موازنة مبدأ المشروعية

إذا كان احترام حقوق الأفراد وحرياتهم يقتضي وجود قواعد صارمة تمنع الإدارة من الاعتداء على مبدأ المشروعية، فأن حسن سير المرافق العامة واستمرار أداء الإدارة وظيفتها يقتضيان منحها من الحرية  ما يساعدها في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب توخياً للمصلحة العامة.

لذلك اعترف المشرع والقضاء والفقه ببعض الامتيازات التي تملكها الإدارة وتستهدف موازنة مبدأ المشروعية وهي:

  • السلطة التقديرية.
  • الظروف الاستثنائية.
  • أعمال السيادة.

المبحث الأول

السلطة التقديرية

تمارس الإدارة نشاطها بأتباع  أسلوبين:

  • الأول أن تمارس اختصاصاً مقيداً وفيه يحدد المشرع الشروط لاتخاذ قراراها مقدماً. مثلما هو الحال في ترقية موظف بالأقدمية فقط فإذا ما توفرت هذه الأقدمية فأن الإدارة مجبرة على التدخل وإصدار قرارها بالترقية.
  • والأسلوب الثاني يتمثل بممارسة الإدارة اختصاصاً تقديرياً إذ يترك المشرع للإدارة حرية اختيار وقت وأسلوب التدخل في إصدار قراراتها تبعاً للظروف ومن دون أن تخضع للرقابة .

فالمشرّع يكتفي بوضع القاعدة العامة التي تتصف بالمرونة تاركاً للإدارة تقدير ملائمة التصرف، شريطة أن تتوخى الصالح العام في أي عمل تقوم به وأن لا تنحرف عن هذه الغاية وإلا كان عملها مشوباً بعيب إساءة استعمال السلطة. ([1])

إلا أن حرية الإدارة غير مطلقة في هذا المجال فبالإضافة إلى أنها مقيدة باستهداف قراراتها المصلحة العامة تكون ملزمة بإتباع قواعد الاختصاص والشكلية المحددة قانوناً، بينما تنصرف سلطتها التقديرية إلى سبب القرار الإداري وهو الحالة الواقعية والقانونية التي تبرر اتخاذ القرار والمحل وهو الأثر القانوني المترتب عنه حالاً ومباشرة، فهنا تتجلى سلطة الإدارة التقديرية . ([2])

وقد منح المشرع للإدارة هذه السلطة شعوراً منه بأنها أقدر على اختيار الوسائل المناسبة للتدخل واتخاذ القرار الملائم في ظروف معينة لأنه مهما حاول لا يستطيع أن يتصور جميع الحالات التي قد تطرأ في العمل الإداري ويرسم الحلول المناسبة لها، فالسلطة التقديرية ضرورة لحسن سير العملية الإدارية وتحقيق غاياتها.

القضاء والسلطة التقديرية:

إذا كانت السلطة التقديرية استثناءًا من مبدأ المشروعية، فما دور القضاء في الرقابة على أعمال الإدارة الصادرة استناداً إلى هذه السلطة؟

  • ذهب جانب من الفقه إلى أن القضاء يمتنع عن بسط رقابته على أعمال الإدارة المستندة إلى سلطتها التقديرية، فالقاضي بحسب رأيهم يمارس رقابة المشروعية وليس رقابة الملائمة ولا يجوز له أن يمارس سطوته على الإدارة فيجعل من نفسه رئيساً للسلطة الإدارية. ([3])
  • في حين ذهب جانب آخر من الفقه إلى جواز تدخل القاضي لمراقبة السلطة التقديرية على أساس ما يتمتع به القاضي الإداري من دور في الكشف عن قواعد القانون الإداري فيمكن له أن يحول بعض القضايا المندرجة في السلطة التقديرية والمرتبطة بالملائمة إلى قضايا تندرج تحت مبدأ المشروعية تلتزم الإدارة بأتباعها و إلا تعرضت أعمالها للبطلان . ([4])

والرأي الأكثر قبولاً في هذا المجال يذهب إلى أن سلطة الإدارة التقليدية لا تمنع من رقابة القضاء وإنما هي التي تمنح الإدارة مجالاً واسعاً لتقدير الظروف الملائمة لاتخاذ قراراتها وهذه الحرية مقيدة بان لا تتضمن هذه القرارات غلطاً بيناً أو انحرافاً بالسلطة، وهي بذلك لا تتعارض مع مبدأ المشروعية بقدر ما تخفف من اختصاصات الإدارة المقيدة .

المبحث الثاني

الظروف الاستثنائية

تواجه الإدارة في بعض الأوقات ظروفاً استثنائية تجبرها على اتخاذ بعض الإجراءات التي تعد غير مشروعة في الظروف العادية حماية للنظام العام وحسن سير المرافق العامة فتضفي على إجراءاتها تلك صفة المشروعية الاستثنائية.

وعلى ذلك فأن الظرف الاستثنائي أياً كانت صورته حرباً أو كوارث طبيعية لا يجعل الإدارة في منأى من رقابة القضاء بشكل مطلق، فلا يعدو الأمر أن يكون توسعاً لقواعد المشروعية تأسيساً على مقولة “الضرورات تبيح المحظورات”.

فالإدارة  تبقى مسئولة في ظل الظروف الاستثنائية على أساس الخطأ الذي قد يقع منها، غير أن الخطأ في حالة الظروف الاستثنائية يقاس بمعيار آخر ويوزن بميزان مغاير لذلك الذي يوزن به في ظل الظروف العادية، فيستلزم القضاء فيه أكبر من الجسامة. ([5])

وتستمد نظرية الظروف الاستثنائية وجودها من القضاء الإداري، غير أن المشرع قد تدخل مباشرة في بعض الحالات لتحديد ما إذا كان الظرف استثنائياً أم لا . وهو يمارس ذلك بأتباع أسلوبين:

  • الأول: أن يستصدر قوانين تنظم سلطات الإدارة في الظروف الاستثنائية بعد وقوعها، ويتسم هذا الأسلوب بحماية حقوق الأفراد وحرياتهم لأنه يحرم السلطة التنفيذية من اللجوء إلى سلطات الظروف الاستثنائية إلا بعد موافقة السلطة التشريعية، ويعيبه أن هناك من الظروف ما يقع بشكل مفاجئ لا يحتمل استصدار تلك التشريعات بالإجراءات الطويلة المعتادة. ([6])
  • أما الاسلوب الثاني فيتمثّل في اعداد تشريعات معدة سلفا لمواجهة الظروف الاستثنائية.ولا يخفى ما لهذا الأسلوب من عيوب تتمثل في احتمال إساءة الإدارة سلطتها في إعلان حالة الظروف الاستثنائية في غير وقتها والاستفادة مما يمنحه لها المشرع من صلاحيات في تقييد حريات الأفراد وحقوقهم.

وقد أخذ المشرع الفرنسي بالأسلوب الأخير إذ منحت المادة السادسة عشر من دستور الجمهورية الخامسة الصادر عام 1958 رئيس الجمهورية الفرنسية سلطات واسعة من أجل مواجهة الظروف الاستثنائية.

وكذلك فعل المشرع االعراقي  حيث حدد المشرع العراقي هذه الحالات في قانون السلامة الوطنية رقم 4 لسنة 1965 فيما يلي:

1- إذا حدث خطر من غارة عدائية او اعلنت الحرب او قامت حالة حرب او اية حالة تهدد بوقوعها.

2- إذا حدث اضطراب خطير في الامن العام اوتهديد خطير له.

3- إذا حدث وباء عام او كارثة عامة.

كذلك اصدر المشرع امر قانون الدفاع عن السلامة الوطنية رقم (1) لسنة 2004 الذي خول رئيس الوزراء بعد موافقة هيئة الرئاسة بالاجماع اعلان حالة الطوارىء في اية منطقة من العراق عند تعرض الشعب العراقي لخطر حال جسيم يهدد الافراد في حياتهم ، وناشىء من حمله مستمرة للعنف ، من أي عدد من الاشخاص لمنع تشكيل حكومة واسعة التمثيل في العراق او تعطيل المشاركة السياسية السلمية لكل العراقيين او أي غرض اخر.

القضاء الإداري ونظرية الظروف الاستثنائية:

يمارس القضاء الإداري دوراً مهماً في تحديد معالم نظرية الظروف الاستثنائية، ويضع شروط الاستفادة منها ويراقب الإدارة في استخدام صلاحياتهم الاستثنائية حماية لحقوق الأفراد وحرياتهم، وهذه الشروط هي:

1- وجود ظرف استثنائي يهدد النظام العام وحسن سير المرافق العامة سواء تمثل هذا الظرف بقيام حرب أو اضطراب أو كارثة طبيعية .

2- أن تعجز الإدارة عن أداء وظيفتها باستخدام سلطاتها في الظروف العادية، فتلجأ لاستخدام سلطاتها الاستثنائية التي توافرها هذه النظرية.

3- أن تحدد ممارسة السلطة الاستثنائية  بمدة الظرف الاستثنائي فلا يجوز الإدارة أن تستمر في الاستفادة من المشروعية الاستثنائية مدة تزيد على مدة الظرف الاستثنائي.

4- أن يكون الإجراء المتخذ متوازناً مع خطورة الظرف الاستثنائي وفي حدود ما يقتضه. ([7])

وللقضاء الإداري دور مهم في الرقابة على احترام الإدارة لهذه الشروط وهو يميز هذه النظرية عن نظرية أعمال السيادة التي تعد خروجاً على المشروعية ويمنع القضاء من الرقابة على الأعمال الصادرة استناداً إليها . كما تتميز عن نظرية السلطة التقديرية للإدارة التي يكون دور القضاء في الرقابة عليها محدوداً بالمقارنة مع رقابته على أعمال الإدارة في الظروف الاستثنائية.

فالقاضي في هذه الظروف يراقب نشاط الإدارة لا سيما من حيث أسباب قرارها الإداري والغاية التي ترمي إليها الإدارة في اتخاذه ولا يتجاوز في رقابته إلى العيوب الأخرى، الاختصاص والشكل والمحل وهو ما استقر عليه القضاء الإداري في العديد من الدول([8])
المبحث الثالث

نظرية أعمال السيادة

اختلف الفقه والقضاء في تعريف أعمال السيادة، وهي في حقيقتها قرارات إدارية تصدر عن السلطة التنفيذية وتتميز بعدم خضوعها لرقابة القضاء سواء أكان بالإلغاء أو بالتعويض. ([9])

وهي بذلك تختلف عن نظريتي السلطة التقديرية والظروف الاستثنائية التي لا تعمل إلا على توسيع سلطة الإدارة فهي تعد كما يذهب جانب من الفقه خروجاً صريحاً على مبدأ المشروعية.

وقد نشأت أعمال السيادة في فرنسا عندما حاول مجلس الدولة الفرنسي أن يحتفظ بوجوده في حقبة إعادة الملكية إلى فرنسا عندما تخلى عن الرقابة على بعض أعمال السلطة التنفيذية. ([10])

وقد استلهم المشرع العراقي في قانون السلطة القضائية رقم (26) لسنة 1963 (الملغي)  نظرية اعمال السيادة و قد اصبح لها مصدرا تشريعيا في العراق حيث نصت المادة (4) منه على أن (ليس للمحاكم أن تنظر في كل ما يعتبر من أعمال السيادة) واخذ بالحكم ذاته قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 حيث نص في مادته العاشرة على انه (لا ينظر القضاء في كل ما يعتبر من أعمال السيادة).

  • وعند صدور القانون رقم (106) لسنة 1989 وهو قانون التعديل الثاني لقانون مجلس شورى الدولة رقم 65 لسنة 1979 نص في مادته السابعة البند خامساً على ما يأتي (لا تختص محكمة القضاء الإداري بالنظر في الطعون المتعلقة بما يأتي :

1- أعمال السيادة وتعتبر من أعمال السيادة المراسيم والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية). ويبدو أن المشّرع لم يكتفِ بالنص على أعمال السيادة إبل اعتبر  المراسيم والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية من قبيل اعمال السيادة  ولا يخفى مالهذا التوجه من خطوره على اعتبار ان اغلب مايصدر من رئيس الجمهورية  هو قرارات إدارية لايمكن تحصينها من رقابة القضاء  واذا هذا الوضع كان يجد من يبرره  في دوله تتبع النظام الشمولي في الحكم والاداره  فأن الصلاحيات التي يمارسها رئيس الجمهوريه والقرارات التي يصدرها في ظل دستور العراق الحالي  لايمكن اعتبارها  بشكل من الاشكال من قبيل  أعمال السيادة. مما يقتضي تعديل المادة السابعة البند خامساً والغاء هذا الاستثناء من رقابة القضاء الاداري. وهو ما ينسجم مع  توجه المشرع الدستوري العراقي في الدستور الصادر عام 2005 حيت ورد النص في الماده 97 (يحظر النص في القوانين على تحصين اي عمل او قرار اداري من الطعن.)

ومع أن المشرع في العراق قد نص على وجود ما يسمى بأعمال السيادة إلا أنه آثر عدم وضع تعريف محدد لها على غرار التشريعات الأخرى، وترك ذلك إلى القضاء والفقه، ولاشك أن ضرورة وضع معيار لتمييز أعمال السيادة عن سائر أعمال الإدارة يحظى بأهمية خاصة، لأن إطلاق صفة عمل السيادة على تصرف إداري معين يمنحه حصانة من الرقابة القضائية.

ولا يخفى ما لهذا الأمر من تهديد لحقوق الأفراد وحرياتهم، وقد ظهر في سبيل هذا التمييز ثلاثة معايير نبينها فيما يلي:

المطلب الأول: معيار الباعث السياسي

معيار الباعث السياسي هو المعيار الذي اعتمده مجلس الدولة الفرنسي للأخذ بنظرية أعال السيادة و ويعد حكم مجلس الدولة في قضية Le Fitte  الصادر في 1/5/1822 حجر الأساس في اعتماد هذا المعيار. ([11])

وبمقتضاه يعد العمل من أعمال السيادة إذا كان الباعث عليه سياسياً، أما إذا لم يكن الباعث سياسياً فإنه يعد من الأعمال الإدارية التي تخضع لرقابة القضاء. ([12])

وقد أخذ مجلس الدولة بهذا المعيار ليتلافى الاصطدام مع الإدارة لأنه معيار مرن يتيح للإدارة التخلص من رقابة القضاء بمجرد تذرعها بأن الباعث على تصرفها سياسي .

إلا أن المجلس عدل عن هذا المعيار نتيجة لكثرة الانتقادات الموجهة له، وذلك في حكمه بتاريخ 19/2/1875 في قضية Prince Napoleon  . ([13]) وحكم محكمة التنازع في 5/11/1880 في قضية Marquigny . ([14])

المطلب الثاني: معيار طبيعة العمل

نتيجة لما وجه إلى معيار الباعث السياسي من نقد لجأ الفقه والقضاء إلى اعتماد طبيعة العمل ومفهومه لتمييز عمل السيادة عن أعمال الإدارة الأخرى . وفي سبيل ذلك ظهرت ثلاثة اتجاهات:

1- الاتجاه الأول:

ذهب الاتجاه الأول إلى التمييز بين العمل الإداري والعمل الحكومي إذ عد العمل حكومياً إذا قصد به تحقيق مصلحة الجماعة السياسية كلها والسهر على احترام دستورها، وسير هيئاتها العامة والإشراف على علاقاتها مع الدول الأجنبية وعلى أمنها الداخلي، وهذا النوع من الأعمال يندرج في ضمن أعمال السيادة ويمتنع عن رقابة القضاء، أما النوع الأخر الذي يتعلق بالتطبيق اليومي للقوانين والأشراف على علاقات الأفراد بالإدارة المركزية أو المحلية، وعلاقات الهيئات الإدارية، بعضها بالبعض الأخر فيندرج في ضمن أعمال الإدارة الاعتيادية التي تخضع لرقابة القضاء.([15])  وفي هذا التمييز يذهب الفقيه ” هوريو ” إلى أن المهمة الحكومية تنحصر في وضع الحلول للأمور الاستثنائية والسهر على تحقيق مصالح الدولة الرئيسية أما الوظيفة الإدارية فتتركز في تسيير المصالح الجارية للجمهور. ([16])

2- الاتجاه الثاني:

ذهب هذا الاتجاه إلى أن أعمال السيادة أو الحكومة هي الأعمال التي تستند إلى نصوص دستورية أما الأعمال الإدارية فتستند إلى نص تشريعي عادي أو قرارات تنظيمية.([17]) ولا يخفى ما لهذا الاتجاه من خطورة لأنه يمنح الإدارة فرصة استغلال الدستور لإدخال الكثير من أعمالها في ضمن مجال أعمال السيادة لا سيما أن الدستور يتضمن أموراً هي في الغالب ذات طبيعة إدارية بحتة كالنصوص الخاصة بتعيين بعض الموظفين في حين تخرج بعض الأعمال من نطاق أعمال السيادة برغم طبيعتها الحكومية لا لشيء إلا لأن الدستور لم ينص عليها صراحة.

3- الاتجاه الثالث:

نتيجة لعجز الاتجاهين السابقين عن التمييز بين أعمال الحكومة والأعمال الإدارية الأخرى اتجه الفقه نحو أسلوب يقوم على تعريف أعمال الحكومة بأنها تلك الأعمال التي تصدر عن السلطة التنفيذية بخصوص علاقاتها بسلطة أخرى كالسلطة التشريعية أو سلطة دولة أخرى لا تخضع أعمالها لمراقبة القضاء. وقد أبز هذا المعيار مفوض الدولة ” سيلييه Celier  ” ويعتمد رأيه على أساس أن الأعمال الحكومة لا تخضع لرقابة القضاء الإداري بوصف القاضي الإداري قاضي السلطة التنفيذية، ولما كانت السلطة التقديرية لا تخضع لرقابته، فإن أي قرار صادر عن السلطة التنفيذية ويمتد أثره إلى السلطة التشريعية يخرج عن رقابة القضاء. ومن جانب أخر يتصف القاضي الإداري بأنه قاضي وطني لا دولي ومن غير المعقول أن تمتد رقابته لتشمل سلطة دولية وعلى ذلك فأن القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية بصدد علاقاتها مع سلطة أجنبية تخرج عن رقابة القضاء الإداري أيضاً.([18])

وأياً كان الاتجاه فأن التمييز بين أعمال الحكومة وأعمال الإدارة العادية بقى غير   معتد به ويفتقر إلى أساس قانوني واضح مما دفع بالفقه إلى البحث عن معيار آخر يقوم على أساس حصر أعمال السيادة وهو المعيار الشائع في الوقت الحاضر .

المطلب الثالث: معيار القائمة القضائية

اتجه الفقهاء إلى اعتماد الاتجاه القضائي لتحديد ما يعد من أعمال السيادة لعجزهم عن وضع معيار لتمييز أعمال السيادة بشكل واضح .

ولعل أول من نادى بهذه الفكرة العميد “هوريو” الذي ذهب إلى أن “العمل الحكومي هو كل عمل يقرر له القضاء الإداري وعلى رأسه محكمة التنازع هذه الصفة”.([19])

وبناءًا على ذلك فأن تحديد أعمال السيادة يعتمد ما يقرره القضاء فهو يبين هذه الأعمال ويحدد نطاقها، وقد أسهم مجلس الدولة الفرنسي ومحكمة التنازع في وضع قائمة لأعمال السيادة تتضمن مجموعة من الأعمال أهمها:

أولاً: الأعمال المتعلقة بعلاقة الحكومة بالبرلمان:

وتشمل قرارات السلطة التنفيذية المتعلقة بالعملية التشريعية كاقتراح مشروع قانون وإيداع هذا المشرع أو سحبه، وكذلك القرارات الخاصة بانتخاب المجالس النيابية والمنازعات الناشئة عنها، قرارات رئيس الجمهورية المتعلقة بالعلاقة بين السلطات الدستورية وممارسة الوظيفة التشريعية مثل قرار اللجوء  إلى السلطات الاستثنائية المنصوص عليها في المادة 16 من دستور عام 1958 الفرنسي، والمرسوم بطرح مشروع قانون للاستفتاء . ([20])

ثانياً: الأعمال المتصلة بالعلاقات الدولية والدبلوماسية:

فقد عد مجلس الدولة من قبيل أعمال السيادة القرارات المتعلقة بحماية ممتلكات الفرنسيين في الخارج ([21])، ورفض عرض النزاع على محكمة العدل الدولية ([22])، وكذلك الأعمال المتعلقة بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية . ([23])

ثالثاً: الأعمال المتعلقة بالحرب:

ومن هذه الأعمال حق الدولة في الاستيلاء على السفن المحايدة الموجودة في المياه الإقليمية وقت الحرب،([24]) وكذلك الأوامر الصادرة بتغيير اتجاه السفن أو الحجز عليها أو على ما تحمله من بضائع.([25])

وعموماً فأن القاسم المشترك بين هذه الأعمال يتمثل في تحصينها من رقابة القضاء إلغاءً وتعويضاً، وعلى ذلك فقد اعتبرها الفقه الإداري ثغرة في بناء المشروعية، وحول القضاء رأب هذا الصدع من خلال الاتجاه نحو تضييق نطاق أعمال السيادة وإخراج بعض الأعمال ذات الطبيعة الإدارية منها، كذلك اتجه مجلس الدولة الفرنسي إلى التخفيف من أثر أعمال السيادة فقرر إمكان التعويض عنها.

فقد قرر المجلس بتاريخ 30/3/1966 بأن الأضرار الناجمة عن حوادث توصف بأنها حوادث الحرب تفتح للمضرور حقاً في التعويض تتحمله الدولة استناداً إلى نصوص لها قوة القانون. ([26])

ويبدو ان القضاء في العراق قد اتبع هذا الاسلوب في تحديد اعمال السيادة فقد قضت محكمة التميز في حكمها الصادر في 6/5/1966 (… فانه وان كانت أعمال السيادة حسبما جرى الفقه والقضاء من أنها تلك الأعمال التي تصدر من الحكومة باعتبارها سلطة حكم لا سلطة إدارة فتباشرها بمقتضى هذه السلطة العليا لتنظيم علاقتها بالسلطات الأخرى داخلية كانت أو خارجية أو تتخذها اضطراراً للمحافظة على كيان الدولة في الداخل أو في الذود عن سيادتها في الخارج إما لتنظيم علاقات الحكومة بالسلطة العامة وإما لدفع الأذى عن الدولة في الداخل أو في الخارج وهي تارة أعمالا منظمة لعلاقة الحكومة بالمجلس الوطني أو مجلس الدفاع وهي طوراً تكون تدابير تتخذ للدفاع عن الأمن العام من اضطراب داخلي بإعلان الأحكام العرفية أو إعلان حالة الطوارئ …)([27]) . فالمحكمة  بعد أن قسمت أعمال الحكومة إلى أعمال الإدارة العادية وأعمال تتخذها بصفتها سلطة حكم لتنظيم علاقاتها بالسلطات الأخرى أو علاقاتها الخارجية أو تتخذها اضطراراً للمحافظة على كيان الدولة، نجد أن المحكمة تعود وتفصل هذه الأعمال من خلال إيراد قائمة بالأعمال التي تعد من قبيل أعمال السيادة.
[1]  – د. سعيد عبد المنعم الحكيم – الرقابة على أعمال الإدارة في الشريعة الإسلامية والنظم المعاصرة – دار الفكر العربي – القاهرة 1976 – ص 71.

[2]  – د. ماجد راغب الحلو – المصدر السابق – ص 57.

1-  Wade H.W.R Administrative law –oxford –1977- P 630 .

[4]  – د. عبد القادر باينه – القضاء الإداري الأسس العامة والتطور التاريخي – دار توبقال للنشر المغرب – 1985 – ص 24 .

[5]  – د. ماجد راغب الحلو – المصدر السابق – ص 53 .

[6]  – د. صبيح بشير مسكوني – القضاء الإداري – في الجمهورية العربية الليبية – جامعة بنغازي – 1974 – ص 71 .

[7]  – ينظر :

د. أحمد مدحت على – نظرية الظروف الاستثنائية – القاهرة – 1978 – ص 19 .

د. محمود حافظ – المصدر السابق – ص 44 .

د. سعيد عبد المنعم الحكيم – المصدر السابق – ص 49 .

د. عبد القادر باينه – المصدر السابق – ص 28 .

[8]  – د. عبد القادر باينه – المصدر السابق – ص 28 .

1- J.m.Auby – Droit Administratif, Paris 1967، P 55 .

[10] – وفي ذلك ذهب الفقيه هوريو إلى أن أعمال السيادة من مظاهر السياسة القضائية المرنة والحكيمة لمجلس الدولة الفرنسي لمواجهة الأزمات التي كانت تهدد كيانه وكادت تقوض اركانه، فعلى أثر عودة الملكية في فرنسا عام 1814 عزمت الحكومة على إلغاء المجلس المذكور للتخلص من رقابته فلجأ إلى التصالح مع الحكومة بأن تنازل عن بعض سلطاته في الرقابة على طائفة من اعمال الحكومة مقابل الاطمئنان إلى مصيره وضمان بقائه رقيباً على سائر الأعمال الإدارية.

ينظر :

–  د . عبد الباقي نعمه عبد الله – نظرية أعمال السيادة في القانون المقارن – مجلة القانون المقارن – 1977- ص 33.

–  د. عبد الفتاح ساير داير – نظرية أعمال السيادة – رسالة دكتوراه – القاهرة – 1955 – ص 33.

1- C.E ler Mai 1822 La Fitte, Rec 371.

تتعلق هذه القضية بالمطالبة بإيراد مبالغ خصصها نابليون بونابرت للأميرة Borghere حيث رفضت الحكومة صرفها بالاستناد للقانون الصادر في 12 يناير 1816 الذي حرم أعضاء أسرة نابليون من جميع الأموال التي منحت لهم مجاناً .

[12] – ينظر :

د. سليمان محمد الطماوي – القضاء الإداري – المصدر السابق – ص 330 .

د. محسن خليل – القضاء الإداري ورقابته لأعمال الإدارة – القاهرة – 1968 – ص 131 .

1- C.E .Fevier 1875 – 2-95 G A n 38 edit P 14 .

2- T.C 5 Nov 1880، Marquigny، D 1880 –3-12 .

[15] – د. سليمان محمد الطماوي – القضاء الإداري – المصدر السابق – ص 331 .

[16] –  Vedel G. Droit administrative. P.U.F Paris 1954 P 305 .

[17] – د. محمود محمد حافظ – المصدر السابق – ص 123 .

[18] – د. فاروق أحمد خماس، محمد عبد الله الدليمي – الوجيز في النظرية العامة للعقود الإدارية – جامعة الموصل – 1992 – ص 57.

[19] – د. سليمان محمد الطماوي – المصدر السابق – ص 332 .

1- C.E. 2 mars 1962، Rubin de servens .

– C.E 19 Oct 1962، Brocas، Precite .

2- C.E 2 mars 1966, Dame Cramencel.

3- C.E 9 Janu 1952 Geny Rec 79 .

[23] – استقر القضاء الإداري الفرنسي على استثناء التدابير القابلة للانفصال Detachable  عن العلاقات الدبلوماسية أو الاتفاقيات الدولية واخضعها لرقابة لقضاء، من قبيل قرارات تسليم المجرمين فقد قرر مجلس الدولة عدم اعتبار طلبات تسليم المجرمين الموجه من الحكومة الفرنسية إلى حكومة أجنبية من أعمال السيادة . ينظر :

– مارسو لون – بروسبير في جي بريان – أحكام المبادئ في القضاء الإداري الفرنسي ترجمة : د. أحمد يسري – منشأة المعارف الإسكندرية – 1991- ص 33 .

1- C. E 22 nov 1957 Myrtoon steam shipco . Rec 632 .

2- C.E 3 nov 1922، Lichiardopoulos، Rec 793 .

[26] –  مارسولون – بروسبير في – جي – بريان – المصدر السابق – ص 36.

([27]) أورده محمود خلف حسين، الحماية القانونية للأفراد في مواجهة أعمال الإدارة في العراق، دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه مقدمة إلى  كلية القانون، جامعة بغداد، 1986، ص184.