قوانين التحكيم والسيادة الوطنية
بعد عصر العولمة دخلت نظرية سيادة الدولة معترك البحث الفقهي القانوني بشكل جديد ؛ حيث اتجه كثير من فقهاء القانون إلى نقد نظرية السيادة المطلقة للدولة ، وذلك بناءً على قوة سلطان المنظمات الدولية ، وتحول العلاقات بين الدول من الصراع لأجل البقاء إلى التعاون لأجل البقاء ، وتأثر المجتمعات بالثورة التقنية المصاحبة للعولمة ، رافق ذلك كله تحول التوجه القانوني من نظرية السيادة المطلقة للدولة إلى سيادة دولة القانون الملتزمة بالأحكام والقواعد التي يحددها القانون الدولي .

ولاشك أن التطبيق العملي لهذا المفهوم يختلف من دولة إلى أخرى ، فالدولة الأضعف تتعرض للضغوط من قبل المؤسسات والمنظمات الدولية ؛ بل ومن قبل الدول الكبرى للتخلي عن حجم أكبر من سيادتها على أراضيها لمصلحة سيادة مبادئ القانون الدولي ، بينما تظل الدول الكبرى والدول الأقوى والمتماسكة صامدة في الحفاظ على سيادتها أمام طوفان العولمة القانونية .

ومع هذه الحقيقة فإنه لا يصح أن نتصور أن العلاقة بين القانون الدولي وبين مبدأ سيادة الدولة هي الصراع ؛ بل الحقيقة أنهما في حالة تبادل مصالح ، حيث إن القانون الدولي يمنح الدولة السيادة على أراضيها ، ويحمي هذه السيادة من تدخل الغير ، كما أن الدولة بصفتها عضواً في المجتمع الدولي تقوم بدورها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين ، وتشارك الدول الأعضاء في المجتمع الدولي في تقديم الحماية والدعم للقانون الدولي ، فالعلاقة بين سيادة الدولة وبين القانون الدولي هي علاقة تبادل مصالح وليست تضاد مصالح كما قد يفهم ذلك بعض الباحثين .

ويعتبر إنشاء لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (الأونسيترال) عام 1961م هو أبرز وأهم خطوات العمل الأممي للتنسيق والتوحيد التدريجي لقانون التجارة الدولية ، حيث تهدف هذه اللجنة الأممية إلى التنسيق مع الدول لتعديل القوانين الداخلية بما يعزز التجارة الدولية والسعي إلى توحيد المعايير التي يتم على أساسها تشريع القوانين في دول العالم ، وقد تأسست هذه اللجنة من 29 دولة ثم استمرت الزيادة فيها إلى أن وصلت الآن إلى 60 دولة تمثل مختلف دول العالم ، وقد سعت الأونسيترال إلى إصدار مجموعة من الاتفاقيات والقوانين النموذجية والمقبولة عالمياً والتي تهدف إلى تنسيق وتوحيد قوانين التجارة الدولية , ولعل من أبرز هذه الاتفاقيات ما يعرف بقواعد الأونسيترال للتحكيم التي صدرت عام 1976م ، ثم أعيد تنقيحها عام 2010م ، ثم أعيد إصدارها بعد تنقيحها واعتمادها عام 2013م ، ولاشك أن وجود مثل هذه القواعد وتوجه الدول إلى اعتمادها ضمن أنظمتها وقوانينها المحلية جعل هذا النموذج أشبه بالقانون الموحد وكأنما هو جزء من القانون الدولي لا التجاري .

وفيما يتعلق بالسيادة فإن تطبيق قواعد الأونسيترال للتحكيم على القضايا إنما يتم من خلال إصدار قوانين محلية تتفق في مضمونها مع تلك القواعد ، وهو مايشعر الباحث بأن القانون الدولي اقتحم معقلا من أهم معاقل مراكز سيادة الدولة وهو القضاء المدني ، فعلى سبيل المثال تنص قوانين أغلب الدول على نفاذ أحكام القضاء والقوانين فيها على المواطنين والمقيمين في حدود الدولة ، إلا إنه وفقاً لتطبيق قواعد الأونسيترال المعتمدة ضمن القوانين المحلية يمكن استثناء بعض القضايا من خلال التحكيم من سلطة القوانين والأنظمة المحلية باختيار المحكم والقانون الإجرائي أو الموضوعي المطبق على موضع النزاع .

إن هذه المسألة ليست بالهينة أن يمتنع القانون المحلي (السعودي مثلاً) عن فرض سلطانه على نزاع في موضوع عقد وُقِّع داخل حدود المملكة وبين مواطنين سعوديين لمجرد أن المتعاقدين تشارطا على التحكيم واختارا قانوناً أجنبياً (الفرنسي مثلاً ) ليحكم النزاع بينهما ، وبقدر مافي هذا الأمر من المخاطرة بانتقاص السيادة المحلية للدولة ، إلا إنه سيجعلنا أمام مايمكن أن يوصف بـ(تنافس القوانين) الذي قد يصل إلى مرحلة يكون فيها الاختيار بين القوانين كالاختيار بين السلع في المتاجر .

لقد اتجهت القوانين المحلية إلى حماية سيادتها داخل دولها من خلال النص على نقض أو عدم تنفيذ الأحكام الصادرة من المحكمين إذا كانت تخالف القواعد القانونية العامة فيها ، أو ما يسمى بالنظام العام ، مع التزامها بعدم مناقشة موضوع التحكيم الذي يطلب تنفيذه في سلطانها ، وقد تكون هذه السياسة مرحلية ؛ أي أنه ربما يتطور الأمر إلى التزام القوانين المحلية بإمضاء أحكام المحكمين وتنفيذها متى اتفقت مع القانون الاجرائي والموضوعي الذي اختاره طرفا التحكيم بغض النظر عن موافقتها أو مخالفتها للنظام العام في الدولة التي يعرض أمامها النزاع أو يطلب تنفيذ الحكم داخل سلطانها.

إن المطلع على أنظمة التحكيم في العالم العربي يجد أنها تتفق إلى حد كبير جداً مع قواعد الانوستيرال للتحكيم ، وهو مايؤذن بعصر جديد من (عولمة القوانين) ، والذي يوجب على الدول أن تعد للأمر عدته قبل انتهاك خصوصيتها وسياستها باسم التحكيم ، ولو لم نتدارك هذا الأمر لربما أفقنا بعد أن تكون محاكمنا المحلية أشبه ببيوت العنكبوت ، وسنجد أن فروع المحاكم الغربية تضارع أعالي البنايات في العالم العربي والاسلامي ، هذا ما أقوله نصحاً لأمتي والله خير الشاهدين.

إن تعديل القوانين لتشتمل على بطلان اشتراط تحديد قانون موضوعي غير القانون المحلي ، وبطلان النص على أن تكون لغة التحكيم غير العربية عند إحالتها للتحكيم للفصل في الخصومات لكل عقد يكون مكان إنشائه أو مكان تنفيذه داخل المملكة سيكون له أثرٌ إيجابيٌ في حمايتنا من تغول القوانين الأجنبية في مجتمعنا ، كما أن العناية بتطوير العمل القضائي في الدول العربية والإسلامية وإتاحة الخيار للخصوم بالحفاظ على سرية النزاع في حال وجدت أسباب حقيقية لذلك ، كل ذلك سيعزز من سيادة القوانين المحلية على حساب القوانين العالمية .

وإذا لم نتمكن من ذلك فلا أقل من أن تتجه مراكز التحكيم إلى تعزيز التحكيم الإسلامي العربي ودعمه بتوفير الخبراء والمتخصصين فيه ، ونشر البحوث والدراسات في مواضيعه المختلفة ، كما لا يفوتني أن أؤكد على ضرورة إنشاء مراكز للتحكيم الإسلامي في أوروبا وأمريكا يكون لها دور في استقبال الخصومات والفصل فيها وفق أحكام الشريعة الإسلامية ، وهو أمر ليس بالهين لكن ليس بالمستحيل .

وكتبه : د. سليمان بن صالح الخميس

إعادة نشر بواسطة محاماة نت