بحث ودراسة قانونية عن جريمة التشهير بين الرؤية القانونية التقليدية وتقنيات العصر

إعداد
عثمان سعيد المحيشي
ماجستير في القانون العام

مقدمة

إن جريمة التشهير من الجرائم التي لها الأثر البالغ سلباً على شخص الإنسان فهي من الجرائم الماسة بالشرف وقد عالجتها التشريعات الوضعية بأحكام خاصة سواء من حيث الإثبات أو من حيث العقوبة ، على سبيل المثال أفرد القانون الليبي لهذه الجريمة في الباب الخامس ( الجرائم الماسة بالشرف ) المادة ( 439/1-3 ) عقوبات والتي تتضمن أحكاماً بالإثبات وأخرى بالعقوبة.

إن هذه التشريعات وضعت لمعالجة وقائع محصورة نسبياً في كيان مادي قريب ، سواء وقع هذا التشهير أمام مجموعة أفراد أو في إحدى وسائل الإعلام التقليدية ( ما قبل النت ) والتي يكون فيها التشهير محدوداً إلى حد ما ، كما يسهل فيها الإثبات ويصعب على الجاني الإفلات ، أما بعد ظهور الإنترنت فإن الأمر بات جد خطير، حيث يكون التشهير أمام البلايين كما يصعب فيه الإثبات ويسهل للجاني الإفلات .

وما دفعني للمشاركة بهذه الورقة المتواضعة ، هو أن واقعة عرضت على القضاء الليبي العام الماضي ، أثارت جدلاً بين محكمة البداية ( الجنح ) ومحكمة ثاني درجة ( الجنح المستأنف ) ، وسبب هذا مرجعه قصور التشريع الحالي( التقليدي) في ضبط هذه الوقائع الحديثة ، والتي عادة ما يكون فيها الجاني متميزاً بالذكاء الذي تصعب ملاحقته من قبل من لم يكونوا في مستوى ذكائه ، ومن ثم فإنني سوف أعرض وقائع هذه القضية أولاً، ثم أسباب حكم محكمة البداية ومنطوقة ثانياً ، وأسباب حكم الاستئناف ومنطوقة ثالثاً ، ثم تعليقي على الحكمين رابعاً ، والرأي الذي أطرحه على السادة الحضور لمعالجة الواقعة ً ،وما انتهيت إليه من نتائج واقتراحات في الفقرة خامسا .

آملاً التوفيق والسداد , وأن يكون خالصا لوجهه الكريم.

أولاً / الوقائع :-

1- حضرت المدعية ( المجني عليها ) إلى مركز الشرطة مشتكية ؛ أن المدعو (س) قام بالتشهير بها عبر الإنترنت ؛ بأن قام بتصويرها بنقال كاميرا وإعداد إيميل ( بريد إلكتروني ) باسمها وأودع فيه صورة لها ، بعد أن كتب على الصورة عبارات تشين بسمعتها ، وأفادت أن الذي أخبرها بذلك هو المدعو ( ص ) ،الذي سبق أن شاهدته بنفسها عند التقاط الصورة ، فقد قام ذات مرة بالتقاط صورة منها بواسطة نقال وهي داخل الحرم الجامعي ، مما جعلها تصدق المدعو ( ص ) في قوله .

2- ضبطت الشرطة كل من المدعوين ( س ) و ( ص ) واستجوبتهما ، حيث نفى المدعو ( س ) تهمة التقاط الصورة وتهمة إدخالها في الإنترنت .

3- تبين من خلال الاستجواب أن جهاز النقال الكاميرا لشخص ثالث ، وبضبطه وإحضاره وبضبط الجهاز ، تبين أن الجهاز هو أحد أدوات الجريمة المستعملة في التصوير، حيث ظهرت صورة الفتاة في الشاشة عند مراجعة التخزين وهي الصورة ذاتها المسحوبة من الإنترنت ، كما تبين أن هذا الجهاز هو ملك للشخص الثالث .

4- شهد الشخص الثالث أن الذي استعار منه الجهاز هو المدعو ( ص ) ، وليس المدعو ( س ) ، حيث حضر إليه في مقر عمله ، وطلب منه أن يستبدله جهازه النقال العادي بدون كاميرا بنقال الكاميرا ، وذلك لاحتياج شقيقته الطالبة بكلية الطب لتصوير عملية جراحية سوف يقوم بإجرائها أستاذ زائر .

5- وبعد يومين أعاد إليه النقال وأفاده أن الأستاذ الزائر تعذر حضوره ومن ثم فهو يحتاج إليه مرة أخرى .

6- من خلال التحقيقات سمعت شهادة شخص آخرأفاد أن هذا المدعو ( س ) حضر إليه ليطلب منه نقال كاميرا أو كاميرا ديجيتال ،- وكان قبل أن يتحصل على الجهاز المذكور- إلا أنه رفض طلبه ، وبعد أن تحصل عليه رجع إليه ليعلمه طريقة ضبط المسافات في التصوير عن بعد .

7- رجع المدعو ( ص ) إلى صاحب النقال بعد أيام قليلة ، وأخد منه النقال الكاميرا تاركا له نقاله العادي مرة أخرى لذات السبب ، وبقي عنده لمدة أربعة أيام ، شوهد في اليوم الأخير أنه حضر بالنقال الكاميرا إلى مقهى إنترنت وطلب من مهندس صالة الإنترنت إنزال الصورة التي به في شبكة الإنترنت ، كما قام بسحب صورة الفتاة المكتوب عليها بعض العبارات المشينة من داخل ( إيميل) خاص بالفتاة .

8- لم تتم مشاهدة الصورة من قبل الشاهد ليتم التأكد من أنها هي الصورة موضوع القضية ، كما أن المهندس عند مواجهته بها أفاد أنه لم يكن متأكداً منها ، ولم يعد متذكرا .

9- بمساءلة المدعو ( ص ) عن السبب الذي دفعه للبحث عن هذه الصورة واستخراجها من الإنترنت وإبلاغ المجني عليها بذلك ، قال أنه تربطه بها علاقة خطوبة ، وهو على وعد بالزواج بها .

10- وبمساءلته عن الطريقة التي توصل بها إلى معرفة الصورة وهي داخل إيميل ( بريد إلكتروني ) ، أفاد أنه بحث عنها في النت عشوائياً ، وقد توصل إلى الإيميل بعد يومين ، وأمام النيابة قال بعد أربعة أيام (أي تناقض في الأقوال) .

11- نفت المجني عليها العلاقة التي يدعيها المتهم ( ص ) عند مواجهتهما ، بل قالت إنه تقدم لخطبتها وتم رفضه ، كما وجهت شكوى ضده أمام النيابة العامة من خلال أقوالها بأنه هو وصديقه ( س ) شريكان ، وأنه أراد الإساءة إليها بعد أن تم رفضه لكي لا يتزوجها أحد أو ليساومها بالصورة .

12- كما قامت النيابة العامة بالتحقيق مع مهندس مقهى الإنترنت الذي اتهم بإدخال الصورة في الإيميل والذي أفاد أن المتهم ( ص ) هو الذي أحضر إليه جهاز نقال يطلب نقل صورة منه إلى شبكة الإنترنت ، إلا أنه لم يكن متأكداً من الصورة .

وقد انتهت النيابة العامة في تصرفها إلى اتهام كل من المتهم الأول ( س ) ؛ الذي بلغت عنه المجني عليها أنه قام بتصويرها ، والمتهم ( ص ) ؛ والذي اشتكت فيه مؤخراً ، أنه هو الذي قام بإدخال صورتها في النت صحبة صديقه ( س ) للإساءة إليها ، وباتهام المهندس الذي قام بمساعدة المتهم ( ص ) في عملية إدخال الصورة في النت ، وذلك باتهامهم جميعاً في جريمة التشهير عبر وسائل الإعلام المعاقب عليه بالمادة ( 439/3 ) من قانون العقوبات الليبي وبتقديمهم محبوسين إلى دائرة الجنح والمخالفات .

ثانياً / وجهة نظر محكمة البداية من خلال الأسباب والمنطوق :-

كونت محكمة الجنح قناعتها – من خلال الوقائع المذكورة آنفاً – من أن الفاعل الأصلي لهذه الجريمة هو المتهم ( ص ) ، ذلك أنه وإن لم يوجد دليل ؛ إلا أن القرائن المشار إليها تسلسلت تسلسلاً منطقياً ومن المعروف بداهة أن القرائن عندما تجتمع وتكون قناعة لدى القاضي ترقى لمستوى الدليل ، وهو المعروف بمبدأ تساند الأدلة ، كما أن القاضي الجنائي حر في تكوين عقيدته من خلال هذه القرائن . وأن القرائن المشار إليها جميعها يستنتج منها دليل إدانة المتهم ( ص ) ، بالرغم من أن هناك حلقة مفقودة وهي المرحلة التي تم فيها التقاط صورة الفتاة ، حيث ينفي المتهم ( ص ) أنه قام بالتصوير ، كما يتهم صديقه المتهم ( س ) بأنه أخذ الجهاز منه عنوة وهرب به لمدة ساعات – وهي الفترة التي تم التصوير خلالها – في حين أن المتهم ( س ) ينفي ذلك وينكر أنه قام بالتصوير ، والمحكمة استندت على شهادة المجني عليها في أن الذي قام بالتقاط صورتها هو المتهم ( س ) ، وسواء قام بذلك تحت تأثير المتهم ( ص ) أم من تلقاء نفسه ، فما هي إلا خطوة من خطوات الجريمة كان قد نفذها المتهم ( س ) ، كما قام مهندس مقهى النت بتنفيذ خطوة أخرى ، وهي إنزال الصورة من جهاز النقال إلى شبكة النت ، ومن ثم فهما متهمان أيضاً إلى جانب المتهم ( ص ) ، إلا أنهما أقل خطورة منه وقد تم مراعاة ذلك في تقرير العقوبة.

وحيث أن القرينة الكبرى تقع في آخر تسلسل للقرائن التي كونت قناعة المحكمة في إدانة المتهم ( ص ) هي : أن دخوله للإيميل الذي سحب منه الصورة لا يتأتى إلا بمعرفته لاسم المستخدم ( user name ) وكلمة المرور ( pass word ) ، وبما أن المجني عليها لم يكن لها إيميل ، الأمر الذي يؤكد إدانة المتهم – بالرغم من أن هذا الأمر أثار إشكالية فنية سوف يتم التعرض لها في الفقرة المقبلة ،أقول أن المحكمة انتهت في قضائها إلى إدانة المتهم ( ص ) وبمعاقبته بالحبس لمدة تسعة أشهر ، وكانت قد قررت العقوبة بسنة ،إلا أنها خفضتها ثلاثة أشهر مراعاة لحالته الصحية لأنه مصاب بداء السكري حسب التقرير الطبي ، وبمعاقبة الآخرين بالحبس لمدة ستة أشهر ، وذلك تطبيقاً لنص المادة 439 / 3عقوبات ، والتي نصها ( وإذا حصل التشهير عن طريق الصحف أو غيرها من طريق العلانية أو في وثيقة عمومية تكون العقوبة الحبس الذي لا يقل عن ستة أشهر أو الغرامة التي تتراوح بين العشرين جنيهاً والمائة جنيه ).

إن الذي يبدو ظاهراً ، أن هذا النص من النوع المرن وذلك من عبارة ( أو غيرها من طريق العلانية ) ، ومن ثم فإنه يستوعب عدة صور من صور العلانية ، وللقاضي السلطة التقديرية في ذلك ، ومن ثم فإن محكمة البداية في هذا الموضوع اعتبرت أن إدخال صورة المجني عليها في شبكة الإنترنت والكتابة عليها بعبارة مسيئة لسمعتها تشهيراً ، لأن ذلك حصل عن طريق من طرق العلانية باعتبار أن النت وسيلة إعلان واتصال ، إذ يعرفه البعض بأنه (شبكة الشبكات) ، و قيل أنه (شبكة الطرق السريعة) ، فهو يتكون من عدد الشبكات المتناثرة في العالم .

ومن ثم فإن هذا القضاء يكون قد سلك المسلك القضائي المعمول بها في مصر والبحرين وبعض الدول العربية ، إذ يتمثل هذا المسلك في محاولة تطبيق قواعد القانون الجنائي التقليدي على جرائم الانترنيت ، إذ أن القانون الليبي لم يكن بدعا من القوانين العربية والتي – حسب علمنا – لم تقم بعد بسن تشريعاتها لمعالجة هذا النوع من الجرائم.

وبالتالي فإن هذا القضاء في هذا الحكم قد قام بتطويع أحكام جريمة التشهير في قانون العقوبات التقليدي على جرائم التشهير عبر الانترنيت ، والتي تتفق معها في أركانها الرئيسة مع بعض الاختلافات التي لا تؤثر في كونها جريمة تشهير ، اللهم إلا من حيث خطورتها ، إذ يفترض أن يفرد لها نص خاص وعقوبة أشد ، ومن ثم فإن تطبيق القانون التقليدي ، الذي عادة ينص على عقوبة أخف ، يكون من باب أولى .

ولكن هل يكفي إدخال هذه البيانات في بريد إلكتروني – دون نشرها – لتحقق جريمة التشهير ؟ هذه هي الإشكالية المثارة والتي لم يتناولها القانون التقليدي صراحة ، إذ هي من التطورات التي أحدثها الانترنيت والحاسوب ، وماذا علينا أن نفعل إذا حلت بنا مثل هذه الواقعة ؟ فهل نقف مكتوفي الأيدي ونترك الجناة لا العتاة بل الأذكياء يدبرون مثل هذه الخطط ويعيثون فسادا ؟ وما الذي علينا أن نفعله للمستقبل القريب ؟ إن ذلك هو محور الخلاف في اجتهاد قضاء المحكمتين ؛ فمحكمة البداية تم توضيح حكمها وأسبابه ، كما تم توضيح مسلكها القضائي المقارن ، أما حكم محكمة ثاني درجة فهو الذي سوف يتم التعرض إليه في الفقرة الموالية .

ثالثاً / وجهة نظر محكمة الجنح والمخالفات المستأنفة :-

قد تضمنت أسباب حكم محكمة ثاني درجة اتفاقها مع محكمة أول درجة من حيث ثبوت الفعل من قبل المتهمين ، إلا أن النتيجة التي انتهت إليها اختلفت تمام الاختلاف ، حيث قضت في حكمها ببراءة المتهم ( ص ) وهو الفاعل الأصلي الذي خطط للجريمة من بدايتها ونفذها حتى نهايتها ، وببراءة المهندس الذي قام بتنفيذ جزء

منها ، وبإدانة المتهم ( س ) بتأييد الحكم المستأنف مع تغيير وصف التهمة باعتبار الخطوة التي نفذها وهي التقاط الصورة ( تعرض لأنثى ) .

وقد جاء في أسباب هذا الحكم تعليلاً له ، أن جريمة التشهير عن طريق العلانية لم تتحقق ، باعتبار أن صورة المجني عليها والبيانات المتعلقة بها المشينة لسمعتها أدخلت شبكة الإنترنت وأودعت داخل ( إيميل ) ولم يتم نشرها ، وبالتالي فإن التشهير لم يتحقق ، ولم يتم ، ومن ثم فلا جريمة ، وحيث لجريمة فلا عقوبة.

رابعاً / التعليق على الحكمين :-

يبدو أن هذا الحكم – حكم محكمة ثاني درجة – قد تحفظ في إدانة المتهمين، بالرغم من قناعتها بثبوت ارتكاب الفعل المنسوب إليهما وذلك أخذاً بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ، حيث لا يوجد نص خاص بجرائم التشهير عبر النت ، وأن نصوص قانون العقوبات النافذة (التقليدي) لا تسعفها في معالجة الواقعة، حسب ما يتراءى من أسباب حكمها ، هذا من حيث القانون ، أما من حيث نظرتها للواقع ، فقد كانت نظرة تقليدية ، بأن نظرت إلى ( البريد الإلكتروني ) الإيميل وكأنه صندوق بريد تقليدي عادي ، في مكان محصور محدود بأربعة جدران .

إلا أن هذا التحفظ أدى بها إلى الوصول إلى نتيجة غير منطقية على ما يبدو، حيث انتهت إلى الحكم ببراءة الشخص المدبر للجريمة والمنفذ لها في جميع مراحلها ، وكذلك براءة الفني الذي يتعامل مع النت ، وبإدانة الشخص العادي الذي نفذ خطوة من خطواتها العادية التي يمكن ضبطها بسهولة .

وهنا يبدو الأمر أنه من الخطورة بمكان ، ألا وهو إفلات المجرم الذكي وضبط المجرم العادي ، والأمر الأخطر من ذلك هو عدم تمكن القضاء من وصوله إلى الهدف المنشود وهو تحقيق العدالة سواء من حيث إنصاف المجتمع والمجني عليها من العدوان الواقع من المتهمين ، أو تحقيق العدالة بين المتهمين أنفسهم سواء من حيث الإدانة أو من حيث تقدير العقوبة .

والذي يبدو واضحا ، أن حكم محكمة البداية اقترب من ذلك ، حيث أدان كل المتهمين ، بعد أن ثبتت عليهم الأفعال التي وافق في ثبوتها حكم الاستئناف ، كما قدر العقوبة لكل متهم بقدر ما ارتكب من جرم .

إلا أن هذه المحكمة (محكمة البداية ) كانت جريئة ، وقد يعتبر البعض أنها لم تلتزم بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ، إذ أن نقطة الخلاف بين الحكمين تكمن في مدى اكتمال جريمة التشهير بإيداع البيانات في البريد الإلكتروني في شبكة الإنترنت ، والذي يحدد ذلك هو مدى تمكن الغير من الاطلاع على الإيميل ، فإذا كان بإمكان الغير الاطلاع على هذا البريد الإلكتروني فإن جريمة التشهير تكون متحققة لتوافر عنصر العلانية ، وأما إذا لم يكن بإمكان الغير الاطلاع على ما يحويه الإيميل فإن التشهير لم بكن متوافراً .