بحث قانوني هام عن جريمة السطو على الإيميل من جذور الماضي إلى آفاق المستقبل التشريعية

إعداد
عثمان سعيد المحيشي
ماجستير في القانون العام

قاضي محكمة سرت الابتدائية

الإيميل هو البريد الإلكتروني ، وهو يختلف عن البريد التقليدي الذي لا يعدو كونه ملكاً للغير ومودع أسرار وممتلكات . أما الإيميل ( البريد الإلكتروني ) فهو أكثر من ذلك بكثير ، حيث يمتزج بشخص صاحبه ؛ فعلاوة على أن الاستيلاء عليه يمثل اعتداء على ملك الغير وانتهاكا لحرمة أسراره ، فهو انتحال لشخصيته ، ذلك أن من أخطر النتائج المترتبة على الاعتداء على الإيميل هو أن الجاني يستعمله في مخاطباته ومراسلاته مع الغير باالإ سم الذي يعرف به صاحب الإيميل .

ولكن هل التشريعات الحالية بإمكانها معالجة وضبط هذا النوع من الجرائم المستحدثة ؟ وهل بالإمكان تطويع هذه النصوص لتنبسط على الوقائع المستحدثة؟ وفي حالة إصدار تشريع معاصر لذلك ، فما هي الأسس والجذور القانونية لهذا التشريع ؟ وما هي التدابير الاحترازية للوقاية والتخفيف من مخاطر هذا النوع من الجرائم ؟

في هذه العجالة سوف أقدم محاولة متواضعة لمعالجة ذلك في النقاط الآتية :-

مبحث أول : التكييف القانوني لجريمة السطو على الإيميل في التشريعات التقليدية.

مبحث ثان : الأساس القانوني لتجريم السطو على الإيميل.

مبحث ثالث : إجراءات الضبط الإداري لمكافحة الجريمة .

خاتمة .

آملاً أن يكون هذا الجهد المتواضع خالصاً لوجه الكريم .

المبحث الأول

التكييف القانوني لجريمة السطو على الإيميل في التشريعات التقليدية

إن واقعة الاعتداء على البريد الإلكتروني تشكل العديد من الجرائم المبينة نصاً في قانون العقوبات ؛ وهي تتعدد بتعدد غرض الجاني ( القصد الجنائي ) وسلوكه الإجرامي ، فهو فعل واحد إلا أن الجرائم تتعدد وتتنوع ، سواء كانت لدافع إجرامي واحد أم لدوافع متعددة . فبمجرد وقوع الاختراق تتحقق جريمة انتهاك الحرمة ، فكما لا يجوز الدخول إلى المساكن والسيارات وتفتيش الحقائب ، لا يجوز أيضاً الدخول إلى البريد الإلكتروني، وبما أن هذه الانتهاكات تمثل جرائم يعاقب عليها القانون ؛ فإن اختراق البريد الإلكتروني يمثل جريمة يعاقب عليها القانون . أما إذا استعمل الجاني البريد الإلكتروني وهو خاص بالغير على اعتبار أنه هو صاحبه خصوصا في مخاطباته مع الغير أو توجيه أو استقبال مراسلات عليه فهو يعتبر انتحال للشخصيه , حيث أن الإيميل – كما تقدم ذكره – يرقى ليتمازج مع شخص صاحبه ,إذ أن العلاقات المميزة للبريد إلكتروني عن غيره هي ذاتها التي تميز الشخص الطبيعي في العالم الإلكتروني,إذ يعرف الشخص بمسمي بريده الإلكتروني , ومن ثم يكون الجاني قد استعمل اسم الشخص صاحب البريد الإلكتروني (المجني عليه) وانتحل شخصيته في العالم الإلكتروني , وهذه الجريمة هي ذاتها الجريمة المنصوص عليها في المادة 355 عقوبا ليبي والتي تنص علي : ( يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة كل من ضلل الغير بانتحال شخصية أخرى لتحقيق منفعة لنفسه أو للغير أو لإلحاق ضرر بآخرين ، أو انتحل لنفسه أو لغيره اسماً مزوراً أو صفة كاذبة أو انتحل صفة تترتب عليها آثار قانونية ، كل هذا ما لم يكن الفعل جريمة أشد ضد الثقة العامة ) أما إذا اختلس الجاني أشياء أخرى أو ممتلكات موجودة فإنها إضافة إلي ما ذكر تمثل جريمة سرقة إذا ما اكتملت فيها الأركان , وفي بعض الأحيان لا تقتصر المسؤولية على الجاني بل تتعداه إلى الغير ، وذلك عندما تقع الجريمة من داخل مقهى إنترنت على سبيل المثال ، أو من غير صاحب الخط الخاص ، عندها تكون المسؤولية مسؤولية مركبة ، ليست مقتصرة على الجاني فقط – كما سبق بيانه – ، فإن القانون الذي ينظم نشاط مقاهي الإنترنت هو القانون التجاري ، سواء من حيث ضرورة الالتزام باستصدار ترخيص ، أو من حيث مسك الدفاتر التجارية ، إذ ألزمت المادة من القانون التجاري الليبي – على سبيل المثال – ضرورة مسك دفترين ، أحدهما دفتر الجرد والميزانية ، والآخر دفتر اليومية، وهذا الأخير مهم جداً ، إذ من الأحوال اليومية المتعلقة بمحل الإنترنت تسجيل الزبائن ، وساعة الحضور والانصراف ، وغيرها من البيانات التي تقلل من وقوع الجرائم الإلكترونية وتساعد كثيراً في ضبطها .

وإذا ما التزم صاحب ألنت بهذه الدفاتر فإنه لا يحمل المسؤولية ، فإذا ما حدث جرم مما ذكر ،- إذا لم يقم بذلك – فإن المسؤولية التقصيرية تلحقه ، وهي يترتب عنها إلزامه بالتعويض .

المبحث الثاني

الأساس القانوني لتجريم السطو على الإيميل

هل القواعد القانونية التي تنظم وتضبط جريمة السطو على البريد الإلكتروني من النظام العام ؟

من البديهي أن للنظام العام عناصر ثلاثة ؛الصحة العامة ، والسكينة العامة ، والأمن العام .

كما تنقسم القواعد القانونية من حيث الإلزام ، إلى قواعد آمرة وأخرى مكملة ؛ والقواعد الآمرة ـ وهي التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها ، أما المكملة فهي التي يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها ، والذي يتضح من هذا التعريف الموجز وبالرغم من أنه قصير إلا أنه يبين نتيجة هامة ، وهي أن القواعد الآمرة هي التي تمس كيان المجتمع ولا تقتصر على شخص معين ، بخلاف المكملة التي لا تتعدى الأفراد أطراف العلاقة ، وبتطبيق تلك القواعد التي تنظم جرائم السطو على البريد الإلكتروني سواء في التشريع التقليدي ، أو التشريع المستقبلي , فإنها من القواعد الآمرة لكون هذه الجريمة تمس الأمن العام الذي هو أحد عناصر النظام العام ، وعلى اعتبار أن ذلك يمس المجتمع فهو من القواعد الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها ، ومن ثم فإن هذه القواعد من النظام العام .

– الآثار القانونية المترتبة على اعتبار هذه القواعد من النظام العام :-

تنشأ على هذا التأصيل القانوني الذي سبق توضيحه من أن القواعد التي تنظم جريمة السطو على البريد الإلكتروني من النظام العام – وذلك شأنها شأن القانون الجنائي – عدة آثار ، أهمها :

1- اعتبار هذه القواعد القانونية من القانون العام : وهي أهم النتائج لأن هذه الجريمة تمس الأمن العام الذي هو أحد عناصر النظام العام الذي يرتبط مع القانون العام ارتباطاً شرطياً .

فالقانون العام بخلاف القانون الخاص – الذي ينظم العلاقة التي لا تتجاوز أطراف العلاقات الخاصة للأفراد أو من في حكمهم – ، أما القانون العام فهو الذي ينظم ويضبط العلاقات التي تتصل بالكيان الاجتماعي والتي عادة تتعهد الدولة أو أحد المؤسسات التابعة لها بتطبيقه.

2- إن الدولة هي التي تقوم بإصدار التشريعات اللازمة لحماية الأمن العام بواسطة الأجهزة التشريعية , وتنفيذها عن طريق أجهزتها التنفيذية ، ولها في سبيل تحقيق هذه المصلحة العامة المبتغاة امتياز التنفيذ المباشر باعتبارها ذات سلطة عامة ، سواء قامت بها هي مباشرة أم عهدت بها للغير .

3- إن من أهم امتيازات الدولة والمؤسسات التابعة لها بصدد تطبيق هذا القانون قيامها بمهمة الضبط الإداري للحد من جريمة السطو على البريد الإلكتروني .

والضبط الإداري يعتبر من أهم الوسائل التي يقوم بها رجال السلطة العامة في مكافحة الجريمة ، سواء من حيث التراخيص لمزاولة الأنشطة أو من حيث الإجراءات الإدارية التي ترسمها الإدارة للوقاية من الجريمة أو حصر أماكن وقوعها لسهولة ضبطها ، وهذه القواعد عادة تتواجد في القانون العام ، وقد تتواجد أيضاً في أحكام القانون الخاص ، وهي موجودة حالياً في التشريعات النافذة إلا أنني أهيب بالمشرع لدى الأنظمة العربية والدولية عموماً بإصدار تشريع خاص بذلك وفق آخر التطورات ، والتي سوف يتضح شيء منها فيما يتعلق بالضبط الإداري لجريمة السطو خلال الفقرة الموالية .

المبحث الثالث

اجراءات الضبط الإداري العملية لمكافحة الجريمة

هناك بعض الخطوات العملية التي يجب تطبيقها للحد من هذا النوع من الجرائم ، وهي إما قبل وقوع الجريمة أو بعد حدوثها . والخطوات التي تتخذ للوقاية من وقوع الجريمة تعرف عادة بإجراءات الضبط الإداري .

أما إذا وقعت الجريمة وأصبحت لا مفر منها ، فإنها تنشأ بصددها مسؤوليتان هما ؛الأولى : المسؤولية الجنائية ، والأخرى : المسؤولية المدنية ، ومن شأن هاتين المسؤوليتين أن يقللا من وقوع الجريمة لاحقاً ، وسوف ألقي بعض الضوء على هذه النقاط على النحو الآتي :-

أولاً :- إجراءات الضبط الإداري ( للوقاية من الجريمة ) :

ويكون باتخاذ الإجراءات الإدارية الضبطية ، فعلى سبيل المثال من إصدارالترخيص، أو من حيث تنظيم محال ومقاهي الإنترنت.

1- من حيث إصدار الترخيص :

وذلك بأنّ لا تسمح الجهة المختصة منح الخط الهاتفي إلا بعد تقديم المستندات الدالة على هوية الشخص المتقدم للحصول على الخط ، وبيان أوجه استعماله : سواء من حيث الاستعمال الشخصي , أم للإستعمال التجاري ، وأقصد بالتجاري الاستعمال الجماعي ( مقاهي إنترنت ) , كما يتحمل المرخص له مسؤولية التقصير في المحافظة على حسن الاستعمال.

2- الإجراءات التنظيمية والضبطية لمقاهي الإنترنت :

إن أحكام القانون التجاري ألزمت كل من له محل تجاري أياً كان نوعه بمسك دفترين هما : دفتر اليومية ودفتر الجرد والميزانية ، وهنا تظهر أهمية دفتر اليومية ، وباعتبار أن مقهى الإنترنت محل تجاري ، فإن أهمية مسك هذا الدفتر واضحة ، ولم تكن أهميته في الماضي لدى بقية محال التجارة واضحة وحساسة مثل محال الإنترنت اليوم .

فقد قامت مدينة سرت إثر سطو على إيميل من داخل مقهى إنترنت بتعميم شامل يلزم جميع محال الإنترنت بمسك سجل يحتوي على اسم الزبون ومحل إقامته ورقم هويته وساعة الدخول وساعة الخروج ورقم الجهاز المستعمل .

وهذا الإجراء من شأنه أن يحد من غلواء انتشار السطو وجرائم النت عموماً . وهذا الإجراء الضبطي يجد أساسه في القانون التجاري وبعض قواعد الضبط الإداري في التشريعات النافذة ، إلا أنني أهيب بالمشرع للتدخل التشريعي في تقنين ذلك بنص خاص في قانون الإنترنت .

ثانياً :- ما بعد وقوع الجريمة ( المسؤولية الجنائية والمدنية ) :

1 -المسؤولية الجنائية :

لاشك أن السطو على الإيميل يمثل جريمة يعاقب عليها القانون ، سواء في أحكام التشريعات التقليدية أم تشريعات الإنترنت ، وأهيب بالمشرع إلى إصدارها فإذا ما تبين أن شخصاً ما تم ضبطه في جريمة سطو ، سواء بالإجراءات المذكورة أعلاه أو بأي إثبات آخر ، فإن فعله هذا يحمله المسؤولية الجنائية ، التي يترتب عليها العقاب ، الذي من شأنه أن يرتدع به الجاني ، كما يعتبر به الغيره .

لكن السؤال الذي يطرح نفسه ، هل التشريعات الحالية كافية لذلك ؟

أقول أنه بالرغم من أهمية هذه التشريعات من حيث أنها تمثل الجذور التاريخية لما سيصدر من تشريعات ، كما أنه لا يمكن الاستغناء عنها في الوقت الراهن ، إلا أنها قد شرعت في زمن لم تحدث به هذه التطورات الرهيبةفي عالم الإتصال والمعلومات ، ومن ثم فإن الأمر يتطلب تشريعات تواكب العصر وتساير الزمن.

2- المسؤولية المدنية :

إن الجرم الجنائي يمثل خطأ ، وهذا الخطأ ينشأ عنه ضرر / وبالتالي فإن المسؤولية تكون تكاملت بتوافر عناصرها ( الخطأ والضرر وعلاقة السببية )، وبالتالي فإن كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم مرتكبه بالتعويض ( مادة 166 / مدني ليبي) فيكون من حق المتضرر أن يطالب محدث الضرر بالتعويض .

وهذه هي القواعد العامة للمسؤولية المدنية ، إلا أن الخصوصية التي يمكن إضافتها في الخطأ المترتب على جرائم السطو على البريد الإلكتروني ، تكمن في أمرين هما:-

الأول :- وهو ضرورة مراعاة خطورة السطو وكذا جرائم الإنترنت عموماً في تقدير قيمة التعويض ، إذ أنها ليست من الجرائم العادية ومن ثم فإن الأضرار الناجمة عنها عادة تكون بليغة ، وأرى أن يترك تقدير ذلك لقاضي الموضوع .

الثاني :- يحدث هذا النوع من الجرائم من صاحب الخط وقد يحدث من شخص آخر كما في مقاهي الإنترنت ، فإذا أثبت لنا الدليل الرقمي أن الجرم وقع من الخط ( س ) فإن من صدر باسمه هذا الرقم ومنح له ترخيص لاستعماله يكون هو المسؤول عن ذلك جنائياً ومدنياً ولو حدث من الغير ، ما لم يثبت أنه قام بتنفيذ الإجراءات الضبطية المطلوبة منه .

فإذا أثبت أنه قام بمسك السجل المطلوب – والذي سبق ذكره – فإنه في هذه الحالة تبرأ ساحته ، أما إذا تبين العكس فإنه يسأل عن تقصيره ، ويتحمل المسؤولية كاملة .

وبهذا يكون من شأن المسؤولية المدنية أن تقلل من جرائم السطو حيث تردع الجاني من العود ، وكذلك الغير .

الخاتمة

يستخلص من هذه العجالة النتائج الآتية :-

1- شدة خطورة جريمة السطو على البريد الإلكتروني لتعدد أبعادها فتصل إلى جريمة انتحال الشخصية والابتزاز وكشف أسرار و….. وإلخ .

2- من الممكن معالجة هذا النوع من الجرائم بما هو موجود في التشريعات التقليدية حالياً مثل القانون الجنائي والقانون التجاري والقانون المدني ، وذلك لفترة مؤقتة بصدور تشريع خاص .

3- إن القواعد التي تنظم هذا الحدث هي من قواعد القانون العام .

4- إن القانون العام يمنح جهات الاختصاص اتخاذ إجراءات الضبط الإداري لمنع الجريمة من الوقوع والتي يكون من شأنها التقليل من صعوبة ضبط الجاني .

5- إن المسؤولية الجنائية وكذلك المسؤولية المدنية من شـأنهما ردع الجناة والتقليل من غلواء وقوع هذا النوع من الجرائم .

6- ضرورة إصدار تشريع يواكب التطورات المعاصرة .