الاختفاء القسري

يمثل الاختفاء القسري، باعتباره انتهاكا مركبا يطال عددا كبيرا من الحقوق الأساسية المحمية دوليا، واحدا من بين الانتهاكات الجسيمة موضوع اختصاص هيئة الإنصاف والمصالحة. ومما يزيد في جسامة هذا الانتهاك كون الأضرار المترتبة عنه تتعدى الضحايا المباشرين لتطال عائلاتهم وأصدقائهم، بل والمجتمع برمته ما دام الهدف من وراء ممارسته هو بث الرعب والخوف لدى هؤلاء جميعا باعتباره يمس الحق في الحياة.

ولما كانت ظاهرة “الاختفاء القسري” جديدة نسبياً، فإن المعاهدات العامة لحقوق الإنسان على الصعيدين الدولي والإقليمي لا تتضمن مقتضيات صريحة حول الحق في عدم التعرض لهذه الممارسة. واستحضارا لذلك يذهب بعض فقهاء القانون الدولي إلى القول أن هذه الظاهرة المعقدة “إنما وجدت عمداً للتملص من الإطار القانوني لحماية حقوق الإنسان”. وكان طبيعيا إذن، مع انتشار واستفحال ظاهرة ممارسة الاختفاء القسري في العديد من الدول، أن تأخذ المنظومة الدولية، محمل الجد مسألة معالجة الظاهرة من خلال العمل على إنشاء آليات قانونية ملزمة لحماية وضمان الحق في عدم التعرض لهذا الانتهاك.

ومع ذلك، فالأفعال التي تؤدي إلى الاختفاء القسري تتمثل في الاختطاف والاحتجاز وفي بعض الحالات التصفية الجسدية خارج نطاق القانون أو الوفاة بسبب ظروف الاعتقال، هي أفعال تجرمها جميع التشريعات الوطنية. كما أن الضمانات المؤسساتية والقانونية المتوفرة عادة في الدول التي ينطبق عليها وصف “دولة الحق والقانون” توفر حماية كافية ضد هذه الممارسة.

وقد اتخذت العديد من الدول التي عرفت انتشار ظاهرة الاختفاء القسري بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع، اتخذت تدابير عملية من أجل تبني تشريعات تستهدف تجريم الاختفاء القسري طبقا لمقتضيات الإعلان العالمي حول الحماية من الاختفاء القسري ومضامين توصيات فريق العمل الأممي المعني .

أولا: الحماية القانونية ضد التعرض للاختفاء القسري

أ- في القانون الدولي

تتوزع مقتضيات القانون الدولي لحقوق الإنسان المتعلقة بالحماية ضد التعرض للاختفاء القسري وبضمان حقوق الأشخاص الذين يتعرضون لهذه الممارسة أو عائلاتهم بين مجموعة من الأدوات العالمية ذات الصلة بحقوق الإنسان . يضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية مجموعة من الحقوق الأساسية التي تنتهك عندما يتعرض الشخص للاختفاء القسري، ومن بينها أساسا، الحق في الحياة، الحق في عدم التعرض للتعذيب وسوء المعاملة، الحق في الاعتراف بالشخصية القانونية، وسائر الحقوق والحريات الأساسية.

وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى اجتهاد اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في إطار تعليق عام .، تؤكد فيه بشكل واضح، على أن المقتضيات غير القابلة للتصرف وفق المادة الرابعة من العهد، يجب تأويلها بشكل يجعلها تشمل المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني ومعايير القانون الدولي، بما فيها منع الاختطاف وحجز الرهائن والاعتقالات السرية والحق في الحماية ضد الحرمان التعسفي من الحرية والحق في معاملة إنسانية وفي احترام تام للكرامة المتأصلة في الإنسان.

تنطبق مقتضيات القانون الدولي الإنساني على كافة أشكال الاختفاء في حالة نزاع مسلح كيفما كانت الجهة المسؤولة، حيث تشمل الأشخاص الذين انقطعت أخبارهم عن العائلات نتيجة حالة الحرب أو الفوضى في المؤسسات المرافقة لحالة نزاع مسلح. وتعنى اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها بالاختفاء من خلال ما تتضمنه من مقتضيات تنص على حقوق وواجبات تتعلق أساسا بالحق في الحياة ومنع التعذيب وحماية حرية الأشخاص والحق في حياة أسرية.

تتمثل التزامات الدول في نظر القانون الدولي الإنساني في واجب البحث والتحقيق حول حالات الاختفاء وإخبار العائلات بنتائج ذلك. وتلزم المواد 32 و 33 و34 و 74 من البروتوكول الأول أطراف النزاع بالبحث عن المختفين المعلن عنهم وبالكشف عن مصيرهم وتقديم معلومات لذويهم وتسهيل تجميع العائلات المشتتة بسبب النزاع المسلح. كما أن من واجب أطراف النزاع تقديم الدعم للمنظمات الإنسانية والعاملة أيضا في مجال البحث وتسجيل تلك المعلومات وتسهيل تجميع الأسر.

تطرق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بدوره لمنع الاختفاء القسري. غير أنه لا يتحدث عن الاختفاءات في شموليتها. فالاختفاءات القسرية، بمقتضى المادة السابعة منه – بمعنى حالات أشخاص محرومين من الحرية بغرض حرمانهم من الحماية القانونية خلال مدة زمنية طويلة- تشكل جريمة ضد الإنسانية، عندما تكون مرتكبة في إطار هجوم واسع النطاق وممنهج ضد ساكنة مدنية.

وأخيرا، فإن الاجتهادات الفقهية للجنة المعنية بحقوق الإنسان ذات الصلة بالموضوع، وكذا المجهودات السياسية المتواصلة المبذولة من قبل لجنة حقوق الإنسان، أفضت إلى إنشاء وتبني اتفاقية دولية خاصة تعنى بالحماية ضد الاختفاء القسري. تعتبر الاتفاقية المذكورة أن الاختفاء القسري هو حرمان شخص ما من حريته بأي شكل من الأشكال أو لأي سبب من الأسباب، يحصل على أيدي أشخاص أو مجموعات يتصرفون بإذن من الدولة أو بدعم أو قبول منها، يعقبه غياب المعلومات أو رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته، أو رفض تقديم المعلومات، أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده. )المادة الأولى من الاتفاقية (. وتنص المادة الرابعة من الاتفاقية المذكورة على جملة من الالتزامات بالنسبة للدول من بينها:

– عدم ممارسة الاختفاء القسري أو السماح به أو التغاضي عنه؛

– التحقيق الفوري والسريع في أية شكوى حول التعرض للاختفاء القسري وإبلاغ أسرة المختفي بمصيره أو بمكان وجوده؛

– فرض عقوبات على جريمة الاختفاء القسري؛

– التعاون فيما بين الدولة المعنية ومع الأمم المتحدة للمساهمة في منع الاختفاء القسري والتحقيق فيه والمعاقبة عليه والقضاء عليه؛

– توفير تعويض مناسب وسريع جبرا للضرر اللاحق بضحية الاختفاء القسري.

وقد تعزز القانون الدولي لحقوق الإنسان بجملة من النصوص غير الملزمة قانونا حول مجموعة من الحقوق الناشئة، في شكل مبادئ عامة أو توجيهية. ويتعلق الأمر على الخصوص بالحق في معرفة الحقيقة، مما يعزز البحث عن حقيقة الانتهاكات الجسيمة المرتكبة خلال فترة سابقة. وهو أحد الأهداف الأساسية المتبعة في تجارب لجان الحقيقة والمصالحة عبر العالم.

وهكذا تنص المجموعة المحينة لمبادئ محاربة الإفلات من العقاب على أن ” لكل شعب حق غير قابل للتصرف في معرفة الحقيقة عن الأحداث الماضية المتعلقة بارتكاب جرائم شنيعة وعن الظروف والأسباب التي أفضت، نتيجة الانتهاكات الجسيمة أو الممنهجة لحقوق الإنسان، إلى ارتكاب هذه الجرائم. وتقدم الممارسة الكاملة والفعالة للحق في معرفة الحقيقة ضمانا حيويا لتفادي تجدد وقوع هذه الانتهاكات”.

وبنفس الدرجة التي تقر فيها تلك المبادئ الحق في معرفة الحقيقة، فإنها تربطه بالحق في حفظ الذاكرة من خلال التأكيد على أن “معرفة الشعب لتاريخ اضطهاده هو جزء من تراثه، فيجب، بناء على ذلك، صيانة هذا التراث من خلال اتخاذ تدابير مناسبة لكي تقوم الدول بواجبها الكامل المتمثل في حفظ السجلات وغيرها من الأدلة المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني وتيسير عملية المعرفة بهذه الانتهاكات. وتستهدف مثل هذه التدابير حفظ الذاكرة الجماعية من النسيان بغية الاحتياط على وجه الخصوص من ظهور نظريات تحرف الوقائع أو تنفيها”.

ب- في التشريع الوطني

يتميز التشريع المغربي بوجود نقص سافر من حيث انعدام الضمانات القانونية التي من شأنها الحماية ضد ممارسة الاختفاء القسري، وذلك رغم تضمن الدستور المغربي لمقتضيات تنص، بشكل غير مباشر، على منع مثل هذه الممارسات. يتعلق الأمر بمبدأ عدم إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو معاقبته إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون . وهو الأمر الذي يجد ترجمته التشريعية في القواعد القانونية الواردة في قانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي.

يجرم القانون الجنائي المغربي كل الأفعال التي من شأنها المس بالحريات الشخصية والناتجة عن عمل تحكمي يتم الأمر به أو ارتكابه من طرف قاض أو موظف عمومي أو عون عمومي . غير أنه لا يجرم الأفعال الصادرة عن موظفين عموميين وأعوان السلطة العمومية التي تتسبب في الاختفاء القسري متى ارتكبوها في إطار ممارستهم لمهامهم. كما يتطرق في باب “الاعتداء على الحرية الشخصية الذي يرتكبه الأفراد العاديون” إلى أعمال الاختطاف والإيقاف والحبس والاحتجاز التي يتم القيام بها ” بدون أمر من السلطات المختصة وفي غير الحالات التي يجيز فيها القانون أو يوجب ضبط الأشخاص”. ويعاقب على هذه الأفعال بعقوبة تتراوح حسب الأحوال بين السجن لمدة خمس سنوات والإعدام إذا ثبت خضوع الضحية للتعذيب [. فالموظفون العموميون لا يعتبرون كباقي الأشخاص إلا إذا كان الفعل الماس بحرية الشخص قد تم ارتكابه “لغرض ذاتي أو بقصد إرضاء أهواء شخصية”. وما لم تجتمع هذه الشروط فإن اختطاف أحد أعوان السلطة لشخص أو احتجازه له لا يترتب عنه متابعته أو معاقبته إلا في إطار الفصل 225 باعتبارهما مسا بالحرية الفردية.

إن هذا الخرق لا يعاقب عليه سوى بالتجريد من الحقوق المدنية. وباعتبار عقوبة الإعدام والسجن المؤبد والسجن المحدد والإقامة الإجبارية عقوبات أساسية في المادة الجنائية فإنه يمكن علاوة على الحكم بها القضاء بعزل المحكوم عليهم من جميع الوظائف العمومية وطردهم منها طيلة فترة تتراوح بين سنتين وعشر سنوات (الفصل 26 من القانون الجنائي).

غير أن عون السلطة العمومية يستفيد قانونا من التمييز على مستوى العقوبات المقررة لنفس الجرائم، وهي مفارقة مادامت الانتهاكات المرتكبة من لدن موظفين عموميين مكلفين بتنفيذ القوانين وحماية أمن الأشخاص أكثر خطورة من الأفعال المرتكبة من قبل أشخاص عاديين. كما أنه يتمتع بعذر معف من العقوبة إذا أثبت أنه تصرف ” بناء على أمر من رؤسائه في مادة تدخل في نطاق اختصاصهم ويوجب عليه طاعتهم”.

وبناء عليه، يكون فعل الاختطاف المتبوع بالاختفاء الذي يتم ارتكابه من قبل جهاز من أجهزة الدولة غير معاقب عليه جنائيا، من حيث المبدأ، في الوضع الراهن للتشريع، (التجريد من الحقوق المدنية) إلا إذا تعلق الأمر بالرئيس التسلسلي. والأمر ينطبق كذلك بالنسبة لرفض أو إهمال اتخاذ الإجراءات اللازمة في شأن شكوى رامية إلى معاينة اعتقال تعسفي. وينبغي الإشارة إلى أن مفهوم الوظيفة العمومية الواسع يشمل، حسب الاجتهاد القضائي كل شخص يمارس مهمة انتخابية أو وظيفة عمومية حتى ولو كانت مؤقتة.

بالإضافة إلى الميز القانوني لفائدة الموظفين والأعوان العموميين، إن على مستوى تجريم الانتهاكات المقرونة بالاختفاء القسري أو على مستوى العقوبة المقررة للفعل، فإن حالات المس بالحرية الفردية لا تخضع في الواقع للعقاب. وبصرف النظر عن هذه الحدود فإن الفصل 225 من القانون الجنائي ظل بدون تفعيل. فالعذر المعفي من العقوبة والذي يستفيد منه الفاعلون المباشرون، فضلا عن ذلك، لا يمكن حرمانهم منه طالما أنهم قد تصرفوا استجابة لتعليمات رؤسائهم.

ثانيا- الحماية القانونية ضد التعرض للاعتقال التعسفي

أ- في القانون الدولي

يؤدي الاعتقال إلى الحرمان من الحرية، ويكتسي صبغة تعسفية كلما تم خارج الأحوال والأشكال المنصوص عليها في القانون. وتتضمن الأدوات الدولية مقتضيات مهمة تنص على الوقاية من الاعتقال التعسفي ومن كل انتهاك آخر قد يقترن به.

يربط الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الاعتقال التعسفي بمبدأ حق الفرد في الحرية وفي الأمان الشخصي (المادة3). وتفيد خلاصات فريق العمل المكلف بالاعتقال التعسفي المحدث سنة 1991، في آراء صادرة عنه حول بعض المحاكمات ذات الصبغة السياسية أن اعتقال فرد، حتى ولو كان بناء على قرار قضائي، قد يكون تعسفيا إذا اختل شرط من شروط المحاكمة العادلة.

وقد تعززت حماية الحق في عدم التعرض للاعتقال التعسفي بمقتضيات العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي ينص في مادته التاسعة، على ثلاث ضمانات أساسية:

– حق كل فرد تم توقيفه في أن يتم إخباره بأسباب هذا التوقيف لدى وقوعه.

– حق الشخص الموقوف أو المعتقل بسبب فعل جرمي في أن يقدم ” سريعا إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وظائف قضائية”.

– لا ينبغي أن يكون الاعتقال الاحتياطي في انتظار المحاكمة هو القاعدة العامة أو الأصل. إذ يجب أن يكون استثنائيا ومبررا بكيفية دقيقة بمستلزمات إدارة العدالة.

كما يحدد العهد بصورة دقيقة في المادتين 14 و 15 منه ضمانات المحاكمة العادلة المشار إليها في المادتين 10 و 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. و تتمثل هذه الضمانات بوجه خاص في:

– اختصاص المحاكم المحدثة بمقتضى القانون واستقلالها وتجردها؛

– فرضية براءة كل شخص متابع من أجل فعل جرمي؛

– إخبار الشخص المتهم،” في أقرب وقت، بطبيعة التهمة الموجهة إليه وأسبابها”؛

– حق الشخص في التمتع من الوقت والتسهيلات بما يكفيه لإعداد دفاعه وللاتصال بمحام من اختياره؛

– حق الشخص في أن يستعين بمحام وفي أن يتم إخطاره بحقه في وجود من يدافع عنه وفي أن تنصب عنه المحكمة عند الاقتضاء محاميا يدافع عنه؛

– حق الشخص في أن يناقش شهود الاتهام بنفسه أو بواسطة الغير وفي أن يحضر شهود النفي ويتم الاستماع إليهم؛

– حق الشخص في ألا يتم إكراهه على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بارتكاب جريمة؛

– حق الشخص المدان بجريمة من لدن إحدى المحاكم في الطعن أمام محكمة أعلى درجة؛

– وجوب مراعاة مبدأ عدم رجعية القوانين.

ب-في التشريع الوطني

إن الاعتقال التعسفي الذي ورد الحديث عنه بصفة ضمنية في الفصل 225 من القانون الجنائي المغربي، باعتباره شكلا من أشكال المس بالحرية الفردية قد ذكر بصورة شكلية في الفصل 228 من القانون الجنائي. فهذا الفصل يعاقب كل مشرف أو حارس في سجن أو في مكان مخصص لإقامة المعتقلين “تسلم معتقلا بدون الوثائق القانونية المبررة لذلك، طبقا للفصل 653 من قانون المسطرة الجنائية، أو رفض تقديم المعتقل إلى السلطات أو الأشخاص الذين لهم الحق في رؤيته، طبقا لأحكام الفصول 660 إلى 662 من المسطرة الجنائية وذلك دون وجود أمر من قاضي التحقيق بمنع الاتصال بمعتقل أو رفض تقديم سجلاته إلى من لهم الحق في الاطلاع عليها…”.

بيد أن نص الفصل 653 المشار إليه يتوخى تحديد المكان والشروط المطلوبة لتنفيذ الحرمان من الحرية في إطار الاعتقال الاحتياطي أو قضاء عقوبة سجنية. ومن البديهي أن هذا المقتضى الذي يدعمه الفصل 228 من القانون الجنائي يشكل ضمانة قانونية جزئية لكنها تبقى دون مستلزمات الحماية من الاعتقال التعسفي.

تنبغي الإشارة بهذا الخصوص إلى أن الفصل 608 من قانون المسطرة الجنائية الجديد يخضع الحرمان من الحرية لقرار تصدره السلطة القضائية مع التحفظ بالنسبة للمقتضيات المتعلقة بالوضع تحت الحراسة. ويفيد هذا الفصل ولو بصفة ضمنية واضحة أن الحرمان من الحرية خارج نطاق الظروف المذكورة يكون تعسفيا.

وبصفة عامة، يمكن القول أن الاعتقال التعسفي، يمثل عملا ماسا بالحرية الفردية يمارسه أو يأمر به تعسفا “كل قاض أو موظف عمومي أو أحد رجال أو مفوضي السلطة أو القوة العمومية”. فحسب الفصل 225 من القانون الجنائي المذكور آنفا فإنه يشكل جريمة معاقبا عليها بالتجريد من الحقوق المدنية. كما ينص الفصل 227 على عقوبات في حق الموظف أو رجل القوة العمومية المكلف بالشرطة الإدارية أو القضائية والذي يرفض أو يهمل “الاستجابة لطلب وجه إليه يرمي إلى إثبات حالة اعتقال تعسفي غير مشروع، سواء في الأماكن أو المحلات المخصصة للاعتقال أو في أي مكان آخر ولم يقدم دليلا على أنه قد أبلغه إلى السلطة الرئاسية…”

وجدير بالذكر أن القانون الجنائي المغربي لسنة 1953 كان ينص في الفصل 267 منه على عقوبة الحرمان من الحرية بالنسبة لأولئك الذين “ألقوا القبض على شخص أو اعتقلوه أو احتجزوه، دون أمر من السلطات العمومية وخارج إطار الحالات التي يأمر فيها القانون بحبس المتهمين” . فهذا النص لا يميز بين مرتكبي هذه الأفعال؛ ثم إن الموظفين منهم لا يستفيدون من أي عذر معف من العقوبة. مما يمكن الاستنتاج معه أن المشرفين على صياغة قانون 1962 قد أدرجوا قصدا هذا الامتياز فأقروا التمييز لفائدة الموظفين العموميين على مستوى العقوبات المقررة بالنسبة لنفس الجرائم.

ثالثا- الحماية القانونية ضد التعرض للتعذيب وسوء المعاملة

أ- في القانون الدولي

تجرم مقتضيات القانون الدولي لحقوق الإنسان التعذيب وغيره من العقوبات وضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة بواسطة العديد من الأدوات الدولية وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 5)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 7).

يعتبر إعلان حماية جميع الأشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة ، أول أداة حددت هذا المفهوم. حيث “يقصد بالتعذيب أي عمل ينتج عنه ألم أو عناء شديد، جسديا كان أو عقليا، يتم إلحاقه عمدا بشخص ما بفعل أحد الموظفين العموميين، أو بتحريض منه، لأغراض مثل الحصول من هذا الشخص أو من شخص آخر على معلومات أو اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، أو تخويفه أو تخويف أشخاص آخرين” (المادة الأولى). وتعززت الحماية الدولية ضد التعرض للتعذيب عبر إنشاء اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو الحاطة بالكرامة أو المهينة والتي تنص على الالتزامات التالية.

– اتخاذ كافة التدابير التشريعية والإدارية والقضائية وغيرها من التدابير التي من شأنها ضمان الحماية ضد التعرض للتعذيب.

– العمل على تجريم كل أشكال التعذيب أو محاولات التعذيب.

– العمل على ضمان مراقبة منهجية لقواعد الاستنطاق والتوجيهات والطرق والممارسات المتعلقة به، و كذا المقتضيات المتعلقة بالوضع تحت الحراسة وبمعاملة الأشخاص الموقوفين والمعتقلين أو المحبوسين بأي شكل من الأشكال، للحيلولة دون حدوث حالات تعذيب.

– العمل على ضمان مبادرة السلطات المختصة فورا إلى إجراء تحقيق كلما توفرت أسباب معقولة تحمل على الاعتقاد بأن عملا من أعمال التعذيب قد تم ارتكابه.

– الحرص على عدم الاعتداد بأي تصريح يثبت أنه انتزع تحت التعذيب.

ب- في التشريع الوطني

لا يعرف القانون الجنائي المغربي المعمول به خلال الفترة الزمنية موضوع اختصاص الهيئة التعذيب ولا يجرمه باعتباره كذلك. فالتعذيب لم ترد الإشارة إليه إلا باعتباره ظرفا مشددا في حال استعماله بمناسبة تنفيذ فعل يعد جناية (الفصل 399 من القانون المومأ إليه) أو بمناسبة الاختطاف والاحتجاز (الفصل 439).

فالمتابعات من أجل استعمال العنف، مهما كانت طبيعته، في حق الأشخاص، لا يمكن أن تستند إلا على مقتضيات القانون الجنائي المتعلقة بالضرب والجرح العمد المفضي إلى الموت. ومع ذلك فإن العقوبة المطبقة تكون مشددة في حال الوفاة أو ترسب مخلفات العنف متى كان مرتكب العنف أو الآمر باستعماله، ” بدون مبرر شرعي”، قاضيا أو موظفا عموميا أو أحد رجال السلطة أو القوة العمومية أو مفوضيهما (الفصل 231 من القانون الجنائي المذكور أعلاه). غير أن طبيعة هذا المبرر الشرعي غير محددة، وقد يتمثل، من حيث المبدأ، في المقاومة العنيفة من قبل الشخص المعني.إلا أن هذه المقاومة غير واردة خلال الاستنطاقات مادام الشخص المستنطق أعزل من كل دفاع أمام المحققين.

ويستتبع التعذيب، كما ورد تعريفه في المعايير الدولية، الآلام الجسمانية التي تختلف من حيث طبيعتها حسب التقنيات والأدوات المستعملة في التعذيب وكثافتها (مدى حدة الآلام) ومدتها عن الآلام الناتجة عن الضرب والجرح العمد، حيث أن الآلام المترتبة عن التعذيب لا يمكن مقارنتها بتلك الناتجة عن العنف البدني العادي.

وتجدر الإشارة أيضا إلى أن قانون المسطرة الجنائية قد بقي، لأمد طويل، غير متضمن لأي مقتضى خاص بالفحص الطبي للأشخاص المحالين على النيابة العامة بعد انتهاء البحث التمهيدي. فكان يتعين انتظار تعديل سنة 1991 لاتخاذ تدابير الحماية بهذا الخصوص، حيث أصبح وكيل الملك بموجب هذا التعديل، ملزما بعرض الشخص المعني على فحص طبي يجريه طبيب خبير متى طلب منه ذلك أو متى عاين بنفسه أثارا ظاهرةً للعنف تبرر إجراء هذا الفحص. ويجب على وكيل الملك أن يشعر المتهم ” بأن من حقه تنصيب محام عنه حالا ويحق للمحامي أن يحضر الاستنطاق التمهيدي”، وهذه ضمانة من ضمانات شفافية الخروج من حالة العزلة المطلقة عن العالم الخارجي والمثول أمام قاض.

رابعا- المس بالحق في الحياة نتيجة الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة العمومية

تتضمن “المبادئ الأساسية حول اللجوء إلى القوة واستعمال الأسلحة النارية من لدن الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون” بوجه خاص التوصيات التالية :

– اللجوء إلى وسائل غير عنيفة قبل استعمال القوة؛ توفير أسلحة شالة للحركة و غير قاتلة تكون قابلة للاستعمال في الوقت المناسب؛

– حصر استعمال القوة والأسلحة النارية في الحالات القصوى التي لا مفر فيها من استعمالها مع احترام مبدأ التناسب مع خطورة الجريمة والهدف المشروع المتوخى؛

– السهر على تقديم المساعدة والإسعافات الطبية لكل شخص في حاجة إليها بأسرع ما يمكن.

خامسا: اختصاص هيئة الإنصاف والمصالحة

يحدد النظام الأساسي لهيئة الإنصاف والمصالحة مجال عملها في موضوع الكشف عن حقيقة الانتهاكات الجسيمة المرتكبة في الماضي فيما يتعلق بوقائعها وسياقاتها ومسؤولية الفاعلين فيها بتكليف الهيئة بـ:

– إثبات نوعية ومدى جسامة تلك الانتهاكات، من خلال تحليلها في إطار السياقات التي ارتكبت فيها وفي ضوء معايير وقيم حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية ودولة الحق والقانون، وذلك بإجراء التحريات وتلقي الإفادات والاطلاع على الأرشيفات الرسمية واستقاء المعلومات والمعطيات التي توفرها أية جهة، لفائدة الكشف عن الحقيقة؛

– مواصلة البحث بشأن حالات الاختفاء القسري التي لم يعرف مصيرها بعد، وبذل كل الجهود للتحري بشأن الوقائع التي لم يتم استجلاؤها؛ والكشف عن مصير المختفين، مع إيجاد الحلول الملائمة بالنسبة لمن ثبتت وفاتهم؛

– الوقوف على مسؤوليات أجهزة الدولة أو غيرها في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات؛

وقد تم الاسترشاد في تفسير اختصاص الهيئة وتحديد مهامها في هذا المجال بالتطورات الحاصلة على المستوى الدولي المشار إليها أعلاه من الناحية المعيارية وكذا الممارسات الفضلى المستخلصة من تجارب لجان الحقيقة والمصالحة أثناء تسوية وتدبير نزاعات الماضي بشكل سلمي يتلائم وطبيعة الانتقال الديمقراطي المشهود.