بحث قانوني متميز عن الطعن بعدم الدستورية

الفصل الأول

العيـوب الشكليـة

المبحث الأول: ماهية الشكلية الدستورية.

المبحث الثاني: غاية الشكلية والتمييز بين الأشكال الجوهرية وغير الجوهرية.

المبحث الثالث: تعديل الدستور من الناحية الشكلية.

المبحث الأول

ماهية الشكلية الدستورية .

للشكلية في القانون عدة معاني، وفي نطاق الصياغة القانونية تُعرف الشكلية بأنها، الصورة الخارجية التي يظهر بها مضمون القانون. وعلى هذا النحو قد يتخذ المضمون القانوني شكل قاعدة قانونية او معيار قانوني او مبدأ قانوني .

وقد يراد بالشكلية عنصر خارجي يشترط القانون اضافته الى واقعة قانونية حتى تنتج أثارها سواء كان هذا الأثر ترتيب التزام او واجب قانوني او انشاء حق او مركز قانوني او تعديله او انقضاؤه ، كاشتراط نشر القانون في الجريدة الرسمية لنفاذه في مواجهة الكافة ، واشتراط الشكلية في بعض العقود لصحتها .واشتراط الكتابة او النشر بالنسبة لبعض القرارات الإدارية حتى تنتج أثارها .

اما الشكلية الدستورية فيقصد بها مجموعة الاجراءات والأوضاع التي تطلبها الدستور واوجب على سلطة التشريع اتباعها ومراعاتها وهي بصدد سن التشريع .

وتتطلب الدساتير عادة ، ان تمر عملية سن التشريع بسلسلة من الاجراءات الشكلية التي يتعين على سلطة التشريع مراعاتها حتى يكون التشريع دستورياً، ويترتب على عدم مراعاة قواعد الشكل الاجراءات الشكلية ان يولد التشريع باطلا بسبب انه معيب بعيب عدم مراعاة الشكل والاجراءات، ويكون محلا للطعن به أمام المحكمة الدستورية والتي تعرف في العراق بأسم (المحكمة الاتحادية العليا) ،اذا ما تعلق الأمر بمخالفة جوهرية لتلك القواعد والاجراءات .

ومن أمثلة الاجراءات الشكلية التي تتطلبها الدساتير المقارنة بصفة عامة ، تحقق نصاب انعقاد مجلس النواب سواء بالاغلبية المطلقة او الأغلبية البسيطة ، وجهة تقديم مشاريع القوانين او اقتراحها ،وجوب ادراج مشروع القانون في جدول الأعمال قبل مناقشته،والاجراءات الواجب اتباعها لقراءة مشاريع القوانين،والنصاب اللازم للموافقة على سن التشريع وتصديق الجهة المخولة صلاحية التصديق والاصدار،وهي السلطة التنفيذية عادة،وان يصدر التشريع بموافقة الاغلبية البرلمانية التي حددها الدستور.

المبحث الثاني

غاية الشكلية والتمييز بين الأشكال والاجراءات الجوهرية وغير الجوهرية

تتعدد الأغراض او الحكمة من الشكليات في المجال التشريعي،فقد يكون الغرض منها الاشهار بسلامة الارادة التشريعية وبان كل شيء سار على مايرام حسب الأوضاع الدستورية، باعتبار ان الشكل هو المظهر المادي للتعبير عن الارادة ، ومع ذلك فان لكل شكل من الأشكال المطلوبة حكمته ، فحكمة اشتراط ان يقدم اقتراح القانون من قبل عدد من الأعضاء تبدو في التأكد من جدية وأهمية المقترح قبل اتخاذ سلسلة اجراءات تتطلب وقتا ثمينا ،منها ادراجه في جدول الأعمال ومن ثم التصويت عليه ، وقد يتبين فيما بعد ان الاقتراح غير مرغوب فيه وما يترتب على ذلك من هدر وقت ثمين ، وتبدو حكمة تقديم مشاريع القوانين من قبل السلطة التنفيذية هو ان القانون اداة هذه السلطة في علاقتها مع المجتمع ومؤسساته العامة والخاصة وهي الأعرف بالحاجة العملية الى التشريع في مجال معين من عدمه من خلال علاقتها المباشرة مع حاجات المجتمع ، وقد تبدو الشكلية مظهرا من مظاهر الرقابة المتبادلة بين السلطة التشريعية والتنفيذية ، كما في وجوب تصديق واصدار القانون من السلطة التنفيذية لنفاذه مما يتيح لها الاعتراض على مشروع القانون بعدم المصادقة عليه مما يرتب عدم امكانية سنه ونفاذه بعد ذلك الا بناءا على اغلبية خاصة .

وحكمة ضرورة ادراج الاعمال التشريعية في جدول للاعمال قبل مناقشتها هو تجنب اتخاذ اعمال تشريعية جوهرية في غياب عدد مؤثر من الأعضاء بحيث لو كان لديهم علم مسبق بجدول الاعمال لحضروا جميعا ، فضلا عن تمكين الأعضاء من التهيؤ لما تتطلبه هذه الاعمال من استشارة مسبقة من ذوي الاختصاص قبل اتخاذ موقف منها بالتصويت عليها من عدمه .

وقد وجدت الشكلية في الشرائع القانونية القديمة ولازالت موجودة في احدثها ، والشكلية البدائية هي شكلية رمزية تنطوي على القيام بحركات خاصة او التفوه بعبارات محددة يتوقف عليها تحقق الاثر القانوني ، ويرى مؤرخوا القانون ان هذه الشكلية كانت تعبر عن رغبة عند الانسان القديم في اشباع غريزة حب المظاهر الخارجية البراقة التي كانت،بما تضفيه من رونق وبهاء على حياته، تقيم الحساسية مقام عقلية كانت لاتزال قاصرة.

وتختلف الشكلية الحديثة عن القديمة في انها معقولة ومنطقية واكثر مرونة، وانها لا تكفي لوحدها لترتيب الاثر القانوني بل يجب ان تقترن بالارادة السليمة غير المشوبة بعيب من عيوب الرضا ، فالارادة هي التي يقع عليها الشكل، ولم تعد الشكليات الحديثة مجرد طقوس تمارس ممارسة عمياء ، بعد ان تمكنت البشرية في تطورات لاحقة من التمييز بين مضارها ومنافعها ، وعرفوا ما يترتب عليها من تعقيدات وتعطيل وجهد ضائع وعرفوا مالها من فضل في ايقاظ الانتباه والتحذير من الفخاخ التي تنصب للارادة،وبث اليقين في انتاج الواقعة اثارها المطلوبة وتهيئة الوسيلة لاثبات هذه الواقعة حين النزاع عليها . وكان للفقه والقضاء عبر التاريخ الفضل في التمييز بين ماهو مفيد وجوهري من الشكليات والتمسك به وبين ما هو ضار وغير جوهري من الشكليات ومن ثم استبعادها بطريقة او بأخرى.(1)

ويميز الفقه والقضاء المعاصر كذلك بين الأشكال والاجراءات الجوهرية وغير الجوهرية والغرض من هذا التمييز هو ترتيب البطلان على القرارات التي تفتقد لشكلياتها الجوهرية اما القرارات التي تفتقد للشكليات غير الجوهرية فلا تكون باطلة، وفي هذه الحالة نكون في مواجهة قرارات معيبة بعيب الشكل ولكن هذا العيب لا يؤدي الى البطلان،وقد اورد الفقه امثلة كثيرة من قضاء مجلس الدولة الفرنسي على الشكليات التي لم يعتبرها المجلس من الشكليات الجوهرية المؤثرة على سلامة القرار،مثل الحكم بصحة انتخاب على الرغم من عدم السماح لعدد قليل من الافراد بالتصويت على خلاف القانون اذا كان عددهم من القلة بحيث لم يكن من شأنه ان يؤثر موضوعاً على النتيجة النهائية ، او اذا كانت الاشكال والاجراءات المقررة هدفها تحقيق مصلحة الادارة لا الافراد ، ولكن متى تكون شكليات القرار جوهرية ومتى لا تكون جوهرية ، وهل يسري نفس المبدأ بالنسبة للقضاء الدستوري ؟

لايوجد معيار ثابت لتحديد ماهو جوهري او غير جوهري من الاشكال ، وانما يعتمد تقدير ذلك على الذكاء والحدس والفهم الصحيح لطبيعة الاشياء ومنطقها والغايات المرجوة منها ،الا انه مما لا شك فيه ان التشدد الزائد في مراعاة مختلف الشكليات والاجراءات على نحو واحد يؤدي بالنتيجة الى ضياع الوقت وعرقلة النشاط التشريعي دون ان تكون هناك قيمة حقيقية مقابل ذلك لتلك الشكليات، والملاحظ ان قواعد الشكل والاجراءات المصاحبة لعملية التشريع قد يرد النص عليها في الدستور ذاته، كما انها قد ترد في الانظمة الداخلية للبرلمان . وذهب الفقه في ذلك الى اتجاهين فذهب الاتجاه الاول الى ان العيب الشكلي يمكن ان يتحقق عند مخالفة التشريع للقواعد الشكلية سواء قد وردت في الدستور او في الانظمة الداخلية للبرلمان،بينما ذهب الاتجاه الأخر بان عيب عدم الدستورية لمخالفة الشكل لا يتحقق الا اذا كانت الشكلية التي خولفت قد ورد النص عليها في الدستور ذاته . فالمعول عليه في الرقابة الدستورية هو ما ورد من شكليات واجراءات في الدستور، اما ما تضمنته النصوص القانونية الأخرى الاقل مرتبة من قواعد شكلية فان مخالفتها لا تؤدي الى عدم دستوريته.(2)

والحال ان دستور جمهورية العراق قد تضمن اشكالا متنوعة من الاجراءات الشكلية،منها ما يتعلق بتحديد زمن معين للقيام بتصرف ما ، وقد يكون بعض هذه الشكليات الزمنية جوهرية او غير جوهرية ، ونرى ان تقدير اثر عدم مراعاة الشكل على دستورية التشريع او التصرف انما يعود تقديره للقضاء .

والمحكمة الاتحادية العليا بطبيعة الحال لا تبحث في العيوب الموضوعية الا بعد ان تتأكد من خلو التشريع من المخالفات الشكلية للاوضاع والاجراءات التي تطلبها الدستور،ذلك ان العيوب الشكلية تتقدم العيوب الموضوعية .

وفي هذا الصدد تقول المحكمة الاتحادية العليا في مصر في حكم لها (وحيث أن الرقابة التي تباشرها هذه المحكمة غايتها أن ترد إلي قواعد الدستور كافة النصوص التشريعية المطعون عليها وسبيلها الى ذلك إن تفصل باحكامها النهائية في الطعون الموجهة اليها شكلية كانت أو موضوعية وان يكون استيثاقها من استيفاء هذه النصوص لأوضاعها الشكلية أمرا سابقا بالضرورة علي خوضها في العيوب الموضوعية ذلك إن الأوضاع الشكلية للنصوص التشريعية هي من مقوماتها كقواعد قانونية لا يكتمل كيانها أصلا في غيبة متطلباتها …. ويتعين على هذه المحكمة بالتالي إن تتحراها بلوغا لغاية الأمر فيها إن قضاء المحكمة في هذه المخالفة والقائمة في مضمونها على طعن موضوعي يكون متضمنا على وجه القطع واللزوم تحققاً من استيفاء القرار بقانون الذي اشتمل عليها لأوضاعه الشكلية إذ لو قام لديها الدليل على تخلفها لسقط هذا القرار بقانون برمته ولامتنع الخوض في اتفاق بعض مواده أو مخالفتها لأحكام الدستور الموضوعية الأمر الذي يعتبر معه هذا الوجه من النعي على غير أساس حريا بالالتفات عنه ( . (3)

المبحث الثالث

تعديل الـدستور من الناحية الشكلية

الدساتير من حيث طريقة تعديلها على نوعين ، دساتير جامدة ودساتير مرنة ،والدستور الجامد هو الدستور الذي لا يمكن تعديله الا باتباع اجراءات خاصة نُص عليها في صلب الوثيقة الدستورية ، اما الدستور المرن فهو الدستور الذي يمكن تعديله باتباع نفس اجراءات تعديل القوانين العادية ،ومن ثم يمكن للقانون العادي أن يعدل بعض قواعد الدستور كما هو الحال في المملكة المتحدة.

ولتعديل الدستور الجامد وجهة شكلية تتجسد في الاجراءات التي يجب اتباعها لتعديل الدستور ، ووجهة موضوعية تتجسد في مضمون التعديل وكلا الوجهتين تخضع لرقابة المحكمة الاتحادية العليا .

ويكتسب تعـديل الدستور الجامد أهمية خـاصة ، اذ يـحـاط تـعديله بضمانات شكلية وموضوعية متعددة فى دساتير الدول الـديمقراطية ،حتى لا يكون تعديل الدستور وسـيلة القابضين على السلطة فى تكريس الحكم الدكتاتوري وكوسـيلة للانتقاص من حقوق وحريات المواطنين بحجج ومزاعم مختلفة ،كالمؤامرات الخارجية والداخلية او المصلحة العامة ….

وعلى هذا الاساس ساد الاعتقاد فى فقه القانون الدستوري الحديث على وجوب اسـناد مهمة التعديل الدستوري الى الهيئة التى اناط بها الدستور هذه المهمة وبالطريقة والقيود والاجراءات التى حددتها الوثيقة الدستورية ، فأذا كان الدستور قد انـشـأ بطريقة الاستفتاء الدستوري فأن مسألة تعديله يجب ان تناط بالاستفتاء الدستوري ايضا . (4)

المبحث الرابع

الشكلية في دستور جمهورية العراق لسنة 2005

تبنى المشرع الدستوري العراقي في دستور 2005 النافذ عدد من الاجراءات الشكلية منها ما يتعلق بنصاب انعقاد جلسات مجلس النواب وجهة تقديم مشاريع القوانين كما في المادة (59) بنصها (اولاً : يتحقق نصاب انعقاد جلسات مجلس النواب بحضور الاغلبية المطلقة لعدد اعضائه. ثانيا: تتخذ القرارات في جلسات مجلس النواب بالاغلبية البسيطة، بعد تحقق النصاب ما لم ينـص على خلاف ذلك) والمادة (60) بنصها ( اولا: مشروعات القوانين تقدم من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء . ثانيا: مقترحات القوانين تقدم من عشرة من أعضاء مجلس النواب، أو من إحدى لجانه المختصة.)

ونصت المادة (138) بانه ( خامسا: أ. ترسل القوانين والقرارات التي يسنها مجلس النواب إلى مجلس الرئاسة لغرض الموافقة عليها بالاجماع واصدارها خلال عشرة ايام من تاريخ وصولها اليه باستثناء ما ورد في المادتين (118) و(119) من هذا الدستور والمتعلقتين بتكوين الأقاليم . ب. في حالة عدم موافقة مجلس الرئاسة، تعاد القوانين والقرارات إلى مجلس النواب لاعادة النظر في النواحي المعترض عليها والتصويت عليها بالاغلبية وترسل ثانية إلى مجلس الرئاسة للموافقة عليها . ج. في حالة عدم موافقة مجلس الرئاسة على القوانين والقرارات ثانية خلال عشرة أيام من تاريخ وصولها اليه تعاد إلى مجلس النواب الذي له ان يقرها باغلبية ثلاثة اخماس عدد اعضائه،غير قابلة للاعتراض و تعد مصادقا عليها . سادسا: يمارس مجلس الرئاسة صلاحيات رئيس الجمهورية المنصوص عليها في هذا الدستور.)

والمادة (144) التي نصت على انه( يعد هذا الدستور نافذاً بعد موافقة الشعب عليه بالاستفتاء العام ونشره في الجريدة الرسمية وتشكيل الحكومة بموجبه.). وحسب المادة (126) من الدستور، فانه ( اولا: لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين أو لخمس (1/5) اعضاء مجلس النواب،اقتراح تعديل الدستور . ثانيا:لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية الواردة في الباب الاول والحقوق والحريات الواردة في الباب الثاني من الدستور، الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناء على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام . ثالثا: لايجوز تعديل المواد الاخرى غير المنصوص عليها في البند (ثانيا) من هذه المادة الا بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة أيام . رابعا : لا يجوز اجراء اي تعديل على مواد الدستور من شأنه أن ينتقص من صلاحيات الاقاليم التي لا تكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية الا بموافقة السلطة التشريعية في الاقليم المعني وموافقة اغلبية سكانه باستفتاء عام . خامسا : أ ـ يعد التعديل مصادقا عليه من قبل رئيس الجمهورية بعد انتهاء المدة المنصوص عليها في البند (ثانيا) و ( ثالثا) من هذه المادة في حالة عدم تصديقه . ب ـ يعد التعديل نافذا من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية .)

وجاء في المادة (142) من الدستور على انه (رابعا ـ يكون الاستفتاء على المواد المعدلة ناجحاً بموافقة أغلبية المصوتين، وإذا لم يرفضه ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر . هـ ـ يستثنى ما ورد من هذه المادة من احكام المادة (126) المتعلقة بتعديل الدستور، الى حين الانتهاء من البت في التعديلات المنصوص عليها في هذه المادة . )

ونصت المادة (131) من الدستور على انه ( كل استفتاء وارد في هذا الدستور يكون ناجحا بموافقة اغلبية المصوتين مالم ينص على خلاف ذلك.)

يتضح من النصوص المتقدمة ان المشرع الدستوري العراقي قد وضع قيود شكلية متشددة على مسألة تعديل الدستور مراعيا بذلك ما أخذت به دساتير الدول الديمقراطية وضمانا لحقوق الشعب من تحكم الاغلبية البرلمانية في اي وقت من الاوقات ومحاولة تعديلها للدستور وفقا للمصالح السياسية الآنية . (5)

الفصل الثاني

العيـوب الموضوعيـة

المبحث الاول: عيب عدم الاختصاص.

المبحث الثاني: العيب الذي يلحق محل التشريع.

المبحث الثالث: عيب الانحراف بالسلطة التشريعية.

المبحث الاول

عيب عدم الاختصاص

المطلب الأول ـ ماهية عيب عدم الاختصاص.

المطلب الثاني ـ صور عيب محل التشريع

المطلب الأول

ماهية عيب عدم الاختصاص

يمكن ان نعرف عدم الاختصاص بانه ( عدم توفر الصلاحية القانونية للقيام بتصرف معين) . وتقوم فلسفة الطعن بعدم الدستورية في هذا المقام على مبدأ أساسي هو مبدأ الفصل بين السلطات .(6)

ومبدأ الفصل بين السلطات مبدأ مهم يقوم عليه تنظيم الدولة القانونية المعاصرة ونصت عليه الدساتير الحديثة ،وهو احد الابتكارات التي اوجدها العقل البشري كمانع من نمو وترعرع الدكتاتورية في احضان السلطة المطقة التي تتجمع في يدها كل انواع السلطات، وترسخ هذا المبدأ بكتابات رواد النهضة ( مونتسكيو ، جون لوك ، روسو ) .

ومفاد هذا المبدأ انه يجب ان لا تجتمع جميع السلطات ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) فى يد شخص واحد او هيئة واحدة، لأن اجتماعها بيد واحدة مدعاة للتسلط والتعسف والدكتاتورية المطلقة. مما ينبغي توزيع الاختصاصات بين سلطات الدولة الثلاثة ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) على نحو يكفل تحديد المسؤوليات وعدم التداخل في مابين هذه السلطات تداخلا يؤدي الى تشتت الصلاحيات واهدار قيمة النصوص الدستورية وان تكون هناك رقابة متبادلة بين هذه السلطات .

وتستند الفلسفة الدستورية في هذا الشأن الى ان مؤسسات الدولة القانونية المعاصرة انما تستمد شرعية وجودها من الدستور فهو الذي انشأها وهو الذي يحدد اختصاص كل سلطة من هذه السلطات ومن ثم ينبغي على كل سلطة أن تقوم باختصاصها كما حدده الدستور من ناحية ولا ينبغي لها إن تستحوذ على اختصاص غيرها من السلطات من ناحية اخرى ، وتوزيع الاختصاصات يتطلب قدرا عاليا من التنظيم القانوني لتنظيم العلاقة بين هذه السلطات من جانب ، وبينها وبين افراد الشعب من جانب أخر ، وايجاد رقابة فعالة لضمان عدم انحراف اي من هذه السلطات عن الحدود القانونية المرسومة لها او التعسف في استعمال الحقوق المقررة لها على نحو يتعارض مع الغايات الاجتماعية لتلك الحقوق . و تاخذ دساتير بعض الدول بمبدأ الفصل التام بين السلطات وهو ما يعرف بالنظام الرئاسى كما هو الامر فى الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا وهناك دول تاخذ بالفصل النسبي وهو ما يعرف بالنظام البرلماني كما هو الامر في انكلترا والعراق في ظل دستور سنة 2005 مثلا .(7)

المطلب الثاني

صورعيب مخالفة قواعد الاختصاص

هذا العيب قد يكون عضوياً او موضوعياً أو زمنيا ًاومكانياً، ونبحث ذلك في اربعة فروع .

الفرع الاول

عدم الاختصاص العضوي (العنصر الشخصي)

والعنصر العضوي او الشخصي في الاختصاص يعني وجوب أن يباشر الاختصاص الدستوري العضو اوالشخص او السلطة التي حددها الدستور للقيام بهذا الاختصاص دون غيره . (8)

مما يتطلب بيان اختصاصات كل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية العضوية ويكون ذلك في ثلاث فقرات:

اولا ـ اختصاصات السلطة التشريعية العضوية : السلطة التشريعية هي صاحبة الاختصاص الاصيل في التشريع ولا يجوز الخروج على هذا الاصل الا بنص صريح في الدستور . حيث نصت المادة (61) من الدستور على انه (يختص مجلس النواب بما يأتي : اولاً : تشريع القوانين الاتحادية .) واعمالا لما تقدم فان ليس للسلطة التشريعية ان تفوض السلطة التنفيذية للقيام باعمال التشريع كليا اوجزئيا الا اذا تضمن الدستور نصاً يمنحها هذا الحق . ويعرف هذا الاختصاص بمبدأ انفراد التشريع .

أ ـ مبدأ انفراد التشريع : يقصد بمبدأ انفراد التشريع ، ان تنفرد السلطة التشريعية بتنظيم الحقوق والحريات ولا يجوز لها في أي حال من الاحوال ان تفوض اختصاصها هذا الى السلطة التنفيذية. والعلة في ذلك ان هذه الحقوق والحريات انما يمارسها المواطنين في مواجهة السلطة التنفيذية نفسها وتفويضها تنظيم هذه الحريات والحقوق يؤدي الى تحكم اعضائها في مقدرات المواطنين وبالتالي تكون الحقوق والحريات الاساسية التي اقرها الدستور لاعضاء المجتمع عرضة للمساومة والمحسوبية والمنسوبية ومضايقة الناس وهذا ما لا يمكن قبوله .

وهذا المبدأ هو ثمرة من ثمار الصراع بين السلطة والشعب عبر التاريخ ، فقد استأثرت الطبقات الحاكمة (السلطة التنفيذية) بجميع السلطات منذ ان نشأت السلطة السياسية ، الا انه بحلول القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر بدأت تغييرات كبيرة تطرأ على مفهوم السلطة تدريجياً، فقد تمكنت البرجوازية الناشئة من الصعود الى البرلمان لتحل محل الارستقراطية الملكية تدريجياً ومن ثم دخلت في صراعات مع الحكومة وقادت ثورات عنيفة استلهمت افكارها من من طروحات كبار مفكري تلك الازمنة ، مثل مونتسكيو وجون لوك وجان جاك روسو وبيكاريا وكاريه دي مالبيرج وغيرهم ، واسفر الصراع في النهاية عن تقييد سلطات الملوك وتأكيد سيادة الشعب واستئثار البرلمان بسلطته في التشريع في كل ما يتعلق بالحقوق والحريات ، وقد عبر كاريه عن ذلك بقوله ( ان سيادة البرلمان تنبع من سيادة الشعب ). وفي اطار هذا المبدأ تم تحديد دور السلطة التشريعية بالمقارنة مع دور السلطة التنفيذية ، فكل منهما يملك سلطة اقرار قواعد قانونية ، الاولى في صورة التشريع العادي ( القانون) والثانية في صورة التشريع الفرعي (الانظمة والتعليمات او اللوائح ) (9).

وبما ان مبدأ تدرج القواعد القانونية يعد سمة جوهرية من سمات الشرعية ، وتقف القواعد الدستورية على قمة الهرم القانوني للدولة ،فانه يترتب على ذلك التزام السلطة التشريعية فيما تسنه من قوانين باحترام القواعد الدستورية من حيث الشكل والموضوع، بينما تخضع السلطة التنفيذية للقوانين التي تسنها السلطة التشريعية وهي بصدد وضع واصدار الانظمة والتعليمات . وعلى هذا النحو تلتزم السلطة التشريعية باحترام مبدأ انفراد التشريع ، بينما تلتزم السلطة التنفيذية بتمكين الافراد من ممارسة حقوقهم وحرياتهم العامة ، وبخلافه تكون القوانين والانظمة والتعليمات التي خرجت على خلاف مقتضى المبدأ محلا للطعن امام المحكمة الاتحادية العليا.

ب ـ موقف القضاء الدستوري من الاختصاص العضوي : تعرضت المحكمة الدستورية العليا في مصر لهذا المبدأ في حكم لها في سنة 2000 بشأن مرسوم بقانون صدر سنة 1959 ،حيث اكدت ان الدستور لم يعقد للسلطة التنفيذية اختصاصا ما بتنظيم شيء مما يمس الحقوق التي كفلها الدستور ، وان هذا التنظيم يتعين ان تتولاه السلطة التشريعية بما تصدره من قوانين ، فلا يجوز لها ان تسلب من اختصاصها وتحيل الامر برمته الى السلطة التنفيذية دون ان تقيدها في ذلك بضوابط عامة واسس رئيسية تلتزم بالعمل في اطارها ، وقضت بناءا على ذلك بأن نص المادتين (8 و11) من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 1959 بما تضمنا من تفويض وزير الداخلية تحديد شـروط منح جواز السفر وكذلك تخويله سلطة منح الجواز وسلطة تجديده وسلطة سحبه بعد منحه ، انما يتمخض عن تنصل المشرع عن وضع الاسس العامة التي تنظم موضوع جوازات السفر بأكمله ،على الرغم من كونها الوسيلة الوحيدة لتمكين المواطن من مغادرة بلده والرجوع اليه ، وارتباط ذلك ارتباطا وثيقا بالحقوق التي يكفلها الدستور).(10)

يتضح مما تقدم ومن حكم المحكمة الدستورية العليا المشار اليه ،ان مبدأ انفراد التشريع انما يهدف الى ان يكون تنظيم حقوق وحريات المواطنين بيد مجلس النواب والى الحيلولة دون تدخل السلطة التنفيذية في تنظيمها بدون تفويض بقانون من مجلس النواب ، وان التفويض يجب ان يكون وفق ضوابط تضمن عدم تحكم السلطة التنفيذية بحقوق وحريات المواطنين ، وان يكون التفويض جزئياً لا يتضمن تنصلا كاملا من جانب مجلس النواب عن تنظيم هذه الحقوق والحريات لصالح السلطة التنفيذية .ويتضح ايضا ، وهذا هو الاستنتاج الاهم ، انه لا يمكن ان يكون تحديد شروط ممارسة حق من الحقوق بيد فرد من الافراد ولو كان وزيراً للداخلية .

ثانيا ـ اختصاصات السلطة التنفيذية العضوية : تباشر السلطة التنفيذية اختصاصاتها وفقا للدستور والقانون ، وإذا حدد الدستور اختصاصا معينا وعهد به إلى هيئة من هيئات السلطة التنفيذية او الى شخص من اشخاصها كرئيس الجمهورية او رئيس الوزراء ، فان له وحده دون غيره ان يباشر ذلك الاختصاص وعلى ذلك فانه لا يجوز لاي منهما ان يفوض اختصاصاته لغيره الا اذا نص الدستور او القانون على جواز التفويض لان القاعدة في التفويض ان لاتفويض الا بنص، وان يكون التفويض جزئياً . واذا حدد الدستور اختصاص السلطات الاتحادية على سبيل الحصر وترك ماعداها الى السلطات الاقليمية او المحلية ،فلا يجوز ان تفوض احداهما سلطاتها للاخرى مالم ينص الدستور على جواز التفويض، وفي هذه الحالة ينبغي مراعاة قواعد وشروط التفويض العامة فضلا عن ما يضيفه المشرع من شروط خاصة . (11)

وفي اطار نظام تفويض الاختصاص نصت المادة (123) من الدستور على انه ( يجوز تفويض سلطات الحكومة الاتحادية للمحافظات أو بالعكس، بموافقة الطرفين وينظم ذلك بقانون.)

ثالثاـ اختصاصات السلطة القضائية العضوية : اذا كان الفصل في الدعاوى المدنية والدعاوى الجنائية هو اختصاص عهد به الدستور الى السلطة القضائية حصريا فان هذه السلطة لا تستطيع إن تتخلى عن هذا الاختصاص لصالح غيرها من السلطات . كما لا يجوز ان تسند اليها صلاحيات تشريعية في نطاق التجريم والعقاب والاجراءات ، لان ذلك يتعارض مع مبدأ قانونية الجريمة والعقاب .وعلى هذا الاساس قضى المجلس الدستوري الفرنسي بعدم دستورية نص الفقرة (1) من المادة (298) من قانون الاجراءات الفرنسي التي خولت رئيس المحكمة الابتدائية ان يحدد بصفة نهائية المحكمة التي تحال اليها الدعوى وفيما اذا كانت من المحاكم التي تتشكل من ثلاثة قضاة او قاض واحد ، وقد اسس المجلس الدستوري قراره على عدة اسباب منها هو مخالفة النص لمبدأ انفراد المشرع لوحده بتحديد قواعد الاجراءات الجنائية طبقا للمادة (42) من الدستور الفرنسي .(12)

يترتب على ما تقدم انه لا يجوز لاية سلطة عهد إليها الدستور باختصاص معين إن تترك او ان تفوض هذا الاختصاص لغيرها من السلطات ،لان في ذلك تفويت لقصد المشرع الدستوري ، ومن هنا كان التفويض غير ممكن في الاختصاصات التي عهد بها الدستورالى جهة معينة الا بناء على نص صريح فيه .

الفرع الثاني

عدم الاختصاص الموضوعي

يقصد بعدم الاختصاص الموضوعي ان يكون التصرف الصادر من سلطة معينة هو من اختصاص سلطة اخرى .

ويتعلق العنصر الموضوعي للاختصاص بترتيب نوعية الاختصاصات بين السلطات المختلفة في الدولة وكذلك امر ترتيبها داخل السلطة الواحدة من حيث الموضوع ، فاذا كانت قواعد الاختصاص الشخصي تفرض ان تباشر كل سلطة اختصاصاتها بنفسها ، فان قواعد الاختصاص الموضوعي تحدد لكل سلطة ما يتعين او يحق لها ان تتخذه من تصرفات قانونية في حدود سلطاتها . ومخالفة العنصر الموضوعي في الاختصاص يشكل عيبا دستوريا بعدم الاختصاص الموضوعي .(13)

ويلاحظ ان اغلب الباحثين العرب يخلطون بين هذا العنصر وعيب المحل او الموضوع في التشريع، ويسوقون في هذا المقام امثلة تتعلق بعيب المحل (الموضوع)،وسنوضح الفرق بينهما عند دراسة العيب الذي يلحق محل التشريع او موضوعه. مما يتطلب بيان اختصاصات كل من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية الموضوعية ويكون ذلك في ثلاث فقرات.

اولا ـ اختصاصات السلطة التشريعية الموضوعية : السلطة التشريعية هي صاحبة الاختصاص الاصيل في التشريع ولا يجوز الخروج على هذا الاصل الا بنص صريح في الدستور . حيث نصت المادة (61) من الدستور على انه (يختص مجلس النواب بما يأتي : اولاً : تشريع القوانين الاتحادية .) الا ان اغلب الدساتير ومن باب التسهيل على السلطة التشريعية تميز بين التشريع العادي (القانون) والتشريع الفرعي ( الانظمة والتعليمات والانظمة الداخلية او مايعرف باللوائح ) ، حيث تجيز هذ الدساتير للسلطة التنفيذية صلاحية وضع انظمة وتعليمات او لوائح لتسهيل تنفيذ القانون ، وهذه هي اعمال تشريعية في حقيقتها ومعناها لانها تتضمن قواعد عامة مجردة وملزمة وتخاطب الافراد بصفاتهم لا بذواتهم . ويشترط في الانظمة والتعليمات ان تكون متوافقة مع التشريع الذي صدرت تسهيلا لتنفيذه .

ومن ثم لا يجوز للسلطة التنفيذية مباشرة اعمال التشريع الفرعي سواء بصورة صريحة او ضمنية دون سند من القانون ، ومثال الصورة الصريحة ان تصدر السلطة التنفيذية انظمة او تعليمات لا تستند الى قانون سابق لها ومثال الصورة الضمنية ان تصدر السلطة التنفيذية انظمة او تعليمات تتضمن مواضيع جديدة لم ينص عليها التشريع الاصلي التي صدرت الانظمة او التعليمات تسهيلا لتنفيذه ، مما يجعل منها معيبة بعيب عدم الاختصاص الموضوعي .(14)

الا انه يلاحظ ان بعض الدساتير قد حددت مجالاً او مواضيع معينة يختص البرلمان بالتشريع بشأنها حصرا وترك ماعداها للسلطة التنفيذية،ومن ذلك الدستور الفرنسي لسنة 1958، الذي اشرف على وضعه الجنرال ديكول شخصيا كشرط لقبوله العودة الى للسلطة ، الذي وزع الوظيفة التشريعية بين الجمعية الوطنية والسلطة التنفيذية، واصبح اختصاص الجمعية الوطنية في التشريع محدداً على سبيل الحصر، بحيث اذا شرع في غير المواضيع المحدده له بموجب الدستور طعن بعدم دستوريته لمخالفته العنصر الموضوعي في الاختصاص. (15)

ويلاحظ ان اغلب الباحثين يدرجون مثل هذا التطبيق ضمن عيب عدم الاختصاص الشخصي ، في حين ان عيب عدم الاختصاص الموضوعي هو الاظهر في هذا المقام ، فالعنصر الشخصي يتعلق بمارسة الاختصاص شخصيا دون تفويض ، والحال انه لايوجد في هذا المقام تخويل غير مشروع للغير او تفويض انما تم توزيع الاختصاصات الموضوعية بين سلطتين هما السلطتين التشريعية والتنفيذية بنص الدستور فان باشرت احداهما ماهو مخصص للاخرى من مواضيع, فان عيب عدم الاختصاص الموضوعي هو الذي يتحقق .

ثانيا ـ اختصاصات السلطة التنفيذية الموضوعية : تباشر السلطة التنفيذية اختصاصاتها وفقا للدستور والقانون ، وإذا حدد الدستور اختصاصا معينا وعهد به إلى هيئة من هيئات السلطة التنفيذية او الى شخص من اشخاصها كرئيس الجمهورية او رئيس الوزراء ، فان له وحده دون غيره ان يباشر ذلك الاختصاص وعلى ذلك فانه لا يجوز لاي منهما ان يفوض اختصاصاته لغيره الا اذا نص الدستور او القانون على جواز التفويض لان القاعدة في التفويض ان لاتفويض الا بنص كما سبق الاشارة ، ونشير في هذا المقام الى التشريع الفرعي لعلاقته الوثيقة بموضوع الطعن بعدم الدستورية .

التشريع الفرعي : في ظل دستور العراق لسنة 2005 ، فان سلطة وضع التشريع الفرعي ( الانظمة ، التعليمات ، النظام الداخلي ) تقع على عاتق السلطة التنفيذية ، بما لها من اختصاص اصيل مخول لها بموجب الدستور ابتغاء تنفيذ التشريع العادي او تنظيم المرافق العامة ومن قبيل التشريع الفرعي مايعرف في مصر باللائحة سواء كانت تنفيذية او تنظيمية او لائحة ضبط ، والتشريع الفرعي هو ادنى انواع التشريع مرتبة .ويشترط في التشريع الفرعي ان يكون متوافقا مع الدستور والقانون من حيث الشكل والموضوع ، حيث نصت الفقرة (ثالثا) من المادة (80)من الدستور على انه (يمارس مجلس الوزراء الصلاحيات الاتية. ثالثا: اصدار الانظمة والتعليمات والقرارات بهدف تنفيذ القوانين .)

وهذا يعني ان اية سلطة في الدولة لاتملك وضع انظمة او تعليمات عدا السلطة التنفيذية مالم ينص الدستور على خلاف ذلك . (16)

وقد نص الدستور العراقي على اختصاصات السلطة التنفيذية ، حيث نصت المادة (67) منه على انه ( رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يمثل سيادة البلاد، و يسهر على ضمان الالتزام بالدستور، والمحافظة على استقلال العراق، وسيادته، ووحدته، وسلامة اراضيه، وفقاً لاحكام الدستور .)

ونصت المادة (78): رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة، والقائد العام للقوات المسلحة، يقوم بادارة مجلس الوزراء ويترأس اجتماعاته، وله الحق باقالة الوزراء، بموافقة مجلس النواب.ونصت المادة (80) على صلاحيات مجلس الوزراء.

ثالثا ـ اختصاصات السلطة القضائية الموضوعية : مهمة القضاء الاساسية، تحقيق العدل فـى المجتمع وحماية الحريات العامة وحقوق المواطنين والفصل في المنازعات وتفسير وتطبيق القوانين على الحالات التى تعرض امامه،ويتمتع القضاء في الدول القانونية باستقلال عن باقي السلطات في الدولة حتى يتمكن من تحقيق مبدأ المساواة امام القانون ، وليباشر عمله بحيادية ومن دون تردد أو ضغط ، بما يضمن حسن سير العدالة . كما انه ، وتطبيقا لمبدأ قانونية الجريمة والعقاب الدستوري.(17)، لا يجوز للقاضي ان يدخل في دائرة التجريم فعلا لم يرد به نص ولا ان يفرض عقوبة او تدبير لم ينص عليهما القانون او خلافا للحدود التي رسمها . لانه بخلاف ذلك يكون مشرعا لا قاضيا، لان سلطة القاضي تتجسد في تفسير القانون وتطبيقه كما ان تفسير القاضي للقانون ينبغي ان لا يقود الى انشاء جريمة او عقوبة لم ينص عليها القانون .(18)

وحدد دستور جمهورية العراق طبيعة عمل وتكوين واختصاصات السلطة القضائية، حيث نصت المادة (87) منه على انه (السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها وتصدر احكامها وفقا للقانون .) ونصت المادة (88) منه ( القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولايجوز لاية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة .) واشارت المادة (89) منه الى تكوين السلطة القضائية بقولها (تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الاعلى، والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة التمييز الاتحادية، وجهاز الادعاء العام، وهيئة الاشراف القضائي، والمحاكم الاتحادية الاخرى التي تنظم وفقا للقانون.)

وحددت المادة (91) منه اختصاصات مجلس القضاء بقولها (يمارس مجلس القضاء الاعلى الصلاحيات الآتية : اولا: إدارة شؤون القضاء والاشراف على القضاء الاتحادي . ثانيا: ترشيح رئيس وأعضاء محكمة التمييز الاتحادية ورئيس الادعاء العام ورئيس هيئة الأِشراف القضائي وعرضها على مجلس النواب للموافقة على تعيينهم )

ثالثا: اقتراح مشروع الموازنة السنوية للسلطة القضائية الاتحادية وعرضها على مجلس النواب للـموافقة عليها.

بينما وضعت المادة (98) منه قيودا على تصرفات رجال القضاء بقولها ( يحظر على القاضي وعضو الادعاء العام ما يأتي : اولا: الجمع بين الوظيفة القضائية والوظيفتين التشريعية والتنفيذية او اي عمل آخر . ثانيا: الانتماء إلى اي حزب أو منظمة سياسية، أو العمل في اي نشاط سياسي.) واشارت المادة (94) الى ان ( قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة .)

وهذا يعني ان اية سلطة أخري في الدولة عدا القضاء لا تملك إن تفصل في جريمة جزائية او ان توقع على فاعلها عقوبة جزائية، فان قام ايا منها بذلك فان ما يصدر عنها يعتبر مشوباً بعيب عدم الدستورية لتخلف العنصر الموضوعي في الاختصاص، ومن ثم يكون عرضة للطعن امام المحكمة الاتحادية العليا.(19)

الفرع الثالث

عدم الاختصاص الزمني

قد يضع الدستور قيداً زمنياً على ممارسة اختصاص التشريع من قبل السلطة التشريعية أو من قبل السلطة التنفيذية ، فإذا لم تراع السلطة التي تقوم بتلك المهمة القيد الزمني وأصدرت التشريع في وقت لم يكن لها الحق في ممارسة هذا الاختصاص، تكون قد خرجت عن الحد الزمني المحدد دستورياً لاصداره، ويترتب على ذلك مخالفة التشريع للقيد الزمني الذي جاء به الدستور .(20)

ومن الفروض التي تحقق فيها تخلف القيد الزمني في الاختصاص ان يحدد المشرع اجلاً لاصدار تشريع معين فيصدر التشريع قبل حلول ذلك الأجل، او ان يقر البرلمان تشريعا بعد حله،ومثل هذا التشريع لا يملك المجلس سنة لان زمن اختصاص المجلس قد انتهى . أو أن يصدر رئيس الجمهورية تشريعاً في حالة التفويض التشريعي بعد انتهاء المدة الزمنية المحددة لممارسة هذا التفويض. كذلك عندما تنتهي ولاية رئيس الجمهورية فانه لا يستطيع إن يباشر أي اختصاص من اختصاصاته التي ينتهي حقه في مباشرتها بانتهاء المدة التي حددها الدستور لولايته الا من قبيل تصريف الاعمال لحين مباشرة خلفه .

ومن امثلة القيود الزمنية التي جاء بها الدستورالعراقي النافذ ، ماجاء في المواد التالية :

ماجاء في المادة (142)( أولا ـ يشكّل مجلس النواب في بداية عمله لجنة من أعضائه تكون ممثلة للمكونات الرئيسية في المجتمع العراقي مهمتها تقديم تقرير إلى مجلس النواب، خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر، يتضمن توصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجراؤها على الدستور. وتحلّ اللجنة بعد البت في مقترحاتها . .
ثانيا ـ تعرض التعديلات المقترحة من قبل اللجنة دفعة واحدة على مجلس النواب للتصويت عليها، وتعد مقرة بموافقة الاغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس . ثالثا ـ تطرح المواد المعدلة من قبل مجلس النواب، وفقا لما ورد في البند (ثانيا) من هذه المادة على الشعب للاستفتاء عليها خلال مدة لا تزيد على شهرين من تاريخ إقرار التعديل في مجلس النواب. )

ونصت المادة (56) على انه (اولاً : تكون مدة الدورة الانتخابية لمجلس النواب أربع سنوات تقويمية، تبدأ بأول جلسة له، وتنتهي بنهاية السنة الرابعة . ثانياً : يجري انتخاب مجلس النواب الجديد قبل خمسةٍ واربعين يوماً من تاريخ انتهاء الدورة الانتخابية السابقة.)

كما نصت المادة (57) على انه ( لمجلس النواب دورة انعقاد سنوية بفصلين تشريعيين أمدهما ثمانية اشهر، يحدد النظام الداخلي كيفية انعقادهما، ولا ينتهي فصل الانعقاد الذي تعرض فيه الموازنة العامة الا بعد الموافقة عليها .)

وحسب المادة ( 126/ثانيا)، فانه (. ثانيا:لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية الواردة في الباب الأول والحقوق والحريات الواردة في الباب الثاني من الدستور، الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناء على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام . )

الفرع الرابع

عدم الاختصاص المكاني

تحدد بعض الدساتير مكاناً معيناً تمارس فيه السلطة التشريعية مهامها، كما هو حال الدستور المصري الذي حدد مكان انعقاد مجلس الشعب في القاهرة ، ولا يجوز عقده خارجها الا في حالة الضرورة ،بحيث انه اذا مارس الاختصاص خارج النطاق المكاني المحدد في الدستور فان التشريع الذي يصدر في هذه الحالة يكون غير دستوري لمخالفته قواعد الاختصاص المكاني . (21)

وحسب الدستور العراقي فانه لا يجوز للسلطة الاتحادية ان تمارس صلاحياتها مكانيا في الاقاليم ،فيما عدا ماخصها به الدستور من اختصاصات ، جيث نصت المادة (121)على انه (اولاً: لسلطات الاقاليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقا لاحكام هذا الدستور، باستثناء ما ورد فيه من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية .) ويترتب على مخالفة العنصر المكاني في الاختصاص بطلان التشريع .

يتضح مما تقدم انه اذا قام عيب عدم الاختصاص الدستوري في أي عنصر من عناصر نص تشريعي معين، فان مثل هذا النص يكون معيبا بعيب عدم الدستورية، ويكون محلا للطعن امام المحكمة الاتحادية العليا لمخالفته للقواعد المنصوص عليها في الدستور.

المبحث الثاني

العيب الذي يلحق محل التشريع

المطلب الاول ـ بيان ماهية عيب محل التشريع وتمييزه عن الأوضاع التي تشتبه به

المطلب الثاني ـ صور عيب محل التشريع

المطلب الاول

بيان ماهية عيب محل التشريع وتمييزه عن الأوضاع التي تشتبه به

ونتناول ذلك في فرعين :

الفرع الاول

ماهية عيب محل التشريع

إن محل التشريع هو موضوعه،وموضوع التشريع هو المركز القانوني الذي تتجه ارادة المشرع الى احداثه، وهو أنشاء حالة قانونية معينة أو تعديلها أوالغائها ،فالتشريع الذي يسن بشأن الخدمة العامة يكون مضمونه خلق مراكز قانونية متعددة منها المركز القانوني للموظف العام والرئيس الاداري وطبيعة سلم التدرج الوظيفي وواجبات الموظف العام وحقوقه،وغير ذلك من مراكز قانونية،ويتعين أن يكون محل التشريع متفقا مع مضمون الدستور ومبادئه العامة ملتزما بالضوابط والقيود التي تضعها القواعد الدستورية . ومنها مبدأ مساواة المواطنين امام القانون ، ومبدأ لا جريمة ولا عقوبة الا بقانون او بناءا على قانون ، او مبدأ استقلال القضاء ، او مبدأ لا ضريبة الا بقانون ، ومبدأ حماية الحقوق المكتسبة وغير ذلك من مبادئ دستورية .

فان منح القانون،على سبيل المثال، موظفي جهة ادارية معينة امتيازات وحقوق تفوق ما منح لغيرهم من موظفي ادارات الدولة الاخرى، من دون مبرر واقعي او قانوني يكون سندا للتمييز ، فان المشرع يكون بذلك قد خرج على مبدأ دستوري مهم هو مبدأ مساواة المواطنين امام القانون . وهذا هو العيب الذي يلحق محل التشريع او موضوعه.

الفرع الثاني

تمييزعيب محل التشريع عن الأوضاع التي تشتبه به

يقتضي التمييز في هذا المقام بين عيب عدم الاختصاص الشخصي(العضوي) وعيب عدم الاختصاص الموضوعي والعيب الذي يلحق محل التشريع او موضوعه

ان الفروق الجوهرية بينها، هي ان الاختصاص الشخصي يعني ان يمارس الاختصاص شخصيا من قبل من خصه الدستور باختصاص معين ، اما الاختصاص الموضوعي فيتعلق بجهة ممارسة موضوع الاختصاص وهل هي السلطة تشريعية ،ام التنفيذية ، ام القضائية ، بينما يتعلق موضوع التشريع او محله بمضمون التشريع ومحتواه ، ويتضح الفرق بينهما من خلال الفروض التالية :

ـ اذا خولت السلطة التشريعية اختصاص التشريع الى السلطة التنفيذية ، دون سند من الدستور، تحقق عيب عدم الاختصاص الشخصي.

ـ اذا باشرت السلطة التنفيذية اختصاص التشريع من تلقاء نفسها ، دون سند من الدستور ، تحقق عيب عدم الاختصاص الموضوعي.

ـ اذا قامت السلطة التشريعية بسن تشريع يخالف مضمون مبدأ او قاعدة دستورية،او قامت السلطة التنفيذية بوضع أنظمة او تعليمات (تشريع فرعي) خالفت فيه مبدأ او قاعدة دستورية ، تحقق عيب محل التشريع.

المطلب الثاني

صور عيب محل التشريع

للعيب الذي يلحق محل التشريع عدة صور، ونتناول ذلك في خمسة فروع:

الفرع الاول

مخالفة مبدأ سمو الدسـتور

القواعد القانونية التي يتضمنها النظام القانوني للدولة ليست في مرتبة واحدة وانما هي مراتب متدرجة ،ويترتب على ذلك ان كل قاعدة ينبغي ان لا تخالف القاعدة التي تعلوها في المرتبة وعلى هذا النحو يُمثل النظام القانوني في الدولة بانه كالهرم الذي تقف على قمته القواعد الدستورية ، ومن جانب اخر فان الدستور هو الذي ينشأ سلطات الدولة المختلفة وهو الذي يحدد اختصاصاتها وكذلك طبيعة العلاقة بين كل سلطة والسلطات الاخرى في الدولة ، ان هاتين الخاصتين تجعلان منه ذو سمو عُرف في فقه القانون الدستوري بمبدأ سمو الدستور.

ويراد بمبدأ سمو الدستور علو القواعد الدستورية على غيرها من القواعد القانونية المطبقة في الدولة ، وهذا يعني ان أي قانون تصدره الدولة يجب ان لا يكون مخالفاً للدستور . ويراد بسمو الدستور ايضا ان النظام القانوني للدولة بأكمله يكون محكوماً بالقواعد الدستورية، وان اية سلطة من سلطات الدولة لا يمكن ان تمارس الا من قبل الهيئة التي خولها اياها الدستور وبالحدود التي رسمها .ويعتبر مبدأ سمو الدستور من المبادئ المسلم بها في فقه القانون الدستوري حتى في حالة عدم النص عليه في صلب الوثيقة الدستورية.

وجدت فكرة سمو الدستور اساسها في كتابات مفكري نظرية العقد الاجتماعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الاوربي ، الا انه لم يترسخ كمبدأ الا بعد انتصار الثورتين الامريكية والفرنسية وقد نُص على المبدأ لاول مرة في الدستور الامريكي لعام 1787، في المادة (6) منه . وبعد الثورة الفرنسية ساد المبدأ ونصت عليه اغلب دساتير الدول.(22)

وقد نصت المادة (13) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على هذا المبدأ الدستوري العريق صراحة بقولها (اولاً : يُعدُ هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق، ويكون ملزماً في أنحائه كافة وبدون استثناء. ثانياً : لا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور، ويُعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الاقاليم أو اي نص قــانوني آخــر يتعارض معه .)

وسمو الدستور قد يكون سموا موضوعياً (مادياً) وقد يكون سموا شكلياً:

الفقرة اولا ـ السمو الموضوعي (المادي للدستور) : ومقتضى السمو الموضوعي ، ان نشاط سلطات الدولة المختلفة يجب ان يكون محكوما بالدستور في كل ما يصدر منهم من قوانين وأنشطة مختلفة ، لان خروج تلك السلطات عن القواعد الدستورية التي اوجدتها ونظمت طريقة ممارستها للسلطة يعد هدرا لسند وجود تلك السلطات وللأساس القانوني لاختصاصاتها وبالتالي يعتبر مساساً بجوهر الدستور وانتهاكاً لسموه الموضوعي .

ويتمتع الدستور بسمو سواء كان دستوراً جامداً ام مرناً . ذلك لأن المشرع العادي وان كان يملك حق تعديل الدستور المرن بنفس اجراءات تعديل القانون العادي ، الا انه ملزم دائماً باحترام الاساس النظري الذي يقوم عليه الدستور.

ويترتب على السمو الموضوعي عدة نتائج :

1ـ ان القواعد الدستورية ملزمة لجميع سلطات الدولة ، وان اي نشاط يكون مخالفاً لهذه القواعد لا يتمتع بأية قيمة قانونية .

2ـ السمو الموضوعي يرتبط بمبدأ المشروعية مما يعني وجوب احترام القوانين الصادرة من السلطة التشريعية ووجوب مطابقة تلك القوانين للدستور .

3ـ بما ان الدستور هو مصدر جميع السلطات في الدولة ، فهذا يعني ان هذه السلطات لا تمارس حقأ شخصياً تتصرف به كما تشاء ، وانما تمارس وظيفة تحددها النصوص الدستورية ، ويترتب على ذلك ان هذه السلطات لا تستطيع تفويض اختصاصاتها للغير ، الا بنص دستوري يبيح ذلك ، تطبيقاً للمبدأ الذي يقول ( الاختصاصات المفوضة لا تقبل التفويض ) .

ان مبدأ سمو الدستور لا ينتج اثره القانوني الا بوجود رقابة على دستورية القوانين ، ولا يمكن تنظيم هذه الرقابة ما لم يتحقق للدستور السمو الشكلي الى جانب السمو الموضوعي .

الفقرة ثانيا ـ السمو الشكلي للدستور:

يقصد بالسمو الشكلي للدستور ان عملية تعديله تتطلب اجراءات خاصة اشد تعقيداً من اجراءات تعديل القانون العادي ، وعلى هذا النحو لا يتحقق السمو الشكلي للدساتير المرنة رغم تمتعها بالسمو الموضوعي لان اجراءات تعديل الدستور المرن والقانون واحدة ، وهذا يعني ان صفة الجمود هي التي تضفي على الدستور سموا شكليا على القوانين العادية اضافة الى السمو الموضوعي .

وتتمتع جميع القواعد الدستورية سواء كانت قواعد موضوعية او قواعد شكلية بالسمو الشكلي في الدستور الجامد .(23)

في تفسير مبدأ سمو الدستور تقول المحكمة الدستورية العليا في مصر في حكم لها صادر بتاريخ 12/2/1994 (أن القواعد الدستورية تحتل من القواعد القانونية مكاناً عالياً لأنها تتوسد منها المقام الأسمى كقواعد آمرة، ويعني هذا المبدأ أن النص الدستوري يسمو ويتقدم على ما عداه من نصوص قانونية فيتوجب أن لا تخالف تلك النصوص أي قاعدة دستورية، إذ أن “كل سلطات الدولة الحديثة من تشريعية وتنفيذية وقضائية تخضع للدستور بحسبان أن الدستور هو سند وجود هذه السلطات جميعاً وهو مصدر شرعيتها فإذا كان ذلك كذلك فإنه لا يتصور أن يصدر عن السلطة التشريعية قانون يخالف الدستور وكذلك أيضاً لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تصدر قرارات مخالفة للدستور الذي هو سند وجود هذه السلطة وهو الذي أعطاها ما تمارسه من اختصاصات..) .

وعليه فإن السلطة التشريعية تلتزم، طبقاً لهذا المبدأ، بأن لا تصدر أي قانون يخالف أو يناقض النص الدستوري والقيود الموضوعية الواردة فيه.(23)

ومن تطبيقات مبدأ سمو الدستور في قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر،نورد التطبيقات القضائية الآتية :(24)

1ـ قضت المحكمة بعدم دستورية الفقرة (1) من المادة(40) من قانون التأمين الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 79 لسنة 1975، وذلك فيما نصت عليه من وقف صرف المعاش فى حالة قيام صاحب المعاش بالعمل بإحدى الجهات الخارجة عن مجال تطبيق القانون لوجود نظام بديل مقرر وفقاً للقانون وذلك حتى تاريخ انتهاء خدمته لديها أو بلوغه السن المقررة لمخالفة ذلك لأحكام المادة 7، 12، 13، 62، 122 من الدستور والتي تكفل مضمونها التزام الدولة بكفالة الخدمات التأمينية لمواطنيها وعدم إخلالها بالملكية الخاصة التى ينصرف مدلولها على الحقوق الشخصية والعينية وهو الحق فى المعاش وهما ينشأن أصلاً من علاقتهم بجهات عملهم الأصلية . (25)

2ـ قضت المحكمة بعدم دستورية المادة 99 من قانون التقاعد والتأمين والمعاشات للقوات المسلحة رقم 90 لسنة 1975، لذات الأسباب السابق الإشارة بالفقرة (1) بشأن حظر الجمع بين المعاش والمرتب . (26)

3ـ قضـت المحكمـة بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة 40 من القانون رقم 79 لسنة 1975 بشأن التأمين الاجتماعي بالنسبة للمخاطبين بها فيما تضمنته من حرمانهم من حق الجمع بين المعاش والمرتب لمخالفـة ذلك لأحكام المـواد (7، 12، 13، 34، 40، 62 ) من الدستور . (27)

الفرع الثاني

نظرية الضرورة

هناك اسـتثناء يرد على هذا مبدأ سمو الدستور يعرف بنظرية الضرورة، وتكتسب هذه النظرية اهمية خاصة في الأوقات العصيبة التي تمر بها الدولة ، ويقتضي البحث بيان ماهيتها وموقف الفقه والتشريعات والفقه الاسلامي والمشرع العراقي منها ، ونتناول ذلك في فقرات .

الفقرة اولا ـ ماهية نظرية الضرورة:

مفاد هذه النظرية ،ان المبادئ الدستورية إنما شرعت للظروف الاعتيادية الطبيعية فأذا تعرضت الدولة لخطر جسيم او ظروف استثنائية كحرب خارجية او داخلية مثل العصيان المسلح والمظاهرات العنيفة غير السلمية او ازمة اقتصادية او كوارث طبيعية ، فيمكن وفق شروط وقيود قانونية اتخاذ تدابير استثنائية ولو ادى ذلك الى الخروج على مقتضى القواعد الدستورية. ومن هنا ظهرت في الفقه والقضاء المعاصر نظرية الضرورة التي استندت الى مبدأ روماني قديم مفاده ( سلامة الدولة فوق القانون ) والذي يجوز وفقا له وبناء على شروط وضوابط للسلطات العامة ورجالها الخروج على مقتضى القواعد الدستورية والقانونية في حالة الضرورة لاعطائها قدر من الحرية في التصرف دون خشية العقاب او الوقوع في اللامشروعية لانقاذ الدولة من خطر او ازمة اقتصادية او ازمة سياسية او غيرها لأن سلامة الدولة فوق كل اعتبار ويقوم جوهر نظرية الضرورة ، على افتراض قيام خطر جسيم وحال، يهدد كيان الدولة وأنظمتها ، بحيث لا تجدي القواعد القانونية التي وضعت للظروف العادية في مواجهته ، فتجد الدولة نفسها مضطرة لمخالفة هذه القوانين العادية من أجل مواجهة هذا الخطر الداهم الذي يهدد كيان الدولة ووفق شروط وضوابط تكاد تتفق عليها اغلب الدساتير.

الفقرة ثانيا ـ طبيعة نظرية الضرورة: توجد عدة نظريات لتحديد طبيعة الضرورة ، اهمهما نظرية الفقه الألماني ونظرية الفقه الفرنسي التي تبنتها اغلب الدساتير، فضلا عن نظرية الفقه الإسلامي:

أولا : الفقه الألماني ( نظرية الضرورة نظرية قانونية ) : يعتبر الفقه الألماني نظرية الضرورة نظرية قانونية ، ورتب على ذلك عدة اثار منها :

1ـ اذا ما واجه المجتمع والدولة خطراً او ازمة تهدد سلامتهما فان للسلطات العامة مطلق الحرية في اتخاذ ما تراه مناسبا لمواجهتها ولو ادى ذلك الى خروجها على مجمل الضوابط والقيود والقواعد الدستورية والقانونية وقواعد القانون الدولي . وقد تبنى هتلر هذه النظرية حين غزا دول الجوار الالماني بحجة ان سياستها تهدد سلامة المانيا.

2ـ كل ماتقوم به السلطات في ظل الأزمة والخطر يعتبر سليما وقانونيا ومشروعا ولو خالف الدستور ودون حاجة لاخذ موافقة من احد .

3ـ بما ان نظرية الضرورة نظرية قانونية ، فلا يتولد لاية جهة او أي مواطن حق في التعويض عن الاضرار التي تلحقه جراء اعمال الضرورة كالأجرة عن أعمال السخرة او الأضرار التي تلحق ممتلكاته

.وأساس هذه النظرية الفلسفي ان الفقه الالماني وطبقا لما يعرف بنظرية التحديد الذاتي للارادة التي قال بها هيكل واهرنك ، يرى ان الدولة انما تلتزم بالقانون بمحض ارادتها وانه يوجد الى جانب القانون المكتوب قانون عرفي يعطي للدولة الحق في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للمحافظة على سلامتها بما في ذلك مخالفة القواعد القانونية القائمة . وانها حين تخالفها انما تكون ارادتها قد اتجهت إلى إحلال قواعد أخرى تلائم الظروف الاستثنائية لتحل محل القواعد السابقة ،وعلى هذا التفسير لنظرية التحديد الذاتي تعتبر حالة الضرورة مصدراً للقواعد القانونية ، ولهذا السبب سميت بالنظرية القانونية للضرورة .(28)

ثانيا : الفقه الفرنسي: ( نظرية الضرورة نظرية سياسية )

أختلف الفقه الفرنسي حول طبيعة نظرية الضرورة، وبهذا الصدد ظهر في الفقه الفرنسي اتجاهين، أحدهما يضفي عليها مفهوماً قانونياً .بينما يرى آخرون انها ذات طابع سياسي وواقعي.

ومن انصار الطبيعة القانونية للنظرية كل من ديكي وهوريو الا انهما وبخلاف الفقه الألماني وضعا ضوابط وشروط قاسية لتطبيقها.

ويرى العلامة هوريو أن الحكومة ليس فقط لها لحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الظروف الاستثنائية كالحرب ، وإنما عليها واجب اتخاذ هذه الإجراءات لحماية الدولة استناداّ إلى حق الدفاع الشرعي ، فاذا كانت الدولة في مواجهتها لهذه المخاطر تخرج عن إطار المشروعية ، فإنها لاتخرج عن إطار القانون طالما كانت هي في حالة دفاع شرعي.

ويذهب أصحاب النظرة السياسية للمبدأ، وهو الاتجاه الغالب في الفقه والقضاء الفرنسي ، الى أن الضرورة لا تخلق قواعد قانونية ولا تحل محل القوانين القائمة ، وإن الحكومة إذا اتخذت تحت ضغط الضرورة إجراءات تخالف الأنظمة القانونية القائمة ،فإن هذه الإجراءات تعتبر بحسب الأصل إجراءات غير مشروعة ، فالإدارة ينبغي أن تلتزم بمبدأ المشروعية ليس فقط في الظروف العادية وإنما كذلك في الظروف غير العادية ، حيث غاية ما في الأمر إنه يمكن للإدارة أن تتحاشى المسؤولية الناجمة عن مخالفتها للقانون بأن تعرض على البرلمان الإجراءات التي اتخذتها وتطلب منه أن يعفيها من المسئولية بواسطة قانون بواسطة قانون يعرف في فرنسا باسم قانون التضمينات ، والقضاء هو الجهة الوحيدة المختصة بالفصل في مدى ضرورة اتخاذ الاجراءات الاستثنائية ومدى التزام الادارة بضوابط وقيود هذه النظرية ، وبذلك تكون الضرورة نظرية واقعية لا قانونية.

ومن الجدير بالذكر ان الجنرال ديكول ، الرئيس الفرنسي الاسبق ،قد اشار في الجزء الاول من مذكراته الى حادثين معلقا على احتلال فرنسا سنة 1945 ومشيرا الى نظرية الضرورة، الحادث الاول وقع معه شخصيا، وهو من ساهم بوضع دستور فرنسا لسنة 1958الذي تبنى نظرية الضرورة في المادة (16) منه ، بانه يجب القول بأن النظام في ذلك الوقت لم يكن يسمح لرئيس الحكومة الاخيرة في الجمهورية الثالثة بأن يتخذ أي اجراء ، وان اضمحلال الدولة كان في الواقع ماسأة قومية ، وقد ادى هذا الحادث الى التنبه الى منح رئيس الجمهورية الاختصاصات التي تمكنه من مواجهة الازمات الوطنية ، اما الحادث الثاني فيرحع الى سنة 1851 حيث قاد رئيس الجمهورية الثالثة لويس نابليون انقلابا اقام بعده نظاما دكتاتوريا للحكم ، وكان لذلك الحادث الثاني اثره في في ضبط ممارسة رئيس الجمهورية لسلطاته في حالة الازمة الوطنية بشروط شكلية وموضوعية معينة .(29)

ويترتب على المفهوم السياسي للنظرية عدة اثار :

اولاـ إخضاع نظرية الضرورة لعدد من الشروط والضوابط ، وكما يلي:

الشرط الاول ـ أن يكون هناك ظرف استثنائي حقيقي يتولد عنه خطر جسيم وحال يهدد سلامة وأمن الدولة أو النظام العام كالحرب أو العصيان المسلح أو الإضراب العام ،بحيث لا تجد الإدارة أي فرصة للجوء إلى وسيلة أخرى لمواجهته.

الشرط الثاني ـ أن تكون الإجراءات التي تتخذها الإدارة ضرورية لمواجهة هذا الخطر، أي إستحالة مواجهة هذا الخطر بالطرق العادية وعن طريق المؤسسات الدستورية المختصة. وفحوى هذا الضابط أنه إذا وجدت وسيلة قانونية أو دستورية تستطيع أن تواجه المخاطر التي تهدد سلامة الدولة ، فإنه يجب الرجوع في تلك الحالة إلى هذه الوسيلة ، أما إذا كانت المخاطر لا تجدي معها نفعاً هذه الوسائل بحيث تصبح عاجزة عن مجابهتها ، فإن الرجوع إلى نظرية الضرورة وتطبيقاتها يكون أمراً لا مناص منه .

الشرط الثالث ـ أن تكون الإجراءات التي تتخذها الإدارة متناسبة مع حالة الضرورة فلا تتجاوزها لإن الضرورة تقدر بقدرها.
. ثانياً ـ تخضع إجراءات وأعمال الإدارة الاستثنائية لرقابة القضاء ولكل ذي مصلحة ان يطعن بإجراءات السلطات الاستثنائية امام القضاء. ويضفي مجلس الدولة الفرنسي صفة المشروعية على الإجراءات التي تقوم بها الإدارة من أجل التغلب على الظروف الاستثنائية شريطة التقيد بالضوابط والشروط اللازمة.

ثالثا ـ ان تتوقف السلطات عن هذه الإجراءات بمجرد انتهاء الظروف الاستثنائية.

رابعاَـ استنادا لمبدأ مساواة المواطنين امام التكاليف العامة فان لكل متضرر من جراء اعمال الضرورة الحق في الحصول على تعويض .(30)

ثالثا ـ نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي:

اقرت الشريعة الاسلامية نظرية الضرورة في وقت مبكر سبقت فيه الشرائع الحديثة بعدة قرون ، حيث اشارت اليها بوضوح النصوص القرآنية الكريمة والسنة السنة النبوية الشريفة ، وتولى فقهاء الشريعة دراسة هذه النصوص واستنبطوا منها قواعد كلية وفرعية في العبادات والمعاملات ،وبنوا احكامها الشرعية على مستلزمات الضروريات الخمس وهي ( حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل) وذهبوا الى أن المحافظة على هذه الضروريات الخمس تبيح مخالفة التكاليف الشرعية بعد ان اشتقوا لها احكاما وشروطا وقيودا من مصادر الحكم الشرعي .وعرف بعضهم الضرورة بانها (خوف من الهلاك على النفس أو المال سواء أكان هذه الخوف علماً أي أمراً متيقناً أو ظنناً يراد به الظن الراجح وهو المبني على أسباب معقولة) . وتقوم نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي على قاعدتين هما ، قاعدة المشقة تجلب التيسير وقاعدة لا ضرر ولا ضرار .

اولا : المشقة تجلب التيسير:

ويقصد بها أن المشقة التي تخرج عن المعتاد تجلب التيسير ، وتتحقق هذه المشقة إذا كان من شأن التكليف ايقاع الضرر بالمكلف في نفسه اوماله او في ما يعد من ضروريات حياته ومعاشه .

. ومن ادلة القاعدة قوله تعالى ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ ) ، وقوله تعالى ) فَمَنِ اضطُرَ غَيرَ بَاغٍ ولاَ عَادٍ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ إِنَ اللَهَ غَفُورُُ رَحِيمُُ ) ،وقوله تعالى ( ما يُرِيدُ الله لِيَجعَل عَلَيكُم مِن حَرَجٍ ) (31) . وحديث الرسول الامين صلى الله عليه وسلم (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .

ويتفرع عن هذه القاعدة الأصولية عدد من القواعد منها :

1ـ قاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات )، ومن تطبيقات هذه القاعدة ( إباحة شرب الخمر لدفع العطش لمن أشرف على الهلاك ولم يجد سوى الخمر ، جواز النطق بكلمة الكفر للمضطر ، إباحة أكل الميتة عند الضرورة )

2ـ قاعدة ( الضرورة تقدر بقدرها ) ، ومفادها أن المضطر لا يأكل ولا يشرب من الاشياء المحرمة إلا ما يسد به رمقه .

ثانياً : لا ضرر ولا ضرار :

وسندها حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حيث قال (لا ضرر ولا ضرار ) ويتفرع عن هذه القاعدة عدد من القواعد منها ) الضرر يزال بقدر الإمكان) وقاعدة( يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام ) وقاعدة ( الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ) وقاعدة ) الضرر لا يزال بالضرر) وقاعدة ( درء المفاسد اولى من جلب المصالح ) .

ومن ذات المصادر الشرعية استنبط فقهاء الشريعة احكاما وشروطا وقيوداً لتطبيق حالة الضرورة منها ان الضرورة تقدر بقدرها ، وان يكون الخطر الذي يبرر الاضطرار جسيما وحالا ، وان لا يوجد طريق غيره لدفع الخطر ، والعودة للحكم الشرعي الاصلي عند زوال اسباب الاضطرار .

ومن تطبيقات ذلك أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد عطل انزال حد السرقة في عام المجاعة والذي يعرف في التاريخ الاسلامي بعام الرمادة. (32)

الفقرة ثالثا ـ تطبيقات نظرية الضرورة في التشريع والقضاء:

تغطي نظرية الضرورة النظام القانوني برمته .وقد نصت عليها دساتير معظم الدول وذلك استثناءا من مبدأ الفصل بين السلطات بينما تبناها القضاء في بعض الدول دونما نص خاص وانما على أساس التوسع في تفسير النصوص. حيث نصت عليها المادة (16) من دستور فرنسا لسنة 1958 والمواد(74،108،147 ، 148) من الدستور المصري لسنة 1971 والمادة (71) من الدستور الكويتي والمادة(36) من دستور مملكة البحرين ، والمادة(61)من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 . وفي الولايات المتحدة الامريكية واثناء حرب الانفصال وضع الرئيس الامريكي لنكولن النظرية محل التطبيق لمواجهة خطر الانفصال دون وجود نص دستوري يجيز وقف تطبيق الاحكام الدستورية المتعلقة بحقوق الافراد ، الا ان الكونكرس صادق بعد ذلك على اجراءات الرئيس بناءاً على قناعته بان مصلحة الامة الامريكية اقتضت ذلك.

ونصت المادة 147 من دستور جمهورية مصر العربية على انه ( اذا حدثت في غيبة مجلس الشعب ما يوجب الاسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير ، جاز لرئيس الجمهورية ان يصدر في شأنها قرارات يكون لها قوة القوانين …)

وجاء في المذكرة التوضيحية للمادة (36) من دستور مملكة البحرين( لما كانت القاعدة الشرعية أن الضرورات تبيح المحظورات ، وكانت سلامة الدولة فوق القانون ، ونظرا لما يمكن أن تتعرض له المملكة من ظروف طارئة تهدد سلامة البلاد ، سواء أكانت هذه الظروف خارجية كالحرب أم داخلية كاضطراب الأمن العام أو حدوث فيضان أو وباء أو ما شابه ذلك ، كان من الضروري منح سلطات الدولة الوسائل الاستثنائية التي تكفل حماية الدولة وسلامتها في تلك الظروف …)

وقد قضى مجلس الدولة الفرنسي بصحة مرسوم أصدره رئيس الجمهورية في 10 سبتمبر 1914م يقضي بإيقاف المادة 65 من قانون 22 إبريل 1905م الخاص ببعض ضمانات الوظيفية ، خلال فترة الحرب ، وقد رأى مجلس الدولة الفرنسي أن هذا الإيقاف يعد مشروعاً ، وفي ذلك اعتراف بحق الحكومة في وقف كل الضمانات الفردية ودون إذن تشريعي وهو ما يعني إمكانية الحكومة الاعتداء على مبدأ المشروعية متمثلاً في القاعدة الدستورية الأساسية التي تقضي بخضوع اللائحة أو المرسوم للقانون وعدم تعارضه معها . ولتبرير ذلك الموقف استند مجلس الدولة إلى نص المادة الثالثة من دستور 1875م (النافذ في حينها) والتي تحمل رئيس الدولة مهمة الإشراف على تنفيذ القوانين على أساس أن هذا الإشراف على القوانين سيما المنظمة للمرافق العامة يقتضي منه السهر على سير المرافق دون توقف أو تعطل وخاصة زمن الحرب حتى لو أدى ذلك إلى خرق القوانين الأخرى التي ينتج عن تطبيقها إعاقة سير المرافق العامة بانتظام ، وهكذا فإن بعض القوانين يجب ضمان تطبيقها في زمن الحرب لأنها تسمح بسيرالمرافق العامة ، ولكن البعض الآخر يعوق هذا السير الذي ينبغي عليه أن يتوقف .(33)

ولنظرية الضرورة تطبيقاتها في القانون الجزائي ففي حالة الدفاع الشرعي لا يسأل جزائياً من ارتكب فعلاً دفعته لارتكابه ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس أو المال (34) وكذلك في القانون الخاص الذي تبنى نظرية الظروف الطارئة ، ويأخذ القضاء الادراي بنظرية الضرورة أيضاً في مجال القانون الإداري ، حيث لم يعتبر مجلس الدولة الفرنسي الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي خطأ من جانب الإدارة ، إذا كان سوف يترتب على تنفيذه إخلال جسيم بالأمن العام ، وتقرر هذه النظرية للإدارة الحق في القيام بالإجراءات المستعجلة اللازمة لدفع كل خطر يهدد الأمن أو الصحة العامة دون تقيد بالقوانين واللوائح . بل وتسمح هذه النظرية للإدارة بتعديل إلتزاماتها التعاقدية ، كما تقرر هذه النظرية للمتعاقد مع الإدارة حقوقاً تسمح بإعادة التوازن المالي للعقد إذا طرأت ظروف استثنائية أثرت على هذا التوازن .(35)

الفقرة رابعاً: الصفة الدولية لنظرية الضرورة:

أضفت قواعد القانون الدولي العام الصفة الشرعية على نظرية الضرورة وأجازت عدم الالتزام بالقواعد الدولية الضامنة للحقوق والحريات العامة في حالة الطوارئ وفقا لشروط وضوابط معينة. فقد نصت الفقرة الأولى من المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 على انه ( 1. في حالة الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة ، والمعلن قيامها رسمياً ،يجوز للدول الأطراف في هذا العهد ان تتخذ ، في اضيق الحدود التي يتطلبها الوضع ، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد ، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليه بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الأصل الاجتماعي ) (36)

الفقرة خامسا ـ نظرية الضرورة في الدستور العراقي:

نصت الفقرة (تاسعاً) من المادة (61) على نظرية الضرورة وعبرت عنها بـمصطلح ( حالة الطوارئ )، حيث جاء فيها ضمن تعدادها لاختصاصات مجلس النواب :

( تاسعاً : أ ـ الموافقة على اعلان الحرب وحالة الطوارئ بأغلبية الثلثين، بناءا على طلبٍ مشترك من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء . ب ـ تعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثين يوماً قابلة للتمديد وبموافقةٍ عليها في كل مرة . ج ـ يخول رئيس مجلس الوزراء الصلاحيات اللازمة التي تمكنه من إدارة شؤون البلاد في اثناء مدة اعلان الحرب وحالة الطوارئ وتنظم هذه الصلاحيات بقانون بما لايتعارض مع الدستور . د ـ يعرض رئيس مجلس الوزراء على مجلس النواب الاجراءات المتخذة والنتائج في اثناء مدة اعلان الحرب وحالة الطوارئ خلال خمسة عشر يوماً من انتهائها .)

الفرع الثالث

مخالفة القيود الموضوعية الواردة بالدستور

تتضمن الدساتير عادة العديد من القيود التي لا يجوز للهيئة التشريعية وهي بصدد استعمالها لحقها في التشريع ان تخرج على مقتضاها ، ومن هذه القيود على سبيل المثال وليس الحصر ، شخصية العقوبة وعدم رجعية القوانين الجنائية مالم تكن اصلح للمتهم ، حظر إسقاط الجنسية عن المواطنين، وحق التنقل والسفر.

وهذه القيود تتراوح بين السعة والتضييق، فقد يتولى الدستور صراحة تحديد نطاق موضوع معين تحديداً كاملاً بحيث يحرم المشرع عند مباشرته من أية سلطة تقديرية، فإذا حظر الدستور رجعية القوانين وأقدم مجلس النواب على سن قانون يجيز الاثر الرجعي في هذه القوانين فان المجلس في هذه الحالة يكون قد شرع في موضوع لا يملك التشريع فيه لان الدستور حظره عليه ،كذلك الامر عندما يقرر الدستور مبدأ مساواة الموطنين جميعا أمام القانون فان مجلس النواب لا يملك إن يسن تشريعا يخل بقاعدة المساواة وتكافؤ الفرص حتى وان كان في ذلك الإخلال مظهر من مظاهر العدالة ،كان يمنح فئة من المجتمع او ابناء فئة معينة ميزة معينة تميزهم عن غيرهم ، فإذا صدر مثل ذلك التشريع فانه يعتبر غير دستوري لان موضوع التشريع خالف قاعدة دستورية أصلية هي مبدأ تكافؤ الفرص ومبدأ المساواة بين المواطنين جميعا أمام القانون.

وقضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بعدم دستورية المعاملة الاستثنائية فى القبول بالتعليم العالي والتى تتضمنها النصوص التشريعية التى تستتبع قبول فئات مستثناة محل من يتقدمونهم طبقـاً للشروط الموضوعة والمقررة للقبول مما يشكل مخالفة للمادتين 8، 40 من الدسـتور وإخـلالاً بكل من الحق فى تكافؤ الفرص وحق المساواة يناقض المساواة التى كفلها الدستور . (37)

وقضت هذه المحكمة بعدم دستورية ما تضمنه البند (أ) من المادة الثالثة من القانون رقم 99 لسنة 1992 بشأن التأمين الصحى على الطلاب وذلك بتقرير تحمل طلاب المدارس الخاصة ورياض الأطفال الخاصة اشتراكات سنوية لتمويل هذا التأمين تزيد عن المقررة على غيرهم من الطلبة لما فى ذلك إخلال بحق المساواة المقرر بالمادة 40 من الدستور . (38)

ومن الجدير بالذكر ان الدستور المصري قد حَضر في المـادة (40) منه التمييز على أساس الجنس أو الأصل أو اللون أو الدين أو العقيدة . وقد ذهبت المحكمة الاتحادية العليا في مصر الى أن إيراد الدستور لصور بعينها مرده هو كونها الأكثر شيوعاً ولا يدل على انحصاره فيها، إذ لو كان ذلك لأدى إلى أن التمييز مباح فيما عداها وهو ما وفي حكم مهم اخر لها جاء فيه ، أن ذكر الدستور المصري لصور بذاتها محظور لا غير فيها التمييز، مرده أنها الأكثر شيوعاً فى الحياة العملية ولا يدل على انحصاره فيها، إذ لو صح ذلك لكان التمييز بين المواطنين فيما عداها جائزاً دستورياً وهو ما يناقض المساواة التى أرساها الدستور، وأوضحـت المحكمـة فى أسبابها أن آية ذلك وجود صور من التمييز التى أغفلتها المادة (40) من الدستور ما لا تقل عن غيرها خطراً كالتمييز بين المواطنين فى نطاق الحقوق التى يتمتعون بها أو الحريات التى يمارسونها لاعتبار مرده لمولدهم أو مركزهم الاجتماعي أو انتمائهم الطبقي أو ميولهم الحزبية أو نزعاتهم العرقية أو عصبيتهم القبلية أو موقفهم من السلطة العامة أو أعراضهم عن تنظيماتها أو تبنيهم لأعمال بذاتها، وغير ذلك من أشكال التمييز .

وذهبت المحكمة الى أن صور التمييز المجافية للدستور وأن تعذر حصرها إلا أنها كل تفرقة أو تقييد أو تعطيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التى يكفلها الدستور أو القانون سواء بإنكارها أو تعطيلها أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم المساواة الكاملة على المؤهلين قانوناً للانتفاع بها وبوجه خاص على صعيد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغير ذلك من مظاهر الحياة العامة . (39)

وتبنى الدستور العراقي لسنة 2005 الاصل العام الذي يتيح لمجلس النواب التشريع في أي موضوع من الموضوعات باعتباره صاحب الاختصاص الاصيل في التشريع،الا انه اورد قيودا موضوعية على سلطته لضمان عدم انحراف التشريعات عن المباديء والقيم التي تبناها الدستور ، كما يتضح من النصوص التالية :

نصت المادة (2) من الدستور على انه (اولاً : الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع :

أـ لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام . ب ـ لايجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية .)

كما جاء في المادة (18) منه ( أولاً : الجنسية العراقية حقٌ لكل عراقي، وهي أساس مواطنته . ثانياً : يعدّ عراقياً كل من ولد لأب عراقي أو لأمٍ عراقية، وينظم ذلك بقانون . ثالثاً : أ ـ يحظر إسقاط الجنسية العراقية عن العراقي بالولادة لأي سببٍ من الاسباب، ويحق لمن اسقطت عنه طلب استعادتها، وينظم ذلك بقانون .)

ونصت المادة (95) منه على تطور قانوني مهم بقولها ( يحظر انشاء محاكم خاصة أو استثنائية .)

وكذلك الامر بالنسبة للمادة (100) منه بقولها (يحظر النص في القوانين على تحصين اي عمل أو قرار اداري من الطعن .) ونصت المادة (112) من الدستور على ضوبط ادارة النفط والغاز .

ونصت المادة(114) من الدستور على الاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الاقاليم .

وحيث إن هذه القيود الموضوعية قد نص عليها الدستور صراحة يتوجب على السلطة التشريعية مراعاتها عندما تقوم بمهمتها بسن القوانين ، فلا تخرج عنها وإلا كانت عرضة لتقريرعدم دستوريتها من قبل المحكمة الاتحادية العليا.

وإذا كان من المقرر إن الأصل في المشرع انه يملك سلطة تقديرية تتصل بمحل التشريع الذي يختص بسنه. إلا انه في أحيان محدودة تكون سلطة المشرع مقيدة وفقا لما ينص عليه الدستور .

الفرع الرابع

مدى السلطة التقديرية للمشرع

التقدير عموما هو امكانية الخيار الحر والملائمة بين عدة خيارات او حلول ، وعلى هذا تكون السلطة التقديرية بمعنى الاستقلال لمن يملك اتخاذ قرار طبقا لارادته الذاتية ، اما السلطة المقيدة فتعني التحديد المسبق والملزم للتصرف وفقاٌ لقاعدة قانونية ملزمة لا تترك مجالا لاعمال الارادة الذاتية لمن يصدر قرارا او حكما .

يتمتع المشرع بسلطة تقديرية تتصل بمحل التشريع الذي يختص بسنه كلما كانت قاعدة الدستور قد تركت له حرية الاختيار بين عدة حلول كلها في ميزان الشرعية سواء. فيستطيع بذلك ان يحدد بحرية محل التشريع الذي منحه الدستور حق إصداره، وعلى العكس من ذلك يكون المشرع متمتع بإختصاص مقيد أو سلطة مقيدة فيما يتعلق بمحل التشريع عندما لاتترك له قواعد الدستور إمكانية الاختيار بين عدة حلول ، بعبارة أخرى إن السلطة التقديرية متمثلة في قدرة المشرع في الاختيار بين محلين أو أكثر .(40)

أما الاختصاص المقيد فيبدو في عدم امكانية الاختيار، لإنه لا يستطيع أن يختار إلا محلا معينا هو الذي ينطبق مع النص الدستوري الذي أوجبه وإذا لم يلتزم المشرع هذا التطابق في تشريعه ، كان تشريعه مشوبا بعيب مخالفة الدستور.

ونتناول بالبحث الرقابة الدستورية عندما تكون للمشرع سلطة تقديرية وكذلك عندما تكون سلطة المشرع مقيدة:

الفقرة أولا ـ الرقابة على دستورية القوانين عندما تكون سلطة المشرع تقديرية :

الاصل في الرقابة الدستورية عل القوانين انها رقابة مشروعية لا رقابة ملائمة ، واستقرت اراء الفقهاء واحكام القضاء الدستوري على انه عندما يتمتع المشرع بسلطة تقديرية فانه لا تعقيب على سلطته هذه مادام انه قد التزم حدود القواعد العامة للتشريع وما تضمنه الدستور من قواعد وموجهات وقيود .

ومن البديهي ان السلطة التقديرية لا تعني اطلاق سلطة المشرع ولا تصل الى حد إهدار أصل الحق الذي قرره الدستور أو حتى الانتقاص من ذلك الحق, ذلك ان نظام (السلطة التقديرية) الممنوحة للمشرع (او القاضي او رجل الادارة) انما يهدف الى اضفاء شيء المرونة على اعمال المشرع بهدف تمكينه من معالجة الوقائع العامة وتطوراتها المستقبلية ، معالجة تتفق مع الاحوال العامة للمجتمع وروح العصر وقت التشريع لا وقت سن الدستور .(41)

وفي هذا الصدد قضت المحكمة الدستورية العليا المصرية بانه (وان كان الأصل في سلطة التشريع عند تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية وان الرقابة القضائية على دستورية التشريعات لا تمتد الى ملاءمة إصدارها إلا إن هذا لا يعني إطلاق هذه السلطة في سن القوانين دون التقيد بالحدود والضوابط التي نص عليها الدستور . . ومن ثم فان تنظيم المشرع لحق المواطنين في الانتماء الى الأحزاب السياسية ومباشرتهم للحقوق السياسية ينبغي إن لا يعصف بهذه الحقوق أو يؤثر على بقائها على نحو ما سلكه النص المطعون عليه إذ تعرض لحقوق عامة كفلها الدستور وحرم فئة من المواطنين منها حرمانا مطلقا ومؤبدا على ما سلف بيانه مجاوزا بذلك دائرة تنظيم تلك الحقوق الأمر الذي يحتم إخضاعه ما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية .) (42)

يتضح في ضوء ماتقدم إن محل التشريع يجب إن يظل في إطار الإحكام والقيود التي فرضها الدستور وان تمتع المشرع بسلطة تقديرية.

الفقرة ثانيا ـ الرقابة على دستورية القوانين عندما تكون سلطة المشرع مقيدة:

إذا كان الأصل ان للمشرع سلطة تقديرية في ملائمة محل التشريع للظروف والحاجات الاجتماعية الراهنة ، فان المشرع الدستوري يلجأ في احيان معينة الى تقييد سلطة المشرع وذلك بالنسبة للثوابت التي يتبناها المشرع الدستوري ويرى فيها احكما غير قابلة للتقدير او التبديل مهما مر الزمان او تغيرت احوال الجتمع وظروفه .

من ذلك ما جاء في الباب الاول (المبادئ الأساسية) من دستور جمهورية العراق من قيود على ارادة المشرع لاتقبل التقدير ، حيث نصت المادة (1)( جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي . وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق .)

ونص المادة (2) (اولاً : الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع : أـ لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام . ب ـ لايجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية . ج ـ لايجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور . ثانياً : يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والآيزديين والصابئة المندائيين .)

من ذلك ما قرره المشرع الدستوري العراقي في المادة (18) التي نصت (ثالثاً : أ ـ يحظر إسقاط الجنسية العراقية عن العراقي بالولادة لأي سببٍ من الأسباب، ويحق لمن اسقطت عنه طلب استعادتها، وينظم ذلك بقانون .) فان المشرع العادي لا يملك إن يسن تشريعا ينظم فيه بعض حالات اسقاط الجنسية و ما جاء في المادة (19) ( ثامناً: العقوبة شخصية .) وبناءا على ذلك فان المشرع لا يستطيع ان يقرر مساءلة الأبناء عن جريمة أبيهم ، اوحجزهم حتى يسلم نفسه في حالة هروبه.

وهكذا الحال في بقية النصوص التي لم يترك الدستور العراقي أية سلطة تقديرية للمشرع ، حيث انه اذا ما صدر أي قانون غير مراعياً للقيود التي فرضها الدستور فان يكون محلا للطعن امام المحكمة الاتحادية العليا.

وفي حالات اخرى يكون فيها محل التشريع ممكنا ولكن سلطة المشرع في تنظيم ذلك المحل تكون مقيدة، ومن الأمثلة التي تضيق فيها سلطة المشرع هي المواضيع الجنائية التي تعرض الدستور لتنظيمها بنصوص لا تقبل اللبس ، من ذلك مثلا ما جاء في المادة (19) من دستور 2005 حيث تقول (تاسعاً: ليس للقوانين اثر رجعي ما لم يُنص على خلاف ذلك، ولايشمل هذا الاستثناء قوانين الضرائب والرسوم . عاشراً : لا يسري القانون الجزائي بأثر رجعي إلا إذا كان اصلح للمتهم )

. في مثل هذه النصوص المقيدة لسلطة تقدير المشرع ، تضيق سلطة المشرع الى مدى بعيد حينما يتولى التشريع في هذه المواضيع . وعلى سبيل المثال ،لا يستطيع المشرع إن ينظم توقيع العقوبة الجزائية بقرارات إدارية لان العقوبة الجزائية لا تكون إلا بحكم قضائي ، كما انه لا يستطيع إن يجيز الأثر الرجعي للقوانين الجنائية مالم تكن اصلح للمتهم . وهنا يوشك المحل إن يمتنع على المشرع العادي وعندما ينص الدستور على ان المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة . هنا أيضا تضيق الى حد بعيد سلطة المشرع ، ولكنها لا تنعدم كما يري البعض فهو لا يستطيع مثلا إن يسن تشريعا يعتبر المتهم مدانا قبل الحكم عليه الا انه يستطيع ان يحدد مفهوم المحاكمة القانونية العادلة ومتى تكون المحاكمة قانونية ومتى لا تكون ،في مثل هذه الاحوال يوجد قدر محدود من السلطة للمشرع لكنها لا تصل الى حد إهدار النص الدستوري . (43)

وقد تتراوح سلطة المشرع بين التقدير والتقييد في ذات النص الدستوري ومن ذلك ماجاء في المادة (15):( لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولايجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرار صادر من جهة قضائية مختصة .) وماجاء في المادة (38) على انه ( تكفل الدولة وبما لايخل بالنظام العام والآداب: اولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل . ثانياً : حرية الصحافة والطباعة والاعلان والاعلام والنشر . ثالثاً : حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون .) وفي تطور دستوري واضح نصت المادة (42) ( لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة .) حيث يلاحظ ان هذه المادة لم تضع قيود ايديولوجية على حرية الفكر والضمير والعقيدة ، كما هو حال اغلب دساتير الانظمة الشمولية التي تربط ممارسة الحريات بقيود من خلال استخدام تعابير مرنة ، ومن الطبيعي ان ممارسة هذا الحق تكون وفقا للقانون.

وفي ضوء هذه النصوص الدستورية ، فان للمشرع العادي إن يتعرض لتنظيم الحق في الحياة والأمن والحرية من حيث الاتاحة او الحرمان او القيود على ان يكون ذلك بقانون يوكل امر تطبيقه للقضاء ، الا ان له وفقا لسلطته التقديرية ان يضع عليها بعض القيود ، وكذلك تبدو سلطته التقديرية واضحة في تحديد مفهوم النظام العام والاداب من حيث انه مفهوم مرن وواسع ويقبل وجهات نظر متعددة ،الا انه مع ذلك يجد نفسه مقيدا بما فرضه الدستور من مباديء وإذا تجاوز تنظيمه لهذا الحق حدود التنظيم الى الانتقاص من جوهر الحق ذاته أو إهداره فانه عندئذ يكون قانونا معيبا ويخضع لرقابة المحكمة العليا ومحلا للطعن امامها بالنصوص التي تنتقص أو تهدر الحق في حرية الرأي أو التعبير عنه انتقاصا يخل بالأصل الذي قرره الدستور .

وماجاء في المادة (28) ( اولاً: لاتفرض الضرائب والرسوم ولاتعدل ولاتجبى، ولايعفى منها، إلا بقانون . ) فالضرائب لا تفرض الا بقانون ، الا ان سلطة المشرع التقديرية تتجسد في تحديد نوع الضرائب التي تفرض ونسبة الضرائب على المال الخاضع للضريبة ، وكيفية تعديلها وطريقة جبايتها والاعفاء منها . وسلطته هذه مقيدة بالثوابت العامة التي جاء بها الدستور ومبادئ حقوق الانسان، فان كانت له سلطة تقديرية فان ذلك لايعنى ان له ان يغالي في فرض الضرائب من حيث النوع والمقدار لانه ذلك يتعارض مع الحقوق الاقتصادية للمواطن وحقوق الانسان والمبادئ الدولية بهذا الشأن.

الفرع الخامس

مخالفة مبدأ سيـادة الـقـانـون

أن سيادة القانون تعني أن يتم تطبيق حكم الدستور والقانون على جميع السلطات في الدولة ، التشريعية ، التنفيذية ، القضائية ، وعلى كل المواطنين في المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية او الدينية او العرقية او الجنسية ، وبغض النظـر ايضا عن الدور والمراتب الاجتماعية التى يحتلونها فى الحياة الاجتماعية العامة .

نصت المادة (5)على انه ( السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية.)

وجاء في المادة (6)على انه( يتم تداول السلطة سلمياً عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور.)

المادة (14): العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الاصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي .

المادة (15): لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولايجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرار صادر من جهة قضائية مختصة .

المادة (16): تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين، وتكفل الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتحقيق ذلك .

ويمكن تحديد مظاهر سيادة القانون في خضوع سلطات الدولة كافة للدستور هذا المقام كالاتي :

الفقرة اولا ـ خضوع السلطة التشريعية للدستور: يجب على السلطة التشريعية ان تراعي احكام الدستور ومبادئه العامة والقيود التي اوردتها تلك المباديء على صلاحياتها التشريعية ولا تتجاوزها، ويتحقق ذلك من خلال وضع قواعد قانونية عامة ومجردة تطبق على كل من توافرت فيه شروطها القانونية .

أـ خروج القانون على قاعدتي العمومية والتجريد في التشريع : مبنى العمومية والتجريد في القاعدة القانونية هو اقامة العدل وتحقيق مبدأ مساواة المواطنين امام القانون وتحقيق الاستقرار في المجتمع ، وتعني العمومية ان القاعدة القانونية تسري على جميع الحالات المتشابهة وعلى جميع الافراد بصفاتهم لا ذواتهم ، اما التجريد فيعني سمو القاعدة القانونية على التفصيلات وتحرر خطابها من الميل او الهوى او المحاباة ، واذا تجردت القاعدة القانونية من العمومية والتجريد فلا تعد قاعدة قانونية في معناها وحقيقتها وانما ستارا لتفضيل شخص او اشخاص معينين بذواتهم او فئة معينة على فئات المجتمع الاخرى . ومن ذلك ان يصدر المشرع قانونا يحرم طائفة معينة من حق او حرية محددة أو يمنح طائفة من الطوائف امتيازا خاصا او ان يخص سلطة معينة برواتب ضخمة لا تتناسب مع رواتب الموظفين من الفئات الاخرى، لان ذلك يخل بمبدأ مساواة المواطنين امام القانون.(44)

ومن جانب اخر ان وجود حصانة نيابية لعضو مجلس النواب لا يعني انه يستطيع ان يرتكب من الجرائم ما يشاء ويدخل في حماية مجلس النواب او كتلته النيابية ، لان مبدأ سيادة القانون مبدأ دستوري في ظل دستور العراق لسنة 2005 ويجب احترام هذا المبدأ وان يقتصر استعمال حق رفض رفع الحصانة وفقا لاعتبارات الغاية الاصلية من تقرير هذا الحق ، ان الغاية الأساسية من هذا الحق هو حماية النائب من الدعاوى الكيدية سواء جاءت من السلطة التنفيذية او من عموم المواطنين ، وفي هذه الحالة ينبغي ان يقرر مجلس النواب رفع الحصانة من عدمها في ضوء جدية الاتهامات ، ومن قرائن جديتها ان يكون طلب رفع الحصانة قد صدر من قضاء مستقل لا يخضع للتأثيرات السياسية .

ب ـ المبادئ الدستورية التي اكدتها المحكمة الدستورية العليا المصرية في مجال سيادة القانون والمشروعية ، نورد التطبيقات القضائية الآتية: 1ـ قضت المحكمة بعدم دستورية البند السادس من المادة (37) من قانون مجلس الدولة الصادر بالقرار بقانون رقم (47) لسنة 1972، فيما نص عليه من ألا يعين عضو بمجلـس الدولة من يكون متزوجاً بأجنبية لمخالفة ذلك للنصوص الدستورية أرقام 9، 12، 13، 40 ، 45من الدستور لما فيه من مساس بالحرية الشخصية والحق فى الزواج واختيار الزوج وتكوين أسـرة .
واشارت المحكمة الدستورية إلى أنه وإن كان حق الزواج واختيار الزوج لم يرد بالدستور إلا أن إغفال الوثائق الدستورية لبعض الحقوق لا يعنى إهمالها ، وأن إمعان النظر فى الدستور ككل والنظر لمواده بصورة مترابطة ترشح لحقوق أخرى لم ترد أصلاً بالدستور وأشارت المحكمة إلى أن الزواج واختيار الزوج هى من الحقوق المرتبطة أصلاً بالحرية الشخصية وهى الأساس الطبيعي لتكوين الأسرة، وكل من الحقين الآخرين نص الدستور على حمايتهما . (45)

ومن الجدير بالذكر ان الفقرة (اولا) من المادة (29)من دستور جمهورية العراق نصت على انه : (اولاً: أـ الأسرة اساس المجتمع،وتحافظ الدولة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية)

2ـ قضت المحكمة بعدم دستورية المادة 89 من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 49 لسنة 1972 بشأن تنظيم الجامعات فيما تضمنه من عدم جعل مرافقة الزوج المرخص له بالسفر أمراً وجوبياً على جهة الإدارة أسوة بالعاملين بالدولة مما يشكل إخلالاً بمبدأ المساواة وتمايز على غير أسس موضوعية ومساسا بمبدأ وحدة الأسرة وتماسكها وواجب المحافظة على تماسكها . (46)

4 ـ قضت المحكمة بعدم دستورية الفقرة (2) من المادة (21) من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983 والمتضمنة حرمان من تجاوز سن معينة من حق القيد بالجـدول العـام للمحامين العاملين بمهنة المحامـاة رغم توافر شروط العضوية، لما فى ذلك من مخالفة لكل من حق العمل حق المساواة ويعد مخالفة بالتالى للمواد 13، 25، 40، 47، 54، 56 من الدستور . (47)

5 ـ قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية المادة ( 34 م2) من قــرار وزيــر العدل رقم (4853 لسنة 1981) فيما نصت عليه من وقف صرف المعاش الإضافي إذا مارس عضو الهيئة القضائية مهنة غير تجارية فى الداخل، بعد انتهاء مدة خدمتهم، وذلك تأسيساً على أن حق العمل وثيق الصلة بالملكية والحرية الشخصية وبالحق فى الإبداع، وجميعها من الحقوق التى حرص الدستور على صونها وعدم إهدارها أو تقييدها، وأن حرمان هذه الطائفة من المعاش الإضافي يعد مخالفة لحق العمل والمساواة وحرية الإبداع . (48)

الفقرة ثانيا ـ خضوع السلطة التنفيذية للدستور وللقانون( مبدأ المشروعية ) : ومقتضى ذلك انه لا يجوز للادارة بمختلف هيئاتها ان تتخذ اى عمل او تصدر اى امر او قرار الا بمقتضى الدستور والقانون وتنفيذا لهما . ومرد ذلـك الى أمرين :

الاول : هو انه لكى يتحقق هذا المبدأ يلزم ان تكون الاجراءات الفردية التى تتخذها السلطات العامة منفذة لقواعد مجردة موضوعة سلفا فتتحقق العدالة والمساواة .

الثانى : هو ان القانون يصدر عن هيئة منتخبة تمثل الشعب وتمارس السيادة بأسمه ومن ثم لايجوز للسلطات الادارية ان تلزم الافراد بشئ خارج الدستور او القوانين النافذة ، فمن ناحية لا تستطيع الادارة حينما تدخل في معاملات مع الافراد ان تخالف الدستور اوالقانون ومن ناحية اخرى لا تستطيع ان تفرض عليهم شيئا الا اعمالا للدستور والقانون . وبخلافه يتحقق سبب من اسباب الطعن بعدم الدستورية اذا ما خالفت الادارة قاعدة او مبدأ دستوريا . ولكي يتحقق مبدأ سيادة القانون يجب ان تتوفرعدة ضمانات هي :

الضمانة الأولى: وجود حكومة شرعية منتخبة عادلة تضمن سيادة القانون ، وتضع قواعد للسلوك الادراي القانوني والأخلاقي تلتزم الادارة بمراعاتها وهي بصدد اتخاذ قراراتها الادارية . وينبغي ان تحدد هذه القواعد الطريقة التي يتم بموجبها اتخاذ القرارات والتظلم منها امام السلطات الادارية او الطعن فيها أمام القضاء .

الضمانة الثانية : وجود رقابة فعالة على اعمال السلطة التنفيذية . سواء كانت هذه الرقابة برلمانية او رقابة قضائية تناط بالقضاء العادي او القضاء الاداري ، أو بهيئات مستقلة وهذه من الافكار القانونية الحديثة التي اعتمدتها اتفاقية الامم المتحدة لسنة 2004 بعد ان فشلت الاساليب والنظم التقليدية في القضاء على ظاهرة الفساد. (49)

الضمانة الثالثةـ استقلال القضاء : لا معنى للحديث عن استقلال القضاء الا في ظل دولة القانون والمؤسسات الدستورية التي تقوم على مبدأ سيادة القانون ومبدأ المشروعية ، ذلك ان استقلال القضاء هو نتيجة طبيعية ومباشرة لمبدأ سيادة القانون ومبدأ المشروعية ، فضلا عن مبدأ الفصل بين السلطات.

ذلك ان من أهم الضمانات الأساسية لحقوق وحريات المواطنين وجود سلطة قضائية مستقلة في عملها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ، بحيث يكون القاضي في ممارسته لوظيفة القضاء حرا ومحايدا في اتخاذ قراره . فالقاضي لا يمكنه ان يكون محايدا الا اذا كان مستقلا في عمله ، وهكذا قيل ان القاضي هو الحارس الامين للحقوق والحريات ،وهو من بيده طوق النجاة لكل من كان ضحية للظلم والتعسف، سواء كان ذلك الظلم والتعسف قد صدر بحقه من بين افراد المجتمع او من السلطات العامة .

وبصدد استقلال القضاء يميز الفقه بين استقلال القضاء كمؤسسة وبين استقلال القاضي في عمله،

ويتجسد الاستقلال القضاء كمؤسسة في استقلاله اداريا وماليا وفي سلطة اتخاذ القرار ، وأهم مظهر لاستقلال القضاء هو انشاء مجلس للقضاء يتولى ادارة شؤون العدالة وشؤون القضاة .أما استقلال القاضي فيقصد به ان يتخذ القاضي قراراته واحكامه بناءاً على قناعته وعقيدته التي كونها من حيثيات الدعوى دون تدخل او تأثير من اية جهة كانت ، ولكي يكون القاضي مستقلا ، يتوجب توفير ضمانات أساسية له ، منها ،ان يكون هناك نظام قانوني خاص لتعيين القضاة ، ونقلهم ،وترقيتهم ،ويتولى ذلك مجلس يتم تشكيله من هيئات قضائية يتم تحديدها وفقا لأحكام القانون وأن يكون مرتبه كافيا .كما انه يتوجب تحصين القاضي من النقل والعزل ، الا وفقا للقانون ، حتى لا يكون ذلك وسيلة ضغط على القاضي ، كما ويجب اختيار من يتولى القضاء بعناية خاصة ممن شهد لهم بالكفاءة العلمية والنزاهة والاستقامة ، لان جهل القاضي بالقانون وبمبادئه العامة وعدم نزاهته مدعاة للظلم وضياع الحقوق .

وتتمتع الأحكام القضائية بما يعرف فقهاً بقوة الحقيقة القانونية، سواء في مواجهة اطراف النزاع او في مواجهة الكافة ، ذلك ان قرار الحكم الذي اكتسب الدرجة القطعية يتمتع بحجية الشئ المقضى به، وتتضمن هذه الحجية معنيين ، معنى شكلي يتمثل في ان قرار الحكم القضائي يتضمن الحقيقة القانونية ويترتب على ذلك ان موضوع النزاع المقضى فيه لا يمكن ان يكون محلا لاية دعوى مستقبلاً ، ومعنى مادي يتعلق بتنفيذ قرار الحكم ، فاذا لم ينفذ القرار من قبل من صدر في مواجهتهم اذعاناً للحكم ، تتولى السلطة العامة تنفيذه بالقوة من اجل ايصال الشئ المقضي به الى المنتفعين من القرار.(50)

الفقرة ثالثاـ خضوع القضاء للدستور والقانون : نص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 على القواعد العامة التي تحكم اعمال السلطة القضائية ، حيث نصت المادة (19) (اولاً: القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون . ثانياً: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة اشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة .ثالثاً: التقاضي حق مصون ومكفول للجميع .رابعاً: حق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة . خامساً: المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، ولا يحاكم المتهم عن التهمة ذاتها مرة أخرى بعد الافراج عنه إلا اذا ظهرت ادلة جديدة . سادساً: لكل فرد الحق في أن يعامل معاملة عادلة في الاجراءات القضائية والادارية .

سابعاً: جلسات المحاكم علنية إلا اذا قررت المحكمة جعلها سرية . ثامناً: العقوبة شخصية . تاسعاً: ليس للقوانين اثر رجعي ما لم يُنص على خلاف ذلك، ولايشمل هذا الاستثناء قوانين الضرائب والرسوم . عاشراً : لا يسري القانون الجزائي بأثر رجعي إلا إذا كان اصلح للمتهم . )
فأذا خالفت السلطة القضائية ايا من هذه القواعد كان تصرفها مشوبا بعيب عدم الدستورية .

قيود على اهلية التعاقد : نصت المادة (127)على انه ( لايجوز لرئيس الجمهورية ورئيس واعضاء مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب ونائبيه واعضاء المجلس واعضاء السلطة القضائية واصحاب الدرجات الخاصة ان يستغلوا نفوذهم في ان يشتروا أو يستأجروا شيئا من اموال الدولة أو ان يؤجروا أو يبيعوا لها شيئا من اموالهم أو ان يقاضوها عليها أو ان يبرموا مع الدولة عقدا بوصفهم ملتزمين أو موردين اومقاولين .) ، فان قامت السلطة التشريعية بسن قانون يتعارض مع هذه القيود ، كان التشريع معيبا في محله .

المبحث الثالث

عيب الانحراف بالسلطة التشريعية

المطلب الاول: اعلانات ومواثيق حقوق الإنسان ومقدمة الدستور.

المطلب الثاني: ملاءمة التشريع لروح الدستور.

المطلب الاول

اعلانات ومواثيق حقوق الإنسان ومقدمة الدستور

اختلف فقهاء القانون في القيمة القانونية لمقدمات الدساتير واعلانات ومواثيق حقوق الانسان،وعلى النحو الاتي :

الرأي الاول : ويرى ان تلك المواثيق ومقدمة الدستور تعتبر القانون الاسمى للدولة ، واحكامها واجبة الاتباع ، ويتقيد بها القضاء اثناء فصله في أي نزاع وانها تتفوق على النصوص الدستورية ذاتها . وحجته في ذلك ان مقدمة الدستور تتضمن الاسس والمباديء التي يسن على هديها الدستور مما يفرض على السلطة التي تضع الدستور التزاماً باحترام هذه المبادئ وعدم مخالفتها . وذهبوا إلى أن هذه الإعلانات وتلك المواثيق تعتبر ملزمة لواضعي الدستور، وتأخذ مرتبة أعلى منه ، لأنها تمثل الاتجاهات الكبرى التي ارتضاها الشعب، وتتضمن المبادئ الدستورية المستقرة في الضمير الإنساني للمجتمع. ومن ثم وجب أن يتقيد بها المشرع الدستوري والمشرع العادي على حد سواء ، ولذلك أطلق عليها البعض ” دستور الدساتير “.

الرأي الثاني : ويرى ان القيمة الدستورية لمقدمة الدستور تعادل قيمة النصوص الدستورية ، لانها تصدر من السلطة التي لها سلطة وضع الدستور، مما يجعل منها جزءاً لا يتجزأ من نصوص الدستور ، لأن نصوص الدستور لا تتجزأ.

الرأي الثالث: ويذهب الى ان مواثيق حقوق الانسان ومقدمة الدستور لها قوة القوانين العادية ، لان سلطة وضع الدستور لو كانت ترغب في ان يكون لها قوة الدستور لأوردتها في الدستور ذاته . ويترتب على هذا الرأي ان السلطة التشريعية تملك تعديل هذه المبادئ .

الرأي الرابع : ويذهب الى التفرقة بين المباديء التي جاءت بها تلك المواثيق ومقدمة الدستور وصيغت على شكل قواعد قانونية بالمعنى الصحيح وبين الاخرى التي صيغت على شكل توجيهات واهداف ومثل عليا للدولة والمجتمع ، ويعطي للاولى صفة القواعد الدستورية الالزامية بينما يحرم الثانية من اية قوة قانونية ويعطيها مجرد قيمة ادبية.(51)

ونرى ان اعمال الكلام اولى من اهماله ، وان المشرع منزه عن اللغو، كما هو مقرر في قواعد التفسير، فكلما كان امر استخلاص قاعدة دستورية ممكنا من مقدمة الدستور فينبغي اعمالها،فما وضعت المقدمة عبثا،ويمكن ان تؤدي المحكمة الاتحادية العليا من خلال احكامها دورا مهما في استخلاص القواعد الدستورية من مقدمة الدستور.

اما ما يرد في المواثيق والمعاهدات الدولية من مبادئ للحريات والحقوق الانسانية فان القاعدة في هذا المجال ان المعاهدة الدولية متى ما صادقت عليها الدولة أضحت جزءاً من نظامها القانوني وواجبة التطبيق .

المطلب الثاني

ملاءمة التشريع لروح الدستور

عيب الانحراف التشريعي يتعلق أساسا بالغاية من التشريع وهي المصلحة العامة دائما، ولا يتصور تحقق هذا العيب الا حينما يمنح الدستور سلطة تقديرية للمشرع في مجال معين من التشريع ،ذلك ان السلطة التقديرية هي التي تتيح للمشرع الخيار بين عدة حلول ووسائل،وعلى هذه الحال من سلطة التقدير ينبغي على المشرع ان يستهدف المصلحة العامة دون سواها، فان انحرف عنها واستهدف غيرها مثل تحقيق مصلحة فردية أو مصلحة حزب من الأحزاب،فان المشرع يكون قد انحرف بسلطته التشريعية.

ولقد كان للفقيه الأستاذ الدكتورعبدالرزاق السنهوري فضل السبق في ابراز هذه الفكرة من خلال في بحثه ( مخالفة التشريع للدستور والانحراف في استعمال السلطة التشريعية) .

وقد تبنى الاستاذ السنهوري وضع معيار الانحراف التشريعي قياسا على معيار الانحراف الاداري، حيث يقول (اذا قسنا الانحراف في استعمال السلطة الادارية لقلنا بان المشرع يجب ان يستعمل سلطته التشريعية لتحقيق المصلحة العامة ،فلا يتوخى غيرها،ولا ينحرف عنها إلى غاية اخرى،وإلا كان التشريع باطلا ،والمعيار هنا ذا شقين، ذاتي وموضوعي ، والشق الذاتي يتعلق بالنوايا والغايات التي أضمرتها السلطة التشريعية وقصدت الى تحقيقها باصدارها تشريعاً معيناً والشق الموضوعي هو المصلحة العامة التي يجب ان يتوخاها المشرع دائماً في تشريعاته،وكذلك الغاية المخصصة التي رسمت لتشريع معين ). واتجه الاستاذ السنهوري،بعد ان استبعد فكرة الغايات الشخصية في تصرفات السلطة التشريعية،الى تبني معيار موضوعي يتمثل في المصلحة العامة التي يجب ان يهدف اليها المشرع،ورأى ان تقصي الانحراف يكون من خلال الفروض التالية:

اولا: الرجوع الى طبيعة التشريع ذاتها باعتبارها معياراً موضوعياً ،ذلك ان التشريع يتضمن بطبيعته قواعد عامة مجردة،فان اصدرت السلطة التشريعية تشريعاً معيناً لا يطبق إلا على حالة فردية فإن مثل هذا التشريع يعتبر معيباً بعيب الانحراف في استعمال التشريعية.

ثانيا :مجاوزة التشريع للغرض المخصص له : اذا قرر المشرع الدستوري غرضا معينا لتشريع قانون ما ، فان مجاوزة المشرع العادي لهذا الغرض يعيب تشريعه بعيب الانحراف بالسلطة التشريعية.

ثالثاـ كفالة الحريات والحقوق العامة في حدودها الموضوعية : يرى الاستاذ السنهوري انه يمكن ان تقسم الحقوق والحريات العامة الى نوعين ،الاول لا يقبل التقييد بطبيعته ومن أمثلة ذلك حق المساواة،وحظر ابعاد المواطن عن بلاده ، وحظر المصادرة العامة للاموال ، فإذا ما صدر تشريع يقيدها كان باطلاً وذلك لمخالفة ذلك التشريع للدستور.

اما النوع الثاني فإن المشرع يتدخل في تنظيمها وذلك بقصد تمكين الافراد من التمتع بها دون اعتداء على الغير ،ومن أمثلة هذه الحقوق والحريات، حرية الرأي وحق التملك، كذلك اذا صدر تشريع يفرض قيوداً كبيرة على حرية القيام بالشعائر الدينية كان هذا التشريع باطلاً.

ونرى ان مثاله انه عندما يقرر الدستور الحريات العامة للمواطنين فانه يخول المشرع سن قانون بذلك والغرض من ذلك هو تنظيم استخدام المواطنين للحريات العامة حتى لاتتعارض حريات الفرد مع حريات الآخرين ، فان خرج التشريع عن حدود التنظيم لاغرض اخرى ، كتكريس الحكم الدكتاتوري ، فان مثل هذا التشريع يكون قد تجاوز الغاية المرسومة له فيقع باطلا .

رابعاـ احترام الحقوق المكتسبة وعدم المساس بها في غير ضرورة أو من غير تعويض: تحرص الدساتير عادة على تقرير مبدأ عدم رجعية القوانين وذلك احتراما للحقوق المكتسبة ، ومثال ذلك عدم رجعية قانون العقوبات ، وعدم رجعية سائر القوانين الا بنص صريح في التشريع ، فالدستور يحرص على احترام الحقوق المكتسبة بحيث لا يجوز المساس بها في غير ضرورة

خامساـ مخالفة التشريع لمبادئ الدستور العليا والروح التي تهيمن على نصوصه: يقوم هذا الفرض على أنه توجد مبادئ تسود الدستور وتهيمن على أحكامه ، وهذه المبادئ هي روح الدستور ويتم استخلاصها موضوعيا من نصوصه المدونة ، ويقع على المشرع واجب مراعاتها وهو بصدد سن تشريع تفاديا للوقوع في الانحراف في استعمال سلطته الممنوحة له.(52)

وقد تصدى القضاء الدستوري المصري لهذا العيب في القضية الخاصة بانتخابات مجلس الشعب لعام 1984 التي حرم من حق الترشيح اليها الأشخاص الذين حاكمتهم محكمة الثورة المصرية في القضية المعروفة بقضية مراكز القوي عام 1971،تطبيقا لما سمي (قانون حماية الجبهة الداخلية) الذي صدر في مصر سنة 1978 الذي حرم هؤلاء الأشخاص من ممارسة حقوقهم السياسية مدى الحياة ولما تقدم بعضهم للترشيح للانتخابات،قررت الجهة الإدارية المختصة رفض اوراق ترشيحهم ، عندها طعنوا بقرارات الادارة تلك أمام مجلس الدولة، وعند نظر القضية من قبل محكمة القضاء الإداري دفعوا بعدم دستورية المادة الرابعة من القانون رقم 33 لسنة 1978المشار اليه، ورأت المحكمة ان الدفع جديا فقبلته وقالت في أسباب حكمها ,( من المبادئ المسلمة في خصوص الحريات والحقوق العامة التي نص الدستور على تنظيمها بقانون انه اذا خول الدستور المشرع سلطة تقديرية لتنظيم تلك الحقوق فيجب على المشرع الا ينحرف عن الغرض الذي قصد اليه الدستور وهو كفالة ممارسة هذه الحقوق والحريات العامة في حدودها الموضوعية فإذا نقضها المشرع أو انتقص منها وهو في صدد تنظيمها كان تشريعه مشوبا بالانحراف . . والقاعدة ان كل حق عام اوكل الدستور الى المشرع تنظيمه بقانون فقد رسم الدستور للقانون الذي ينظمه غايات مخصصة لا يجوز للمشرع الانحراف عنها . ومن صور الانحراف في استعمال السلطة التشريعية مخالفة التشريع لمبادئ الدستور العليا .

ومن ثم كان على المشرع إن يلتزم تلك المبادئ في تشريعاته وان يتجنب الانحراف عنها فيما له من سلطة تقديرية وبهذه المثابة فانه إذا اصدر تشريعا يتعارض مع هذه المبادئ العليا كان هذا التشريع باطلا لما ينطوي عليه من انحراف في استعمال السلطة التشريعية . )

وواضح مما تقدم أن محكمة القضاء الإداري قد اعتدت بعيب الانحراف في استعمال السلطة التشريعية واعتبرت الطعن بنص المادة اعلاه جديا وحددت موعدا للطاعنين لرفع الدعوى أمام المحكمة الدستورية العليا . ولما عرضت الدعوى على هذه المحكمة قضت بعدم دستورية نص المادة الرابعة من القانون رقم 33 لسنة 1978 ، حيث تبين للمحكمة الدستورية أن النص المطعون به يخالف صراحة مادتين من مواد الدستور وعندها لم تجد مبررا للتعرض لعيب الانحراف في استعمال السلطة التشريعية وهو الذي استند إليه قرار محكمة القضاء الإداري.

وجاء في قرار المحكمة الدستورية العليا ( انه وان كان الأصل في سلطة التشريع عند تنظيم الحقوق انها سلطة تقديرية وان الرقابة على دستورية التشريعات لا تمتد الى ملاءمة اصدارها إلا إن هذا لا يعني إطلاق هذه السلطة في سن القوانين دون التقيد بالحدود والضوابط التي نص عليها الدستور ومن ثم فان تنظيم المشرع لحق المواطنين في الانتماء الى الأحزاب السياسية ومباشرتهم لحقوقهم السياسية ينبغي الا يعصف بهذه الحقوق أو يؤثر على بقائها على نحو ما سلكه النص المطعون عليه اذ تعرض لحقوق عامة كفلها الدستور وحرم فئة من المواطنين منها حرمانا مطلقا ومؤبدا على ما سلف بيانه مجاوزا بذلك دائرة تنظيم تلك الحقوق الأمر الذي يحتم إخضاعه لما تتولاه هذه المحكمة من رقابة دستورية … ) واستطردت المحكمة قائلة (… لما كان مقتضى نص الفقرة الاولى من المادة الرابعة من القانون رقم 23 لسنة 1978 بشان حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي حسبما يتبين من عبارتها المطلقة حرمان فئة من المواطنين من حقهم في الانتماء الى الأحزاب السياسية ومن مباشرة الحقوق والأنشطة السياسية كافة حرمانا مطلقا ومؤبدا بما ينطوي على إهدار لأصل الحقوق ويشكل بالتالي اعتداءا عليها بالمخالفة لحكم كل من المادتين 5. 62 من الدستور . ) وقضت المحكمة بعدم دستورية المادة الرابعة و الفقرة الأولى من المادة الخامسة من القانون رقم 33 لسنة 1978 بشأن حماية الجبهة الداخلية والمتعلقة بحرمان فئات من المواطنين من حقهم فى الانتخاب أو الترشيح لمخالفة ذلك للمادة 62 من الدستور والتى تنص على أن حق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي فى الاستفتاء حق وواجب يتعين مساهمة المواطن فيه) (53)

وقد اصدرت المحكمة الدستورية العليا بشأن قانون الاحزاب السياسية عدد من الاحكام وكما يلي :

1 ـ قضت المحكمة بعدم دستورية البند (7) من المادة 4 من القانون رقم 40 لسنة 1977 بشأن الأحزاب السياسية والمتعلقة بوضع شروط لحرمان فئة من الأشخاص من تكوين أحزاب سياسية حرماناً مطلقاً استناداً لأرائهم لمخالفة ذلك المادتين 5، 47 من الدستور والمتعلقة بالحق فى حرية التعبير . ( 5 4)

وملخص هذه القضية ، التي اعتبرت قضية رأي عام في حينها ، ان قانون الموافقة على معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية ق وكان الأمر يتعلق بالمعاهدات التي عقدت مع إسرائيل واقامت بين مصر وبينها صلحاً ، ونص في قانون الموافقةعلى المعاهدة بعدم جواز معارضتها . وعندما تقدم عدد من من المواطنين بطلب الى الجهات الرسمية لتشكيل حزب سياسي بعد ذلك ، وكان من بينهم من اشتهروا بمعارضة معاهدة الصلح ، لم توافق السلطات على اعطاء الترخيص المطلوب لاقامة الحزب بسبب اشتهارهم بمعارضة معاهدة الصلح مع اسرائيل مستندة في ذلك الى احكام البند (7) من المادة 4 من القانون رقم 40 لسنة 1977، وعلى اثر ذلك تقدموا بطعن ضد قرار عدم الموافقة على اعطاء الترخيص أمام المحكمة الدستورية العليا المصرية.

وقد تعرضت المحكمة الدستورية العليا الى احكام البند (7) المطعون فيه في القضية (رقم 44 لسنه 7 ق – د) بجلسة 7/5/1988 وذهبت في قراراها الى ان (لا مؤدى للنص في البند سابعاً من المادة 4 من القانون رقم 40 لسنه 1977 الخاص بنظام الأحزاب السياسية فيما يتضمنه من اشتراط ألا يكون بين مؤسسي الحزب أو قياداته من تقوم أدلة جدية على قيامه بالدعوة أو المشاركة في الدعوة أو التحبيذ أو الترويج بأية طريق من طرق العلانية لمبادئ أو اتجاهات أو أعمال تتعارض مع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التي وافق عليها الشعب في استفتاء بتاريخ 20/4/1979 هو حرمان فئة من المواطنين من حقهم في تكوين الأحزاب السياسية حرماناً أبدياً وهو حق كفله الدستور حسبما يدل عليه لزوما نص المادة 5 منه وقد رتب النص المطعون عليه في شق منه هذا الحرمان على اخذ هؤلاء الأشخاص بآرائهم التي تتعارض مع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل فإن هذا النص يكون قد انطوى على إخلال بحريتهم في التعبير عن الرأي وحرمانهم حرمانا مطلقا ومؤبداً من حق تكوين الأحزاب السياسية بما يؤدى إلى مصادرة هذا الحق تكوين الأحزاب السياسية وإهداره ويشكل بالتالي مخالفة المادتين 5 و47 من الدستور).

وقد استندت المحكمة الدستورية العليا في حكمها بعدم دستورية هذا الشرط إلى الأسباب التالية:

1-أن حرية الرأي ضرورة لازمة لمباشرة الحقوق السياسية وفى مقدمتها حق تكوين الأحزاب والانضمام إليها وحق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء

2-أن حرية الرأي تعد من الدعامات الأساسية التي تقوم عليها النظم الديمقراطية الحرة ومن ثم فقد حرصت الدساتير المصرية على تأكيدها وقد شمل الدستور حرية الآراء السياسية برعايتة من خلال الضمانات التي قررها بشأن حرية الصحافة واستقلالها في أداء رسالتها وحظر الرقابة عليها أو إنذارها أو وقفها أو إلغائها بالطريق الإداري

3-إذا كانت قواعد القانون الدولي العام تملي على الدول احترام التزاماتها بموجب المعاهدات الدولية التي تصدق عليها فإن ذلك لا يضفي على المعاهدة حصانة تمنع المواطنين من مناقشتها ونقدها ولا يجوز أن يكون استعمال المواطن لحرية عامة كفلها الدستور كحق إبداء الرأي في استفتاء سببا في حرمانه من حق أو حرية عامة أخرى قررها. (55)