة بالقدر الذي تكون فيه مطابقة للأصل وتعتبر الصورة الرسمية مطابقة للأصل ما لم يُنازع في ذلك أحد الطرفين. وفي هذه الحالة تراجع الصور على الأصل. ولكي تكون الصورة رسمية يجب أن يوقع عليها من الموظف المختص بالمراجعة وأن تختم بالختم الرسمي للجهة التي أصدرتها وأن تبين فيها أنها مطابقة للأصل”.

أما إذا لم يوجد أصل المحرر الرسمي كانت الصورة الرسمية المعمدة المصرح فيها بأنها مطابقة للأصل حجة على الوجه الآتي:
أ- تكون للصورة الأصلية المصدقة (المعمدة) المنقولة من الأصل مباشرة والمقابلة عليه تنفيذية كانت أو غير تنفيذية حكم أصلها متى كان مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك في مطابقتها للأصل.
ب- يكون للصورة الرسمية المصدقة (المعمدة) المنقولة من الصورة الأصلية الحجية ذاتها ولكن يجوز في هذه الحالة لكل من الطرفين أن يطلب مراجعتها على الصورة الأصلية التي أخذت منها.
جـ- ما يؤخذ من صور رسمية للصورة المأخوذة من الصور الأصلية فلا يُعتد به إلا لمجرد الاستئناس تبعاً للظروف.

الفصل الثالث :طرق الطعن في المحررات

رسم قانون الإثبات اليمني قبل التعديل الصادر بالقرار الجمهوري بالقانون رقم (21) لسنة 1992 ، طريقاً واحداً للطعن في المحررات الرسمية وهو الطعن بالتزوير، ثم عدلت هذه المادة وأعطت للأشخاص الحق في الطعن بالمحررات الرسمية إما بإنكارها أو ادعاء تزويرها حيث تضيف المادة (100) على أن: »المحررات الرسمية حجة بما جاء فيها من أمور قام بها محررها في حدود مهمته الرسمية أو وقعت من ذوي الشأن في حضوره أو صودق منه على توقيعاتهم عليها في حضورهم بعد التحقق من أشخاصهم ما لم ينكرها الخصم فيتعين إثباتها بالطرق الشرعية أو يتبين تزويرها بالطرق المقررة قانوناً« وبهذا فقد وحد القانون طرق الطعن بين المحررات الرسمية والعرفية كما أن الطعن في هذه المحررات يختلف بين المسائل المدنية والتجارية وبين المسائل الجنائية فالطعن بالتزوير في المحررات الرسمية أو العرفية يكون محله في المسائل المدنية والتجارية حيث عينت الأدلة ووضعت قواعدها التي يلتزم القاضي بأن يجري في قضائه على مقتضاها.

أما في المواد الجنائية فإن ما تحويه الأوراق ما هي إلا عناصر إثبات تخضع في جميع الأحوال لتقدير القاضي الجنائي وتحتمل الجدل والمناقشة كسائر الأدلة وللخصوم أن يفندوها دون أن يكونوا ملزمين بسلوك سبيل الطعن بالتزوير.

ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا ما استثناه القانون وجعل له قوة إثبات خاصة بحيث يعتبر المحضر حجة بما فيه إلى أن يثبت ما ينفيه تارة بالطعن بالتزوير كما هي الحال في محاضر الجلسات والأحكام وطوراً بالطرق العادية كمحاضر المخالفات التي يثبتها المأمورون المختصون إلى أن يثبت ما ينفيها.

وعلى هذا فإن محاضر جمع الاستدلال التي يجريها مأمور الضبط القضائي هي عناصر إثبات تخضع في كل الأحوال لتقدير القاضي وتحتمل الجدل والمناقشة كسائر الأدلة حيث أنه من المقرر في المواد الجنائية أن القاضي في حلٍ من عدم الأخذ بالدليل المستمد من أية ورقة رسمية مادام هذا الدليل غير مقطوع بصحته، ويصح على الواقع أن يكون غير ملتئم مع الحقيقة التي استخلصها القاضي من باقي الأدلة أما ما جاء في القانون عن حجية المحررات الرسمية فمحتملة في الإجراءات المدنية والتجارية كما بينا ذلك سابقاً.

أما المحاضر التي يحررها رجال الشرطة في سبيل تسوية النزاع وتهدئة الخواطر بين المتشاجرين فإنها لا تعد من المحاضر الرسمية لأنها لم تكن معدة أصلاً لإثبات المسائل المدنية والتي تخرج بالتالي عن اختصاص وحدود سلطة رجال الشرطة ولا يكون لها قيمة الورقة العرفية إلاَّ إذا كان ذوو الشأن قد وقعوها.

وهناك العديد من المحررات تخضع لتقدير محكمة الموضوع كسائر الأدلة بشرط تسبيبها لرفضها التعويل على تلك الأدلة ومن ذلك الشهادات المرضية والتقارير الطبية وغير ذلك من المحررات.

الخاتمة والتوصيات
أولاً : الخاتمـــة
سوف أتعرض في هذه الخاتمة إلى أهم النتائج التي توصلت إليها وذلك على النحو الآتي :
1. تبين أن للمحررات أهمية كبيرة في إثبات الحقوق والحد من الترافع أمام القضاء ومنع تسلل المبطلين والمفسدين تجار الخصومات من أكل أموال الناس بالباطل . فلولا توثيق التصرفات الدائرة بين الأفراد لما حُفظت الحقوق نظراً لما يعتري الإنسان من عوامل تحول بينه وبين إثبات حقه . ومن ذلك النسيان الذي يعتري أطراف التصرف أو فقد الأهلية أو موت أحد أطراف التصرف أو كليهما وقد تتغير معالم الحق محل التصرف أو يتناقص ويتغير في نوعه وحجيته وغير ذلك.
وقد يجهل الأطراف هذا الحق عند انتقاله إليهم عن طريق الميراث أو الوصية. كما تظهر أهمية المحررات في ضمانة وسلامة النظر في النزاع وسلامة الحكم في الشيء المتنازع فيه . وإثبات وسائل الإثبات الأخرى كالشهادة والإقرار واليمين والقرائن .
2. يسجل فضل السبق في إرساء مبادئ وقواعد الكتابة وتوثيق التصرفات للشريعة الإسلامية التي حرصت أشد الحرص على هذه المبادئ ومنها:
أ- أوجبت مبدأ كتابة وتحرير التصرفات بين الأفراد مهما كانت تلك التصرفات صغيرة أو كبيرة.
ب- اشترط عدة شروط في الكاتب لضمان سلامة المحررات وما يدون فيها من أمور فلابد أن يكون الكاتب عادلاً أميناً صادقاً عالماً بالشريعة الإسلامية وأحكامها ملماً بأحكام المعاملات والفرائض.
جـ- تجنب الألفاظ المشتركة والمجملة منعاً للالتباس والشك في الحقوق التي تحوي الوثيقة.
3. المحررات حجة في الإثبات لدى جميع الفقهاء عند استكمال شروط إعدادها.
4. لم يفرق فقهاء الإسلام بين المحررات في الحجية كما هو الحال في القانون الذي جعل للمحررات الرسمية حجية أقوى من المحررات العرفية فالعبرة في الفقه الإسلامي بسلامة المحرر وإعداده وفق الشروط الصحيحة لذلك.

5. النزاع والخصام الناتج عن المعاملات بين الأفراد سببه عدم الالتزام بتدوين هذه المعاملات أو عدم الالتزام بالشروط والضوابط الشرعية اللازم توافرها في المحررات بعناصرها الأربعة:
أ- كاتب المحررات.
ب- أطراف التصرف.
جـ- محل التصرف.
د- المحررات نفسها.
6. أحكام الفقه الإسلامي تحرص على دفع الريبة والشك في المعاملات وتطبيق مبدأ العدالة في كل التصرفات

ثانياً: التوصيات
1. التوعية المستمرة بأحكام الإسلام فيما يتعلق بفقه المعاملات، للفائدة المحققة جراء اتباع منهج الإسلام في كل المعاملات ومن أهمها حفظ وضبط الحقوق ومنع الخصام والتنازع بين الأفراد.

2. الحرص على توافر الشروط والضوابط الشرعية اللازم توافرها فيمن يتولى القيام بتحرير هذه التصرفات بين الأفراد واتباع منهج الإسلام في ذلك باشتراط العدالة والتقوى والفقه الشرعي في كاتب المحررات.

3. جعل هذه الأحكام في مواد دراسية تدرس من المراحل المبكرة باعتبار أن مجتمعنا هو مجتمع مسلم وكافة الناس يحتاجون إلى التعامل فيما بينهم بالبيع والشراء والاستئجار والإيجار والهبة والنذر والوصية والوقف وغير ذلك من فقه المعاملات التي لا غنى لكل فرد في المجتمع المسلم.
والله أسأل أن يوفقنا إلى كل خير، والحمد لله رب العالمين.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت