حقوق الإنسان في ضوء المسيحية / سرور طالبي

يرجع القانون الدولي لحقوق الإنسان في جذوره القديمة إلى مبادئ القانون الطبيعي أو مبادئ العدالة التي ساهم في وضع وتحديد مضامينها فقهاء غربيون ” مسيحيون” كثر أمثال جروسيوس جون لوك ومنتسكيو… ويعتبر القرنان السابع والثامن عشر المرحلة التاريخية التي شهدت صياغة وبلورة مبادئ القانون الطبيعي، أما القرن العشرون فلقد شهد بسطا لنطاق هذه المبادئ وتأسيسها في مجموعة من الوثائق الدولية، على رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وإذا ما تعمقنا في مبادئ القانون الطبيعي فإننا سنجدها تقوم على معتقدات دينية متمثلة في وجود قانون عادل أزلي ثابت لا يختلف باختلاف الزمان والمكان ولا الأشخاص، وهو ليس من صنع البشر بل من الله خالق الكون، ويسمو على كافة القوانين الأخرى ويخضع له الفرد والحاكم، ويستمد قوته من المبادئ التي يتضمنها.

ومن جهة أخرى فلقد كانت الكنيسة المسيحية لفترة طويلة ولقرون متتالية محامية عن حقوق المظلومين والمهمشين، حاملة بذلك إلى الحضارة الغربية بوادر قانون حقوق الإنسان.

وعليه نريد من خلال هذه الدراسة التعمق في الدور الذي لعبته المسيحية في وضع وبلورة القانون الطبيعي أو مبادئ العدالة التي تعتبر بدورها أساس مبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وسوف نعتمد في ذلك على التقسيم التالي:

المبحث الأول: مكانة الإنسان في ضوء المسيحية؛

المبحث الثاني: الحقوق والحريات الأساسية المضمونة في المسيحية.

المبحث الأول:

مكانة الإنسان في ضوء المسيحية

لقد اقتصرت المسيحية على تنظيم الجوانب الروحية فحسب مع الامتداد إلى مجالات ضيقة في الحياة الدنيا للإنسان مثل ترتيب طقوس الزواج والطلاق، ودفن الموتى، وإجراءات الصلح وما إلى ذلك.

ويرجع السبب في هذا القصور وضيق مجال الاختصاص إلى كون المسيحية قد ظهرت في محيط اجتماعي انتشرت فيه شريعة موسى عليه السلام أو “العهد القديم” كما يسميه المسيحيون. ويعتبر “العهد القديم” بالإضافة إلى “العهد الجديد”، الكتاب المقدس للديانة المسيحية ومصدرا لإيمان النصارى.[1]

وفي هذا المعنى، جاء في الإنجيل: “لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء: ما جئت لأبطل، بل لأكمل. الحق أقول لكم: لن يزول حرف أو نقطة من الشريعة حتى يتم كل شيء، أو تزول السماء والأرض.” [2]

وتأكيدا على ذلك، فلقد جاء في القرآن الكريم: ” ﴿ وقَفينا على أثارهم بعيسى ابن مريم مُصدقاً لِِما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيلَ فيه هُدًى ونورٌ ومُصدقاً لِما بين يديه من التوراة وهُدًى وموعظةً للمتقينَ﴾.[3]

وفي العموم لقد كانت الديانة المسيحية دعوة دينية خالصة أكدت بالإضافة على الحقوق التي تضمنتها التوراة، على مجموعة من الحقوق الفردية الأساسية وعلى رأسها تقديس الإنسان وكرامته وحياته.

وعليه فإننا سنخصص المبحث الحالي لدراسة المكانة المميزة التي انفردت المسيحية بوضع الإنسان فيها، من خلال المطلبين التاليين:

المطلب الأول: تقديس المسيحية للإنسان ولكرامته البشرية

المطلب الثاني: تقديس المسيحية لحياة الإنسان

المطلب الأول:

تقديس المسيحية للإنسان ولكرامته البشرية[4]

لقد قدست المسيحية الإنسان ووضعته في مكانة مميزة لم تضعه فيها أي من الديانات السماوية السابقة أو اللاحقة لها، أي الديانة اليهودية والديانة الإسلامية.

بالفعل، تعتبر المسيحية أن الإنسان ومهما كان جنسه، قد خُلق على صورة الله تعالى، بحيث جاء في الإنجيل: “فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى خلقهم”[5]، وفي تفسير ذلك يقول بعض الفقهاء بأن الإنسان هو الصورة الحية المتحركة للإله الكائن المطلق على سطح الأرض.[6]

أضف إلى ذلك فإن الله وفقا لهذه العقيدة، قد بارك الإنسان، بحيث جاء في الإنجيل: ” ذكرا وأنثى خلقه و باركه ودعا اسمه آدم يوم خُلق.”[7]

وعليه فإن الإنسان في العقيدة المسيحية، هو صورة لله رب الكون، وهذا ما يجعله مميزا عن باقي المخلوقات سواء من حيث التكوين، أو من حيث الدرجة أو المنزلة التي من المفروض أن يتمتع بها لأنه مخلوق مبارك ذو شأن وقيمة عليا.

ولما كان الأمر كذلك، فإن الإنسان ينفرد بالتمتع بالكرامة الإنسانية التي تتأصل فيه ولصيقة بشخصه لمجرد كونه إنسانا، مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه…. وما إلى ذلك.

وعليه فان الكرامة الإنسانية لصيقة في كل كائن بشري وكل فرد، لأن الطبيعة البشرية في الفلسفة المسيحية هي ملك مشترك لكل فرد بشري في كل زمان وفي كل مكان.

ومن هذا المنطلق فإن الكرامة الإنسانية في ضوء المسيحية ليست مجرد حق أو مطلب فردي، إنما هي ما يجب أن يكون مضمونا لمجموع أفراد الأسرة البشرية.[8]

ومن هنا نجد أن الكرامة الإنسانية في المسيحية هي خصوصية أو ميزة عالمية يتسم بها جميع أعضاء الأسرة البشرية، وهذا ما يذكرنا بالفقرة الأولى من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة الأولى منه اللتان تنصان على التوالي على:[9]

” لمّا كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم.”

” يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق.”

أبعد من ذلك، ونظرا لقدسية الإنسان وكرامته، حظرت المسيحية استرقاق واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان بحيث جاء في الإنجيل: ” لا يوجد بعد الآن لا يهودي ولا يوناني، لا عبدٌ ولا رجل حر، لا امرأة ولا رجل، لأنكم كلكم إنسان واحد داخل المسيح عيسى.” [10]

وهذا متطابق تماما مع المادة 4 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على الآتي: ” لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص. ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما.”

المطلب الثاني:

تقديس المسيحية لحياة الإنسان

لقد انفردت المسيحية بتقديس الإنسان بوصفه مخلوقا مباركا خلق على صورة الله. والنتيجة الحتمية لهذه العقيدة هي بالطبع تقديس حياته بصفة عامة بغض النظر عن جنسه أو لونه أو عرقه… أو ما إلى ذلك.

ومن هذا المنطلق، حرمت المسيحية سفك الدماء وقتل النفس البشرية. ولقد أكّد سيدنا المسيح على ذلك حينما طلب من مرافقيه عدم استعمال سيوفهم في مواجهة خصومهم للدفاع عن عقيدتهم.[11]

غير أن الفقهاء المسيحيين قد اختلفوا حول مصير القاتل فانقسموا في ذلك إلى قسمين، فبينما يعتبر القسم الأول منهم أن قتل القاتل لم يكن من مبادئ الشريعة المسيحية، أبعد من ذلك يرى هذا الفريق بان المسيحية قد وقفت بشدة ضد عقوبة الإعدام، مستدلين على ذلك بما ورد في الإنجيل:
أو كذلك ” أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مغضبيكم، من ضربك على خدك الأيمن فأعرض له خدك الأيسر.” كما جاء في عظة يسوع الكبرى: ” طوبى للساعين إلى السلام، فإنهم أبناء الله يدعون. طوبى للمضطهدين على البر، فإن لهم ملكوت السماوات (…).”[12]

ولكن في المقابل يقول القسم الثاني من الفقهاء بأن الشريعة المسيحية قد عرفت عقوبة الإعدام مستدلا على ذلك بما قاله عيسى عليه السلام: ” ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأتمم”[13]، أو كما جاء في الإنجيل: ” لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض، ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا”[14] وكذلك: ” سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لان الله على صورته عمل الإنسان.”[15] وفي مكان آخر ” من ضرب إنسانا فمات فليقتل قتلا، وإذا بغى رجل على آخر فقتله اغتيالا فمن قدام مذبحي تأخذه ليقتل”.[16]

كما جاء في الإنجيل عن عدم حرمة دماء الأعداء: ” أما أعدائي ألئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم أمام عيني.”[17]

ولقد جاء الحسم فيما أختلف فيه هذان الفريقان في القرآن الكريم، الذي أكّد على أن عقوبة القاتل في الديانة المسيحية كانت القتل، بحيث جاء في سورة المائدة الآية 45: ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفسَ بالنفسِِِ والعينَ بالعينِ والأنفَ بالأنفِ والأٌذُنَ بالأذُنِ والسِنَّ بالسِّنِ والجُرُوحَ قصاصٌ﴾.

المبحث الثاني:

الحقوق والحريات الأساسية المضمونة في المسيحية

إن الميزة الأساسية المسيحية كما رأينا، هي تقديس الإنسان وحياته ووضعه في مكانة لم تضعه فيها أيٍ من الشرائع السماوية، غير أن هذه المكانة تحتاج إلى ترجمة على أرض الواقع وهذه الترجمة لا يمكن أن تتم من دون احترام حقوقه وحرياته الأساسية.

وعليه فإنه من الضروري التوسع في هذا المبحث في الحقوق والحريات الأساسية المضمونة في هذه الشريعة، لكي نكّون فكرة عامة عن مختلف الحقوق التي منحتها المسيحية للإنسان، وذلك من خلال المطلبين التاليين:

المطلب الأول: دعوة المسيحية إلى المساواة والعدل بين البشر

المطلب الثاني: حرية الإنسان أساس المسيحية

المطلب الأول:

دعوة المسيحية إلى المساواة والعدل بين البشر

لقد شكلت القيم والمثل العليا التي رسختها المسيحية ثورة حقيقية متقدمة في مجتمع كانت علاقاته قائمة على القوة والتمايز الطبقي، ولعل أهم هذه القيم هي المحبة والإخاء بين كل البشر فلقد جاء في الإنجيل (19ـ 18): ” أحب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى، والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين ترتبط الشريعة كلها والأنبياء.”[18]

كما يمكن استخلاص هذه القيم والمبادئ من سيرة حياة النبي عيسى، فلقد كان عليه الصلاة والسلام، حسبما أورده بعض السلف، لا يولي أهمية للمال وللرفاهية بحيث لم يكن يدخر مالا كما لم يكن لديه منزل يأوي إليه إنما يتنقل من مكان إلى آخر ومن بلد إلى آخر، محاولا نشر دعوته وإقناع قومه بأن ثروة الإنسان في قلبه، ولقد روي أنه قال: “يا معشر الحواريين…اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.” وقال كذلك: ” إن الله لا يصنع بالذهب ولا الفضة ولا بهذه الأحجار التي تعجبكم شيئا إن أحب شيء إلى الله منها القلوب الصالحة وبها يعمر الله الأرض.”[19]

ومن جهة أخرى يقال أنه وصى قبل أن يُرفع إلى السماء كل واحد من الحواريين، بالذهاب إلى طائفة من الناس في إقليم من الأقاليم من الشام والمشرق وبلاد المغرب لينشروا رسالته، فأصبح كل واحد منهم يتكلم بلغة البلد الذي أرسل إليه.[20]

وانطلاقا مما تقدم فإن النبي عيسى عليه الصلاة والسلام كان إنسانا بسيطا غير متجبر يؤمن بالإخاء أي “بالمساواة” بينه وبين باقية قومه مع أن الله سبحانه وتعالى قد نفخ فيه من روحه وباركه، كما أنه كان عادلا، لا يفرق بين بني قومه لا من حيث المعاملة أو من حيث نشر دعوته التي أرادها عادلة.[21]

وبالرجوع إلى نص الإنجيل فإننا نجده هو الآخر يقوم على مبدأ المساواة والعدل سواء كان ذلك بين الجنسين أو بين الشعوب والأمم.
ففيما يخص المساواة والعدل بين الجنسين، وانطلاقا من مبدأ قداسة الإنسان وكرامته البشرية الذي تحدثنا عليه في النقطة السابقة، فإن الله قد خلق الإنسان على صورته وباركه من دون أي تمييز بين الذكور والإناث، بحيث جاء في الإنجيل كما رأينا: ” فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى خلقهم”[22]، ” ذكرا وأنثى خلقه وباركه.”[23]

أبعد من ذلك فإن الإنجيل يأمر بإلغاء كل تمييز أساسه الجنس، بعبارات واضحة وقطعية والمتمثلة في: ” لا يوجد بعد الآن (…) لا امرأة ولا رجل، لأنكم كلكم إنسان واحد داخل المسيح عيسى.”

غير أن رجال الدين النصارى اعتبروا أن المرأة مسئولة عن الانحلال الأخلاقي الشنيع الذي آل إليه المجتمع الروماني، فقرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه، وأعلنوا أن المرأة هي باب الشيطان وهي سلاح إبليس للفتنة والإغراء، وعلى حد تعبير القديس تروتوليان: ” إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان ناقضة لنواميس الله مشوهة لصورة الله – الرجل.” [24]

وفي عام 586 للميلاد، عقد في فرنسا مؤتمر موضوعه الجواب عن السؤال التالي: هل تعد المرأة إنساناً أم لا؟ فكان الجواب أنها خُلقت لخدمة الرجل فحسب، وهي قاصر لا يحق لها أن تتصرف بأموالها دون إذن زوجها أو وليها، وقد كان القانون الإنجليزي يبيح للرجل أن يبيع زوجته، ولما قامت الثورة الفرنسية وأعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة فلم تشمل المرأة.

أما فيما يخص المساواة والعدل بين الأسرة البشرية ككل، فإن المسيحية بصفة عامة تقوم على المساواة والعدل بين الأمم والشعوب لأنها كانت في الأصل شعب واحد له لسان ولغة واحدة ومنحدر من شخص واحد وهو آدم عليه السلام، كما أنهم إنسان واحد داخل المسيح عيسى، فباركهم الله وأمرهم بأن يتكاثروا ويتسلطوا على باقية المخلوقات.

وفي هذا المعنى جاء في الإنجيل: ” و قال الرب هو ذا شعب واحد و لسان واحد لجميعهم و هذا ابتداؤهم بالعمل و الآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه.”[25]

وجاء في مكان آخر: ” وكانت الأرض كلها لسانا واحدا و لغة واحدة.”[26] أو “وباركهم الله و قال لهم أثمروا وأكثروا وأملئوا الأرض وأخضعوها و تسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض.”[27]

” لا يوجد بعد الآن لا يهودي ولا يوناني، لا عبدٌ ولا رجل حر، لا امرأة ولا رجل، لأنكم كلكم إنسان واحد داخل المسيح عيسى.”

وعليه فإن المساواة التي نص عليها الإنجيل مساواة صريحة ومطلقة وقطعية لا تنافسها مواد الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان لا من حيث الصياغة ولا من حيث الخلفيات أو الأسباب التي قررت من أجلها.

المطلب الثاني:

حرية الإنسان أساس المسيحية

لقد اعتبرت المسيحية أن السلطة المطلقة لا يمارسها إلا الله سبحانه وتعالى، أما ما دون ذلك فهو متروك لحرية اختيار الأفراد، ولذلك ظلت المسيحية ـ منذ ظهورها إلى الآن ـ يحكمها مبدأ يقال انه من أقوال سيدنا المسيح عليه السلام وهو: “ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.”

ويستخلص بعض الفقهاء من هذه المقولة عدة نتائج، لعل أهمها والتي تخدم موضوعنا هي كالآتي:[28]

1. أنها رسمت حدوداً فاصلة بين ما هو ديني وهو الواجب الروحي، وما هو دنيوي وهو الواجب المادي نحو الدولة من أجل تنظيم المجتمع الإنساني على أسس واضحة، خاصة فيما يتعلق بالروابط بين الفرد والسلطة؛
2. أن الدين المسيحي قد أمر بالالتزام المدني والديني أي القيام بالواجبات للحصول على الحقوق، ولعل الحق في الحرية هو على رأس هذه الحقوق.
استنادا على ما تقدم فإن الحرية بصفة عامة هي من مميزات المسيحية، فالله حسب العقيدة المسيحية قد ترك الناس أحرارا، حتى في الأوقات التي انحرف فيها البعض إلى إنكار الله أو إلى رفضه، فلقد جاء في الإنجيل بأنه سبحانه وتعالى قال وهو يخاطب سيدنا موسى عليه السلام: ” قد جعلت أمامك الحياة، والموت أمامك، البركة والنعمة. فاختر الحياة لكي تحيا.”[29]

وعليه فإن الله الذي أوجد الحرية أوجد معها الوحي، والوصايا، والنعمة التي تسند الإنسان في جهاده الروحي، لأن الحرية التي تقوم عليها هذه الشريعة تقابلها مسؤولية بحيث إن الأفعال التي يقوم بها بنو البشر تستحق دائما إما الثواب أو العقاب.[30]

وفي هذا المعنى يقول البابا جان 23: ” أساس كل مجتمع منظم وغني هو مبدأ أن كل كائن بشري هو إنسان يتمتع بذكاء وإرادة حرة، ومن هذا المنطلق هو صاحب حقوق وواجبات تنبثق من بعضها بعضاً جملة وفوريا من طبيعته كما أنهم عالميين غير قابلين للانتهاك.”[31]

والحرية التي أكدت عليها المسيحية هي حرية في العقيدة، وحرية في السلوكيات أيضا: ففي ما يخص الحرية الدينية فإنها تلك العلاقة التي تربط الإنسان بربه. وهي علاقة يحكمها الضمير ومرتبطة بالقلب من الداخل، بحيث جاء في الكتاب المقدس: “يا ابني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي”، فالله إذا يريد لقلب الإنسان أن يكون قلبا طاهرا ومطيعا لأن كل عمل يأتي عن طريق الإرغام لا أجر له على الإطلاق في هذه الديانة.

أما فيما يخص الحرية في السلوكيات فإنها ينبغي أن تكون مقيدة، لأن الإنسان لا يستطع أن يدعى الحرية، وهو يعتدي على حريات الآخرين، أو على حقوقهم. فالحرية إذا في المسيحية مرتبطة بالانضباط، وبوصايا الله وبالقانون بل وحتى بالنظام العام.

ولكن وبالرجوع إلى أرض الواقع، فإن المتصفح لتاريخ المسيحيين ولاسيما الغربيون سيجد أنهم سيروا المسيحية حسب أهوائهم، فداسوا على كرامة غير المسيحيين واستباحوا قتلهم، كما خالفوا تعاليم المسيح الداعية إلى المحبة والإخاء بين البشر. وأبعد من ذلك فإنهم منعوا حرية العقيدة منعاً باتاً حتى أن الإمبراطور قسطنطين شن حملة إبادة ضد من خالف المذهب الملكاني الذي قال إن المسيح ذو طبيعتين ومشيئتين، وما يزال البابا والأوساط الكاثوليكية يكفرون الموحدين الآشوريين والبروتستانت مثلما تُكفر الوثنيين وبعض العقائد الأخرى.

كما أنه في القرون الوسطى منعت المسيحية الغربية حرية العقيدة فقام الملوك والرهبان بنفي أو حتى بقتل وذبح غير المسيحيين بمن فيهم المسلمون أو إرغامهم علي التنصر. وهذه الحوادث المنكرة للحريات في الغرب وجدت مثيلاتها في الشرق حيث قام الأرثوذكس الملكانيون باضطهاد وقهر وإكراه ونفي وحتى تشريد اليعاقبة في مصر وفي المشرق.

وهكذا سنت المسيحية الغربية مبدأ الإكراه في الدين واتخذت من كل أساليب الجبر والقهر طريقاً لنشر الديانة المسيحية مخالفة بذلك كل تعاليم نبي وعبد الله، سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام.

وفي هذا المعنى قال الإمام محمد عبده: ” المسيحية السليمة كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها، تراقب أعمال أهله، وتخضعهم دون الناس بضروب من المعاملة، لا يحتملها الصبر مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم وتعميدهم، أجلتهم من ديارهم وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا “.[32]

 

[1] أنظر الكتاب المقدس، العهد الجديد، الإنجيل أعمال الرسل الرسائل الرؤيا، الطبعة السادسة عشرة، منشورات دار المشرق، بيروت، 1988، ص 17. أنظر كذلك:Adrian Schenker O. P, op. cit, pp. 91– 93

[2] (رسائل بولس إلى أهل روما 3/31).

[3] سورة المائدة الآية 46.

[4] سوف يرد في هذا المبحث كثير من الأمور المنافية للعقيدة الإسلامية التوحيدية، لكن من الضروري ذكرها لكي يتسنى لنا فهم الديانة المسيحية، وعلى حد تعبير الإمام أبي الفِداء ابن كثير: ” حاكي الكفر ليس بكافر”.

[5] سفر التكوين الإصحاح الأول: 27.

[6] Albert Menoud, la compréhension chrétienne des droits de l’homme, dans les actes du 1er Colloque interuniversitaire de Fribourg, op. cit. p104.
[7] سفر التكوين الإصحاح الخامس: 2.

[8] Albert Menoud, op. cit. p106.
[9] Carlos-J. Pinto de Oliveira, L’église, les Religions et les droits de l’homme, dans les Actes du 2ème Colloque interuniversitaire de Fribourg 1983, èd. Universitaires Fribourg Suisse, 1985, pp. 115-117.
[10]« Il n’y a plus ni Juif, ni Grec ; il n’y a plus ni esclave, ni homme libre ; il n’y a plus ni homme ni femme : car vous n’êtes tous qu’une seule personne dans le Christ Jésus », André Gounelle: Les fondements des droits de l’homme, http://prolib.net/ethique/203.006.dh.gounelle.htm
[11] “Tuer un homme, ce n’est pas défendre une doctrine, c’est tuer un homme” André Gounelle : op. Cit.
[12] (أنجيل لوقا 6/20 ـ 9 و10).

[13] أنظر: السيد سابق، المرجع السابق، ص 10.

[14] (سفر ميخا 7ـ6).

[15] سفر التكوين الإصحاح التاسع: 6.

[16] أنظر الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج.

[17] إنجيل لوقا: (19ـ27).

[18] ولكن بالمقابل إذا رجعنا إلى إنجيل لوقا نجد أنه يذكر على لسان اليسوع قوله: ” إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته، حتى نفسه، فلا يقدر أن يكون تلميذا “، إنجيل لوقا (14/ 25ـ26).

[19] الحواريين هم طائفة صالحة من الرجال آمنوا بالنبي عيسى عليه السلام فكانوا أنصارا وأعوانا له قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وكان ذلك في قرية يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى، أنظر الإمام أبي الفِداء ابن كثير، المرجع السابق، ص 403 ـ 452.

[20] وعليه فإن الإنجيل قد نقله عن النبي عيسى أربعة حُفـََّاظ وهم لوقا و متى و مرقس و يوحنا، وبين كل نسخة من هذه الأناجيل الأربعة تفاوت ونقص كبير، أنظر الإمام أبي الفِداء ابن كثير، المرجع السابق، ص 450.

[21] يقول سبحانه وتعالى في سورة المائدة الآية 110: ﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتُك بروح القدس﴾ ويقول كذلك في سورة مريم الآية 30، 31 ، 32 و33: ﴿ قال إني عبدُ الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا ◊ وجعلني مباركاً أين ما كنت و أوصاني بالصلاة والزكاة ما دُمتُ حيا ◊ وبرَّ بِوالِدَتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا◊ والسلامُ عليَّ يومَ وُلِدت ويومَ أمُوتُ ويومَ أُبعثُ حيًّا﴾ وفي سورة التحريم الآية 12: ﴿ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا﴾.

[22] سفر التكوين الإصحاح الأول: 27.

[23] سفر التكوين الإصحاح الخامس: 2.

[24] للمزيد من المعلومات، أنظر، محمد فراس هيثم السعودي، المرأة بين الفسق والإيمان، أطروحة دكتوراه، بإشراف الأستاذ الدكتور مصطفى سعيد الخن، جامعة الجنان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم الدراسات الإسلامية، طرابلس لبنان، نيسان/ابريل 2005، ص 13-34.

ـ الدكتورة زينب السبكي التطور التاريخي لجهاد المرأة في سبيل نيل حقوقها السياسية، المجلس النسائي اللبناني، المرأة في القوانين العربية في ضوء الاتفاقيات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، دراسات وتوصيات الحلقة الدراسية المنعقدة في بيروت ما بين 27 و31 أيار/ مايو 1974، الطبعة الأولى، بيروت أيار/ مايو 1975، ص 425.

[25] سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر: 6.

[26] سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر:1.

[27] سفر التكوين الإصحاح الأول: 28.

[28] د. عمر صدوق، المرجع السابق، ص 9.

[29] أنظر سفر التثنية.

[30] أنظر نص كلمة قداسة البابا شنوده الثالث: ما هي وجهة نظر المسيحية بخصوص موضوع حرية الأديان، في لقاء الحوار المسيحي – الإسلامي في الدوحة بتاريخ 27 حزيران 2004: ؟ عن شبكة الانترنت: http://st-takla.org/pub_oldtest/05_deut.html

[31] Voir le pontificat de Jean 23 période du Vatican II, document officiel de l’église: l’encyclique Pacem in Terris 1963.
[32] د. محمد الصادق عفيفي، المرجع السابق، ص 17.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت