مفهوم الإباحة في نطاق الدفاع الشرعي :

ان (المادة 42) من قانون العقوبات العراقي ، بينت شروط اباحة فعل الدفاع الشرعي ، حيث نصت على (لا جريمة اذا وقع الفعل استعمالا” لحق الدفاع الشرعي ، و يوجد هذا الحق اذا توافرت الشروط التالية :

1ـ اذا واجه المدافع خطر حال من جريمة على النفس او على المال ، او اعتقد قيام هذا الخطر ، و كان اعتقاده مبنيا” على أسباب معقولة .

2ـ ان يتعذر عليه الالتجاء إلى السلطات العامة لاتقاء هذا الخطر في الوقت المناسب .

3ـ ان لا يكون إمامه وسيلة أخرى لدفع هذا الخطر .

و يستوي في قيام هذا الحق ان يكون التهديد في الخطر موجها” إلى نفس المدافع او ماله او موجها” إلى نفس الغير او ماله ) . وخلافا” للمنهج السابق ، في تقسيم شروط الدفاع الشرعي إلى شروط متطلبة في الاعتداء، واخرى متطلبة في الدفاع ، نتفق وجانب من الفقه (1) الذي يرى ، ان الدفاع الشرعي يقوم بشرط واحد هو وجود خطر اعتداء يهدد بارتكاب جريمة ضد نفس الشخص(2) او ماله او نفس او مال غيره (3) . هذا الخطر له صفات لا بد من توافرها ، وهي كونه (غير مشروع ، وحال) ، فعدم مشروعية الخطر وحلوله صفتان تلحقان بالخطر ذاته ، اما شرط الالتجاء الى السلطات العامة، وشرط لزوم فعل الدفاع ، فهما من لوازم حلول الخطر (4) .

فلو لم يكن الخطر حالا” لكان لدى المدافع متسع من الوقت للاحتماء او اللجوء إلى السلطات العامة ، ولولا الحلول أيضا” للزم إقامة الدعوى دون استعمال القوة ، عليه فلا يمكن تصور نشوء حالة الدفاع الشرعي ، ومن ثم تصور وقوع تجاوز فيه ما لم يكن هناك خطر اعتداء ، سواء كان جسيما” او غير جسيم . وهذا ما يؤيده الفقه الإسلامي بجواز دفاع الإنسان عن نفسه او ماله في جميع المراتب وان قل(5) ، وهو ما مسلم به فقها” وتشريعا” وقضاءً ، بل وأكثر من ذلك تعتد بعض القوانين حتى بالخطر الوهمي ، الذي ليس لديه وجود الا في اعتقاد ومخيلة المهدد به ، بشرط ان يكون اعتقاده مبنيا” على أسباب معقولة ، وهذا ما نصت عليه (المادة 42 / 1) من قانون العقوبات العراقي المذكورة سلفا” . اما قانون العقوبات المصري ، فلم يصرح بالاعتداد بالخطر الوهمي ، لكن الفقه (6) والقضاء يستشف ذلك من نصوص (المواد 249/ا و 250/4) ومن عبارة (…فعل يتخوف ان يحدث منه الموت او جراح بالغة اذا كان لهذا التخوف اسباب معقولة ) . وتطبيقا” لذلك قضت محكمة التمييز في العراق (ان المتهم اعتقد خطأ بقيام حالة الدفاع الشرعي فيما فعل ، ذلك ان مطاردة الاخوين للمتهم بالسكاكين والمسدس واستمرارهما في المطاردة حتى داره ، أوهمه بأن الخطر ظل محدقا بحياته )(7) . ويذهب جانب من الفقه العراقي(8) ، ان ما اشارت إليه (المادة 43/1) من قانون العقوبات العراقي بعبارة ( … فعل يتخوف ان يحدث منه الموت او جراح بالغة اذا كان لهذا التخوف اسباب معقولة ) كان يراد به الاعتقاد الخاطئ بوجود خطر أيضا” . ومن جانبنا نعتقد ان (المواد 43/1 و 44/4) لم يقصد بها المشرع النص على الاعتقاد الخاطئ بوجود خطر ، وانما يتبين انه اراد اباحة او جواز الدفاع الشرعي عن أي فعل اخر غير ما ذكر في فقرات هذه المواد من خطر حقيقي ، حتى لو كان مشروعا” ، تدل الوقائع المعقولة إلى انه قد يسبب الموت او الجروح البالغة ، وذلك ان المشرع العراقي اشار إلـى الاعتداد بالاعتقاد الخاطئ بوجود خطر في (المادة 42/1) وليس هناك ما يدعو لتكرار النص عليه في مادتين أخريين . وما يؤيد ذلك ما نصت عليه (المادة 46) من قانون العقوبات العراقي بقولها ( لا يبيح حق الدفاع الشرعي مقاومة احد افراد السلطة العامة اثناء قيامه بعمل تنفيذا” لواجبات وظيفته ولو تخطى حدود وظيفته ، ان كان حسن النية ، الا اذا خيف ان ينشأ عن فعله موت او جراح بالغة وكان لهذا التخوف سبب معقول ) ، فالخطر هنا حقيقيا” ، وصادر عن فعل مشروع ، ولكن المشرع اباح الدفاع ضده حماية للنفس من الموت او الجراح البالغة . والدفاع الشرعي شرع لمنع الاعتداء او الحيلولة دون تحول الخطر إلى اعتداء ، سواء كان في جملته او في جزء منه ، ولم يشرع لمعاقبة المعتدي ، فاذا تحقق الاعتداء كله ، فلا محل للدفاع عندئذ ، او ان الخطر نشأ ابتداءا” ثم زال بزوال وجوده او حلوله ، ولا يصح اعتبار ذلك تجاوزا” ، بل هو فعل يكون جريمة اذا اكتملت لها عناصرها ، وهذا ما قضت به محكمة التمييز في العراق في قرار لها قائلة ( ان المتهم بعد ان انتزع المسدس من يد المجنى عليه ، انتهت حالة الدفاع الشرعي بالنسبة له ، اذ زال الخطر الذي كان يهدد حياته ، فقيامه بعد ذلك بأطلاق النار من المسدس واصابة المجنى عليه بأكثر من طلقة واحدة ، ما هو الا ارتكاب لجريمة قتل المجنى عليه عمدا” ، وليس هناك من تجاوز لحالة الدفاع الشرعي )(9) . ولكن هناك جانب من الشراح العراقيين(10) ، يذهب إلى ( ان اعتقاد شخص بوجود خطر وهمي بدون اسباب معقولة ، يعتبر اعتقادا” خاطئا” منه بأنه في حالة دفاع شرعي ، وبذلك يكون متجاوزا” لحدود الدفاع الشرعي ومسؤولا” عن الجريمة التي ارتكبها ، وانما يجوز للمحكمة في هذه الحالة ان تحكم بعقوبة الجنحة بدلا” من عقوبة الجناية ، وبعقوبة المخالفة بدلا” من عقوبة الجنحة ، طبقا” لما هو منصوص عليه في (المادة 45) من قانون العقوبات العراقي ) . نعتقد ان هذا الرأي يخالف اتجاه المشرع العراقي في (المادة 42/1) المذكورة سلفا” ، حيث نجده قد ساوى بين الخطر الحقيقي والخطر الوهمي القائم على أسباب معقولة أي انه جعل الخطر الوهمي القائم على اسباب معقولة شرطا” لقيام حالة الدفاع الشرعي بقوله ( … ويوجد هذا الحق اذا توافرت الشروط الاتية :

1: اذا واجه المدافع خطر حال … او اعتقد قيام هذا الخطر وكان اعتقاده مبينا على اسباب معقولة ) ، وبانتفاء هذا الشرط تنتفي الاباحة اصلا ، ولا مجال للحديث عن تجاوز الحدود فيما بعد . فمفهوم المخالفة للنص يعني ، انه لا قيام لحالة الدفاع الشرعي اذا لم يكن هناك خطر حال ، او ان الاعتقاد وبوجود الخطر لم يكن مبنيا على اسباب معقولة ، عليه فتجاوز حدود الحق لا تعرض على بساط البحث ، الا بتوافر الشروط كافة اللازمة لنشوء الحق ، وهذا ما مسلم به فقها” وتشريعا” وقضاءً ، فكيف وقد انتفى شرط وجود الخطر ، بأنتفاء الاسباب المعقولة ، ومع ذلك يعد المدافع متجاوزا” ؟ عليه فان النتيجة المنطقية لذلك تتحصل في عدم الاعتداد بتلك الاباحة الوهمية ، وتبقى جريمة الجاني محتفظة بوصفها واقعة عمدية ، ومن ثم تحقق مسؤوليته عنها (11) .

وهذا ما اقره الفقه(12) الاسلامي ايضا” ، من ان استعمال القوة بعد زوال الخطر ليس تجاوزا” في حدود الاباحة ، وانما هو جريمة ، اذ لا دفاع بعد زوال الخطر ، عليه لا يصح للمحكمة ان تقضي بالتجاوز في حالات ثبت فيها زوال الخطر ، وهذا ما قضت به محكمة التمييز في العراق ( بادانة المتهم الذي اطلق النار على المجنى عليه عندما دخل البستان ، وفر هاربا” بعد الصياح عليه بتجاوز الدفاع الشرعي ، وانطباق فعله والمادة (405) بدلالة المادة (45) من قانون العقوبات العراقي )(13) . كذلك ما قضت به محكمة النقض المصرية في احد احكامها القديمة على المتهم ( بتجاوز الدفاع الشرعي عندما رأى شخصا” يتلف زراعته بعد ان اطلق عليه عيارا” ناريا” وشرع المجني عليه بالهرب ، فألحقه بعيارا” ناريا” ثانيا” عقب الهرب )(14) .

_____________

1- داود سلمان العطار / تجاوز الدفاع الشرعي في القانون المقارن ، رسالة دكتوراه ، القاهرة ، كلية الحقوق ، 1977 ، ص 163 ؛ د. عباس الحسني – شرح قانون العقوبات الجديد ، ص 125 .

2- وتشمل الجرائم ضد النفس جرائم القتل والمساس بسلامة الجسم ، و هتك العرض و جرائم القذف و السب، و قد جاء خلافا” لذلك قانون العقوبات السوداني ، حيث يبيح مواجهة الغير الذي ينتج عنه اذى او ضرر بدني فقط ، ولا يبيح الدفاع في مواجهة القذف او التهديد او الاهانة ، وذلك ما نصت عليه المادة/ 56/اولا” منه بقولها (يخول القانون لكل شخص الحق في الدفاع عن نفسه او غيره ضد أي اعتداء يوجه لجسم الإنسان ) .

3- حصرت المادة /39 من قانون العقوبات التونسي الدفاع الشرعي عن نفس الغير بالأقارب الواقع تعدادهم فيه وهم الأصول والفروع والاخوة والأخوات والزوج والزوجة ، اما من يتدخل لدفع خطر يهدد شخصا” أجنبيا” عنه لا تربطه به صلة قرابة فلا يستفيد من حالة الدفاع الشرعي .

4- د. علي حسن الشرفي – الباعث واثره في المسؤولية الجزائية ، القاهرة ، الزهراء للاعلام العربي ، 1986 ، ص 202 .

5- الفاضل الهندي ، بهاء الدين محمد بن الحسن الاصفهاني / كشف اللثام ،ج2 ، قم ، مكتبة المرعشي ، 1405 ﻫ ، ص433 .

6- د. محمد زكي محمود – آثار الجهل والغلط في المسؤولية الجنائية ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1967، ص296 .

7- قرار رقم 1125 / جنايات / 973 في 13/8/1973 – النشرة القضائية ، ع3 ، س4 ، بغداد ، وزارة العدل ، 1973 ، ص364 .

8- د. فخري الحديثي – شرح قانون العقوبات – القسم العام ، بغداد ، مطبعة الزمان ، 1992، ص153 .

9- قرار رقم 143 / جنايات / 976 في 12/4/1976 – مجموعة الاحكام العدلية ، ع2 /س7 ، 1977 ، ص

10- د. اكرم نشات / القواعد العامة في قانون العقوبات المقارن ، بغداد ، مطبعة الفتيان ، 1998 ، ص156 .

11- د. محمد زكي محمود – آثار الجهل والغلط في المسؤولية الجنائية ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1967.، 296 .

12- الشافعي – الام ، ط 2 ، ج 6 ، بيروت ، دار الفكر ، 1983 ، ص 28 وما بعدها ؛ الزيلعي ، فخر الدين عثمان بن علي / تبيين الحقائق – شرح كنز الدقائق ، ج6 ، بيروت ، دار المعرفة ، 1315ﻫ ، ص110 .

13- قرار رقم 3302 / جنايات / 972 في 11/ 10 / 1972 – النشرة القضائية ، ع4 ، س3 ، بغداد ، وزارة العدل ، 1972 ، ص235 .

14- نقض رقم 696 في 7/1/1924 – المحاماة ، ع10 ، س4 ، مصر ، المطبعة العصرية ، 1924 ، ص911 .

معيــار التجـــاوز فــي الدفـــاع الشرعـــي :

اذا استوفت حالة الدفاع الشرعي ، كامل عناصرها ، فلا يتصور الا احد امرين ، فإما ان يقع فعل المقاومة في الحدود المرسومة له من دون تجاوز ما يناسب الدفاع ، فعندئذ تتحق الاباحة ، ولا يسأل الفاعل اية مسؤولية ، واما ان يقع فعل المقاومة خارج حدود الاباحة ، فيتحقق التجاوز . والدفاع الشرعي يبيح استعمال القوة بالقدر الضروري لدفع كل فعل يعد جريمة على النفس او المال ، وما يزيد على ذلك القدر يعد خارجا على حدود الحق ، او ما يسمى بأنتفاء التناسب بين الدفاع وخطر الاعتداء (1) ، عليه فاذا سلمنا بلزوم الدفاع ، أي بضرورة استخدام القوة لمقاومة خطر الاعتداء ، فانها لا تباح الا بالقدر الضروري للمحافظة على الحق المهدد، فاذا كان الاعتداء ذا طبيعة يمكن معها تداركه دون اللجوء إلى القوة ، فلا تنشأ حالة الدفاع الشرعي أساسا” ، ومن ثم فليس من المتصور البحث عن التجاوز فيه . ويتجلى مفهوم التجاوز في الدفاع الشرعي ، بالنظر لما يتمخض عن الدفاع من اخلال بشرط التناسب ، او الخروج على شروط الدفاع ، وما يتعلق بكمية القوة المستعملة في رد الاعتداء ، ومن خلال طرح جملة اساليب لتحديد ما يزيد من تلك القوة على ضرورة الدفاع . ولكن ما هو المعيار الذي تجري فيه الموازنة بين فعل الاعتداء ، وما استهدف تحقيقه ، وبين ما تحقق واقعا” بفعل الدفاع للقول بوجود التناسب من عدمه ؟ اتجه الفقه في ذلك اتجاهين ، الاول يرى ان معيار التجاوز يتحدد بالموازنة بين اضرار الدفاع واضرار الاعتداء ، اما الثاني فيرى ان الموازنة تتم بين وسائل الدفاع ووسائل الاعتداء:

1- معيار الموازنة بين اضرار الدفاع واضرار الاعتداء

ذهب جانب من الفقه(2) ، ان التجاوز يتحقق كلما حصل تفاوت بين الضرر الذي انزله المدافع بالمعتدي ، والضرر المتدارك الذي كان تحققه محتملا” ، ومنعا للتجاوز يجب ان لا يحدث ضرر غير متناسب مع الضر الذي يتعرض له المدافع . وقد عبر بعض انصار هذا الاتجاه(3) ، عن ذلك بقوله ( يشترط لاستعمال حق الدفاع الشرعي ان يكون هناك تناسب بين قوة العدوان والقوة المادية التي استخدمت في دفعه ). ان ما يؤخذ على هذا الاتجاه انه على الرغم من حفاظه على المصالح المتصارعة من دون ترجيح لمصلحة على اخرى ، الا انه يقيم الموازنة على اساس التناسب المطلق ، وان تطلب هذا الاخير ان يكون التجاوز واضحا ، فالحماية لا تظل متكافئة في اطار الصراع القائم بينها .

وفضلا” عن ذلك ، ان المعتدي الذي خرق بعدوانه القانون وأضر بالمجتمع ، فأن العدالة تنحاز لجانب المدافع لسلامة موقفه ، ولأهمية الحفاظ على مصلحته من الاعتداء ، والقول بغير ذلك يؤدي إلى نتائج شاذة ، منها انه يعد تجاوزا” لحدود الدفاع ، القتل الحاصل دفاعا” عن الاغتصاب الجنسي او هتك العرض ، لانه لا تساو بين الضرر الحادث وهو فقدان الحياة والضرر الممنوع وهو فقدان العفة(4) .

2- معيار الموازنة بين وسائل الدفاع ووسائل الاعتداء

ذهب جانب من الفقه (5) ، ان التجاوز يتحقق عندما لا تكون الوسيلة المستعملة في الدفاع متناسبة مع الوسيلة المستعملة في الاعتداء ، فالتجاوز بحسب هذا الاتجاه يتحقق كلما كانت وسيلة الدفاع اخطر من وسيلة الاعتداء ، بغض النظر عن قيم المصالح المتصارعة ، او عن الظروف والاعتبارات التي أحاطت بالواقعة التجاوزية . ان هذا الاتجاه لا يقيم وزنا” للمصالح المتصارعة ، مما يؤدي إلى التفريط بها بصورة فاحشة، فلو هم شخص شقي وقوي البنية بعصا على آخر ضعيف وانهال عليه ضربا ، ولم يكن مع الضعيف سوى مسدس ، ألا يستطيع ان يرد عليه بطلق ناري ؟ ام يعد متجاوزا” لحدود الدفاع الشرعي ؟ ، وهل يصح القول بعدم التجاوز اذا قتل شخص بطلق ناري دفاعا” عن كلبه، شخص آخر صوب بندقيته نحو ذلك الكلب لتناسب الوسائل ؟ وبهذا الصدد قضت محكمة التمييز في العراق في احد قراراتها ( يكون المتهم متجاوزا” حدود الدفاع الشرعي اذا طعن المجنى عليه بالسكين طعنة واحدة ادت إلى موتــه على اثر اعتداء المجني عليه بالضرب بالعصا ) (6) . 3- المعيار المقترح لتحديد التناسب

يتضح مما سبق انه لا يمكن وضع قاعدة جامعة ومانعة لتحديد مقدار القوة المسموح بها لرد الاعتداء ، فالموازنة بين اضرار الدفاع واضرار الاعتداء ، او الوسائل المستعملة فيهما يؤدي إلى نتائج لا تنسجم مع القانون ، ومصلحة المجتمع ، ولا تحقق حماية مناسبة للمصالح المحمية ، فتجاوز الدفاع الشرعي يعني مقدار الزيادة الواضحة عما هو ضروري قانونا لدفع الخطر في ظروف الدفاع ، وهذا القدر الضروري مرتبط بالتوفيق بين متطلبات الموقف الشخصي والواقعي للاعتداء والدفاع ، هذا من جهة ومن جهة اخرى ، ما قد يحدده القانون من احوال لا يجوز في سواها القتل ، حتى اذا كان هو السبيل الوحيد الذي يتطلبه الموقف آنذاك . كما يجب الاعتداد بمصلحة المعتدى عليه بوصفها علة الدفاع ، وفي هذا اعتداد بجسامة الخطر وجسامة الدفاع من حيث الاضرار والوسائل معا ، فالظروف والملابسات الشخصية والموضوعية ، تتيح للقاضي تقدير الوقائع ثم تقرير الوصف القانوني للركن المعنوي للتجاوز ، كذلك لا يصح القول بتحقق التجاوز في حدود الدفاع الشرعي ، دون الاعتداد بشخصية كل من المدافع والمعتدي ، من حيث السن والجنس والقوة البدنية والصحية(7) . وهنا يرى جانب من الفقه(8)، ان مجرد ثبوت ان المهاجم يتمتع بقوة جسدية فائقة ، يجعل الخطر حالا” بالمتهم ويضعه موضع الدفاع عن النفس . عليه فان ما يكفي لمقاومة شيخ عجوز من قبل شاب يافع دون ما يكفي لمقاومة هذا الشاب من قبل هذا الشيخ ، وما يصح استعماله من القوة لرجل عند مقاومة امرأة هو بالتأكيد اقل مما يلزم لأمرأة تدافع عن نفسها ضد احد الاشرار ، كما انه من الضروري ان تزيد مقاومة شخص يتمتع بالصحة والحيوية على مقاومة معتد سقيم . وفضلا” عن ذلك انه من الضروري الاعتداد بحالة الرعب والاضطراب الذي ينتاب المدافع عند حلول الخطر ، وما احاطت به من ظروف وملابسات كان وحده المطلوب منه تقديرها والتفكير في كيفية الخروج منها ، فهو لا يحمل بذلك الوقت ميزانا” ليزن الامور بتفكير هادئ(9) ، او يقدر تماما” الحد الذي يقف عنده في رد الاعتداء (10) . كما يجب الاخذ بنظر الاعتبار الاداة المستعملة في الدفاع والاعتداء ، والزمان والمكان الذين وقع فيهما الاعتداء وعدد المعتدين والمدافعين ، فما يتطلب من القوة لرد خطر ليلا” يزيد مما لو كان الخطر نهارا” ، كما يجب النظر فيما اذا كان الخطر يهدد الحياة وسلامة الجسم ، ام كان تعرضا” للمال ، وهذا الاخير ينظر إليه فيما لو كان ضئيلا او كثيرا ، فيعد متجاوزا من يقتل انسان من اجل حماية مأوى للدجاج او الطيور ، لأن المشرع حين يحمي الحقوق لا يحميها بنفس الدرجة (11) ، لذا يجب على القاضي ان يقدر قيمة الحق الذي وقع الفعل اعتداءً عليه وقيمة الحق الذي وقع الاعتداء انقاذا” له(12) . نخلص مما تقدم ان المعيار الذي يتم بموجبه تحديد التجاوز هو معيار مزدوج يجمع بين العناصر الشخصية والموضوعية وبذلك نكون امام قاعدة مرنة تساعد القاضي في كيفية استظهار حالات التجاوز في الدفاع الشرعي ، ذلك لانه من الصعب بمكان وضع معيار مجرد او مطلق يشير مباشرة إلى الافعال المشروعة ، او الداخلة في حدود الحق ، من تلك الخارجة عنه ، ولو ان هناك جانبا” من الشراح (13) ، يذهب إلى ان الموازنة لا تصح في مجال العدوان على الحقوق ، وان الاضرار الناتجة عن الدفاع مقبولة وجائزة مهما كان عدم تناسبها واضرار الاعتداء ، مادام الحق قائما” وقد روعيت قيوده وحدوده .

اما موقف المشرع العراقي فيبدو من نص (المادة 45) من قانون العقوبات العراقي ان معيار التجاوز ، يتحدد بمقدار الضرر الذي يحدثه المدافع بالمعتدي والذي يزيد على ما يتطلبه رد الاعتداء وذلك بقولها ( لا يبيح حق الدفاع الشرعي احداث ضرر اشد مما يستلزمه هذا الدفاع …)(14) ، وما يستتبع ذلك من القول بموضوعية هذا المعيار لتعلقه بالجريمة التجاوزية ونتيجتها ، والوسائل المستخدمة فيها ، ذلك ان الاضرار انما تنجم عن استخدام الوسائل ، وهذه كلها امور موضوعية او مادية بحتة . وبذلك قضت محكمة التمييز في العراق ( ان المتهم تجاوز حد الدفاع الشرعـي فيمـا فعل، اذ كان يكفي ان يضرب المجنى عليه الذي هجم علـيه بالعـصا والخنـجر علـى يـده بالصخرية او على أي طرف من اطرافه او على غير مقتل من جسمه ، لا ان يضربه في اخطر مكان من جسمه فيميته في الحال ، فالمتهم تجاوز حد الدفاع الشرعي فيما فعل ، بسبب استعماله قوة اكثر مما يكفي لرد الاعتداء عليه )(15) . اما بالنسبة لفقهاء الشريعة الاسلامية فان التجاوز او عدم التناسب لايتوقف لديهم على اختلاف الوسائل(16) او تفاوت الاضرار بين الاعتداء والدفاع ، وانما يتوقف على مقدار القوة الزائدة عما يكفي لدفع الاعتداء ، فهم يعتدون بقيم المصالح المحمية ، وظروف المدافع والمعتدي ، فذهب جانب منهم إلى ( ان للانسان ان يدفع عن نفسه وحريمه وماله ما استطاع ويجب اعتماد الاسهل )(17) ، بينما يذهب فقيه آخر إلى انه ( يجب النظر ان كان المشهور عليه يمكنه دفعه عن نفسه بدون القتل ، فلا يباح قتله ، فان كان لا يمكنه الدفع الا بالقتل يباح له القتل لانه من ضرورات الدفع )(18) ، وفي عدم اشتراط تماثل الوسيلة ، يذهب جانب من الفقه(19) إلى انه ( اذا كان الصائل يندفع بالسوط او العصا ، والمصول عليه لا يجد الا السيف ، فيصح له الضرب به لانه لا يمكن الدفع إلا به ) . يتضح من ذلك وتحديدا” لمعيار التجاوز في الفقه الاسلامي ، انه معيار مزدوج ، ففقهاء الشريعة الاسلامية يعتدون بشخص المدافع في جميع الاحوال وان لم يهملوا اعتدادهم بالمعتدي، وتأكيدا” لذلك يذهب جانب من الفقه (20) إلى القول ( لو كان اللص من الضعف بحيث لا يدافع اصلا” او يدافع دفاعا” لا يقدر معه على قتل صاحب الدار ، فقتله صاحب الدار فعليه القود لأنه قادر على منعه بغير القتل فهو معتد ) ، اما اجماعهم على وجوب التدرج في استعمال القوة وعدم تخطي ذلك التدرج فهي امور مادية تؤخذ في الاعتبار عند تقدير التجاوز .

_______________

1- د. عبد الحميد الشواربي / الدفاع الشرعي في ضوء القضاء و الفقه ، الاسكندريه ، دار المطبوعات الجامعية ،1986، ص113 .

2- د. محمد الفاضل – المبادئ العامة في قانون العقوبات ، ج 4 ، دمشق ، مطبعة جامعة دمشق 1965 ، ص285 ؛ د. محمد مصطفى القللي – في المسؤولية الجنائية ، مصر ، مكتبة عبدالله وهبه ، 1945، ص352 ؛ د. حميد السعدي – شرح قانون العقوبات الجديد ، ج1 ، بغداد ، مطبعة المعارف ، 1970، ص339 . ينظر ايضا” :

Pierre BOUZAT et Jean PINATEL / TRAITE DE DROIT PENAL ET DE CRIMINOLOGIE، Paris،Dalloz،1970،P.352.

3- د. رؤوف عبيد – المشكلات العملية الهامة في الاجراءات الجنائية ، ج1 ، مصر، مطبعة نهضة مصر ، 1963 ، ص481

4- د. رمسيس بهنام – الجريمة والمجرم والجزاء ، الاسكندريه ، منشأة المعارف ، 1973، ص381

5- د. محمود محمود مصطفى – شرح قانون العقوبات – القسم العام ، القاهرة ، مطبعة جامعة القاهرة ، 1983، 247 ، د. يسر أنور علي و د. علي راشد – شرح النظريات العامة للقانون الجنائي ، القاهرة ، مطبعة الاستقلال الكبرى ، 1973 ، ص575 .

6- قرار رقم 949 / جنايات / 75 في / 15/ 6/ 1976 – مجموعة الاحكام العدلية ،ع2 ، س7 ، بغداد ، وزارة العدل ، 1977 ، ص 377 .

7- د. مصعب الهادي با بكر / حق الدفاع الشرعي ـ دراسة مقارنه ، بيروت ، دار الجليل ، 1987 ص43 وما بعدها .

8- د. مصطفى العوجي – القانون الجنائي العام – المسؤولية الجنائية ، بيروت ، مؤسسة نوفل، 1985 ، ص438 .

9- د. رمسيس بهنام / المرجع السابق ، ص380 .

10- احمد صفوت / شرح القانون الجنائي – القسم العام ، دون مكان ،مطبعة حجازي،دون تاريخ، ص221 .

11- د. فوزية عبد الستار / شرح قانون العقوبات – القسم العام ، جرائم الاعتداء على الاموال ، القاهرة ، دار النهضة العربية ، 1979 ، ص5 .

12- د. فوزية عبد الستار / عدم المشروعية في القانون الجنائي – مجلة القانون والاقتصاد ، ع3 و 4، س41 ، القاهرة – مطبعة جامعة القاهرة ، 1972 ، ص45 .

تنص بعض القوانين صراحة على الدفاع الشرعي عن النفس فقط دون الأموال كما في قانون العقوبات الفرنسي ، حيث تنص المادة / 328 منه على ذلك بقولها ( لا جناية ولا جنحة اذا كان القتل او الجرح او الضرب بدافع الضرورة الحالة للدفاع الشرعي عن النفس او الغير ) .

13- د. محمد نعيم فرحات -النظرية العامة لعذر تجاوز حدود حق الدفاع الشرعي ، القاهرة ، ار النهضة العربية ،1981 ، ص433 ؛ د. محمد مصطفى القللي – في المسؤولية الجنائية ، مصر ، مكتبة عبدالله وهبه ، 1945، ص338 ؛ د. احمد فتحي سرور – الوسيط في قانون العقوبات ـ القسم العام ، القاهرة ، دار النهضة العربية ، 1989 ، ص368 .

14- اشترطت المادة/39/2 من قانون العقوبات الجزائري ان يكون الدفاع متناسبا” مع جسامة الاعتداء .

15-قرار رقم 2054 / جنايات / 74 في 16 / 8 / 1975 – مجموعة الاحكام العدلية ع3،س6، 1975 .

16-موسوعة الفقه الاسلامي ، ج14 ، مصر ، المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية ، 1975 ، ص96 .

17- المحقق الحلي – شرائع الاسلام في مسائل الحلال والحرام ، تحقيق السيد صادق الشيرازي ، طهران ، منشورات الاستقلال ، 1988 ، ص 969 وما بعدها .

18- الكاساني ، علاء الدين ابو بكر بن مسعود / ج7 ، 1328 هـ ، ص93 وما بعدها .

19- الخطيب ، محمد الشربيني – مغني المحتاج ، ج 4 ، دون مكان ، دار احياء التراث العربي ، 1958 ، ص196 .

20- ابن حزم ، ابي محمد بن سعيد / المحلى ، ج11 ، مصر ، ادارة الطباعة المنيرية /1352 هـ، ص314 .

صــــور التجــــاوز فــي الدفـــاع الشرعــي :

تقوم الجريمة التجاوزية في الدفاع الشرعي ، بأستعمال المدافع قدرا من القوة ازيد مما يتطلبه رد العدوان ، وحسب الصورة التي يكون عليها العنصر النفسي للركن المعنوي ، فقد تتخذ صورة العمد او صورة الخطأ غير العمدي ، وقد تتوسطها صورة ثالثة يكون فيها قصد المدافع احتماليا” بالنظر إلى توقع تحقق النتيجة أمرا” ممكنا” قد يحدث وقد لا يحدث .

اولا: التجاوز العمدي

ان هذا التجاوز اما ان يكون مبنيا على قصد مباشر او غير مباشر .

1- تجاوز مبني على قصد مباشر:

يكون التجاوز في الدفاع الشرعي عمديا” عندما يخرج المدافع على حدود الدفاع الشرعي بحسن نية اعتقادا” منه ان ما استخدمه من قوة هو الضروري والكافي لرد الاعتداء، أي انه حدد جسامة الخطر على نحو غير صحيح(1) ، وبذلك يكون الفاعل قد أخل بشرط الالتزام بحدود القانون ، من الناحية المادية والمعنوية ، رغم ان تجاوز الحد المعنوي لا أثر له مادام لم يحدث من الناحية الفعلية تجاوز للحد المادي المرسوم له .

وهنا يشترط علم الفاعل بحقيقة افعاله من جانب وارادة احداث النتيجة من جانب اخر ، بالاضافة إلى ما يخالط الحالة من ظروف في الاعتداء والدفاع ، يستند عليها الفاعل في تبرير اعتقاده ، كأن يشاهد صاحب المنزل شخصا” متسلقا” جدار منزله ليدخل فيه ، فيطلق عليه عيارا ناريا بقصد قتله ، صحيح ان دخول المنازل بهذه الطريقة يحمل بذاته قرينة الاجرام ، الا ان المعتدي اذا كان يندفع بطريقة أخرى غير القوة فيجب الركون اليها اولا” ، وهذا ما اكدته (المادة 42 / 3 ) من قانون العقوبات العراقي بقولها ( … 3- ان لا يكون امامه وسيله اخرى لدفع هذا الخطر … ) . ونعتقد ان المشرع هنا لا يقصد بالوسيلة ، الاداة المستعملة في الدفاع ، وانما كان يقصد لزوم استعمال القوة ، أي انه اذا لم يكن هناك بدا” من استعمال القوة ، فيجب ان تكون هذه القوة بالقدر الضروري الذي لا يحدث ضررا” اشد مما يستلزمه الدفاع . لذا كان على صاحب المنزل ان يطلق النار في الهواء اولا” ارهابا” لللص ثم في ساقه ان لم يرتدع،لان الدفاع الشرعي لم يشرع لمعاقبة المعتدي على اعتدائه وانما شرع لمنــع الخطر ، وذلك بالحيلولة بين المعتدي والبدء في عدوانه ، او الاستمرار فيه ان كان قد بدءه فعلا”(2) ، فاذا كان هذا الخطر يندفع بطريقة اسهل واخف من القـوة فلا داعـي لاستعمالها(3)، وبهذا الصدد يذهب جانب من الفقه(4) ( ان اباحة الجريمة للدفاع استثناءا” من الأصل ، فيجب الا يلجأ اليها ، إلا حيث يكون منع التعدي بغيرها ممتنعا” ) وهذا ما قال به فقهاء المسلمون(5) من انه ( لو انتزع المعضوض اسنان العاض ، فلا ضمان ، وله تخليص نفسه باللكم او الجرح ، فان لم يمتنع جاز قتله ، ولا يرتقي إلى الاصعب ، الا مع الحاجة إليه، فأن ارتكبه مع امكان الدفاع بالاسهل ضمن ).هذه الصورة من التجاوز تختلف كما بينا ، عن الصورة التي يكون فيها المدافع سيء النية ، متعسفا” في استعمال حقه ، أي يكون قاصدا” احداث ضرر اشد مما يستلزمه الدفاع ، كأن ينتهز فرصة الاعتداء للبطش والتنكيل بالمعتدي ، وهنا فقط تخرج افعاله عن غاية الحق ومقتضياته ، وهو رد العدوان ، وتدخل في نطاق الثأر والانتقام غير المشروعين(6) ، مما يترتب عليه عدم استفادته من مبدأ التخفيف ، ولكن وفق رأي جانب من الفقه الفرنسي (7) ، ان المدافع يستفيد من عذر الاستفزاز بأعتباره ظرفا” مخففا” للعقاب . ومن التطبيقات القضائية بهذا الصدد ، ما قضت به محكمة التمييز في العراق في احد قراراتها قائلة ( لدى التدقيق والمداولة وجد ان مشادة كلامية حصلت بين المجنى عليه والمتهم ، ثم انتهى الامر ، بان سحب المجنى عليه خنجره وهجم على المتهم الذي كان بوسعه ان يتفادى هذا الهجوم بان يحاول ركوب دراجته الهوائية ليلجأ إلى السلطات الحكومية ، او ان يطلق النار في الفضاء في بادئ الامر تخويفا” له ، لكنه لم يفعل ذلك بل اطلق طلقة وحادة اودت بحياة المجنى عليه ، فيعد المتهم والحالة هذه قد تجاوز عمدا” حق الدفاع الشرعي عن النفس مما يستدعي الاستدلال بالمادة (45) من قانون العقوبات العراقي ) (8) .

2- تجاوز مبني على قصد احتمالي :

اذا كان من المسلم به انه لا يصح الاعتداد بالخطر المستقبل ، فانه ليس هناك ما يمنع صاحب الحق او المالك من اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع الاعتداء او خطره المحتمل وقوعه على ماله على وجه الخصوص(9) ، ذلك انه من المستحيل ان يظل الافراد مرابطين امام املاكهم لحمايتها من اعتداء اللصوص ، او تجنيد افراد الشرطة لهذا الغرض . وقد يلجأ المالك إلى بعض الطرق لحماية امواله ، كأن يضع على السور قطعا” من الزجاج المحطم ، او الحديد المدبب ، او الاسلاك الشائكة ، او ان يدرب كلبا” عقورا” لحراسة منزله ، فهذه وسائل دفاعية شائعة الاستعمال ولا يمكن اضفاء صفة اللامشروعية عليها دون الاستناد إلى نص قانوني ، و بذلك لا يمكن اسناد اية مسؤولية للمالك ، عمدية او غير عمدية عن الاصابات والجروح التي تصيب من يحاول تسور المكان ، سواء كان حسن النية ام سيئها ، وبغض النظر عن جسامة الاصابات حتى لو وصلت إلى حد القتل(10) ، لان المالك اراد بوضع هذه الاشياء الزجر والتنبيه إلى خطرها لانه وضعها ظاهرة للعيان .

لكن ما الحكم اذا وضع المالك اجهزة اوتوماتيكية او آلية تعمل تلقائيا ، فتصيب الاذى بمن يحاول الاقتراب منها ، او الاعتداء على الحق محل الحماية ، مثل وضع الاسلاك الكهربائية المكشوفة ، او آلة تطلق الرصاص ، او حفر حفرة عميقة في حديقة المنزل وتغطيتها ، هل يجوز الاحتجاج بالدفاع الشرعي ام لا ؟ . الامر يختلف هنا عن الامثلة السابقة المسلم بانعدام المسؤولية فيها ، فجانب من الفقه (11) يرى ان هذه الحالات هي جرائم يتوافر فيها القصد الجنائي ، كما يتطلبه القانـون ، فالمـالك يقصد اصابة من يريد الاعتداء على ماله في حياته او في سلامة جسمه ، فهو بتركيبه القذيفة الاوتوماتيكية ، او اطلاق التيار الكهربائي ، او حفر الحفرة المميتة ، انما يكون قد هيأ اسباب القتل او الجرح ، ولا يمكن القول بعدم اسناد أي خطأ اليه عمدي او غير عمدي ، لانه يؤدي إلى نتائج ظالمة، كما لو حاول ولد صغير تسور حديقة منزل ليسرق بعض الفاكهة ، فيصعقه التيار الكهربائي ويهلكه ، بينما ينفي جانب اخر من الفقه (12) مسؤولية المالك عن تلك النتائج لانعدام أي خطأ ، عمدي او غير عمدي . اما بالنسبة لتوافر حالة الدفاع الشرعي فيرى كلا الفريقين انها متوافرة وصحيحة في حالة توقع الخطر اما بالنسبة لحلوله ، فيرون ان الخطر يمكن ان ينعدم لحظة وضع الجهاز او اعداد الحفرة ، ولكن العبرة بوقت عمل الجهاز(13) ، ولولا ذلك لكان الخطر ماثلا ومهددا” للمصالح المحمية . ولكن كيف يمكن ان يتجاوز المالك المدافع عن ماله حدود الدفاع الشرعي عند استخدام هذه الاجهزة ؟ تتحقق حالة التجاوز هنا عندما يعد المالك الة او وسيلة غير متناسبة مع صورة الاعتداء الحال ، كمن يحمي بعض ثمار حديقته بوضع سلك على جدار الحديقة يمر به تيار كهربائي(14). او ان يترك المالك هذه الاجهزة تعمل خفية ، دون الاعلان عن وجودها ، بحيث ينتبه لها كل من يطرق المكان ، كأن يحفر حفرة عميقة بحديقة المنزل فيهوي فيها من يحاول السطو عليه . فضلا” عن ذلك ان هذا الاسلوب لا يحمل معنى الردع او الزجر ، بل انه يغلب العقاب على الوقاية ، وليس فيه تطبيق فعلي للدفاع الشرعي ، وتحقيق غايته وهي منع الاعتداء وليس الانتقام او القصاص من المعتدي . في كل ذلك يكون قصد المدافع احتماليا ، والقصد الاحتمالي هو نوع من القصد الجنائي يبنى على نفس عناصره من العلم والارادة لكن الذي يميزه هو توقع النتيجة على انـها امـر ممكن قد يحدث وقد لا يحدث (15) . ويعد المالك هنا سيء النية ، ومتعسفا في استعمال حقه ، عندما يثبت انه قد صوب عمدا” تجاه شخص المعتدي او أعد جهازا” يفي بالغرض لقتله او اصابته ، بعد تأكده من حضوره بشخصه ، فهنا يعد قصده مباشرا” لتوقعه النتيجة على انها امر حتمي ولازم . ومن جانبنا نعتقد بشرعية الدفاع عن الاموال بالطرق التقليدية المذكورة سلفا” فقط ، لان بأمكان أي شخص صغيرا” او كبيرا” ، جاهلا” او متعلما” ان يفهم ماهية هذه الاشياء ، ومدى خطورتها على حياته وسلامة جسمه ، ومن ثم فاذا اقدم على التسور فيما بعد فلا يولمن إلا نفسه ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، فان بالاضافة إلى الردع او منع الخطر الذي تحققه هذه الوسائل ، فهي كافية ايضا” لمنع أي اعتداء مهما كانت جسامته ، كالاسلاك الشائكة ، والحديد المدبب وغيرها . اما الاجهزة الاوتوماتيكية ، فنعتقد ، انه وان تم الاعلان عنها فقد يتصادف ان يكون من اقدم عليها طفلا ، او شخصا جاهلا للقراءة ، سواء كان معتديا ام شخصا” بريئا” . ومن ثم فلا يستطيع تدبر ماهيتها ، هذا من جهة ومن جهة اخرى فانها تحقق معنى العقاب وليس دفع الخطر ، وهذا ما يتنافى مع قصد الشارع من اباحة الدفاع .

3- التجاوز غير العمدي

من المنطقي ، ان المدافع لا يتطلب منه وزن افعاله بميزان دقيق ، لمعرفة كمية الدفاع الكافي والضروري لصد الاعتداء او خطره الحال ، لذا فان تحقق الخطأ أمر طبيعي عند ممارسة حق الدفاع الشرعي ، وقد يكون هو مصدر التجاوز فيه . والتجاوز غير العمدي في الدفاع الشرعي ، هو اخلال المدافع بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون ، وعدم حيلولته تبعا” لذلك دون ان يفضي تصرفه إلى احداث النتيجة الجرمية ، في حين كان بأستطاعته التحديد الصحيح (16) . فقد تصدر من المدافع على مسرح الدفاع افعالا غير عمدية ، يتصورها كافية لرد الاعتداء او دفعه ، ولكن هذه الافعال تكون احيانا مشوبه بالاهمال وعدم الاحتياط ، وذلك بتقدير ابعاد الموقف تقدير غير صحيح ، فتؤدي إلى نتائج غير مقصودة في ذاتها ، وهذا ما يطلق عليه بالتجاوز الخاطىء لحدود الدفاع الشرعي(17) . وهذا يعني ان الفاعل يأتي نشاطه الاجرامي الذي تجاوز به حدود الدفاع عن ارادة واختيار ، دون ان يكون قاصدا” نتيجته الضارة ، فيحمله القانون تبعتها بسبب هذا الخطأ ، كأن يشعر المدافع بحركة داخل منزله اثناء الليل فيطلق النار بأتجاه مصدر الحركة فورا” بدون تحري واستفسار فيصيب زوجته او الخادمة ويقتلهما او يجرحهما . ومن تطبيقات التجاوز غير العمدي في الدفاع الشرعي ما قضت به محكمة التمييز في العراق في احد قراراتها ( ثبت ان المتهم كان قد تشاجر مع المصاب بسبب خلاف سابق بينهم حيث قام المصاب وجماعته بالاعتداء على المتهم بالضرب ، فاراد المتهم ان يخلص نفسه منهم فسحب مسدسه وأطلق عيارات في الهواء لغرض التخويف ، لكن المصاب تماسك معه ، فأنطلقت منه طلقة اصابت المصاب ، وقتلت المجنى عليه ، عليه فان المتهم كان في حالة دفاع شرعي عن نفسه )(18) .

______________

1- د. محمود نجيب حسني / الاعتداء على الحياة في التشريعات الجنائية العربية ، القاهرة ، دار غريب للطباعة ، 1979 ، ص 196 .

2- د. محمود نجيب حسني /المرجع السابق ، ص 183 .

3- وهنا يمكن ان يثار السؤال حول امكانية الهرب ، كوسيلة لتفادي الخطر ، و من ثم يمتنع معها الحق في استعمال القوة ؟

الراجح في الفقه ان المدافع لا يلزم بالهرب لمنع الاعتداء ، لما في ذلك من الضعف والجبن ، و له ان يدفع العدوان عنه بالقوة ، فالدفاع حق ، والهرب شائن ، الا انه اذا لم يكن في الهرب ما يشين المعتدى عليه، فيمكن القول بضرورة اللجوء اليه ، أي عدم قيام الحق في استعمال القوة ، كما لو كان المعتدي والده ، او كان مجنونا” او سكرانا” او طفلا” .

مزيدا” من المعلومات ينظر :

د. السعيد مصطفى السعيد – الاحكام العامة في قانون العقوبات ، ط4 ، القاهرة ، دار المعارف ، 1962 ، ص 222 ؛ د. عبد الحميد الشواربي – الدفاع الشرعي في ضوء القضاء والفقه ، الاسكندريه ، دار المطبوعات الجامعية ، 1986، ص 59 ؛ د. علي حسن الشرفي – شرح الاحكام العامة في التشريع العقابي اليماني ، ج1 ـ النظرية العامة للجريمة ، القاهرة ، دار النهضة العربية ، 1992 ، ص 203 .

4- السعيد مصطفى السعيد / المرجع نفسه ، ص 222 .

5- الشافعي – الام ، ط 2 ، ج 6 ، بيروت ، دار الفكر ، 1983 ، ص 31؛ المحقق الحلي – شرائع الاسلام في مسائل الحلال والحرام ، تحقيق السيد صادق الشيرازي ، طهران ، منشورات الاستقلال ، 1988 ، ص 969 ؛ العلامة الحلي – قواعد الاحكام ، ط 1 ، ج 1 ، قم ، مؤسسة النشر الاسلامي ، 1992، ص 462 .

6- د. محمد نعيم فرحات -النظرية العامة لعذر تجاوز حدود حق الدفاع الشرعي ، القاهرة ، ار النهضة العربية ،1981 ، ص 457 .

7- MERLE et VI TU / op .cit ، p. 313 .

8- قرار رقم 23 / تمييزية اولى / 976 في 20/12/1976- مجموعة الاحكام العدلية ،ع4 ، س7 ، 1977، ص 331 .

9- د. احمد فتحي سرور – الوسيط في قانون العقوبات ـ القسم العام ، القاهرة ، دار النهضة العربية ، 1989 ، ص246 ؛ د. محمد نعيم فرحات / المرجع السابق ، ص467 ؛ د. فوزية عبد الستار / خطر الاعتداء في الدفاع الشرعي ، دراسة مقارنة – مجلة القانون والاقتصاد ، ع3 و 4 ، س42 ، 1973 ، ص46 .

10- د. محمد نعيم فرحات / المرجع نفسه ، ص477 .

11- د. محمد مصطفى القللي – في المسؤولية الجنائية ، مصر ، مكتبة عبدالله وهبه ، 1945، ص 358 وما بعدها .

12- د. محمد نعيم فرحات / المرجع السابق ، ص 494 ؛ داود سلمان العطار – تجاوز الدفاع الشرعي في القانون المقارن ، رسالة دكتوراه ، القاهرة ، كلية الحقوق ، 1977 ، ص243 ؛ د. فوزية عبد الستار – خطر الاعتداء في الدفاع الشرعي – مجلة القانون والاقتصاد ، ع 3-4 ، س 42 ، مصر ، الشركة المصرية للطباعة والنشر ، 1973 ، ص47 ينظر ايضا :

Stefani et levasseur / op. cit ، p.157 .

13- د. أكرم نشأت – القواعد العامة في قانون العقوبات المقارن ، بغداد ، مطبعة الفتيان ، 1998 ، ص159 ؛ د. محمود محمود مصطفى – شرح قانون العقوبات – القسم العام ، القاهرة ، مطبعة جامعة القاهرة ، 1983، ص235 .

14- د. محمود نجيب حسني – شرح قانون العقوبات ـ القسم العام ، القاهرة ، دار النهضة العربية ، 1989 ، ص205 .

15- عبد المهيمن بكر سالم / القصد الجنائي في القانون المصري والمقارن ، رسالة دكتوراه ، دون مكان ، دون ناشر ، 1959 ، ص146 ؛ د ماهر عبد شويش – الاحكام العامة في قانون العقوبات ، الموصل ، دار الحكمة للطباعة والنشر ، 1990، ص308 .

16- د. محمد نعيم فرحات / المرجع السابق ، ص 519 .

17- د. مدحت حافظ ابراهيم / حق الدفاع الشرعي في القانون المصري ـ مجلة اداراة قضايا الحكومة ، ع 2، س27 ، القاهرة ، ادارة قضايا الحكومة ، 1983 ، ص87 .

18- قرار رقم 15 / موسعة رابعة / 2000 في 2/ 4/ 2000 ( غيرمنشور ) .

المؤلف : سامية عبد الرزاق خلف
الكتاب أو المصدر : التجاوز في الاباحة

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .