يتطلب الفقه الإسلامي في الوكيل ان تتوافر فيه الشروط الآتية(1):

الشرط الأول: الأهلية

يرى الفقه الإسلامي انه يلزم في الوكيل ان يكون ذا صلاحية تمكنه من مباشرة الخصومة، وعدم تحقق ما يمنع الوكيل من مباشرة الخصومة من موانع الأهلية وعوارضها، ويرون أن الأهلية تتحقق بالعقل لانه أساس صحة التصرفات عموما، لذا لايصح توكل المجنون والمعتوه والصبي غير المميز والمغمى عليه والنائم لثبوت انعدام العقل لديهم(2). كما وتتحقق الأهلية بالبلوغ الذي اختلف فيه الفقهاء، فبينما يرى الشافعية والامامية والظاهرية ان البلوغ شرط لصحة التصرفات، لذا يجب ان يكون الوكيل بالغا، وعندهم لايصح ان يكون الصبي المميز وكيلا لعدم اكتمال بلوغه(3). ويرى الحنابلة وقول عند المالكية ان توكل الصبي المميز يصح اذا اذن له وليه(4)، أما القول الآخر للمالكية فان توكل الصبي المميز يصح ولا يتوقف على إذن وليه(5)، في حين لم يشترط الحنفية بلوغ الوكيل لذا يصح توكل الصبي العاقل(6).

الشرط الثاني: ديانة الوكيل

لايشترط ان يكون الوكيل مسلما ذلك لان الفقهاء أجازوا ان يكون الوكيل ذميا او مستأمنا(7)، اما الحربي فأن الحنفية والمالكية لاتجيزان توكله(8)، بينما اجاز الشافعية والحنابلة والامامية توكله(9) اما توكل المرتد عن المسلم فأنه يصح(10) لان ردته تقطع صلته بأمواله واملاكه، وان الوكالة تخول الوكيل التصرف بأموال الموكل وأملاكه(11)، الا ان الحنفية يعدون توكيل المرتد باطلا اذا التحق المرتد بدار الحرب(12).

الشرط الثالث: علم الوكيل بالوكالة

ذهب الحنفية والزيدية الى اشتراط علم الوكيل بالوكالة (13) وفسر احد الباحثين موقف الحنفية من هذا الشرط ان علم الوكيل ضروري لعد تصرف الوكيل نافذا عن الموكل، اما لو تصرف الوكيل قبل علمه بالوكالة فأن تصرفه قبل علمه يعد تصرفاً فضولياً لاينفذ اثره عند الموكل الا بأجازة التصرف منه، وان هذا التوكيل السابق لايغني عن صدوره الاجازة عن الموكل اذا اراد نفاذ التصرف بحقه(14)، بينما ذهب الشافعية الى ان علم الوكيل بالوكالة ليس شرطا لصحة الوكالة(15). والذي يبدو ان هذا الشرط لايثير جدلا في عقد الوكالة بالخصومة لان الوكيل بالخصومة لايستطيع مباشرة خصومة موكله مالم يثبت التفويض والصلاحيات التي يملكها عند حضوره للقضاء لتمثيل موكله فاثباته لذلك يعني تحقق علمه بالوكالة.

الشرط الرابع: انعدام العداوة عند الوكيل

يشترط المالكية(16) في الوكالة بالخصومة ان لايكون الوكيل عدوا لخصم موكله او عدوا لوكيل الخصم، لان الخصومة مع العداوة ستزيد توغر الصدور وتهيج الغضب وينتج عن ذلك الحقد، الذي يجعل ضبط اللسان على حد الاعتدال متعذراً فيظهر اللدد والشغب لايذاء الخصم والانتقام منه، لذا ينبغي للقاضي ان لايقبل وكالة كل من ظهر منه اللدد في خصومه، اذ لايحل ادخال اللدد على المسلمين(17). ويسند احد الباحثين(18) رأي المالكية بحديثي الرسول الاعظم محمد صلى الله عليه وسلم اذ قال: (ابغض الرجال الى الله الالد الخصم)(19)، وقال عليه الصلاة والسلام (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، من كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: اذا حدث كذب، واذا عاهد غدر، واذا وعد اخلف، واذا خاصم فجر)(20).

ويوضح الباحث ان من توكل في باطل او بقصد الاضرار بالخصم فهو لايخلو من خصلتين من هذه الخصال : ان يكذب في حديثه، وان يفجر في خصومته، وهذا من اعظم الضرر بالمسلمين(21). ويبدو ان مبررات الاخذ بهذا الشرط لم تعد قائمة، ذلك ان القانون(22) يوجب على الخصوم ومن ينوب عنهم الالتزام بأحكام القانون والتقيد بمبدأ حسن النية في ابداء الدفوع وتقديم الادلة وإلا عرض المخالف نفسه للعقوبة لان القضاء ساحة للعدل ولاحقاق الحق مما يقتضي حمايته وصيانته من العبث والاساءة، والقضاء سلطة لمنع الاساءة والضرر او الحد منهما، وتطبيقا لذلك فقد قضت محكمة بداءة الموصل بما يأتي (… لم يقدم وكلاء المعترضين أي دفع او بينة معتبرة قانونا لاثبات الدعوى سوى العقد غير الثابت التاريخ والذي لايصح الاحتجاج به اصلا في مواجهة المعترض عليه الاول، وسلك المعترضان اعتراض الغير الطارئ سلوكا ينم عن قصد العبث والاساءة، ويوجب على المتخاصمين ومن ينوب عنهم الالتزام بأحكام القانون وبمبدأ حسن النية في تقديم الادلة، اذ أنه وبعد ان قرر القاضي السلف ايقاف الاجراءات التنفيذية في الاضبارة المرقمة (1354/2001) وكلف وكيل المعترضين السابق بأثبات دعوى موكليه، استمهل الامهال تلو الامهال متعكزا على اقرار وكيل المعترض عليه الثاني بالعقد غير الثابت التاريخ، وبتاريخ 22/1/2002 طعن المعترضان امام محكمة التمييز الموقرة بالقرار الصادر عن هذه المحكمة في هذه الدعوى بتاريخ 16/1/2002 في حين انه لم يصدر أي قرار في الدعوى حتى هذا اليوم، وبعد ان بقيت اضبارة الدعوى موضع التدقيقات التمييزية امام محكمة التمييز الموقرة اصدرت قرارها بتاريخ 20/3/2002 وبعدد 1081 / م2 /2002 قرارا برد الطعن التمييزي شكلا لان الدعوى لازالت قيد المرافعة ولم يصدر بها قرار بتاريخ 16/1/2002، ثم وبعد اكمال التبليغات مجددا اثر عودة الاضبارة من محكمة التمييز قدم وكيل المعترضين نسخة من الانذار المرقم 5482 في 14 /3/2004 والمسير الى موكليه المعترضان عن طريق كاتب عدل الموصل يعلمهم انهم والمحامي (م) قدموا طعنا تمييزيا على الدعوى عن طريق محكمة بداءة الكرخ دون ان يكون هناك قرارا صادرا في الدعوى وانه حرصا منه على الالتزام بقواعد السلوك المهني لمهنة المحاماة يعتزل الوكالة، فأضطرت المحكمة الى تبليغ المعترضين مجددا للحضور على موعد المرافعة، وقاما بتوكيل المحامي (ب)، ثم اقاما الدعوى (1046/ب/2002) امام محكمة بداءة البياع في بغداد، فطلبت المحكمة المذكورة اضبارة الدعوى لتعلقها بموضوع الدعوى المقامة امامها بموجب كتاب محكمة البياع المؤرخ في 7/5/2002 وأرسلت الاضبارة مع محتوياتها، ثم اعيدت بموجب كتاب محكمة البياع المرقم 83 في 13/6/2002 لعدم تعلقها بالدعوى المقامة امامها ثم وبعد اتمام التبليغات مرة اخرى يقدم وكيل المعترضين طلبا لتأجيل المرافعة في 29/6/2002 لانشغاله بأمور مهنية، ثم يعود في جلسة 1/7/2002 طالبا قبول استقالته عن الدعوى دون ان يقدم المعترضان او وكلائهم أي دفع يثبت الدعوى رغم مرور عشرة اشهر على اقامتها ودون ان تتمكن المحكمة من تدقيق الدعوى للطلبات المتكررة من قبل وكيل المعترضين بالتأجيل وطلب إضبارة الدعوى من محكمة التمييز الموقرة ومحكمة البياع وبقائها في المحكمتين المشار اليهما أكثر من ستة اشهر، فكيف يكون العبث والإساءة لسوح القضاء وأين مبدأ حسن النية في تقديم الأدلة…)(23).

ويتضح مما تقدم ان العبث والإساءة بمفهومهما الواسع يتضمنان الأضرار بالخصم عن طريق تأخير حسم الدعوى مثلا او محاولة حرمانه من الحماية القانونية بتعطيل إجراءات التنفيذ، وان القاضي بما يمتلكه من صلاحيات قانونية يستطيع رد الإساءة وكف العبث فلا يخشى ان تطيل العداوة حقوق أيٍ من الخصوم او الإضرار بهم او حتى الإساءة الى دور القضاء.

الشرط الخامس: عدم تعدد وكلاء الخصومة

يشترط المالكية(24) ان يكون وكيل الخصومة شخصا واحدا، لان في توكيل اكثر من واحد اضرارا بالخصم فلا يجوز، الا اذا رضي الخصم بذلك . بينما ذهب الشافعية والحنابلة والمالكية الى جواز توكيل اكثر من واحد بالخصومة لانه مثلما تدعو الحاجة الى توكيل الواحد فهي تدعو الى توكيل اثنين فاكثر(25). وقد يثار تساؤل مفاده أيجوز ان ينفرد احد الوكلاء بالخصومة ام لابد من اجتماعهم؟ في هذه المسألة اكثر من قول، فالامام ابو حنيفة وصاحباه(26) يرون انه يجوز لاحدهم الانفراد بمباشرة خصومة الموكل لان الغرض من الخصومة على حد قول الامام الكاساني انه: (اعلام القاضي بما يملكه المخاصم واستماعه واجتماع الوكيلين على ذلك يخل بالاعلام والاستماع لان ازدحام الكلام يخل بالفهم فكان اضافة التوكيل اليهما تفويضا للخصومة إلى كل واحد منهما فايهما خاصم كان تمثيلا)(27)، وبهذا الرأي اخذت مجلة الاحكام العدلية اذ نصت المادة (1465) على انه (اذا وكل احد اثنين معا بأمر فليس لاحدهما وحده التصرف في الامر الذي وكلا به، ولكن اذا كانا قد وكلا بالخصومة، او برد وديعة او ايفاء دين، فلاحدهما ان يوفي الوكالة وحده ..).

ويوضح الاستاذ علي حيدر موقف المجلة بالقول: (إذا وكل احد ما هو مبين بالمحاكمة والمخاصمة، فلاحدهما وحده تولي المحاكمة عنه، لكن يلزم انضمام رأي اخر، حتى انه لو خاصم احد الوكيلين، من دون انضمام رأي الوكيل الاخر فلا تجوز، لكن لايشترط حضور الوكيل الاخر في مجلس الحكم لانه لافائدة من حضور وكيلين في مجلس الحكم وان كانت الخصومة محتاجة الى الرأي، فلو اشترط اجتماعهما كلاهما في مجلس القضاء . يلزم اما ان يشترط تكلمهما معا، وهذه الصورة لما كانت باعثة على تشويش امر المحاكمة والشغب يعنى على تهييج الشر والحاكم لايمكنه ان يساعد على ذلك فليس تكلمهما معا ممكنا او يشترط تكلمهما على التعاقب وهذا ليس جائزا ايضا لانه لو سمح بعد ان فهمت المحكمة محاكمة وكيل ومخاصمته وماهية الدعوى لوكيل اخر ان يحاكم او يخاصم لادى ذلك للسماح لوكيل ثالث ورابع وخامس وهذا باعث للاشغال بمخاصمات غير متناهية او يشترط شورى بعضهما بعضا في مجلس المحاكمة، وهذا لايمكن لان المحافظة على مهابة المجلس مانعة للاستشارة في مجلس المحاكمة)(28). بينما يرى الامام زفر انه لايجوز لاحد الوكلاء بالخصومة الانفراد بها لان الخصومة مما تحتاج الى الرأي وبما ان الموكل وكل اكثر من وكيل فهذا يعني انه لم يرض برأي احدهم فلا يملك احدهم مباشرة الخصومة دون الاخرين(29). وذهب الشافعية والحنابلة الى القول(30) ان الموكل اذا صرح بأستقلال كل واحد من الوكلاء، جاز ان ينفرد احدهم بمباشرة الخصومة، وان لم يصرح بأستقلال احدهم فللشافعية في هذه المسألة رأيان، الاول انه لايستقل احدهم وانما عليهم التشاور والتباصر فيما بينهم قبل مباشرة الخصومة، والرأي الثاني انه لتعذر الاجتماع على الخصومة فيجوز لاحدهم ان يستقل بها بينما يرى الحنابلة انه ليس لاحدهم الاستقلال(31)، وبهذا الخصوص يقول الامام النووي (لو وكل رجلين بالخصومة ولم يصرح بأستقلال كل واحد منهما فوجهان: الاصح لايستقل واحد منهما بل يتشاوران ويتباصران كما لو وكلهما في انه لاينفرد واحد منهما بحفظه بل يحفظانه في حرز بينهما، والثاني ينفرد)(32). وأخيراً فأن المالكية وان كان الاصل عندهم ان الوكيل بالخصومة لايتعدد، الا اذا اذن الخصم بذلك، فأن تعدد الوكلاء في عقد واحد فلا يحق لاحدهم ان يستقل بالخصومة الا اذا اعطى الموكل الحق لكل منهم ان يستقل بالخصومة عن الاخرين ، واما اذا تم تعدد الوكلاء بالتعاقب، فأنه يحق لكل منهم ان يستقل بالخصومة الا اذا شرط الموكل خلاف ذلك(33). ويرى احد الباحثين(34) ان قول المالكية هو الراجح لان فيه احتراماً لارادة الموكل وتحقيقا لمصلحته، وان الأصل التزام الوكيل حدود الوكالة وعدم تجاوزها، بينما يرى البعض الاخر من الباحثين(35) ان الذي ذكره الشافعية والحنابلة هو الراجح، لان من وكل وكيلين فأكثر لايرضى الا باجتماعهم وتعاونهم، الا ان يفوض كل واحد منهم على انفراد في مباشرة خصومته فيكون دليلاً على انه رضي برأي الواحد، ويرون ان توكيل الاثنين او اكثر لايستلزم الشغب لانه لايتصور انهم سيتكلمون في وقت واحد وانما سيعين احدهم الاخر لخدمة الموكل.

وبعد الانتهاء من بيان الشروط الواجب توافرها في وكيل الخصومة، لابد من الاشارة الى أن الفقه الاسلامي متفق(36) على جواز التوكيل بالخصومة بشرط رضا الخصم، الا انهم اختلفوا في مسألة التوكيل بغير رضا الخصم، فالامام ابو حنيفة ذهب(37) الى القول بأن ليس للموكل الحاضر او القادر على الحضور الى مجلس القضاء ان يوكل عنه بالخصومة الا برضا الخصم، واذا وكل بغير رضا خصمه كان التوكيل غير لازم للخصم(38)، فاذا وافق عليه لزمه والا فلا، ولكن اذا تحقق للموكل عذر كالمرض الذي يعيقه عن المشي الى مجلس القضاء او كان غائبا عن مجلس القضاء مسيرة ثلاثة ايام فأكثر واراد السفر وتحقق القاضي من صدق قصده او كان الموكل امرأة مخدرة لاتخالط الرجال او حائضا والقاضي يقضي في المسجد او كان الموكل محبوسا عند غير القاضي الذي ينظر في النزاع ولايمكن خروجه من السجن(39) فعند تحقق العذر يجوز التوكيل بالخصومة دون رضا الخصم، ذلك ان الاصرار على موافقة الخصم على التوكيل مع تحقق العذر لدى الموكل يؤدي الى ضياع حقوقه وتكليف ما لايتحمله(40). ويوضح العلامة الزيلعي موقف الامام ابي حنيفة رحمه الله بالقول: (ولابي حنيفة رضي الله عنه ان التوكيل حوالة وهي لاتجوز الا برضا المحال اليه فكذا التوكيل وهذا لان الخصومة تختلف والجواب مستحق عليه فصار نظير الحوالة الا ترى انه لايوكل الا من هو الد واشد انكارا ويلحقه بذلك ضرر عظيم فلا يلزمه بدون التزامه كالحوالة بخلاف ما إذا كان به عذر من الاعذار التي ذكرناها لان الجواب غير مستحق عليه في هذه الحالة فلا يكون فيه اسقاط حق مستحق عليه)(41). ويرى الامام الكاساني ان الامام أبا حنيفة رحمه الله استدل على قوله بلزوم موافقة الخصم على التوكيل بالخصومة لان دعوى المدعي وانتظار المدعى عليه مما يتطرق عليه احتمال الكذب والصدق والخطأ والنسيان فلا تعد دعوى المدعي وانكار المدعى عليه حقاً، والاصل ان الإنسان لايلزم قولاً يتطرق اليه الاحتمال، وانما وجب القول في مجلس القضاء لضرورة فض النزاع واحقاق الحقوق والضرورة تتحقق بقول الموكل عن نفسه امام خصمه لا بكلام وكيله الا اذا وافق الخصم عليه(42). بينما يرى الإمام السرخسي ان أبا حنيفة رضي الله عنه استدل على قوله لان الخصومة تقتضي حضور المدعى عليه للجواب وحضوره حق للمدعي حتى يخاصمه بنفسه . فلا يجوز له ان يوكل عنه في الخصومة الا إذا رضي الخصم بذلك، ولان الناس متفاوتون بالخصومة فقد يوكل وكيلا شديدا او فاجرا أكثر من الموكل ليعمد إلى استخراج الحيل والأباطيل والإضرار بالخصم(43).

لقد رد بعض الباحثين على قول ابي حنيفة رحمه الله تعالى بأن احتمال الصدق والكذب لايعد مبررا لابطال حق يملكه الموكل نتيجة تفاوت الناس في شدة المخاصمة، فقد يعجز الموكل عن مواجهة خصمه لشدة خصومته، فيجوز له الاستعانة بوكيل يستطيع مواجهة مثل هذا الخصم، فيكون منعه من التوكيل بالخصومة ايقاعا للضرر عليه(44). بمعنى آخر ان تفاوت الناس بالخصومة يعد عذراً يُبيح للموكل ان يوكل عنه، اذ قد لايحسن الموكل الترافع بنفسه او يكون الموكل وجيها ومن اشراف الناس يترفع عن المخاصمة بنفسه وذهب الامام السرخسي في هذه المسألة الى القول ان القاضي اذا علم من الخصم التعسف في استعمال حقه والتعنت في رفض التوكيل، فلا يمكنه من ذلك ويقبل التوكيل على الرغم من عدم رضا الخصم، واذا علم القاضي ان الغاية من التوكيل الاضرار بالخصم لايقبل الا برضا الخصم(45). بينما ذهب(46) الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية وأبو يوسف ومحمد من الحنفية الى ان التوكيل بالخصومة يصح بغير رضا الخصم لان الصحابة رضي الله عنهم مجمعون عليه وان سيدنا علياً علية السلام وكل عقيلا ووكل عبدالله بن جعفر وهذه قصص اشتهرت لانها في مظنة الشهرة فلم ينقل انكارها ولان الحاجة تدعو الى ذلك فأنه قد يكون له حق او يدعي عليه ولايحسن الخصومة او لايحب ان يتولاها بنفسه(47)، ولان التوكيل بالخصومة حق للموكل فلا يقف على رضا الخصم ذلك ان الدعوى حق المدعي وان الانكار حق المدعى عليه، فجاز لهما التوكيل فيه لا من ملك حقا حاز له ان يوكل فيه(48) وتأثرا بهذا الرأي فقد نصت المادة (1516) من مجلة الاحكام العدلية على انه ( لكل من المدعي والمدعى عليه ان يوكل من شاء بالخصومة ولايشترط رضا الاخر) كما اخذ القانون الاردني بهذا الرأي فقد نصت الفقرة الثانية من المادة (834) من القانون المدني على انه (لايشترط لصحة الوكالة بالخصومة رضا الخصم). وعلى الرغم من ان جمهور الفقهاء لم يشترطوا موافقة الخصم على التوكيل بالخصومة ومنهم المالكية، الا ان المالكية (49) يرون ان الموكل اذا خاصم بنفسه وقعد مع خصمه ثلاث جلسات او اثنتين عند القاضي فليس له بعد ذلك ان يوكل الا برضا خصمه، ماعدا حالات تعدّ عذرا للتوكيل كمرض الموكل او سفره او حلفه الا يخاصم لكون خصمه لدودا، ويرون ان من شان انعقاد الثلاث جلسات بينهما عند القاضي ان يظهر الحق، فالتوكيل حينئذ يوجب تجديد المنازعة وكثرة الشر(50).

ويبدو أن المالكية يرون ان اطالة امد النزاع وتجديد الخصومة وتأخير الحسم للدعوى يكون بسبب تفويض الموكل لغيره بمباشرة الخصومة بعد دخوله فيها، والحقيقة ان الخصومة لاتتجدد لهذا السبب لان الوكيل يواصل الخصومة من النقطة التي وصلت اليها، ولايقتضي مباشرة الوكيل بالخصومة بعد موكله الغاء اجراءات الدعوى المتخذة في حضرة موكله، ونرى ان الراجح هو ما ذهب اليه جمهور الفقهاء من عدم اعتبار رضا الخصم شرطاً لجواز الوكالة بالخصومة وذلك ان الدعوى حق للمدعي والجواب عنها وحضورها حق للمدعى عليه، فلكل منهما ان يباشر هذا الحق بنفسه، او يقيم غيره مقامه كسائر حقوقه التي تقبل النيابة سواء اكان ذلك في بداية الدعوى أم في أثنائها، كما ان اشتراط رضا الخصم قد يؤدي الى اعاقة البت في الخصومات وتعطيله وتأخير حسم النزاع ويؤخر ايصال الحقوق الى اهلها عندما يرفض الخصم كل وكيل يوكله الموكل نكاية واضرارا بالموكل، وحسنا فعل المشرع العراقي بعدم تنظيمه هذا الموضوع عند تناوله عقد الوكالة مما يفسر سكوته على انه رفض ضمني لفكرة تعليق صحة الوكالة بالخصومة على رضا الخصم واكتفاء القانون العراقي بالأركان والشروط التي تقتضيها القواعد العامة للعقد. وأخيرا فقد وجدنا قولاً للمالكية(51) يقضي بعدم جواز توكيل الاب بالخصومة لانهم يرون بتوكيله في خصومة أولاده -البالغين طبعاً- إهانة له. ويبدو ان قول المالكية مستمد حكمته من باب احترام الاب، وتكريمه يقضي منع توكيله ذلك لان مهنة الوكيل بالخصومة في زمنهم كانت مهنة حقيرة(52) ونرى انه لامانع من توكيل الاب بخصومة اولاده ان كان من اهل الاختصاص والخبرة، والا يفضل توكيل المختص على توكيل الاب بالخصومة لان المختص يجيد المخاصمة وحتى لاتضيع حقوق الاولاد، اما نظرة المالكية إلى مهنة الوكيل بالخصومة فقد زالت في الوقت الحاضر ولايعقل الركون اليها في تبرير منع توكيل الاب بالخصومة.

______________________

– ان هذه الشروط مستنبطة من عموم الشروط الواجب توافرها في الوكيل بالتصرف، وهي ليست كل الشروط، فالشروط التي لا تتعلق بموضوع الأطروحة لم نذكرها خشية الإطالة والخروج عن الموضوع.

2- الامام برهان الدين علي بن ابي بكر بن عبدالجليل الرشداني المرغياني، الهداية شرح بداية المبتدى،جـ3، المكتبة الاسلامية، دون مكان وسنة الطبع، ص 173؛ الامام الكاساني، جـ6، مصدر سابق، ص 20.

3- الإمام الرملي، مصدر سابق، ص18 ؛ الامام المرتضى، مصدر سابق، ص58 ؛ وابن حزم، مصدر سابق، ص322.

4- ابن قدامة المقدسي، المغنى، مصدر سابق، ص 203.

5- الحطاب، مشار إليه عند: محمد رضا عبد الجبار، مصدر سابق، ص159.

6- الكاساني، ج6، مصدر سابق، ص20.

7- ابن عابدين، مصدر سابق، ص 193 ؛ ابن قدامة المقدسي، المغني، مصدر سابق، ص 215، وابن حزى، مصدر سابق، ص 322؛ والامام الطوسي، مصدر سابق، ص 317 ؛ الجزيري، مصدر سابق، ص171.

8- الفتاوى الهندية، مصدر سابق، ص 563 ؛ الخرشي، مصدر سابق، ص76.

9- الرملي، مصدر سابق، ص20 ؛ وابن قدامة المقدسي، المغني، مصدر سابق،، ص 215 ؛ والامام المرتضى، مصدر سابق، ص 57 .

0- الفتاوى الهندية، مصدر سابق، ص 563 ؛ والشيخ زكريا الانصاري، مصدر سابق،، ص 403 ؛ وابن قدامة المقدسي، المغني، مصدر سابق، ص215؛ والجزيري، مصدر سابق، ص171.

1- محمد رضا عبدالجبار، مصدر سابق، ص 167 .

2- الفتاوى الهندية، مصدر سابق، ص 563 .

3- ابن عابدين، مصدر سابق، ص 188؛ الامام المرتضى، مصدر سابق، ص 65 .

4- محمد رضا عبد الجبار، مصدر سابق، ص 165 .

5- الشربيني، جـ2، مصدر سابق، ص 222 .

6- الخرشي، مصدر سابق،، ص 76 ؛ والامام ابن جزي الكلبي، مصدر سابق، ص 322 .

7- الشيخ محمد عليش، مصدر سابق، ص355.

8- د. محمد ابراهيم الغامدي، مصدر سابق.

9- الامام البخاري، صحيح بخاري، كتاب الاحكام، باب الالد الخصم، ج8، دار الكتب العلمية، بيروت، ص117 ؛ والإمام مسلم، صحيح مسلم، في كتاب العلم،، باب في الالد الخصم، ج2، مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، 1377هـ، ص220؛ ولقد جاء في شرح هذا الحديث للأمام النووي بان (الالد شديد الخصومة مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه، لانه كلما احتج عليه بحجة اخذ في جانب اخر، واما الخصم فهو الحاذق بالخصومة والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع الحق او اثبات باطل) نقلاً عن: محمد ابراهيم الغامدي، مصدر سابق.

20- الإمام مسلم، صحيح مسلم، كتاب الايمان، باب بيان خالص المنافق، ج1، دار الآفاق العربية، بيروت، دون سنة الطبع، ص56.

2- د. محمد ابراهيم الغامدي، مصدر سابق.

22- المادة (5) من قانون الاثبات العراقي ؛ وبنفس المفهوم نصت المادتان (39 و50) من قانون المحاماة العراقي.

23- رقم القرار (3350 /2001) في 4/7/2002، القرار غير منشور

24- الشيخ محمد عليش، مصدر سابق، ص 353 ؛ والخرشي، مصدر سابق، ص69.

25- الكاساني، جـ6، مصدر سابق، ص 32 ؛ والامام النووي، مصدر سابق، ص321 ؛ وابن قدامة المقدسي، المقنع، مصدر سابق، ص 128.

26- الامام كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بأبن الهمام، شرح فتح القدير، وبهامشه شرح العناية على الهداية للامام البابرتي، جـ6،ط1، المطبعة الكبرى، مصر، 1316 هـ، ص98-99 ؛ وعبدالغني الغنيمي الحنفي، مصدر سابق،، ص144 ؛ المرغيناني، مصدر سابق، ص 148.

27- نقلا عن الكاساني، جـ6، مصدر سابق، ص 33.

28- نقلا عن الاستاذ علي حيدر، مصدر سابق، ص589.

29- السرخسي، مصدر سابق، ص 11؛ الكاساني، جـ6، مصدر سابق، ص 32 .

30- الامام النووي، مصدر سابق، ص 321؛ ابن قدامة المقدسي، المغني، مصدر سابق، ص 128 .

31- ابن قدامة المقدسي، المغنى، مصدر سابق،، ص 214.

32- نقلا عن الامام النووي، مصدر سابق، ص 321.

33- الامام الخرشي، مصدر سابق، ص 82.

34- تيسير محمد، مصدر سابق، ص 71 .

35- محمد رضا عبدالجبار، مصدر سابق، ص 37 ؛ و د. محمد ابراهيم الغامدي، مصدر سابق.

36- ابن عابدين، مصدر سابق، ص 196 ؛ والامام أبو عبدالله محمد بن ادريس الشافعي، مصدر سابق، ص207 ؛ والشيخ محمد عليش، جـ3،مصدر سابق، ص 353؛ وابن قدامة المقدسي، المغنى، مصدر سابق، ص 207 ؛ وابن حزم، جـ 8، مصدر سابق، ص 245 .

37- ابراهيم بن محمد الحلبي، ملتقى الأبحر، دون اسم المطبعة ومكان وسنة الطبع، ص174.

38- الزيلعي، مصدر سابق، ص 255.

39- الطحطاوي، مصدر سابق، ص 266 .

40- ابن عابدين، مصدر سابق، ص 255 .

41- نقلا عن العلامة الزيلعي، مصدر سابق، ص 255

42- الكاساني، جـ6، مصدر سابق، ص 22 .

43- السرخسي، مصدر سابق، ص 7 .

44- محمد رضا عبد الجبار، مصدر سابق، ص 394 ؛ وتيسير محمد، مصدر سابق، ص 88 .

45- الامام السرخسي، مصدر سابق، ص 8

46- العلامة محمد الزهري الغمراوي، السراج الوهاج، مصدر سابق، ص 247 ؛ ومحمد بن ادريس الشافعي، مصدر سابق، ص 207 ؛ والخرشي، مصدر سابق، ص 69 ؛ وابن قدامة المقدسي، المغنى، مصدر سابق، ص 245 ؛ والكاساني، جـ6، مصدر سابق، ص 22 .

47- ابن قدامة المقدسي، المغنى، مصدر سابق، ص 207 .

48- الكاساني، جـ6، مصدر سابق، ص 22 .

49- الشيخ محمد عليش، مصدر سابق، ص 353-354 .

50- الخرشي، ج6، مصدر سابق، ص 69.

51- ابن فرحون، مصدر سابق، ص 125 .

52- تيسير محمد عبدالمحسن طه، مصدر سابق، ص 105 .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .