يراد بحالة الضرورة، ان يجد الإنسان نفسه في ظروف تهدده بخطر لا سبيل الى تلافيه إلا بارتكاب جريمة (1). والجريمة التي تقع في هذه الحالة تسمى (جريمة الضرورة DELIT BECESSAIRE. كم يرتكب فعلا فاضحا مخلا بالحياء بالظهور في الطريق العام عاريا بسبب حصول حريق في منزله واضطراره الى الخروج على هذه الحالة، وكمن نجا من ركاب السفينة الغارقة وهو متشبث بقطعة خشب طافية في البحر لا تسمح الا بحمله، فيما لو ابعد النار في مبنى فيندفع شخص الى الفرار فيصيب طفلا بجراح او يقتله، او ان يقضي الطبيب على الجنين انقاذ لحياة الام في ولادة عسرة. والغالب في حالة الضرورة انها ليست ثمرة عمل الإنسان، وانما هي وليدة قوى الطبيعة او اذا كانت من عمل إنسان فهي ليست بفضل حمل شخص على ارتكاب فعل إجرامي معين، وانما يتعين على من يهدده الخطر ان يتصور الوسيلة الى تفاديه مستوحيا الظروف المحيطة به. وحالة الضرورة قديمة قدم القانون الجنائي، فقد اعترف بها القانون الروماني والشريعة الإسلامية وكذلك القانون الجرماني ثم انتقلت بعد ذلك الى فرنسا حيث عبر عنها بالقول (الضرورة لا يحكمها قانون، NECESSITEN APASDE LOI.

وتتفق حالة الضرورة مع الاكراه المعنوي، ان الجاني لا يجد سبيلا للخلاص من الشر المحدق به الا بسلوك سبيل الجريمة وتختلف عنه في ان في الاكراه يهدد الجاني بالشر من قبل المكره لحمله على سلوكه الجريمة فيسلكه خوفا من التهدد، اما في حالة الضرورة فانه يسلكه من نفسه بغير ان يقصد احد إلجاءه إليه. ولذلك قالوا ان حرية الاختيار تضيق عند الاكراه المعنوي اكثر مما تضيق في حالة الضرورة لأن من يصدر عنه الاكراه يعين لمن يخضع له طريقا محددا كي يسلكه، اما من يوجد في حالة الضرورة فعليه ان يتصور طريق الخلاص منها. وقد تتعدد الطرق امامه، ويستطيع ان يختار من بينها. وقد تتسع حالة الضرورة لصور لا يتحقق فيها الجرح والتاثير في إرادة الشخص، وذلك فيما لو كان الخطر غير محدق بالشخص نفسه او يهمه أمرهم، كمن يسكر أبواب منزل اشتعلت فيه النيرات لتخليص ساكنيه المحاصرين، والطبيب الذي يقتل الجنين في ولادة عسر لانقاذ حياة والدته وطالب الطب في قرية ليس بها أطباء يجري عملية جراحية عاجلة لانقاذ حياة مريض. ان الشخص هنا لم يتصرف في الواقع تحت تأثير ضغط معين على ارادته، وانما على أساس تغليب مصلحة على مصلحة أخرى.

الطبيعة القانونية لحالة الضرورة :-

ان من المسلم به في التشريع الجنائي الحديث بصفة عامة هو اعفاء الجاني من العقاب في حالة الضرورة. غير ان المذاهب اختلفت في تكييف هذا الإعفاء واساسه الفقهي :-

فهناك من يبحث عن علة الإعفاء في الشخص الجاني وارادته، ولذلك هم يعتبرون حالة الضرورة مانعا من موانع المسؤولية تأسيسا على ان الإرادة هنا معيبة الى حد ما لوقوعها تحت مؤثرات خارجية من شانها ان تدفع بها للسلوك المكون للجريمة (2). وهناك من يبحث عن علة الإعفاء في الفعل المرتكب تحت ضغط الضرورة، ولذلك هم يعتبرون حالة الضرورة سبب أسباب التبرير (الإباحة)، وقالوا لأنها تجمع مقومات الإباحة، ذلك ان الضرورة انما تتسع لصور لا يتحقق فيها التأثير على حرية الاختيار، ويكون ذلك اذا كان الخطر غير محدق بالشخص نفسه، او بمن يهمه أمره كتدخل طبيب لإجهاض حامل انقاذ لحياتها، وكمن يتلف باب منزل مشتعل لتنجية من تحصرهم النيران، ثم ان الضرورة تقوم على أساس تضحية مصلحة في سبيل صيانة مصلحة أخرى ت علو عليها او تتساوى معها في قيمتها وهو نفس أساس الإباحة، واخيرا فان من ناحية العدالة لا يكفي عدم ترتيب مسؤولية جنائية، وانما يلزم لذلك عدم ترتيب مسؤولية مدنية، وهذا لا يتأتى الا اذا كان الفعل مبررا أي مباحا (3). وفي رأينا ان ما ذهبت إليه الجماعة الثانية، هو الأقرب الى المنطق القانوني السليم مما يترتب عليه ان حالة الضرورة هي اقرب الى أسباب الإباحة منها الى موانع المسؤولية. وهو الراي المعول عليه في فرنسا بل في الفقه الجنائي الحديث (4).

حالة الضرورة في قانون العقوبات العراقي :

تكلم قانون العقوبات العراقي عن حالة الضرورة في المادة 63 منه قائلا : (لا يسأل جزائيا من ارتكب جريمة التجأته إليها ضرورة وقاية نفسه أو غيره او ماله او مال غيره من خطر جسيم محدق لم يتسبب هو فيه عمدا ولم يكن في قدرته منعه بوسيلة أخرى وبشرط ان يكون الفعل المكون للجريمة متناسبا والخطر المراد اتقاؤه ولا يعتبر في حالة ضرورة من اوجب القانون عليه مواجهة ذلك الخطر). من دراسة هذه المادة يظهر لنا انها تضمنت امرين اساسين في حالة الضرورة هما :

(أولا) بيان طبيعتها و(ثانياً) بيان شروطها :- فبالنسبة للطبيعة القانونية لحالة الضرورة في قانون العقوبات العراقي نجد ان هذا القانون قد تبنى رأي الجماعة الأولى القائلة بان حالة الضرورة هي مانع من موانع المسؤولية. ودليلنا على ذلك هو أولا : – ان المادة 63 آنفة الذكر صدرت بعبارة (لا يسال جزائيا…) مما يعني انه اعتبرها مانعا من موانع المسؤولية ولو أراد ان يعتبرها سبب اباحة لصدر المادة بقول (لا جريمة) أو (لا يعد الفعل جريمة)

(وثانيا) انه وضع هذه المادة في مجموعة المواد التي تتكلم عن موانع المسؤولية والتي جاءت في الفصل الأول من الباب الرابع تحت عنوان (المسؤولية الجنائية وموانعها) بينما جاءت المواد التي تتكلم عن أسباب الإباحة في الفصل الرابع من الباب الثالث تحت عنوان : (أسباب الإباحة)(5). اما بالنسبة الى شروط تحقيق حالة الضرورة فقد جاءت المادة 63 محددة لها بالشروط التالية :

أ – وجود خطر جسيم : يشترط لتحقيق حالة الضرورة ان يكون صاحب هذه الحالة قد حل به خطر جسيم وبسببه ارتكب الجريمة. ولم يعرف القانون الخطر الجسيم إنما ترك ذلك للقضاء يحدد في كل قضية ضمن نطاق ظروفها مراعيا في ذلك سن الفاعل وحالته الصحية والعقلية. ويعرفه رجال الفقه بانه الخطر الذي من شانه ان يحدث ضررا لا يمكن جبره او لا ينجبر الا بتضحيات كبيرة (6). والحق ان هذا الشرط منطقيا، لان الجريمة التي ترتكب في حالة الضرورة توجه الى شخص بريء فليس الشأن فيها كالحالة بالنسبة الى الدفاع الشرعي حيث يوجه الدفاع نحو شخص معتدي ولذلك لا يشترط القانون للدفاع ان تكون الجريمة فيه على درجة من الجسامة. والحق ان أي اذى يكون بليغا يكفي لتحقيق حالة الضرورة. ويدخل في ذلك الخطر الذي يهدد بجروح شديدة ولو لم يخش منها الموت او تلف الاعضاء او نحو ذلك. فالخطر الجسيم متحقق اذا اقتنع الطبيب ان حياة الام الحامل في خطر، اذا لم يبادر الى التضحية بالجنين، وكذلك اذا اقتنع طالب الطب في قرية نائية ان عدم اجراء العملية في الحال سيؤدي بحياة المريض فأجراها. مما يترتب عليه ان الخطر اليسير لا يكفي لقيام حالة الضرورة. فلا قيام لحالة الضرورة اذا دعي من خالف انظمة البناء وزاد الطوابق على الحد المقرر بحجة وجود أزمة سكن (7).

ب- ان يكون الخطر حالا (محدق) :- ويشترط لتحقق حالة الضرورة ان يكون الخطر المؤدي الى ارتكاب الفعل المكون للجريمة حالا. ويعد الخطر حالا اذا كان الاعتداء المهدد به على وشك الوقوع او كان الاعتداء قد بدأ ولكن لم ينته بعد. ويعد الخطر غير حال اذا كان الاعتداء المهدد به مستقبلا، او كان الاعتداء قد تحقق بالفعل وانتهى، وفي الحالتين لا يحقق حالة الضرورة، لأنه في الحالة الأولى للمهدد به فسحة من الوقت يستطيع خلالها ان يتدبر وسيلة للخلاص منه دون ان يكون مضطرا لارتكاب جريمة، كما ان من المحتمل ان لا يقع، وفي الحالة الثانية لا موجب الى التفتيش عن وسائل دفعه لانه قد وقع وتم وقوعه فما عاد يقبل دفعا، وانما قد يقبل اصلاحا وهذا امر لا علاقة لحالة الضرورة به. وهكذا يظهر ان صفة الحلول في الخطر هي العلة التي من أجلها رفعت المسؤولية الجنائية. ومعيار تحقق هذه الصفة ان يكون السير العادي للأمور مهددا، على نحو اليقين او الاحتمال بان يتحول الوضع الذي يواجهه المتهم الى مساس فعلي يحق له ما لم يرتكب فورا الفعل الذي من شأنه دفع هذا الخطر. والاصل ان يكون الخطر جديا، فالخطر الوهمي لا يصلح اساسا لحالة الضرورة. ولكن ذلك ليس لازما بصفة مطلقة. فقد يكون الخطر وهميا ومع ذلك يعتد به وذلك فيما اذا كان لدى الشخص من الأسباب الجدية، بحسب الظروف والملابسات التي كان فيها، ما يدعوه الى الاعتقاد بمحلول خطر (8).

جـ – ان يكون الخطر مهددا النفس او المال : جعل قانون العقوبات العراقي الخطر الجسيم الحال محققا لحالة الضرورة، وبالتالي منتجا لمانع المسؤولية سواء اصاب هذا الخطر النفس او المال للشخص ذاته او لغيره، وهو بذلك سوى بين الخطر الذي يصيب النفس والخطر الذي يصيب المال في هذا المجال. وهذا هو نفس الطريق الذي سلكته غالبية قوانين العقوبات العربية. (9) فقد جاءت هذه تنص على ان الخطر الجسيم الحال يحقق حالة الضرورة سواء اصاب النفس او المال. وقد شذ عن ذلك كل من قانون العقوبات المصري وقانون العقوبات الليبي اذ نص كل منهما على قصر هذه الحالة على الخطر الذي يصيب النفس فقط (10). اما الفقه فقد ذهب بين مؤيد لهذا المسلك او مؤيد لذاك، فقال من يؤيد مسلك القانون المصري، ان قصر الخطر الحال الذي يحقق قيام حالة الضرورة، على الخطر الذي يصيب النفس فقط دون المال، وهو ما يميز بين حالة الخطر في الدفاع الشرعي وحالته في الضرورة اذ انه في حالة الدفاع الشراعي يشمل الخطر الواقع عن النفس وكذلك الخطر الواقع على المال اما في حالة الضرورة فهو لا يشمل الا الصورة الأولى من الخطر. وهذا الأمر لازم ولابد منه للاختلاف البين والكبير بين حالة الدفاع الشرعي وحالة الضرورة، وهو اننا في حالة الدفاع الشرعي إنما نواجه بالجريمة شخصا معتديا لأن الدفاع الشرعي إنما يكون لصد عدوان يعد جريمة، اما في حالة الضرورة فليس هناك عدوان إنما الفعل يقع على بريء الأمر الذي يتطلب قصرها في حدود وقاية النفس (11). وقال من يعارض المسلك المتقدم، ان المذهب الشارع المصري في استبعاد حالة الضرورة حيث يهدد الخطر المال محل للنقد، خاصة اذا كان الفعل المرتكب للوقاية من هذا الخطر قد اصابه بدوره المال أيضاً. كمن يلقي بجزء من حمولة سفينة مشرفة على الغرق كي ينقذ سائر حمولتها، او من يجد النار مشتعلة في أشجار مملوكة له او لغيره فيستولي على ماء للغير ليطفئها به، وذلك ان رؤية خطر يهدد مالا واستطاعة دفعة عن طريق اهدار مال اخر يقل عنه قيمة او يساويه من شانه ان يؤثر على الإرادة فيوجهها الى الفعل الذي من شأنه درء هذا الخطر. مما يعني توافر العلة التي يقوم عليها مانع المسؤولية في حالة الضرورة. وقد سلك نفس هذا المسلك الفقه الفرنسي، عندما جاء ليحدد شروط حالة الضرورة، حيث جاء قانون العقوبات الفرنسي خاليا من نص يحدد هذه الشروط فيجعلها تشمل حالة الخطر الذي يصيب النفس وكذلك الخطر الذي يصيب المال (12). والحل ان مسلك قانون العقوبات العراقي في اعتقادنا هو الأقرب للصواب والمنطق القانوني السليم، اذ لابد في اعتقادنا من ان تشمل حالة الضرورة حالة الخطر الجسيم الذي يصيب المال بالإضافة الى الذي يصيب النفس. ويراد بالخطر الذي يصيب (النفس) هنا، هو الخطر الذي يصيب مجموعة الحقوق المتصلة بالنفس كحق الحياة وحق سلامة الجسم وحق الحرية وحماية العرض والشرف والاعتبار، أي ان يكون للفضة (النفس) هنا نفس مدلولها الواسع في حالة الدفاع الشرعي (13).

ويراد بالخطر الذي يصيب المال، هو الخطر الذي يصيب مطلق المال، سواء أكان عقارا او منقولا لا قيميا او مثليا. ولا يشترط ان يكون الخطر مهددا لنفس الجاني او ماله حتى تتحقق حالة الضرورة، انما تتحقق أيضاً فيما لو هدد الخطر شخصا آخر في نفسه او ماله. والى ذلك أشارت المادة 63 صراحة حيث قالت (…. وقاية نفسه او غيره او ماله او مال غيره من خطر جسيم محدق..) مما يترتب عليه ان حالة الضرورة تحقق وتنتج مانع المسؤولية بالنسبة لمرتكب الفعل المحرم فيما لو ارتكبه لدرء خطر جسيم حال على نفسه او نفس غيره او مال ه او مال غيره مع توافر بقية شروط حالة الضرورة. ويرى بعض الكتاب تقييد ذلك بان يكون هذا الغير من اقارب الجاني او اعزائه كي تتحقق حالة الضرورة، وبالتالي مانع المسؤولية، وهم يؤيدون رايهم هذا بقولهم اننا لو سلمنا يتحقق حالة الضرورة حتى ولو كان الخطر مهددا لأي إنسان لا تربطه به رابطة فان ذلك يؤدي الى ان تنقلب حالة الضرورة الى سبب اباحة علما بأنه من المقرر ان حالة الضرورة من الأسباب الشخصية المانعة من المسؤولية (14). نحن لا نؤيد هذا الراي، لانه يقول بتخصيص النص من غير مخصص يستندون إليه فالنص عام مطلق وبالتالي يسري على كل حالة خطر على النفس او المال للفاعل او لغيره مهما كانت صفة هذا الغير وصلته بالفاعل، بل اكثر من ذلك ان الأخذ بالراي المتقدم قد يؤدي الى نتائج غير مقبولة، وبالتالي يفوت الغرض الذي من أجله وضع النص الخاص بحالة الضرورة. وعلى هذا تتحقق حالة الضرورة وبالتالي لا يسال جنائيا من يرتكب جريمة لوقاية نفس غيره حتى ولو لم تربطه بهذا الغير آية صلة او معرفة. فلا مسؤولية على من يجد في طريقه منزلا يحترق فيكسر ابوابه لتنجية من فيه من السكان، ولا على الطبيب الذي يضحي بالجنين لانقاذ حياة الوالدة عند تعسر الوضع. ويخرج من معنى الخطر هنا ما يكون منه مشروعا بان يكون مأمورا به، كحالة المحكوم بإعدامه، فمن يساعده على الهرب لا يجوز ان يدفع بحالة الضرورة، او يكون الموجه إليه ملزما قانونيا بمواجهته، كحالة الجندي في الحرب، فلا يجو له ان يدفع مسؤوليته عن الفرار من الميدان بحالة الضرورة. والواقع ان هذا القيد مفهوم بداهة من غير حاجة للنص عليه، ومع ذلك فقد نصت بعض القوانين عليه صراحة، فقد جاءت المادة (63) عقوبات عراقي مارة الذكر تقول : (.. ولا يعتبر في حالة ضرورة من اوجب القانون عليه مواجهة ذلك الخطر).

د – الا يكون لارادة الشخص دخل في حلول الخطر : – فلا محل لان يعفى الشخص من مسؤولية الجريمة التي ارتكبها تحت ضغط خطر ما اذا كان هذا الشخص هو السبب في نشوء هذا الخطر. ذلك انه ليس من المنطق ان يرتكب الإنسان امرا محرما ثم يقارف جريمة في سبيل النجاة مما احدثه بيده فيما لو احاط به خطر بسبب ذلك. وتفصيل علة ذلك هي ان الانتقاص من حرية الاختيار في هذه الحالة، يفترض ان المتهم قد فوجئ بحلول الخطر فلم يكن في الفترة بين علمه به واضطراره الى ارتكاب الفعل الذي درأه به (أي الجريمة) فسحة من الوقت تمكنه من التفكير في اتيان فعل سواه لا يمس حقوق غيره (أي غير جريمة). اما اذا كانت إرادة المتهم قد اتجهت الى تحقيق الوضع المهدد بالخطر، فمعنى ذلك انه توقع حلوله، وبالتالي كان في استطاعته ان يتدبر وسيلة التخلص منه على نحو لا يمس حقوق غيره، فان لم يتدبر ذلك وارتكب الفعل الماس بحقول الغير (أي الجريمة) فلا وجه لادعائه بان ارادته لم تكن حرة حين ارتكبه، وبالتالي لا وجه لتمتعه بحالة الضرورة المانعة من المسؤولية الجنائية. وعلى ذلك لا وجود لحالة الضرورة وبالتالي لا تمتنع المسؤولية الجنائية عن الجاني في حالة ما اذا اغرض شخص سفينة ثم اضطر في سبيل انقاذ نفسه الى قتل شخص زاحمه وسيلة النجاة وحالة ما اذا احرق شخص عمدا مكانا ثم اضطر في سبيل الفرار من النيران التي داهمته الى اصابة شخص اعترض طريقه (15). وقد نص قانون العقوبات العراقي على هذا الشرط صراحة، كالغالبية القوانين الجنائية الحديثة، حيث قال (….. لم يتسبب هو فيه عمدا …)(16). ويترتب على ذلك أنه اذا لم يكن لإرادة الجاني دخل في حلول الخطر، انما نشأ هذا الخطر بسبب خطأ غير عمدي، كحالة اهمال او عدم تبصر او عدم احتياط او غيره ففي راينا ان هذا الخطر يحقق حالة الضرورة وبالتالي يعفي الجاني من المسؤولية الجنائية عن الفعل الذي يرتكبه (أي الجريمة) لدرء هذا الخطر لانه لم يكن لإرادة الجاني دخل في حلوله. فمن يرمي عقب سيجارة في مكان خطأ فيؤدي ذلك الى احراق المكان فتداهم النيران من فنية ومنهم الجاني فيرتكب فعلا يؤدي الى جرح شخص آخر بسبب تخليص نفسه من الموت حرقا لا يسأل عن هذا الفعل بل اكثر من ذلك نرى ان حالة الضرورة متحققة حتى في حالة الخطأ المصحوب بالتوقع ما دام العمد غير متحقق، فمن يجري تجربة علمية كان يتوقع منها حدوث خطر فيتخذ الخطر رغم ذلك فيرتكب عملا يعد جريمة لدرء هذا الخطر عن نفسه فانه يكون في حالة ضرورة وتمنع عنه المسؤولية، لان النص واضح في هذا الأمر (17). ومن باب اولى تتحقق حالة الضرورة، فيما لو تسبب المتهم في حلول الخطر ولكن يفعل مشروع، أي لا ينطوي على الذنب او الخطأ في أي صورة من صوره، كما لو تقدم مستحم على شاطئ البحر لانقاذ شخص اوشك على الغرق فلما تشبث به هذا الخير وصار يذبحه الى اسفل حتى اصبح الموت غرقا يتهدد المنقذ نفسه ضربه هذا في مقتل فقضى عليه ونجا بنفسه. ولا يشترط ان يكون الخطر حقيقا حالة الضرورة، فهي تتحقق حتى ولو كان الخطر وهميا أي اعتقد المتهم قيامه فراتكب الفعل الذي أراد ان يداره به ثم تبين انه لا وجود له في الحقيقة والواقع، ذلك لان حالة الضرورة إنما تعتمد على أسس نفسي مردها الى التأثير على الإرادة وهذا التأثير انما يقع في حالة الخطر الوهمي كما هو في حالة الخطر الحقيقي. ومع ذلك فانه يجب في حالة الخطر الوهمي، ان يكون الاعتقاد به مستندا الى أسباب معقولة كي تنتفي المسؤولية، وألا يُسأل المتهم مسؤولية غير عمدية إن كان القانون يعاقب عن فعله كجريمة غير عمدية (18).

هـ – الا يكون في استطاعة الشخص دفع الخطر بطريقة أخرى : ان علة امتناع المسؤولية عن الفعل الجرمي الذي يرتكبه الجاني لدفع الخطر في حالة الضرورة هو عدم استطاعته دفع الخطر بفعل غيره ولذلك التجأ إليه مضطرا مما يترتب عليه ان حالة الاضطرار لا يكون له محل اذا كان بالإمكان دفع الخطر بفعل آخر غيره، سواء كان هذا الفعل من الأفعال المباحة او كان فعلا يشكل جريمة أخف. ومن هنا جاء هذا الأمر كشرط لتحقق حالة الضرورة وقد نصت عليه كثير من التشريعات الجنائية الحديثة ومنها قانون العقوبات العراقي حيث جاءت المادة 63 آنفة الذكر تنص بأنه (…. ولم يكن في قدرته منعه بوسيلة أخرى..) فكون الفعل الجرمي المرتكب هو الوسيلة الوحيدة لدفع الخطر والتخلص منه اذن شرط ضروري لمنع المسؤولية بالنسبة لهذا الفعل المرتكب، وخلافه لا وجود لحالة الضرورة ولا قيام لمانع المسؤولية لإمكان الالتجاء الى الأفعال الأخرى لرد الخطر لعدم وجود الاضطرار فمن كان يستطيع التخلص من الخطر عن طريق الهرب يسال اذا ارتكب عملا اخر اهدر به حق غيره في سبيل التخلص من هذا ومن يهدد خطر حريق اشتعل في مسرح فيقتل من اعترض سبيل فراره عن طريق بابه الرئيس ويثبت علمه باستطاعته النجاة عن طريق باب خلفي يكون مسئولا عن القتل، لانه كان باستطاعته في المثالين المتقدمين دفع الخطر دون الالتجاء الى الجريمة. ومن كان في قارب اوشك على الغرق لثقل حمولته وكان به بضائع واشخاص فرمى بعض الأشخاص في اليم ليخفف حمولة القارب ويتفادى الغرق يسال لانه دفع الخطر بالجريمة الاشد وهي القتل غرقا وكان عليه ان يلجأ الى الجريمة الاخف وهي التخلص من البضائع أولا (19). ولا أهمية لكون الجاني قد نجح في تفادي الخطر او لم ينجح ما دام ما فعله كان من شأنه تفادي الخطر، وانه كان السبيل الاوفق لدفعه. اما تقدير ما اذا كان الجاني يستطيع تفادي الخطر بوسيلة أخرى غير الجريمة، او بجريمة اخف من الجريمة التي ارتكبها أولا يستطيع ذلك فانه امر تقوده محكمة الموضوع مراعية حالة الجاني الشخصية وظروفه وقت الجريمة (20). واذا كان الفعل ليس من شأنه دفع الخطر والتخلص منه فانه لا تمتنع المسؤولية بالنسبة له حتى وان ارتكب بمناسبة الخطر لعدم تحقق العلة فيه وهي انتقاص حرية الاختيار. فاذا اشتعلت النار فيث بناء فقتل احد المهددين بالحريق الشخص الذي أشعلها ليس له ان يدفع بامتناع مسؤوليته اذ ليس من شان هذا الفعل الخلاص من خطر الموت حرقا. هل يشترط اتجاه إرادة المتهم الى التخلص من الخطر؟ من يتتبع نص المادة 63 من قانون العقوبات العراقي يجد ان هذا الشرط ضروري لقيام حالة لضرورة فقد جاءت هذه المادة تقول : (لا يسأل جزائيا من ارتكب جريمة الجأته اليها ضرورة وقاية نفسه…) مما يعني ان التخلص من الخطر هو الدافع الى ارتكاب الفعل الجرمي وبالتالي فان إرادة الجاني من التجأت الى الجريمة الا للتخلص من هذا الخطر، اذن فاتجاه إرادة الجني الى التخلص من الخطر امر ضروري لتحقق حالة الضرورة وبدونه لا تتحقق مما يترتب عليه انه اذا اتجهت إرادة المتهم الى امر اخر كالانتقام من شخص فلا يصدق عليها وصف الاضطرار ولا تتحقق بها حالة الضرورة. فمن يرى عدوه ينافس شخصا في التعلق بقطعة طافية من الخشب كي يستعين بها على التخلص من الغرق فيبعد عنها عدوه بدافع الانتقام فيغرق لا يستطيع الدفع بامتناع المسؤولية بسبب حالة الضرورة، ولو ترتب على فعله انقاذ الشخص الآخر. ولكن اذا أراد المتهم دفع الخطر واراد في الوقت نفسه غرضا آخر كان له الاحتجاج بحالة الضرورة، لان الإرادة هنا اتجهت الى دفع الخطر ورده وهذا كاف للقول بانتقاص حريتها في الاختيار. وأخيراً فان اشترط اتجاه إرادة المتهم الى التخلص من الخطر لا يعني ان تكون متجهة كذلك الى المساس بحق معين كوسيلة لدرء هذا الخطر اذ لا تلازم بين الامرين فقد تتجه الإرادة الى التخلص من الخطر عن طريق فعل لا يمس حقا (أي فعل مباح) ولكن تيسر الأمور على غير ما كان متوقعا فيصيب الفعل حقا. كما لو اشتعلت النار فحاول شخص النجاة بنفسه فأصاب غير متعمد شخصا اعترض طريقه فجرحه.

و- ان يكون الفعل المرتكب متناسبا مع جسامة الخطر :- لقد ورد هذا الشرط واضحا في نص المادة 63 مارة الذكر، حيث جاءت تقول : (بشرط يكون الفعل المكون للجريمة متناسبا والخطر المراد اتقاؤه…) غيرا ن هناك بعض قوانين العقوبات جاءت خالية من ذكره، كقانون العقوبات المصري. ومع ذلك فان الراي الراجح في الفقه هو ان هذا الشرط لازم لتحقق حالة الضرورة سواء ورد ذكره صراحة في النص او لم يرد وحجة هذا الراي ان هذا الشرط مستفادة من اشتراط كون الفعل هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من الخطر (21). ويراد بالتناسب هنا، هو ان يكون الفعل المرتكب اقل الأفعال، التي من شانها درء الخطر والتي كانت في وسع المتهم، من حيث الجسامة وبالتالي فلا محل للبحث في اشتراط المساواة او التقارب بين جسامة الخطر وجسامة الفعل (22)، ذلك ان ظروف الضرورة وقد تحتم تفاوتا في هذه الجسامة. فمن استطاع درء خطر عن طريق فعل يهدد المال يسال اذا درأه عن طريق فعل يؤذي النفس ومن استطاع درأ خطر عن طريق فعل يهدد نفسا واحدة يسال اذا درأه عن طريق فعل يؤذي نفوسا عديدة. فاذا كان ربان السفينة يستطيع انقاذ ركابها من الغرق اذا ألقى بعض حمولتها من البضائع في البحر، غير انه القى عوضا عن ذلك بعض ركابها يسال عن فعل هذا، ومن هدد آخر بالقتل بان يضع سما في طعام معد لعدد من الأشخاص وكان في وسعه التخلص من الخطر المهدد به بقتل من يهدده، غير انه لم يفعل ذلك بل وضع السم في الطعم مما ادى الى وفاة من اكله يساله عن فعله ايضاً(23). ان توافرت هذه الشروط قامت حالة الضرورة وتحققت، وتحقق تبعا لذلك الاثر المترتب عليها وهو امتناع المسؤولية الجنائية عن الفعل المرتكب، وهو طبعا جريمة لدرء الخطر الحال. والقول بتوافر شروط حالة الضرورة او عدم توافرها أمر من شأن قاضي الموضوع، لانه يتطلب بحثا في وقائع الدعوى وظروفها. ويجوز للقاضي من تلقاء نفسه ان يعتبر حالة الضرورة متوافرة، لان عليه ان يتحقق من توافر جميع اركان الجريمة وشروط المسؤولية عنها قبل ادانة المتهم. كما يجوز ان يبحث في توافر شروطها بناء على طلب من المتهم او وكيله. وعدم مسئولية الجاني جنائياً عن جريمته، بسبب قيام حالة الضرورة لا يمنع من مسؤوليته المدنية عنها. اذ يبقى مسئولاً مدنيا وبالتالي ملزما بتعويض الاضرار التي احدثها فعله (24).

______________________________

1-انظر جارو ج1 ن 358 ص690 – دونديه دينابر، ن 379 ص 218، الدكتور السعيد مصطفى السعيد، المرجع السابق ص417 – الدكتور محمود محمود مصطفى، شرح قانون العقوبات العراقي (القسم العام).

2-المادة 62 عقوبات عراقي : (لا يسال جزائيا من اكرهته على ارتكاب الجريمة قوة مادية او معنوية لم يستطع دفعها) انظر بنفس المعنى المادة 72 من المشروع الموحد.

3-انظر الدكتور محمود محمود مصطفى، أصول قانون العقوبات في الدول العربية ص43.

4-انظر الدكتور حسن صادق المرصفاوي، المرجع السابق ص219 – الدكتور حميد السعدي شرح قانون العقوبات الجديد، الجزء الأول ص351.

5-لقد سلكت بعض قوانين العقوبات العربية، مسلك القانون العراقي فاعتبرت حالة الضرورة من موانع المسؤولية. انظر المادة 61 عقوبات مصري والمادة 25 عقوبات كويتي.

6-وعرفه البعض بانه الخطر الذي يهدد الشخص في حياته او يفقد اعضائه او يفقد حريته انظر زكي العرابي، الاجراءات الجنائية ص96.

7-الدكتور عبد الوهاب حومد، المرجع السابق ص275.

8-انظر الدكتور السعيد مصطفى السعيد، المرجع السابق ص428 – الدكتور محمود نجيب حسني، المرجع السابق ن 673 ص675.

9-انظر المواد 89 عقوبات أردني و228 عقوبات سوري و229 عقوبات لبناني و73 المشروع الموحد و25 جزاء كويتي.

10-انظر المواد 61 عقوبات مصري و 72 عقوبات ليبي.

11-انظر شيرون وبدوي، قانون العقوبات المصري ن 12 ص296.

12-انظر فيدال ومانيول ج1 ن211.

13-ويرى الدكتور القللي، استبعاد الخطر الذي يهدد السمعة والشرف من الانطواء تحت مصطلح (النفس) في هذه الحالة ويقول : (ان الفتاة التي تحمل سفاحا لا تعفى من العقاب ان هي قتلت طفلها او اجهضت نفسها خوفا من العار) الدكتور محمد مصطفى القللي، المسؤولية الجنائية ص414 نحن لا نؤيد هذا الراي لان ليس لها التخصيص من سند في نص القانون. فقد جاء البغي مطلقا والمطلق يجري على اطلاقه كما ليس له من سند في العلة من امتناع المسؤولية في حالة الضرورة. اما المثال الذي قدم لتأييد هذا الراي ففي اعتقادنا ان سبب عدم تمنع الفتاة بمانع المسؤولية هنا قد يرجع الى ان لإرادتها دخل في حصول هذا الخطر او الى ان باستطاعتها درء هذا الخطر بغير قتل الطفل او الاجهاض حيث ان الخطر ليس حالا بل مستقبلا. ويترتب على ذلك ان من يكسر صندوقاً ويأخذ منه رداء ليستر عورة امرأة خرجت عارية من منزلها الذي داهتمته النيران يكون في حالة ضرورة.

14-انظر زكي العرابي ص96.

15-وقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه (ليس للإنسان ان يرتكب امرا محرما ثم يقارف جريمة في سبيل النجاة مما أحدثه بيديه فاذا قدم المتهم رشوة ليتخلص من جريمة الاخفاء التي ارتكبها فليس له ان يحتج بحالة ضرورة التجاته الى دفع الرشوة تخلصا من خطر القبض عليه. نقض مصري 13 مارس 1961 مجموعة أحكام النقض س12 ن63 ص330.

16-وقد نص على هذا الشرط قانون العقوبات الايطالي (مادة 54) والقانون السويسري مادة (34) والقانون السوفياتي (131).

17-ويرى الدكتور محمد مصطفى القللي عدم تحقق حالة الضرورة في حالة ما اذا كان الفعل مصحوبا بخطأ مع التبصر – المرجع السابق ص418 وفي فرنسا يرى جمهور الفقهاء انه لا يشترط تجرد نشوء الخطر من خطأ الفاعل ولكن القضاء الفرنسي لا يرى مذهب الفقه. اما القانون الألماني فقد نص صراحة في المادة (54)، وهي التي تتكلم عن حالة الضرورة، اشتراط ان يكون الوضع المهدد بالخطر غير مصحوب بخطأ الفاعل. انظر دونديه ديغابرن 387 ص225 – كذلك انظر تمييز فرنسي 25 حزيران 1958 (دالوز – 1958 – 693).

18-ويرى الدكتور محمد مصطفى القللي، ان الخطر الموهوم لا يكفي لقيام حالة الضرورة المرجع السابق ص417.

19-انظر فيدال ومانيول ج1 . ن227 ص377 – الدكتور محمود محمود مصطفى ن 325 – ص372.

20-انظر شيرون وبدوي، المرجع السابق، ن17 ص297 – احمد صفوت، شرح قانون العقوبات القسم العام ن 146 ص206.

21-ويتطلب الفقه الالماني اشتراط التناسب هذا رغم عدم النص عليه في القانون، ما يميل الى تطلبه بعض الفقهاء في فرنسا. دونديه ويفار برن 337 ص225.

22-ويرى بعض الكتاب انالمراد بالتناسب هو الا تكون الجريمة المرتكبة لتوقي الخطر اشد جسامة من الخطر. انظر الدكتور حسن صادق المرصفاوي، المرجع السابق ص224. الدكتور عبدالوهاب حومد، المرجع السابق ص227. وهو ما لا نؤيده فمن يجد ابنه ينازع الغرق فيثبت بخشبة ثم يزاحمه عليها ثلاثة فيبعدهم عنها ويسلمها له هو حالة ضرورة.

23-انظر الدكتور محمود نجيب حسني، المرجع السابق ن 682 ص681 – الدكتور محمد مصطفى القللي ص419.

24-انظر الدكتور عبدالوهاب حومد ص277.

المؤلف : علي حسين – سلطان عبد القادر الشاوي
الكتاب أو المصدر : المبادئ العامة في قانون العقوبات

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .