مدى توافق ضوابط تقسيم العقوبة وغايتها في التشريع الاسلامي و التشریع الجنائي الوضعي

وقبل أن نتكلم عن ذلك نذكر أسس كل من التقسيمين لنصل إلى المقارنة والنتائج .

فالتقسيم الشرعي أساسه المحافظة على الضروري بدرء الخطر عنه وذلك بإرساء العقوبات المناسبة والرادعة في نفس الوقت، والترغيب في الحاجة مع الترهيب من تركه لكونه متمم للضروري ، إضافة إلى نشر الفضائل والتربية الإجتماعية بالتحسيس للوصول إلى تكوين مجتمع نظيف من الرذائل ، متعود على الفضائل إعتاد العيش في نظامها، يحب الإستقامة في حياته كارها للإنحراف.

وعلى هذه الأسس نجد الشريعة الإسلامية فرضت عقوبات شديدة على كل ما يمس الضروري للمجتمع، واستنكرت الأفعال القبيحة عموما تاركة تحديد العقوبة لأولى الأمر حسب الحاجة والمجتمع ومميزاته, فإذا كان المجتمع قد إبتعد عن المنكرات إلا أفراد معدودين كانت العقوبة أخف لتأديب العصاة، وإذا انتشر المنكر وجب رفع العقوبة قصد ترهيب وزجر العام والخاص عنها وفق المصلحة الشرعية أما أساس التقسيم الوضعي، فهو حماية مصالح المجتمع وحفظ أمنه بواسطة أحكام العدالة، حيث يجازي بإسم المجتمع كل مجرم خرج عن نظامه .

غير أن الأسس التي إعتمد عليها القانون الوضعي كلها نظرية، ما دام الواقع يبين عكسها, فالمجتمع المدني بخصوصياته الحضارية الإيجابية والسلبية لم يستقر له أمن ولم تحم مصالحه بل الجريمة تزداد من سنة إلى أخرى لأن المعيار المعتمد عليه مادي بحت فلسفته الظاهرة والأساسية درجة الخطر فكلما كان الخطر أقوى على أفراد المجتمع أو مصالحه الحيوية كانت العقوبة أشد .

وكلما كان الخطر أقل شدة كانت العقوبة أخف و لذلك نجد المشرع هو الذي يحدد العقوبة لكل جريمة بحدها الأقصى و الأدنى و ما على القاضي إلا تطبيق المادة القانونية دون أن يكون له حق الإجتهاد لا من حيث التجريم و لا من حيث مقدار العقوبة خارج النص القانوني لكن له كامل السلطة بالحكم بالحد الأقصى أو الأدنى حسب كل واقعة على حدى و حسب ظروف الجاني المستوجبة للرأفة أو للشدة .

و رغم وضوح المادة الرابعة ” 04 ” من قانون العقوبات الجزائري في هذا المجال من حيث الإشارة إلى الجزاء الذي هو العقاب على الجرائم بتطبيق العقوبات أو الإكتفاء بتدابير الأمن للوقاية منها ثم حددت بعدها أنواع العقوبة حيث جاء في نصها (( يكون جزاء الجرائم بتطبيق العقوبات و تكون الوقاية منها بإتخاذ تدابير أمن . و تكون العقوبات أصلية إذا صدر الحكم بها دون أن تلحق بها أية عقوبة أخرى . و تكون تبعية إذا كانت مترتبة على عقوبة أصلية ولا يصدر الحكم بها و إنما تطبق بقوة القانون . و العقوبات التكميلية لا يحكم بها مستقلة عن عقوبة أصلية . يعتبر الأشخاص المحكوم عليهم بنفس الجريمة متضامنين في الغرامة ورد الأشياء و الضرر , و المصاريف مع مراعاة ما نصت عليه المادة 310 الفقرة 4 و 370 من قانون الإجراءات الجزائية . إن لتدابير الأمن هدف وقائي و هي إما شخصية أم عينية )).

ففي العقوبة الأصلية عن الجنايات كما بينت المادة الخامسة ” 05 ” من نفس القانون هي الإعدام أو السجن المؤبد أو المؤقت .

فهذه الشدة في العقوبة يقابلها قوة خطر هذا النوع من الإجرام خاصة في جناية القتل العمدي مع سبق الإصرار و الترصد إذ إعتبر المشرع الوضعي الخطر الذي يزهق الروح يجب أن يعالج بنفس الضرر المحدث لفرد من أفراد المجتمع عادة .

ثم بعد ذلك تأتي الفقرة الثالثة من نفس المادة لتبين الجزاء في مادة الجنح بالحبس من شهرين إلى خمس ” 05 ” سنوات و الغرامة و يعني ذلك أن درجة الخطر في الجنح أقل و بذلك تقرير عقوبة ملائمة حتى تتساوى مع الخطر بينما أقر المشرع الوضعي في المخالفات حبس من يوم واحد إلى شهرين و الغرامة و بهذا التخفيف الملحوظ لهذا النوع يكون خطره غير مضر بالمجتمع و أفراده كسابق الجرائم المذكورة .

أما التقسيم الشرعي فقد إعتمد على أسس ثابتة من حيث مصدرها فهو ( رباني ) ومن حيث نتائجها في الماضي وكذا الحالي.

فعندما نقول بأن مصدر الشريعة رباني نعني بكل وضوح ما أنزله الله من عنده لا يمكن التصديق بوجود نظام تشريعي يوازي الشريعة الإسلامية لأن ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه و سلم منذ أربعة عشر ” 14 ” قرن لم يتغير في مبادئه و أسسه بينما البشر يتجه بتفكيره و بحوثه إلى تطويرما توصل إليه الجيل السابق و يبقى هذا التغيير بغرض الوصول إلى الكمال المرجوا من البشرية في علاج نظامهم التشريعي لكن الشريعة منذ أربعة عشر ” 14 ” قرنا لم تتغير و لن تتغير من حيث الأسس و المبادئ و من حيث المصدر الذي جعله الله محفوظا إلى يوم القيامة قال تعالى : ﴿إنا نحن نزلنا الذكرى و إنا له لحافظون ﴾.

و رغم هذا القول الذي قلناه لا يؤمن به البعض , و لا يعجب فئة قليلة من البشر فإنني أرى بأن سردي للأسس و المبادئ العامة لكل من الشريعة الإسلامية و التشريع الجنائي الوضعي و المناقشات الموضوعية بينت لي الكثير من الباحثين السابقين في القانون و في الشريعة الإسلامية بأن تطور القوانين الوضعية في مستوى أدنى من مستوى الشريعة و هو أمر يصدقه الواقع و توصل إليه الباحثين الكبار.

و عليه فإن وحي السماء العادل المناسب لطبيعة البشر لكون المشرع هو الخالق له فكيف لا يعرف الصانع بما صنع عكس ما يشرعه البشر لأخيه البشر فلا يعلو هذا الأخير على الاول على الإطلاق إذا كما بينا فيما سبق أن التشريع الوصعي همه و غايته و أعلى ما يمكن الوصول أليه هو حماية أفراد المجتمع و محاربة الشذوذ عن الأوضاع و الأعراف المتعايش عليها أفراد المجتمع , فكل من شد عن هذا يعاقب عقوبة تتلائم و درجة خطورة الإعتداء و ما ينتجه من أصرار للغير .

أما الشريعة الإسلامية فهي ترى عكس القانون الوضعي حيث أقرت العقوبة المناسبة لكل فهل يضر بمصالح المجتمع و الفرد معا و يحافظ و يحمي الفصيلة و يحارب و يقوم كل ما يضر بالمبادئ الشرعية أضرت بأفراده أم لم تضر مثل جريمة الزنا في بعض القوانين الحديثة لا تعاقب عليها إلا إذا كانت بالإغتصاب و لكن فاحشة الزنا في الشريعة يعاقب عليها و لو إتفق الفاعلان على ممارستها و هلم أو لئك جرا في جميع الحالات المتشابهة في تجريم الأفعال و تقرير العقوبة لها.

كما أن أحكام الشريعة التي مصدرها من خالق البشرية كما جاء في قوله تعالى :﴿ ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير﴾ ( 1) أي لا يساوي هذه الأحكام نظريا ولا واقعيا , فالفكر الإنساني مهما تطور إلى قيام الساعة لن يضاهي الأحكام الشرعية لكن المقارنة يمكن أن تكون في إظهار الشكلية لكل منها حتى يقترب الفهم لهما معا و يظهر الصالح الحقيقي المبني على حماية المصالح الحقيقية و الأخذ من أحكامها في شتى االات المختلفة و هو المقصود من هذه الدراسات عامة و حتى من بعض الدراسات الغربية المسيحية حديثا .

و لا ربما يشكل الفهم عند البعض للمصالح الحقيقية أهي المنفعة الظاهرة و هل هذه المنفعة لها أصول لا يختلف عليها لكون أغلب الجرائم التي حددت لها العقوبة في الشريعة الإسلامية أو في القانون الوضعي عند البعض فيها منفعة فكل بائع للمخذرات و المسكرات ينتفع بالمال الذي يجنيه من هذا البيع و بالتالي منفعة له و كل زاني تحقق له عملية الجماع شهوته الغريزية يرى بأن هذا الفعل يحقق منفعة و هلم أولئك جرا , ولهذا خصصنا مبحث كامل من الفصل الثاني لرفع الإلتباس عن المعني الشرعي للمصلحة التي هي أساس التقدير و التقرير للعقوبة في الشريعة الإسلامية , و هذا الأمر فرضه موضوع البحث لا يمكن الإستغناء عنه ولا مخالفته إلى أن نصل إلى معنى الإلتزام بالحكم الشرعي الذي لا يتغير ولا يتبدل و صالح لكل زمان ومكان , أما مقاصد الحكم التي بها يتحقق مناط الحكم فهو يخضع للظروف و الأحوال و تغير الزمان والمكان و تدخل عليه إستثناءات جزئية تعتبر مناط عام لتطبيق الأحكام الشرعية وفق مقصدها الأصلي النقلي الثابت.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت