بعدم الاعتداد بقرار رئيس هيئة قضايا الدولة رقم 2 لسنة 2000.

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة 4 أغسطس سنة 2001م.

برئاسة السيد المستشار / محمد ولي الدين جلال رئيس المحكمة

وعضوية السادة المستشارين : حمدي محمد علي وعبد الرحمن نصير وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور ومحمد عبد القادر عبدالله.

وحضور السيد المستشار / سعيد مرعي عمرو رئيس هيئة المفوضين

وحضور السيد / ناصر إمام محمد حسن أمين السر

أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 5 لسنة 22 قضائية “منازعة تنفيذ” .

الإجراءات

بتاريخ الخامس من أغسطس سنة 2000، أودع المدعى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، صحيفة الدعوى الماثلة طالباً الحكم بوقف تنفيذ قرار رئيس هيئة قضايا الدولة رقم 2 لسنة 2000 فيما تضمنه من إلغاء قراره رقم 1 لسنة 2000 بوقف انعقاد جلسات لجنة التأديب والتظلمات بالهيئة للنظر في الطلبات المقدمة من أعضاء الهيئة الحاليين والسابقين وذلك لحين صدور التشريع المنفذ لحكم المحكمة الدستورية العليا، وفي الموضوع بعدم الاعتداد بالقرار رقم 2 لسنة 2000 المشار إليه، والاستمرار في تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في القضية رقم 193 لسنة 19 قضائية “دستورية”، وما يترتب على ذلك من آثار.

وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت في ختامها الحكم أصلياً بعدم اختصاص المحكمة ولائياً بنظر الدعوى واحتياطياً بعدم قبولها.

وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.

ونظرت الدعوى بجلسة 12 مارس سنة 2001، وفيها قررت المحكمة- تطبيقاً للمادة 27 من قانونها – إعادتها إلى هيئة المفوضين لتحضير المسألة الدستورية التي أثارتها طلبات المدعى بشأن مخالفة المادة 25 من قانون هيئة قضايا الدولة – بعد تعديلها بالقانون رقم 88 لسنة 1998- للدستور.

وأودعت هيئة المفوضين تقريراً تكميلياً برأيها.

وأعيد نظر الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.

المحكمة

بعد الإطلاع على الأوراق، والمداولة .

حيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن هذه المحكمة كانت قد أصدرت بجلستها المعقودة بتاريخ السادس من مايو سنة2000 حكمها في القضية المقيدة بجدولها برقم 193 لسنة 19 قضائية “دستورية” قاضياً بعدم دستورية نص المادة (25) من قانون هيئة قضايا الدولة الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 75 لسنة 1963 فيما تضمنه من إسناد الفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية المتعلقة بشئون أعضاء هيئة قضايا الدولة وطلبات التعويض المترتبة عليها للجنة التأديب والتظلمات، وعلى أثر صدور ذلك الحكم وفي 8/5/2000أصدر رئيس تلك الهيئة القرار رقم 1 لسنة 2000 الذي نص في مادته الأولى على وقف انعقاد جلسات لجنة التأديب والتظلمات المحددة لنظر الطلبات المقدمة من أعضاء الهيئة الحاليين والسابقين لحين صدور التشريع المنفذ لحكم المحكمة الدستورية العليا المشار إليه، وفي مادته الثانية على استمرار اللجنة في نظر الدعاوى التأديبية.

ثم أعقب ذلك صدور قرار رئيس هيئة قضايا الدولة رقم 2 لسنة 2000 ناصاً على إلغاء قراره السابق رقم 1 لسنة 2000؛ ومن جهة أخرى كان المدعى قد أقام أمام محكمة القضاء الإداري الدعوى رقم 11135 لسنة 54 قضائية طعناً على قرار تخطيه في الترقية. كما أخطرته أمانة اللجنة المشار إليها للحضور أمامها في 18/9/2000 لنظر تظلمه رقم 295 لسنة 1999؛ وأبدى المدعى أن قرار رئيس هيئة قضايا الدولة رقم 2 لسنة 2000 يشكل عقبة تعوق تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر في الدعوى رقم 193 لسنة19 قضائية “دستورية” المشار إليه، ومن ثم فقد أقام دعواه الماثلة ابتغاء القضاء له بطلباته سالفة الذكر.

وحيث إن هيئة قضايا الدولة دفعت بعدم اختصاص هذه المحكمة بالفصل في الدعوى الراهنة، تأسيساً على أمرين،

أولهما: أن القرار المطعون فيه لا يعتبر عملاً تشريعياً مما تمتد إليه الرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة في شأن الشرعية الدستورية،

وثانيهما: أن إعمال أثر الحكم بعدم الدستورية هو مما تختص به محكمة الموضوع ولا تمتد إليه ولاية المحكمة الدستورية العليا.

وحيث إن هذا الدفع مردود بأن الدعوى الماثلة ليست – في أصلها – طعناً بعدم الدستورية، وبالتالي فلا محل فيها للتفرقة بين العمل التشريعي وغيره، وإنما أقيمت باعتبارها منازعة تنفيذ في حكم أصدرته المحكمة في دعوى دستورية، ومن ثم فإن ما تثيره هذه الدعوى هو مدى توافر الشروط المتطلبة في منازعات التنفيذ التي تختص بها المحكمة الدستورية العليا طبقاً للمادة 50 من قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979.

وحيث إن هيئة قضايا الدولة قد دفعت أيضاً بعدم قبول الدعوى تأسيساً على انتفاء مصلحة رافعها بمقولة أنه يشترط لقبول دعوى منازعة التنفيذ أن تعود على رافعها منفعة يقرها القانون ويرتبط ذلك بمصلحته في الدعوى الموضوعية التي أثيرت منازعة التنفيذ بمناسبتها والتي يؤثر الحكم فيها على الحكم في الدعوى الموضوعية، وأن المدعى لم يكن طرفاً في الدعوى الدستورية المطلوب الاستمرار في تنفيذ الحكم الصادر فيها بل رفض تدخله فيها،

كما لم يرفع أي دعوى يتطلب الفصل فيها البت في منازعة التنفيذ الماثلة، وهذا الدفع بدوره مردود بأن المدعى يستهدف من دعواه ألا تفصل لجنة التأديب والتظلمات في طعنه على قرار تخطيه في الترقية لينعقد الفصل في ذلك الطعن للمحكمة المختصة – على ضوء قضاء المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن – مما يوفر له مصلحة في إقامة الدعوى الماثلة؛ ومن جهة أخرى فليس ثمة تلازم بين منازعة التنفيذ وبين دعوى موضوعية حتى يقال أن تلك المنازعة قد ثارت بمناسبتها، فهذا الربط بين الأمرين ليس إلا خلطاً بين منازعات التنفيذ والدعاوى الدستورية.

وحيث إن قوام منازعة التنفيذ التي تختص هذه المحكمة وحدها بالفصل فيها وفقاً للمادة 50 من قانونها – وعلى ما جرى عليه قضاؤها- أن تعترض تنفيذ أحد أحكامها عوائق تحول قانوناً – بمضمونها أو أبعادها –دون اكتمال مداه وتعطل بالتالي أو تقيد اتصال حلقاته وتضاممها بما يعرقل جريان آثاره بتمامها أو يحد من مداها، ومن ثم تكون هذه العوائق هي محل دعوى منازعة التنفيذ التي تستهدف إنهاء الآثار القانونية الناشئة عنها أو المترتبة عليها، وهو ما لا يتسنى إلا بإسقاط مسبباتها وإعدام وجودها حتى يتم تنفيذ الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة تنفيذاً مستكملاً لمضمونه ومداه ضامناً لفاعليته وإنفاذ فحواه.

وحيث إن منازعات التنفيذ تتعدد صورها وتتنوع تطبيقاتها وإن كان جميعها أنها تطرح عوائق التنفيذ سواء كانت معطلة له أو مقيدة مداه، ويندرج ضمن هذه المنازعات أن يتبنى المشرع بتشريع جديد ذات أحكام نص تشريعي سبق لهذه المحكمة القضاء بعدم دستوريته أو أن تستمر السلطة التنفيذية في إعمال حكم نص تشريعي سبق للمحكمة – استناداً للأحكام الموضوعية في الدستور – إبطال نص مطابق له في النطاق عينه وموجه للمخاطبين به أنفسهم بحجة أنه نص جديد مستترة في ذلك وراء فكرة استقلال النصوص القانونية؛ إذ لا يعدو أن يكون ذلك تحايلاً على أحكام الشرعية الدستورية، ومن ثم يعتبر هذا التشريع الجديد أو ما يصدر من قرارات تنفيذاً له عقبة من عقبات التنفيذ، ويجوز لهذه المحكمة عندئذ أن تعمل ما خولته إياها المادة 27 من قانونها من التصدي لدستورية النص الجديد الذي عرض لها بمناسبة نظرها منازعة التنفيذ المطروحة عليها لاتصاله بها، وذلك بعد إتباع الإجراءات المقررة لتحضير الدعوى الدستورية.

وحيث إن هذه المحكمة سبق أن أصدرت المحكمة الدستورية العليا بجلسة 6/5/2000 حكمها في الدعوى رقم 193 لسنة 19 قضائية “دستورية” الذي قضى في منطوقه بعدم دستورية نص المادة (25) من قانون هيئة قضايا الدولة الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 75 لسنة 1963 فيما تضمنه من إسناد الفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية المتعلقة بشئون أعضاء هيئة قضايا الدولة وطلبات التعويض المترتبة عليها للجنة التأديب والتظلمات، فبادر رئيس الهيئة المدعى عليها بإصدار القرار رقم 1 لسنة 2000 بتاريخ 8/5/2000- مشيراً في ديباجته إلى الحكم آنف الذكر- متضمناً وقف انعقاد جلسات لجنة التأديب والتظلمات فيما يتعلق بنظر الطلبات المقدمة من أعضاء الهيئة وذلك لحين صدور التشريع المنفذ لذلك الحكم،بيد أنه جرى النكوص عن ذلك بالقرار رقم 2 لسنة 2000 الصادر بتاريخ 18/6/2000 الذي ألغى القرار رقم 1 سالف الذكر، ومن ثم استمرت اللجنة المذكورة في نظر طلبات إلغاء القرارات الإدارية المتعلقة بشئون أعضاء تلك الهيئة وطلبات التعويض المترتبة عليها.

وحيث إن الإشارة في ديباجة القرار رقم 2 لسنة 2000 سالف البيان إلى القانون رقم 88 لسنة 1998 الذي تضمن تعديل نص المادة25 من قانون هيئة قضايا الدولة الصادر بالقرار بالقانون رقم 75 لسنة 1963، بمقولة أنه استبقى ذات الحكم المتضمن اختصاص لجنة التأديب والتظلمات بالفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بشئون أعضائها وطلبات التعويض عنها، لا تنهض مبرراً يسوغ إصداره وذلك بعد أن اتضح لتلك الهيئة بجلاء أن هذا الحكم الذي قرره مجدداً القانون رقم 88 لسنة 1998 قد انتظمه نص سابق ظاهر البطلان قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريته وهو نص المادة 25 المشار إليها قبل تعديلها بالقانون رقم 88 لسنة 1998،

وما كان للهيئة أن تعود لتتبنى ذلك النص وتستند إليه بعد أن كانت قد هجرته في قرار سابق، خاصة وأن حكم المحكمة الدستورية العليا سالف الذكر قد أورد في أسبابه المكملة لمنطوقه صراحة أن لجنة التأديب والتظلمات ظلت تجمع بين اختصاصاتها سالفة الذكر – ومن بينها إلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بشئون أعضاء الهيئة وطلبات التعويض عنها – بل أضاف إليها القانون 10 لسنة 1986 ومن بعده القانون 88 لسنة 1998 المعدلان لقانون هذه الهيئة طائفة أخرى من المنازعات هي تلك المتعلقة بالمرتبات والمكافآت والمعاشات الخاصة بأعضاء الهيئة أو بورثتهم، ومن ثم يكون القرار الجديد رقم 2 لسنة 2000 الصادر من رئيس الهيئة، عقبة أمام تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا السالف الإشارة إليه بحيث يجوز لكل من أضير من إعماله في حقه أن يتقدم إلى هذه المحكمة طالباً إزالة هذه العقبة.

وحيث إن المادة 25 من قانون هيئة قضايا الدولة معدلاً بالقانون رقم 88 لسنة1998 تنص على أن “تشكل لجنة التأديب والتظلمات من رئيس الهيئة أو من يحل محله رئيساً، ومن عشرة أعضاء بحسب ترتيبهم في الأقدمية من بين نواب الرئيس والوكلاء والمستشارين.

وتختص هذه اللجنة – دون غيرها – بالفصل في الدعاوى التأديبية الخاصة بأعضاء الهيئة، وفي طلبات إلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بشئونهم وطلبات التعويض عنها، وتفصل كذلك دون غيرها في كافة المنازعات الخاصة بمرتباتهم ومكافآتهم ومعاشاتهم المستحقة لهم أو للمستحقتين عنهم.

وتفصل اللجنة في الدعاوى والطلبات والتظلمات المقدمة إليها بعد سماع أقوال العضو أو المستحقين عنه، والإطلاع على ما يبدونه من ملاحظات.

وتصدر اللجنة قراراتها في الدعاوى التأديبية بأغلبية ثلثي أعضائها، وفي غيرها بالأغلبية المطلقة لأعضائها.

ولا يجوز أن يكون عضواً باللجنة من طلب إقامة الدعوى التأديبية، أو شارك في إجراءات التحقيق أو أبدى رأياً أو أصدر القرار المطعون فيه أو المتظلم منه أو المطالب بالتعويض عنه.

ويكون قرار اللجنة نهائياً غير قابل للطعن بأي وجه من أوجه الطعن”.

وحيث إن الدستور خصص الفصل الرابع من الباب الخامس للسلطة القضائية، فنص في المادة 165 على أن “السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون”، وفي المادة 167 على أن “يحدد القانون الهيئات القضائية واختصاصاتها وينظم طريقة تشكيلها ويبين شروط وإجراءات تعيين أعضائها ونقلهم”، وفي المادة 172 على أن “مجلس الدولة هيئة قضائية مستقلة، ويختص بالفصل في المنازعات الإدارية وفي الدعاوى التأديبية، ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى”، وفي المادة 173 على أن “يقوم على شئون الهيئات القضائية مجلس أعلى يرأسه رئيس الجمهورية. ويحدد القانون طريقة تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه، ويؤخذ رأيه في مشروعات القوانين التي تنظم شئون الهيئات القضائية” فدل بذلك على مفارقته – في الاصطلاح – بين السلطة القضائية من جهة، وبين الهيئات القضائية من جهة أخرى، والهيئات ذات الاختصاص القضائي من جهة ثالثة. فالأولى: هي إحدى سلطات الدول الثلاث، وتقوم على ولاية القضاء، وتستقل بشئون العدالة، في مقابلة السلطتين التشريعية والتنفيذية .

وأما الثانية فجامعها أنها هيئات تسهم في سير العدالة، ويقوم على شئونها المشتركة، وينسق بينها مجلس أعلى يرأسه رئيس الدولة، وقد فوض الدستور المشرع في بيان طريقة تشكيله واختصاصاته بما لا يخل باستقلال هذه الهيئات، ولا يتعارض واختصاصات مجالسها الخاصة، فضلاً عن لزوم أخذ رأيه في مشروعات القوانين المنظمة لشئونها، وطبقاً لقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 82 لسنة 1969، يضم هذا المجلس في عضويته رئيس المحكمة الدستورية العليا، ورئيس محكمة النقض، ورئيس مجلس الدولة، ورئيس هيئة قضايا الدولة، ورئيس هيئة النيابة الإدارية. وأما الثالثة: فهي الهيئات التي خولها المشرع ولاية الفصل في خصومات محددة حصراً، بأحكام تصدرها بعد إتباع الإجراءات القضائية، وفي إطار من ضمانات التقاضى، فهي جهات – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – ذات اختصاص قضائي استثنائي.

ومؤدى ما تقدم، أن هيئة قضايا الدولة تعد هيئة قضائية؛ وأن لجنة التأديب والتظلمات المنصوص عليها في المادة 25 من قانونها هي هيئة ذات اختصاص قضائي،تفصل في الدعاوى التأديبية المتعلقة بأعضاء هيئة قضايا الدولة، بما لا مخالفة فيه لأحكام الدستور.

وحيث إن البين من قوانين الهيئات القضائية المختلفة، أن المشرع- بعد أن جمع الدستور بينها في إطار مجلس أعلى واحد يقوم على شئونها، ويتولى التنسيق بينها – وضع لأعضائها قواعد موحدة تنتظم شئونهم الوظيفية، وحصنهم بضمانة عدم القابلية للعزل، كما حظر عليهم الاشتغال بالعمل السياسي بكافة صوره، مساوياً بذلك بينهم في الحقوق والواجبات؛ ونظم مساءلتهم تأديبياً على نحو يكفل للخصومة التأديبية – في مجال العمل القضائي- خصوصيتها ودقائقها التي ينافيها أن يطرح أمرها على غير أهلها، لتظل خفاياها وراء جدران مغلقة فلا يهتك سترها، فعهد بولاية التأديب إلى “مجلس” أو “لجنة” خاصة مشكلة من أعضاء يمثلون من الهيئة التي ينتمون إليها أعلى مواقعها، توكيداً لأولويتهم في مجال البصر بأمورها، وضماناً لاستقلالها بشئون أعضائها؛ وتقديراً بأن الدستور لا يحول- وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – دون أن يعهد المشرع بالفصل في الدعوى التأديبية- في مجال العمل القضائي- إلى هيئة ذات اختصاص قضائي.

وحيث إنه في مقام المنازعات الإدارية المتعلقة بشئون أعضاء هيئة قضايا الدولة؛ وعلى الأخض منها طلبات الإلغاء والتعويض، فقد كان قانونها الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 75 لسنة 1963 المشار إليه قد استحدث لجنة التأديب والتظلمات، واختصها – فضلاً عن تأديب أعضاء تلك الهيئة – بالفصل بقرارات قضائية نهائية في طلبات إلغاء القرارات الإدارية المتعلقة بشئونهم، وفي طلبات التعويض المترتبة عليها،

وقد استمد هذا النظام في جوهره مما كان متبعاً بالنسبة لأعضاء مجلس الدولة، وهو ما دعا المحكمة العليا أن تقضي في الدعوى رقم 21 لسنة 6 قضائية دستورية برفض المطاعن الدستورية الموجهة إلى نص المادة 25 من قانون تلك الهيئة – في أصل شرعته – بيد أن مسيرة التشريع لم تتوقف عند هذا الحد بالنسبة للاختصاص بالمنازعات الإدارية المتعلقة بشئون أعضاء مجلس الدولة – الذين قيس عليهم أعضاء هيئة قضايا الدولة عند صدور قانونها سالف الذكر – ولا بالنسبة لأعضاء هيئة النيابة الإدارية، فقد صدر القانون رقم 50 لسنة 1973 الذي تناول بالتعديل نص المادة 104 من قانون مجلس الدولة بحيث أصبحت تقضي بأن تختص إحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا دون غيرها بالفصل في الطلبات التي يقدمها أعضاء مجلس الدولة بإلغاء القرارات الإدارية المتعلقة بأي شأن من شئونهم وفي طلبات التعويض عنها؛ وبمثل هذا جرى نص المادة 40 (مكرراً -1) من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 117 لسنة 1958 بإعادة تنظيم النيابة الإدارية والمحاكمات التأديبية بعد تعديله بالقانون رقم 12 لسنة 1989. أما قانون السلطة القضائية فقد عهدت المادة 83 منه- معدلة بالقانون رقم 35 لسنة 1984- بهذا الاختصاص في شأن رجال القضاء وأعضاء النيابة العامة إلى دوائر المواد المدنية والتجارية بمحكمة النقض وقد دلت هذه القوانين جميعها؛

على أن رد هذا الاختصاص إلى المحاكم ، يمثل ضمانة لازمة لأعضاء تلك الهيئات عند نظر طلبات الإلغاء والتعويض المتعلقة بشئونهم؛ مما لا مدعاة معه للجمع بين الاختصاص بالدعاوى التأديبية، والمنازعات الإدارية في صعيد واحد ولا كذلك الحال بالنسبة للجنة التأديب والتظلمات بهيئة قضايا الدولة، فقد ظلت تجمع بين اختصاصاتها سالفة الذكر بل أضاف إليها القانون رقم 10 لسنة 1986، ومن بعده القانون رقم 88 لسنة 1998- المعدلان لقانون هذه الهيئة – طائفة أخرى من المنازعات هي تلك المتعلقة بالمرتبات والمكافآت والمعاشات الخاصة بأعضاء الهيئة أو بورثتهم والبين من مضبطة الجلسة السادسة والسبعين من دور الانعقاد العادي الثالث لمجلس الشعب المعقودة بتاريخ 3 من مايو سنة 1998 أن أحد أعضاء المجلس كان قد تقدم – عند مناقشة مشروع القانون رقم 88 لسنة 1998 المشار إليه – باقتراح بمشروع قانون بتعديل قانون هيئة قضايا الدولة ليصبح على غرار قانون النيابة الإدارية سواء في شأن الاختصاص بالدعاوى التأديبية أو بالمنازعات الإدارية المتعلقة بشئون أعضاء هيئة قضايا الدولة؛ إلا أن هذا الاقتراح لم يحظ بالأغلبية اللازمة لإقراره.

وحيث إن تنظيم الحقوق منوط بالمشرع، وكان استعماله لسلطته في هذا الشأن رخصة يباشرها، كلما اقتضاها الصالح العام، وفي الوقت الذي يراه مناسباً؛ إلا أن تدخله يغدو لازماً إذا ما دعاه الدستور إلى تنظيم حق من الحقوق، كما هو الحال بالنسبة لحق التقاضي، فإن أدى مسلكه إلى الإخلال بهذا الحق، كان ذلك مخالفاً للدستور.

وحيث إن مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون رددته الدساتير المصرية جميعها، بحسبانه ركيزة أساسية للحقوق والحريات على اختلافها، وأساساً للعدل والسلام الاجتماعي، غايته صون الحقوق والحريات في مواجهة صور التمييز التي تنال منها، أو تقيد ممارستها، وباعتباره وسيلة لتقرير الحماية المتكافئة للحقوق جميعها؛ إلا أن مجال إعماله لا يقتصر على ما كفله الدستور من حريات وحقوق وواجبات ، بل يمتد – فوق ذلك- إلى تلك التي يقررها التشريع – وإذا كان صور التمييز المجافية للدستور يتعذر حصرها؛ إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التي كفلها الدستور أو القانون، سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها، بما يحول دون مباشرتها على قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين قانونا للانتفاع بها.

وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة، أن مناط دستورية أي تنظيم تشريعي ألا تنفصل نصوصه أو تتخلف عن أهدافها؛ ومن ثم، فإذا قام التماثل في المراكز القانونية التي تنتظم بعض فئات المواطنين، وتساووا بالتالي في العناصر التي تكونها،استوجب ذلك وحده القاعدة القانونية التي ينبغي أن تنتظمهم، ولازم ذلك، أن المشرع عليه أن يتدخل دوماً بأدواته لتحقيق المساواة بين ذوي المراكز القانونية المتماثلة، أو لمداركة ما فاته في هذا الشأن.

وحيث إن المادة 65 من الدستور تنص على أن “تخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات” وكان الدستور قد أكد في المادة 165 أن المحاكم هي التي تتولى السلطة القضائية، فإذا ما قدر المشرع ملاءمة إسناد الفصل في بعض الخصومات استثناءً إلى إحدى الهيئات ذات الاختصاص القضائي، فإن سلطته في هذا الشأن تكون مقيدة بعدم الخروج على نصوص الدستور، وعلى الأخص تلك التي تضمنتها المواد 40، 68 ، 165، 172، بل يتعين عليه التأليف بينها في مجموعها،وبما يحول دون تناقضها فيما بينها أو تهادمها؛

ومن ثم فلا يجوز إيلاء سلطة القضاء في منازعات معينة إلى غير قاضيها الطبيعي إلا في أحوال استثنائية تكون الضرورة في صورتها الملجئة في مدخلها، وصلتها بالمصلحة العامة- في أوثق روابطها- مقطوعاً بها، ومبرراتها الحتمية لا شبهة فيها؛ وهذه العناصر جميعها ليست بمنأى عن الرقابة القضائية لهذه المحكمة، بل تخضع لتقييمها بما لا يُخرج نص أي من المادتين 68 و 172 من الدستور عن أغراضها التفافاً حولها، بل يكون لمضمونها مجاله الطبيعي الذي حرص المشرع الدستوري على عدم جواز إهداره، ذلك أن ما يقرره الدستور في المادة 167 لا يجوز اتخاذه موطئاً لاستنزاف اختصاص المحاكم أو التهوين من تخصيص الدستور بعضها بمنازعات بذواتها باعتبارها قاضيها الطبيعي وصاحبة الولاية العامة بالفصل فيها.

وحيث إن قانون هيئة قضايا الدولة- بتعديلاته – وإن عهد بطلبات الإلغاء والتعويض إلى لجنة التأديب والتظلمات، بحسبانها هيئة ذات اختصاص قضائي، إلا أن المشرع وقد قدر بنفسه – على ما اتضح من مسلكه إزاء تحديد الاختصاص بنظر المنازعات الإدارية المتعلقة بأعضاء الهيئات القضائية الأخرى- أن المحاكم وحدها هي الأقدر على الفصل في هذا النوع من المنازعات بالنظر إلى طبيعتها، وعلى ضوء مختلف العناصر التي تلابسها عادة، لكي ينال أعضاء هذه الهيئات الترضية القضائية إنصافاً؛ فإن إفراده أعضاء هيئة قضايا الدولة وحدهم بالإبقاء على اختصاص اللجنة المشار إليها في هذا الشأن، يعد إخلالاً بمبدأ المساواة في مجال حق التقاضي رغم توافر مناط إعماله، مكرساً بذلك تمييزاً غير مبرر بينهم وبين أعضاء الهيئات القضائية الأخرى في هذا المجال، معطلاً مبدأ خضوع الدولة للقانون، ومن ثم فإنه بذلك يكون قد خالف أحكام المواد 40، 65، 68، 165، 172 من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة :

أولاً: بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 25 من قانون هيئة قضايا الدولة الصادر بالقرار بالقانون رقم 75 لسنة 1963 معدلاً بالقانون رقم 88 لسنة 1998 فيما تضمنه من اختصاص لجنة التأديب والتظلمات بالهيئة بالفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بشئون أعضاء الهيئة وطلبات التعويض عنها.

ثانياً: بعدم الاعتداد بقرار رئيس هيئة قضايا الدولة رقم 2 لسنة 2000.