جريمة إفشاء الأسرار حسب القانون اللبناني

بواسطة باحث قانوني
جريمة إفشاء الأسرار عناصرها وعقوبتها – محاماة نت

د. نادر عبد العزيز شافي محام بالاستئناف
يمكن تعريف إفشاء الأسرار بأنه الإفضاء بوقائع لها الصفة السرية من شخص مؤتمن عليها بحكم وضعه أو وظيفته أو مهنته أو فنه، بصورة مخالفة للقانون. وقد عُرف واجب كتمان السر منذ القدم، حيث كان يُحرّم على رجال الدين البوح بالأسرار التي يطلعون عليها من الناس بحكم مركزهم. ثم امتدّ تدريجياً هذا الواجب إلى أصحاب المهن الحرة المهمة، كالمحامين والأطباء وغيرهم، فلا يجوز لهم كشف الأسرار التي تصل إلى علمهم أثناء ممارستهم لمهنتهم.
وكانت الحكمة من تجريم إفشاء الأسرار تكريساً لواجب أخلاقي تقتضيه مبادئ الشرف والأمانة. وقد تضمنت كافة القوانين والشرائع موجب الحفاظ على الأسرار وتجريم إفشائها، ليس فقط لحماية صاحب السر ومكانته ومركزه وشرفه، بل وأيضاً لصيانة المصلحة العامة في المجتمع، وعدم تعريض سمعة المهن والمراكز السامية النبيلة للإهانة أو لعدم الثقة والاحترام، كالطب والمحاماة والقضاء والوظائف وغيرها. فإن لم يجد المريض طبيباً يركن إليه ويودعه سرّه، أو لم يجد المتهم محام يطمئن إليه ويصارحه بسرّه، لأدى ذلك إلى المس بحقوق الإنسان والإضرار بالمجتمع ككل.
وقد كان المشترع اللبناني مواكباً لمسيرة حماية حقوق الانسان، فجرّم إفشاء الأسرار في المادة 579 وما يليها من قانون العقوبات، تحت الفصل الثاني من الباب الثامن المتعلق بالجرائم الواقعة على الحرية والشرف.
ونصت المادة 579 عقوبات على أنه «من كان بحكم وضعه أو وظيفته، أو مهنته أو فنه، على علم بسر وأفشاه بدون سبب شرعي أو استعمله لمنفعته الخاصة أو لمنفعة آخر، عوقب بالحبس سنة على الأكثر وبغرامة لا تجاوز الأربعماية ألف ليرة، إذا كان من شأن الفعل أن يسبب ضرراً ولو معنوياً».
وبذلك، يتبين أن هذه المادة تضع شروطاً خاصة لوقوع جريمة إفشاء الأسرار، وهي:
– أن يفشي السر من علم به بحكم وضعه أو وظيفته أو مهنته أو فنه.
– أن يتم الإفشاء من دون سبب شرعي.
– أن يسبب الإفشاء ضرراً.
مما يقتضي البحث في عناصر جريمة إفشاء الأسرار، ثم في الأحوال التي يجب أن يجوز فيها قانوناً إفشاء الأسرار.
عناصر جريمة إفشاء الأسرار
تقوم جريمة إفشاء الأسرار، كغيرها من الجرائم، على ركنين أساسيين، هما: الركن المادي والركن المعنوي. ويتكون الركن المادي في هذه الجريمة من عنصرين جوهريين، هما: إفشاء السر، ومرتكب جريمة إفشاء السر. مما يقتضي أولاً دراسة المقصود بالسر، ثم تحديد فعل الإفشاء، ثم ارتكابه من شخص ملزم قانوناً بكتمانه، ثم القصد الجرمي في هذه الجريمة.
* ما هو المقصود بالسر؟
قد ترد بعض الصعوبات في تحديد المعنى القانوني للسر، إذ اعتبره بعض الفقهاء أنه واقعة أو صفة ينحصر نطاق العلم بها في عدد محدد من الأشخاص، أو أنه كل ما يضر إفشاؤه بالسمعة والكرامة والنفس والمال، أو أن توجد مصلحة مشروعة في أن يبقى العلم بواقعة معينة محصوراً بين أشخاص محدودين.
ويلزم في تحديد المقصود بالسر أن يكون من شأن البوح به إلحاق الضرر بشخص صاحبه، ويستوي أن يكون الضرر مادياً أو معنوياً. فالمريض الذي يعاني من مرض معين قد تكون له مصلحة في أن يبقى سر مرضه لدى طبيبه فقط، وعدم انتشار خبر مرضه، منعاً من إلحاق الضرر به اجتماعياً أو مهنياً أو معنوياً. كما أن المتقاضي له مصلحة في عدم علم خصمه بالمعلومات السرية التي أفضى بها إلى محاميه للدفاع عنه.
ويجب أن يكون السر محصوراً بأشخاص محدودين ومحددين. أما إذا كانت الواقعة معلومة لعدد من الناس بدون تمييز، فتنتفي عنها صفة السر. إلا أن ذلك لا يعني أن وجود عدد كبير من الأشخاص على علم بالواقعة ينفي عنها صفة السر بشكل مطلق، فإذا كانوا معينين بشكل حصري، فلا ينفي ذلك عن الواقعة صفة السر، كمعرفة الفريق الطبي بالمرض المصاب به مريض معين، فيبقى له صفة السر، لأن العالمين به لهم صفة الأطباء. وقد يعد النبأ سراً ولو كان شائعاً بين عدد غير محدد من الناس، إذا كان غير مؤكد. أما متى تأكد ذلك النبأ الشائع، زالت عنه صفة السرية.
ويجب أن تكون لصاحب السر مصلحة مشروعة في عدم إفشائه. فلا يلتزم المحامي بعدم إفشاء علمه بعزم موكله على ارتكاب جناية معينة، كالتحضير لارتكاب جريمة قتل بحق خصمه، لأن مصلحة الكتمان غير مشروعة. إلا أن المحامي يلتزم بعدم إفشاء الأسرار التي أسرّ بها إليه موكله عن ارتكابه جريمة سابقة، لأن مهمته هي الدفاع لجلاء الحقيقة وإحقاق الحق وفق ما يقرره القاضي المختص.
ولا يُشترط طلب صاحب السرّ عدم الإفشاء به بشكل صريح، بل قد يكون ذلك ضمنياً، كواجب الطبيب والمحامي والمصرفي بعدم إفشاء أسرار الزبون، ولو لم يطلب منهم صاحب السر صراحة كتمان سره، وواجب الزوجة عدم إفشاء أسرار زوجها ولو بعد طلاقها منه. كما يلتزم المؤتمن على السر بعدم البوح به، ولو كان صاحب السر لا يعلم بوجوده، كاكتشاف الطبيب إصابة المريض بمرض يجهله المريض نفسه، فلا يحق للطبيب إفشاء مرضه، استناداً إلى إرادة المريض المفترضة بعدم إفشائه ومصلحته المشروعة المفترضة بمنع وقوع الضرر به فيما لو انتشر خبر مرضه، ما لم تكن هناك مصلحة عليا تقتضي إخبار أشخاص معينين، كإصابة المريض بمرض معد، ما يلزم الطبيب بإخبار زوجته أو أقاربه المقربين له، لمنع انتشار المرض.
كما لا يتطلب القانون أن يكون صاحب السر ذا أهلية قانونية، كالسر المتعلق بمجنون، لأن صفة السر تنبع من أن الواقعة تعتبر سراً بطبيعتها. كما لا يشترط أن يعلم المؤتمن على السر من صاحب السر نفسه، فقد يعلم به من شخص ثالث، كزوجته أو قريبه أو طبيبه أو محاميه أو شخص معين يعمل لمصلحته.
ويفرض القانون أن يكون العلم بالسر قد حصل بحكم وضع المؤتمن عليه أو وظيفته أو مهنته أو فنه. وقد أضيفت عبارة «بحكم وضعه» بدلاً من عبارة «بحكم حرفته» إلى المادة 579 عقوبات بموجب المادة 51 من المرسوم الاشتراعي رقم 112/1983، مما وسع نطاق المؤتمنين على الأسرار الملزمين بموجب عدم إفشائها. فكل من علم بسر معين بحكم وضعه أو وظيفته أو مهنته أو فنه، يكون ملزماً بموجب كتمانه وبعدم إفشائه، وإلا يكون قد ارتكب جريمة إفشاء الأسرار إذا أفضى به إلى الغير، وكان من شأن ذلك أن يسبب ضرراً بصاحب السر.
وتبقى للواقعة الصفة السرية إلى أن تصبح علنية، أي إلى أن تصير معلومة بشكل يقيني مؤكد من الناس من دون تمييز. أما إذا كان العلم بها مشوباً بالشك، فتبقى محتفظة بطابع السرية، كانتشار إشاعة مشكوك بمدى صحتها، فإن صفة السرية تلازمها. وإذا أكدها الشخص الملزم بكتمانها، بأن أضاف جديداً إلى علم الناس بها، وحوّل الإشاعة إلى خبر يقيني مؤكد، فيعتبر مرتكباً لجريمة إفشاء الأسرار وفقاً للمادة 579 عقوبات.
* تحديد فعل الإفشاء:
لم تحدد المادة 579 من قانون العقوبات المقصود بفعل الإفشاء، فاكتفت بالنص على أنه من كان على علم بسر وأفشاه، ملقية تحديد المقصود بالإفشاء على عاتق القضاء المختص والفقهاء. ويمكن تعريف الإفشاء بأنه اطلاع الغير على واقعة تُعد لدى صاحبها سراً ويهمه كتمانها.
ويكون الإفشاء بإفضاء السر إلى الغير، سواء أكان الإفشاء بالقول أم بالكتابة أم بالإشارة. ويتحقق ذلك بالتحدث به بين الناس، أو بالتصريح به في مقابلة صحفية أو في محاضرة، أو بإذاعته علناً في الإعلام، أو بإعطاء الغير إفادة أو تقريراً يتضمن السر الواجب كتمانه.
ويجب أن يكون الإفشاء المعاقب عليه قد حصل بصورة واضحة لا تدع مجالاً للشك والتأويل. أما إذا كان الفعل غير واضح فلا يعتبر إفشاء للسر، كالطبيب الذي ينشر مقالة علمية يشرح فيها أعراض مرض عالجه، من دون أن يسمّى المريض، والمحامي الذي يشرح مسألة قانونية في مقابلة عن دعوى قضائية، من دون أن يذكر من هم أطرافها، وبدون أن يشير إلى المعالم التي يمكن من خلالها التعرّف على شخصية صاحب السر، وكان ذلك على سبيل النقاش والشرح العلمي، فلا يعتبر هذا ارتكاباً لجريمة إفشاء الأسرار.
ويقتضي فعل الإفشاء أن يكون قد جرى الإفضاء بالسر إلى الغير، ويراد بالغير أي شخص لا ينتمي إلى فئة من الناس ينحصر فيها نطاق العلم بالواقعة أو بالمعلومات التي توصف بالسر، كأن يتم النقاش بتلك المعلومات بين عدة أطباء ضمن الفريق الطبي الذي يعالج المريض، أو الدراسة ضمن مجموعة المحامين الذين يتولّون الدفاع عن المتهم، أو الحديث بين الموظفين المصرفيين الذين ينظمون حسابات أحد العملاء، فلا يعتبر ذلك إفشاء للسر. كما لا يعتبر إفشاء، البوح بالواقعة أو المعلومات إلى صاحب السر، أو إعطاء هذا الأخير أو لمن يفوّضه، تقريراً يتضمن تلك الأسرار.
أما إذا كان الإفضاء بالسر إلى غير الفئة التي ينحصر فيها العلم به، ولو كانوا من المقرّبين لصاحب السر، فيعتبر مشكلاً لجريمة إفشاء الأسرار وفقاً للمادة 579 عقوبات، إذا توافرت بقية شروطها القانونية.
وقد يقع الإفشاء بصورة ضمنية، كما لو سمح المؤتمن على السرّ باطلاع الغير على الأوراق التي دوّن فيها ذلك السر. كما قد يقع الإفشاء بعدم منع الغير من كشف السر، كأن يشاهد الملتزم بالسر شخصاً يحاول الاطلاع على الأوراق التي دوّنت فيها أسرار عملائه، فلا يمنعه رغم استطاعته.
ويستوي الإفشاء الكلّي والجزئي للأسرار. والإفشاء الكلّي هو الإفضاء بكل المعلومات التي تشكل سراً، أما الإفشاء الجزئي فهو الإفضاء بجزء من السر أو بعضه ولو كان قليلاً. كما أن تأكيد الواقعة، التي كانت على سبيل الشك، يعتبر إفشاءً للسر ومعاقباً عليه، لأن تأكيد تلك الواقعة أدى إلى تحويل الشك إلى يقين.
* ارتكاب الإفشاء من شخص ملزم قانوناً بكتمان السر:
لا يرتكب جريمة إفشاء الأسرار أي شخص، بل الشخص المؤتمن عليها، وقد عيّنت المادة 579 من قانون العقوبات ذلك الشخص بأنه «من كان بحكم وضعه أو وظيفته، أو مهنته أو فنه، على علم بسر وأفشاه بدون سبب شرعي أو استعمله لمنفعته الخاصة أو لمنفعة آخر…».
ويتضح أن جوهر جريمة إفشاء الأسرار هو إخلال شخص بموجب ملزم قانوناً بكتمان ما، هو مؤتمن عليه بحكم وضعه أو وظيفته أو مهنته أو فنه. وقد ورد هذا التعداد على سبيل المثال لا الحصر، فيسري هذا الالتزام على كل من يعد أميناً على واقعة أو معلومات تعد سراً. وقد أشرنا إلى أن عبارة «بحكم وضعه» قد أضيفت إلى المادة 579 عقوبات بموجب المادة 15 من المرسوم الاشتراعي رقم112/1983,بدلاً من عبارة «بحكم حرفته»، مما وسّع من نطاق المؤتمنين على الأسرار الملزمين بموجب عدم إفشائها.
وتشترط هذه الصفة على فاعل جريمة افشاء الأسرار، أما إذا وجد شخص آخر اشترك أو تدخل أو حرّض على ارتكاب هذه الجريمة، فيعاقب أيضاً من دون اشتراط توافر صفة التزامه قانونياً بموجب كتمان السر، إذا توافرت الشروط القانونية في الشريك أو المتدخل أو المحرّض وفقاً للمواد 213 و217 و219 من قانون العقوبات.
ويتبين أنه على رأس الفئات المقيدة بكتمان الأسرار: المحامون والقضاة والأطباء والصيادلة والمحاسبون ورجال الدين والموظفون والعسكريون والمصرفيون، وغيرهم من الأشخاص الذين يطّلعون بحكم وضعهم أو وظيفتهم أو مهنتهم أو فنهم على أسرار قد تتصل بأدق تفاصيل الحياة الشخصية والمهنية والفنية والمالية، للأشخاص الطبيعيين والمعنويين.
وقد نصّت المادة 345 من قانون العقوبات على أن «كل عامل في القطاع الخاص، مستخدماً كان أم خبيراً أو مستشاراً، وكل من ارتبط مع صاحب عمل بعقد استخدام لقاء أجر، التمس أو قبل لنفسه أو لغيره، هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى، لكشف أسرار أو معلومات تسيء إلى العمل أو للقيام بعمل أو الامتناع عنه بقصد إلحاق الضرر المادي أو المعنوي بصاحب أو بصالح العمل، يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين وبالغرامة من مئة ألف إلى مئتي ألف ليرة لبنانية».
كما عاقبت المادة 580 من قانون العقوبات بالحبس من شهرين إلى سنتين كل شخص ملحق بمصلحة البريد والبرق يسيء استعمال صفته هذه بأن يطلع على رسالة مختومة، أو يتلف أو يختلس احدى الرسائل، أو يفضي بمضمونها إلى غير المرسل إليه. وتنزل العقوبة نفسها بمن كان ملحقاً بمصلحة الهاتف وأفشى مخابرة هاتفية اطلع عليها بحكم وظيفته أو عمله.
وكذلك نصت المادة 581 عقوبات على أن كل شخص آخر يتلف أو يفضي قصداً رسالة أو برقية غير مرسلة إليه، أو يطّلع بالخدعة على مخابرة هاتفية، يعاقب بغرامة لا تتجاوز المئة ألف ليرة لبنانية. ويقضي بالعقوبة نفسها على من اطّلع على رسالة أو على مخابرة برقية أو هاتفية في إذاعتها إلحاق ضرر بآخر، فأعلم بها غير من أرسلت إليه.
وعاقبت المادة 031 من قانون القضاء العسكري رقم 24 تاريخ 13/4/1968، بالإعدام كل عسكري يسلّم العدو خرائط المواقع الحربية أو المعامل أو المرافئ أو الأحواض أو يبوح له بكلمة السرّ أو بأي من أسرار الأعمال العسكرية.
كذلك، فرض قانون السرية المصرفية تاريخ 3/9/1956على جميع موظفي المصارف الالتزام بكتمان السر المصرفي بصورة مطلقة في مواجهة الجهات الخاصة والعامة، سواء أكانت قضائية أم إدارية أم مالية، إلا في حالات خاصة. وكل مخالفة عن قصد لأحكامه يعاقب مرتكبها بالحبس من ثلاثة أشهر حتى سنة. والشروع معاقب عليه بالعقوبة نفسها، سنداً للمادة 8 من القانون المذكور.
وبشكل عام، يمكن القول إن الملزم بكتمان الأسرار هو كل من يفرض عليه القانون عدم البوح بالأسرار التي يطّلع عليها بحكم وضعه أو وظيفته أو مهنته أو فنه. أما إذا لم يفرض القانون على شخص معين عدم كتمان ما وصل إلى علمه بحكم عمله، فلا يعتبر مرتكباً لجريمة إفشاء الأسرار. وخير مثال على ذلك ما هو معمول به في مهنة الصحافة، إذ إن مهنة الصحفي الأساسية هي نشر الأخبار والآراء التي يتوصل إليها على أوسع نطاق، فلا يتصور أن يتفرع عن مهنته التزام بكتمان المعلومات التي يطّلع عليها بشكل يناقض طبيعة مهنة الصحافة ورسالتها، ولكن ضمن الحدود القانونية التي تنظم هذه المهنة.
* القصد الجرمي في إفشاء الأسرار:
تعتبر جريمة إفشاء الأسرار من الجرائم القصدية التي تتطلب توافر القصد الجرمي لقيامها. فلا يعتبر المتهم مرتكباً لهذه الجريمة إذا لم يتوافر لديه القصد الجرمي في إفشاء الأسرار، حتى ولو ارتكب خطأ أو اهمالاً بدون أن تتوافر لديه النية الجرمية للإفشاء. وتطبيقاً لذلك، إذا أهمل الطبيب في حفظ مستند يتضمن أسراراً تتعلق بمريض معين، وأدى إهماله إلى اطلاع الغير عليها، لا يعتبر مرتكباً لجريمة إفشاء الأسرار وفقاً للمادة 579 عقوبات، لعدم توافر النية الجرمية لدى الطبيب في ارتكاب تلك الجريمة.
والقصد المتطلب في هذه الجريمة هو القصد الجرمي العام الذي يقوم على عنصرين، هما: العلم والإرادة، إذ يجب أن يعلم المتهم بأن للواقعة صفة السر الممنوع إفشاؤه، وأن تتجه إرادته إلى إفشاء ذلك السر، وإلى النتيجة التي تترتب عليه وهي علم الغير بالواقعة التي تتسم بطابع السرية، وأن يرتكب ذلك بدون سبب شرعي أو يستعمل السر لمنفعته الخاصة أو لمنفعة شخص آخر، إذا كان من شأن الإفشاء أن يسبب ضرراً، سواء أكان الضرر مادياً أم معنوياً، سنداً للمادة 579 من قانون العقوبات.
الأحوال التي يجب أو يجوز فيها قانوناً إفشاء الأسرار
ثمة استثناء على قاعدة تجريم إفشاء الأسرار، فهناك أحوال يجب أو يجوز فيها قانوناً إفشاء الأسرار. أهم تلك الحالات ما يلي:
* إفشاء الأسرار بحكم القانون:
قد يفرض القانون في بعض الحالات على أشخاص معينين موجب الإبلاغ عن معلومات معينة، بصورة وجوبية أو جوازية، رغم اعتبارها أسراراً، وذلك من أجل حماية مصلحة أهم من المصلحة التي أوجب القانون حمايتها بموجب كتمان الأسرار.
وليس بالإمكان وضع قاعدة عامة تجتمع فيها حالات وجوب أو جواز إفشاء الأسرار، إلا أنه يمكن القول بأن الشخص الملزم بكتمان السر يصبح في حل من موجبه عندما ينص القانون صراحة على إعفائه من ذلك الموجب. وخير مثال على ذلك، ما نصت عليه المادة 398 من قانون العقوبات التي اعتبرت أنه على «كل لبناني علم بجناية على أمن الدولة ولم ينبئ بها السلطة العامة في الحال عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبالمنع من الحقوق المدنية».
وكذلك ما نصت عليه المادة 399 عقوبات بأنه على «كل موظف مكلف البحث عن الجرائم أو ملاحقتها فأهمل أو أرجأ الإخبار عن جريمة اتصلت بعلمه، عوقب بالحبس من شهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من عشرين ألفاً إلى مئتي ألف ليرة لبنانية. وكل موظف أهمل أو أرجأ إعلام السلطة ذات الصلاحية عن جناية أو جنحة عرف بها في أثناء قيامه بالوظيفة أو في معرض قيامه بها، عوقب بالغرامة المحددة أعلاه، وذلك كله ما لم تكن ملاحقة الجريمة التي يخبر بها موقوفة على شكوى أحد الناس».
كما نصت المادة 400 عقوبات على أنه «من قام حال مزاولته احدى المهن الصحية بإسعاف شخص يبدو أنه وقعت عليه جناية أو جنحة تجوز ملاحقتها بدون شكوى ولم ينبئ السلطة بها، عوقب بالغرامة المنصوص عليها في المادة السابقة».
وإذا كان يتوجب على الطبيب عدم إفشاء الأسرار التي علم بها في سياق ممارسة مهنته، فهناك حالات نص عليها القانون رقم 288/1994 صراحة، أوجب فيها على الطبيب اخبار السلطات المختصة، كالإدلاء بمعلومات أمام القضاء الجزائي، وابلاغ النيابة العامة عند اكتشاف جرم يفرض القانون الابلاغ عنه، كالاغتصاب وانتهاك عرض، شرط موافقة الضحية خطياً، وللحيلولة دون إدانة بريء، أو الإدلاء بالخبرة الطبية، أو إبلاغ السلطات الصحية عن أي مرض معد أو تناسلي، وابلاغ السلطات المختصة عن كل عملية ولادة.
* رضاء صاحب السر:
انقسمت الآراء حول اعتبار رضاء صاحب السر حائلاً دون قيام جريمة إفشاء الأسرار. فاعتبر البعض أن موجب كتمان الأسرار وعدم جواز إفشائها لم يقرر لمصلحة صاحب السر، بل فرضه القانون لمصلحة المجتمع والنظام العام. واعتبر أصحاب هذا الرأي أنه ليس للأمين أن يتذرع بأن صاحب السر قد أحلّه من قيد الكتمان، أي أن المؤتمن على السر يرتكب جريمة إفشاء الأسرار إذا أفضى بالسر إلى الغير، رغم موافقة صاحب السر على البوح به.
لكن هذا الرأي لم يؤخذ به، واعتبر أغلبية الفقهاء أن إفشاء السرّ بناء على طلب صاحبه أو بعد استئذانه، يحول دون ارتكاب جريمة إفشاء الأسرار، استناداً إلى أن صاحب السر يملك الحق الكامل في اطلاع الغير على السر المتعلق به، كالمريض الذي يخبر الناس بمرضه، ويعتبر هذا نوعاً من تصرّف الشخص في حقه. وبناء على ذلك، يحق لصاحب السر الإفضاء به عن طريق شخص آخر، هو المؤتمن على ذلك السر، كأن يوافق المتهم على الاعتراف بارتكابه جريمة قتل عن طريق محاميه أو يطلب منه الاعتراف به ثم يؤكد على ذلك الاعتراف، ولا تقوم جريمة إفشاء الأسرار في هذه الحالة.
ولا ينكر هذا الرأي الراجح اعتبار أن الحكمة من تجريم إفشاء الأسرار هي حماية للمجتمع وللصالح العام، لكنه يعتبر أيضاً أن المصلحة العامة لا تُهدر إلا إذا كان إفشاء السر بغير رضاء صاحبه. فلا يعتبر الطبيب مرتكباً لجريمة إفشاء الأسرار إذا حرّر إفادة طبية عن حالة مريضه الصحية للمحكمة أو لرب عمله بناء على طلب ذلك المريض.
ويشترط في رضاء الإفشاء أن يصدر عن صاحب السر نفسه، أو بناء على تفويض واضح صريح وخاص بالسر، وأن يصدر عن وعي وإدراك، وعن صاحب الأهلية القانونية، فلا يعتد بالرضاء أو بالإذن الصادر عن مجنون أو عن قاصر. ولا يشترط أن يكون الرضاء مكتوباً، فقد يكون شفهياً. ولا يشترط أن يكون صريحاً، بل قد يكون ضمنياً، كاصطحاب المريض زوجته للمعاينة لدى طبيبه فيعتبر رضاء ضمنياً من المريض بأن يفضي الطبيب للزوجة بحالته المرضية. وإذا تعدّد أصحاب السر، يجب أن يصدر الرضاء عنهم جميعاً، فإذا عالج طبيب زوجين في مرض تناسلي، لا يجوز له أن يفضي بسر أحدهما للآخر إلا برضائهما معاً.
وقد أثير التساؤل عن جواز انتقال الحق بإعطاء الرضاء إلى ورثة المتوفي، لكن الرأي الراجح يُجيز هذا الانتقال عندما تكون للورثة مصلحة مشروعة، كالتصريح عن أملاكه لحصر ارثه وتوزيعه، أو الإذن لطبيبه للإفادة عن حالة المتوفي العقلية من أجل الحكم ببطلان أو بصحة وصيته.
* التوفيق بين الشهادة أمام القضاء وجريمة إفشاء الأسرار:
يفرض القانون على كل شخص لديه معلومات تفيد التحقيق أداء الشهادة لدى القضاء إذا كلّف بذلك تكليفاً صحيحاً وفقاً للمادة 86 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، تحت طائلة تغريمه واحضاره جبراً وفقاً للمادة 95 أ.م.ج.، وإذا تبين أن تمنعه عن الحضور للإدلاء بشهادته كان بعذر كاذب، يعاقب بالحبس ثلاثة أشهر وبالغرامة وفقاً للمادة 407 عقوبات. كما فرضت المادة 92 أ.م.ج. على كل شخص توافرت لديه معلومات تنير التحقيق أن يبادر إلى الإدلاء بشهادته أمام قاضي التحقيق تحت طائلة غرامة تتراوح بين 100 ألف و200 ألف ليرة لبنانية. كما عاقبت المادة 567 من قانون العقوبات بالحبس من شهر إلى سنة وبالغرامة من 200 ألف إلى مليوني ليرة لبنانية أو بإحدى هاتين العقوبتين، من كان عالماً بوجود أدلة تثبت براءة شخص موقوف أو موضوع محاكمة في قضية من جناية أو جنحة ولم يبادر تلقائياً إلى الشهادة بذلك أمام القضاء أو سلطات الأمن.
ولكـن إذا كان المـلزم بالشهادة، ملزماً أيضاً بموجـب عدم إفشـاء الأسـرار، فقد يبرز التعارض بين هذين الموجبين. فنصت المادة 29 أ.م.ج. على أن الشاهد لا يُعفى من الإدلاء بإفادته إلا إذا أثبـت أنه ملزم قانونـاً بحفـظ السرّ، وإذا رأى قاضي التحقيق أن التذرّع بسرّ المهـنة أو بالسـرّ المصـرفي في غير محلّه القانونـي فيتخذ، بعد أن يستطـلع رأي النيابة العامـة الاستئنافية، قراراً برد تذرّعه. مما يظـهر أن المشترع اللبناني غلّب موجب كتمان السـر على موجب الشـهادة، ما لم يوافـق أو يأذن صاحـب السـر بكشفه.