دراسة وبحث قانوني متميز عن الحريات العامة

توطئة:

لم يخطئ الأب الروحي لحقوق الانسان روني كاسان حينما أردف قائلا:إن حقوق الانسان لا يمكنها أن تستقر إلا إذا استقرت في أفئدتنا وعقولنا قبل أن تستقر في مواثيقنا وأعرافنا الدولية
فإلى ماذا كان يرمي هذا الفقيه بقوله هذا؟

إن روني كاسان حينما وضع تحديدا جوهريا لماهية حقوق الانسان فإنما استهدف الاشارة معطى أساس يتمثل في كون مسألة بلورة وإعمال حقوق الانسان تظل أولا وقبل كل شيء لإشكالية تنشئة اجتماعية؛ أي ما مدى تشبع منظومتنا التربوية وحياتنا المجتمعية بثقافة حقوق الانسان.

إن الدولة التي تسعى جاهدة إلى الانضمام إلى نادي الدول الديمقراطية أمست ملزمة بأن تجعل من حقوق الانسان خيارا استراتيجيتا لا محيد عنه؛ ففي عالم العولمة ووجود تفاعل ثقافي وإعلامي مكثفين مصاحب لنظام الأحادية القطبية القائم أساسا على الخيار الديمقراطي يصبح من المهاترة في القول خرق مقتضيات حقوق الانسان كما هو متعارف عليها عالميا فالنظام العالمي الجديد لايصدر فقط عولمة اقتصادية ؛بل يصاحب هذا التصدير منظومة ثقافية وايديولوجية متمثلة في ضرورة تبني الخيار الديمقراطي الذي تعتبر حقوق الانسان إحدى أبرز مرتكزاته السياسية .

بيد أن قانون حقوق الانسان يتميز بعلوه على سائر القوانين الدولية والوطنية فالقواعد الخاصة بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها وعدم إبادة الأجناس وتحريم الاتجار بالرقيق والتمييز العنصري وما يتصل بحياة الانسان وسلامته من الممارسات السالبة لحريته تعسفا أو الاعتداء التعذيب لجسده تعتبر جميعا من القواعد القانونية الدولية الآمرة التي لايجوز الاتفاق دوليا على خلافها أو النص داخليا على نقيضها؛ إذ إن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قد ارتبطت بمفهوم حقوق الانسان في ميثاق المنظمة العالمية ؛ وهي حقوق تم تفصيلها وبيانها في الشرعة الدولية لحقوق الانسان؛ وهذا الارتباط يعني تقييد إرادة الدول دوليا وداخليا والتزام حكوماتها بالإطار الانساني فيما تتعهد به في المجال الدولي وما تسنه من تشريعات دستورية في المجال الوطني؛ بحيث يكون واضحا على الدوام أن القواعد الأساسية لحقوق الانسان هي مرتبة أسمى وأعلى من كل المعاهدات والاتفاقات الدولية وكل الدساتير والتشريعات الوطنية؛ والقول بخلاف ذلك يضع الدولة وضع مساءلة أمام الأمم المتحدة وأمام مؤسسات دولية رقابية سواء أكانت هذه المؤسسات عالمية مثل اللجنة المعينة بحقوق الانسان المشكلة طبقا للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة1966 أو اللجان والمحاكم الاقليمية مثل لجان ومحاكم حقوق الانسان في أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية، أو لجنة حقوق الانسان في منظمة الوحدة الافريقية؛ فذاتية قانون حقوق الانسان تظهر في علو هذا القانون على إرادة المشرع الوطني؛ فهو ليس حرا في أن يشرع ما يريد أن يشرعه خارج إطار الحقوق الأساسية للانسان ؛ وإنما هو مقيد بها نصا كما تتقيد بها السلطات عملا.

بيد أن الاحاطة بمادة الحريات العامة تعتريه صعوبات منهجية وتوفيقية تتمثل بالأســاس

في كونها مادة توجد في مفترق الطرق ؛ إذ تنهل من معارف قانونية متباينة؛ فالحريات العامة ستستند بشكل أو بآخر من القانون الدستوري فيما يتعلق بالحقوق الأساسية كحرية التعبير حرية الرأي؛ حرية التنقل؛ حق الملكية..؛ مثلما تنهل الحريات العامة من القانون الإداري الشيء الكثير؛ خصوصا تلك التقنيان الخاصة بحماية الحقوق الأساسية للمواطن كمبدأ الشرعية الطعن أمام القاضي الاداري بسبب الشطط في استعمال السلطة..

ورغم هذه الصعوبات المنهجية والتوفيقية لمادة الحريات العامة إلا أن حضورها في النسيج القانوني أمسى يكتسي أهمية بالغة نظرا للتلازم المنهجي الحاصل بين الخيار الديمقراطي ومسألة حقوق الانسان بشكل يتعذر معه الحديث عن نظام ديمقراطي في غياب إقرار فعلي وعملي .

* فصل تمهيدي :أدبيات حول الحريات العامة

– المبحث الأول: تعريف الحريات العامة

إن مفهوم الحريات العامة تعتريه عدة تمييزات؛ إذ ينبغي التمييز من جهة بين الحرية العامة والحرية الخاصة؛ ومن جهة أخرى بين الحرية العامة والحرية الفردية.

– المطلب الأول: بين الحرية العامة والحرية الخاصة

تتضمن الحريات الخاصة الحريات المدنية كحرية التنقل؛ حق الملكية ؛ حق المبادرة الخاصة … فيما تشمل الحريات العامة مجموع الحريات السياسية كحق الانتخاب؛ حق الانخراط في المنظمات السياسية؛ حرية التجمع؛ حرية الصحافة…

– المطلب الثاني: بين الحرية العامة والحرية الفردية

لقد كان مصطلح الحريات العامة بالجمع لاحق على استعمال المصطلح بالمفرد؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد الدستور الفرنسي لسنة 1793 لم يكن يشير إلى الحريات العامة بمفهومها الجمعي؛ بل الفردي فقط.

و بعيدا عن إشكالية التمييز يبدو من المهم جدا وضع حدود للبعدين الفلسفي والقانوني لمفهوم الحريات العامة؛ فالحرية كمفهوم فلسفي ظل الهاجس الرئيسي الذي لازم الانسان منذ ظهوره؛ ذلك أن المجتمع يرهن ممارسة الانسان لاختياراته إما عبر القهر الاجتماعي أوعبر استبطانه لمجموعة من الاطارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية؛ وهي إطارات تعمل على تذويبه فيها قصد منعه من التحرك خارجها.

وعلى اعتبار أن القانون معرفة اجتماعية فإنه يؤطر الشروط الاجتماعية لممارسة الحرية بحيث تصبح الحرية هي إمكانية ممارسة الأفراد والجماعات لأنشطتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بعيدا عن كل إكراه شريطة الامتثال للقوانين واللوائح المعمول بها واحترامها ليس فقط لكونها مقترنة بعنصر الجزاء؛ بل لأنها صمام آمان يقي الفرد من كل تهديد قبل أن يقي المجتمع برمته.

إن هذا التوجه الفلسفي لمفهوم الحرية يشكل حجر الزاوية في الفكر الدستوري والسياسي الغربي الذي قام بالأساس على هذا التوجه ؛ فمجتمع بدون حرية يعني مجتمع الاستبداد وحرية بدون ضوابط قانونية تساوي مجتمع الفوضى؛ومهمة رجال القانون هي التوفيق بين السلطة واكراهاتها والحرية وانزلاقاتها.

إن الايديولوجية الدستورية العصرية في جوهرها تقوم على ضرورة تضمين ثقافة حقوق الانسان؛ ذلك أن كلتاهما نبعتا أصلا من نفس المنطق الفلسفي العصري المتجسد أسا في فلسفة الأنوار التي هيمنت على القرن الثامن عشر الأوروبي وكانت وعاءا ترعرعت في أحضانه أكبر وأخصب المدارس الفقهية الدستورية المستمدة لشرعيتها من مفاهيم فلسفة الأنوار الجوهرية مثل مبادئ السيادة الشعبية والسيادة الوطنية مع التبعات المؤسساتية المتفرعة عنها كتقنيات ممارسة الحريات الفردية والجماعية وآليات تجسيد السيادة؛ وفي مقدمتها آليات الانتخاب التي تعتبر في الفلسفة الدستورية الغربية منبع تفويض السلطة ؛ فالنظام السياسي الأمريكي على سبيل المثال لا الحصر تستمد جل مؤسساته الدستورية شرعيتها ومشروعيتها من الاقتراع.

وليس من الصدف المجانية أن ثورة 1789 الفرنسية التي أرخت لنهاية العهد القديم وبداية العهد الدستوري تزامنت أثنائها مع بروز وثيقة ” إعلان حقوق الانسان والمواطن ” التي يرجع تاريخها إلى نفس السنة بالذات.

لم تنقطع المجادلات منذ ذلك الحين حول هوية الإنسان، وقد شهدت في القرن الثالث عشر تضاربا ونقاشا غنيا في متون طوماس الأكويني ومعارضيه بين الأغسطينية السيناوية والرشدية، وكان الإشكال فيها دائما إشكال اتصال عقل الإنسان بالصور المفارقة، وعليه كان تنبني جميع التصورات الأخلاقية والسياسية.

وفي العصر الحديث، بعد ظهور القيم الديمقراطية وبعض المفاهيم المتصلة بها مثل الحرية والمساواة وغيرها، ثار الجدال حول مفهوم الإنسان من جديد، واندلع توتر نظري حاد بين رؤيتين كبيرتين (تمتد جذور تعارضهما إلى تعارض الميتافيزيقا الأفلاطونية والأخلاق الرواقية)، فكان الإشكال فيه جديدا من حيث الأدوات المفاهيمية المستعملة، وقديما من حيث الرؤية والمحتويات النظرية:

– الرؤية التي تعد الإنسانية طبيعة أو جوهرا، وهي تتبنى المذهب القائل بجوهرية الإنسان الذي ساهم في تطويره عدد من المفكرين مثل Grotius و Pufendorf إلى فلاسفة الأنوار (روسو وكانط)، وهم يرون أن للإنسانية هوية خاصة (مثل أن الإنسان حيوان عاقل)، وأنه توجد طبيعة مشتركة بين جميع الكائنات البشرية، وأنه يجب لذلك أن يُعطى الجميع نفسَ الحقوق بغض النظر عن الفروق (السن، الجنس، العرق، إلخ.). وهكذا فهو مذهب يتصور الإنسانية تصورا مجردا متعاليا، ويدافع عن ديمقراطية كونية مجردة (وهو ما عبر عنه إعلان حقوق الإنسان بفيرجينيا في سنة 1776 التالي: يولد الناس جميعا أحرارا، ولهم حقوق جوهرية وطبيعية)؛

– وأما الرؤية أو الأطروحة الثانية، فقد ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا (المدرسة الرومانسية الألمانية) ثم في فرنسا ففي إنجلترا، وقد قامت تُعارض الثورة الفرنسية وتندد بمظاهر الاستبداد والجور في حق الإنسان. وهي تعدّ التصور الكوني للإنسانية ظلما كونيا لا يعبأ بالاختلافات المشروعة بين الأفراد والجماعات، وأما التصور الجوهري للإنسانية فتعتبره ذريعة لـ “سرير بروكروستيس” كما يقال (وهي صورة بليغة في نقد الكونية المطلقة، فقد كان هذا المتسكع يعترض طريق المسافرين فيرغمهم على أن يرقدوا فوق سريره الصغير إذا كانوا طويلي القامة فيبتر أرجلهم وأن يرقدوا فوق سريره الكبير إن كانوا قصيري القامة فيمدد أطرافهم حتى يجعل قامات الجميع مطابقة لطول سريريه). وقد انتقدت هذه الأطروحة مفارقات إعلان حقوق الإنسان في فرنسا وفي فيرجينيا (مثل المفارقات المتمثلة في مظاهر العنصرية في حق السود والمرأة إلخ.)، واعتبرت التصور المجرد للإنسان تصورا يقصي الأفراد والجماعات التي قد يبدو أنه لا تتجلى فيها الهوية الطبيعية الكونية الخاصة بالإنسان، ويقضي على غنى تعدد الثقافات والتقاليد واختلاف المجتمعات (معظم هذه العبارات والانتقادات وردت في مقال نشره J. Möser في 1790، الذي ألهم حركة فكرية كبيرة رومانسية النزعة قادها مفكرون مثل Jacobi و Rehberg إلى Gentz و A. Müller ضد المبادئ الكونية التي كان يدافع عنها الثوار الفرنسيون).

هذه الأطروحة يعيدها اليوم مذهب فكري هو المذهب الجماعتـي communtarisme (وأكبر ممثليه: M. Sandel، Ch. Taylor، A. MacIntyre، M. Walzer) الذي قام يواجه، في إطار إشكالية جديدة لليبيرالية السياسية والتصور الليبيرالي للهوية، صيغةَ المبادئ الليبيرالية التي مهد لها J. Rawls في كتابه نظرية في العدالة الصادر سنة 1971(1). ينتقد هذا المذهب كون المبادئ الليبيرالية تجرد الفرد عن محيطه أو هويته الجماعية والثقافية ولا تضع في الحسبان اختلافات الهويات الثقافية والاجتماعية وحقوق الأقليات، ولذلك يدعو ممثلوه إلى سياسة أخرى يسميها شارل تايلر “سياسة الاعتراف” أو “سياسة الاختلاف”(2).

نظريات العدالة وانهيارها تحت وطأة نجاحها

إن الجدال بين هاتين الرؤيتين لم يفض، لأسباب سنراها فيما بعد، إلى تبيّن الأصول أو العناصر النظرية التي تمنع بناء مفهوم جديد للإنسان يتفق عليه الجميع. وهذه هي حالة هذا الجدال منذ العهود الهلينيستية والقرون المسيحية الوسطى، إلا أنه إن كان أفضى قديما إلى حروب لاهوتية، فهو اليوم –في هذه العقود الثلاثة الأخيرة خاصة– قد أفضى إلى التمرد على فكرة المبدأ الكوني الواحد، وانتهى إلى ظهور نظريات سياسية وأخلاقية تعلن كل واحدة منها عن بديهياتها ومبدئها الأولي الخاص بها.

وهكذا قد توارى من جديد الاهتمام بالأصول الميتافيزيقية لمفهوم الإنسان ومفارقاتها، وتوارت معه هذه الأصول نفسها، وأصبح هذا المفهوم موضوعا يعالَج داخل كل واحدة من هذه النظريات حسب بديهياتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بها. وقد دفعت الحاجة إلى مبدأ واحد يضمن سيادة المكتسبات الأنوارية (حقوق الإنسان، الحرية، المساواة، الديمقراطية…) فقامت جميع هذه النظريات تعتنق مبدأ موحدا جديدا يحقق لها وعود الحداثة السياسية ويخلصها من المفارقات الكلاسيكية، وهو مبدأ المساواة (المساواتية égalitarisme) أو العدالة. فصارت هذه النظريات كلها نظريات في العدالة (وكذلك يسميها الفيلسوف الكندي W. Kymlicka في كتابه الفلسفة السياسية المعاصرة الذي يعرض فيه نظريات الليبيراليين والنفعيين والماركسيين والجماعتيين والنسويين… بوصفها نظريات في العدالة(4)، وصار مفهوم الإنسان (وباقي المفاهيم الأنوارية) يعيش مرحلة جديدة ونقاشا واسعا. وأهم ما في ذلك، هو أنه جاءت تشارك اليوم في هذا النقاش نظرية جديدة في الإنسان والأخلاق يطرحها المتشاغلون بالعلوم المعرفية وفلسفة الذهن في مجال علوم الدماغ والبيولوجيا، وهي تقدم أكثر الأدوات الذهنية قدرة على فهم طبيعة الإنسان ونقد المفارقات التي ولّدتها نظريات العقل الميتافيزيقية القديمة والحديثة. نكتفي هنا بالإشارة إلى هذه النظرية، فسنرجع إليها في آخر المقال، وهي نظرية تقع أطروحاتها وقضاياها خارج نظريات العدالة الأخرى وتمثل أفقا جديدا يتجاوزها (من المؤسسات العالمية التي تمثل اليوم هذه النظرية الأخلاقية “اللجنة الاستشارية الوطنية للأخلاق في علوم الحياة والصحة” التي أسست في سنة 1983 بفرنسا ويشرف عليها العالم المتخصص في العلوم العصبية J.-P. Changeux الذي كان لمؤلَّفِه الإنسان العصبوني(3) وأطروحاته شهرة ووقع خاص على الفكر الأخلاقي والفلسفي).

إن أكبر المفارقات الكلاسيكية التي تَجاوزها اليوم –أو بيَّنها على الأقل– النقاشُ السياسي على أرضية مفهوم العدالة هو التصور التقليدي الذي كان يوزع الأفكار السياسية على اليمين واليسار، فلم يعد هناك سبيل إلى البرهان مثلا على مبدأ الحرية الذي يدافع عنه اليمين ضدّ مبدأ المساواة الذي يدافع عنه اليسار، ولا إلى البرهان على هذا المبدأ ضد الآخر، بل قد يجتمع هذان المبدآن في أحد الأطراف المسمى بالوسط (مثل الليبيرالية المعتدلة في دولة الرعاية)، وقد ينسب أحد الأطراف المتعارضة إلى نفسه في وقت ما الشيء الذي كان يعيبه في الطرف الآخر في وقت آخر، وهكذا.

ولكن بأي معنى تجاوز مبدأ العدالة التناقضات القديمة، أو، على الأصح، ما الذي يجعله الآن قيمة يتفق عليها الجميع؟ لما يخلُص R. Dworking في بعض أعماله ودراساته(5) إلى أن النظريات السياسية تجتمع على قيمة عليا واحدة، وهي المساواة، فإن عددا من أصحاب هذه النظريات (وخاصة من يدافع منهم عن مبدأ تعدد الثقافات وحقوق الأقليات مثل كيمليكا) لا يقبل هذه الفكرة للبس الذي تنطوي عليه. فإذا كان المقصود من “المساواتية” أنها نظرية تدافع عن توزيع المداخيل والخيرات توزيعا متساويا مقسطا فذلك غير صحيح، فالمساواتية أو مبدأ العدالة لا يحظى بالإجماع إلا لكونه يتربع على تصور مجرد مفاده أن الكائنات الإنسانية يجب أن تُعامَل بوصفها كائنات متساوية ومواطنين يستحق كل واحد منهم الاحترام والعناية. هذا التصور لا يختلف فيه ليبيرالي متطرف مثل R. Nozick وشيوعي مثل Marx، ما دام أنه فارغ مجرد عن تضارب المعطيات المحسوسة المتعلقة بالحريات والثروات والفرص والملكية وغير ذلك: فرجال اليسار ونساؤه مثلا يدافعون عن المساواة في المداخيل والخيرات لأنها في رأيهم شرط ضروري لتحقيق العدالة والمساواة في التعامل مع الأفراد واعتبارهم، ولتحقيق هذه الغاية نفسها يرى رجال اليمين ونساؤه أنه من الضروري أن تكون المساواة في حق التمتع بالملكية الخاصة وثمار الأعمال الخاصة.

وهكذا فمبدأ العدالة هو اليوم أقدر المفاهيم على احتواء أكبر عدد من التناقضات، وهو مرحلة جديدة متطورة في متعاليات ومجردات الفكر السياسي الأوربي. ولذلك فهو يمدد أكثر في عمر الأصول الميتافيزيقية الأوربية لمفهوم الإنسان ومبدأ السيادة الذي يتصل به (وهو ما سنبينه في الصفحات الآتية)، ويغني الإنسانية اليوم برؤية أوسع ومهارات أرقى لضمان وجودها وسعادتها بقدر ما يغنيها في الوقت نفسه بالتناقضات والمفارقات التي من الطبيعي أن تتفاقم وتنذر بالفشل، وذلك لكونه ما زالت تلهمه –من بعيد أو قريب– آثار “التضخم الأنطلوجي”، منذ مبدأ الموضوعية الرياضية الأفلاطونية (الإيمان بكون الأشياء المثالية توجد وجودا واقعيا(6))، وآثار “المرجع الفارغ”، منذ مبدأ “الاستقلالية” الكانطي.

لا شك أن هذه الوضعية يحس بها المشتغلون حاليا بالنقاش الجاري بين هذه النظريات السياسية في أوربا وأمريكا، ولذلك يقول بعضهم (ومنهم كيمليكا(7)) إن الفلسفة السياسية المعاصرة تنهار تحت وطأة نجاحها. فنجاحها يعني نجاح هذه النظريات في تشبثها بمكتسبات الحداثة الأنوارية. وإن العنصر الرئيس الذي تتغذى منه (بطرق مختلفة) جميع هذه النظريات هو مفهوم “الاستقلالية” autonomie (الذي أبدعه كانط، كما يقول J. B. Schneewind، وقد ألف هذا الباحث كتابا ضخما في الفلسفة الأخلاقية محورُه فلسفة كانط سماه ابتكار الاستقلالية. تاريخ الفلسفة الأخلاقية الحديثة، وفيه يبين بتفصيل كيف صاغ كانط هذا المفهوم(8)). ويعني هذا المفهوم، بكلمة واحدة وإشارة لا تفي بسعته، استقلالية الإنسان بوصفه فردا أو ذاتا مستقلة ينبغي أن لا تطيع إلا “قوانين الحرية”، وهو قلب نظرية كانط الأخلاقية حيث إن الأخلاق تقوم على قانون يقضي بأن الكائنات الإنسانية تلزم نفسها بنفسها وتسيّر أخلاقيا نفسها بنفسها، فالإنسان ذات “فاعلة”، وهو الذي يفعل قولَه وفكرَه وفعله… ويمكن القول إنه انطلقت من ذلك في نغم (اتساق) تعاقبي mélodie séquentielle مبادئُ الحرية وحقوق الإنسان والمساواة وباقي المفاهيم الأنوارية في زمن الحداثة الأوربية، وذلك على مستوى “فضاء شعوري” ينتج ويحفظ التمثلات والمعارف، ويُجري عليها، بوصفها أشياء ذهنية، عملياتِ اتساق دقيقة تُرجع إلى الذات الثابتة جميعَ العلاقات الممكنة بين العالم الداخلي والعالم الخارجي وبين الأحداث الماضية والحاضرة والآتية. فصارت بذلك نظرية الأخلاق الكانطية أمتن نسق ميتولوجي في هذا العصر، وله يدين مبدأ العدالة الذي تفرعت من “ثباتـه” (الذي أرادته نظرية راولز لنفسها دون غيرها) في السياسة المعاصرة نظرياتٌ مختلفة في العدالة. وآخر المكتسبات التي تدين فيها أوربا (والعالم من بعيد) لهذا النسق –وهو ما يفسر نجاح الفلسفة السياسية المعاصرة في تشبثها بالمكتسبات الأنوارية– هو تحولات النظام السياسي المعاصر التي عبرت عن انتصار دولة الحق في النظام الداخلي وعن تكوّن حق دولي يعلو الدول، والجميع يرى في هذا تحققا –ولو متأخرا– لوعود الحداثة السياسية التي قلبها النابض هو “حقوق الإنسان”. وهذا يتجلى في كل من الفلسفة السياسية وفلسفة الحق.

لكن قبل أن تبرز الثورة الفرنسية ساهمت الديانات السماوية بقسط وافر في تكريس مبادئ حقوق الانسان خصوصا الدين الاسلامي الذي جاء أصلا بهدف تحقيق الخير والسعادة للفرد و المجتمع على حد سواء.

المبحث الثاني: بين الحريات العامة وحقوق الانسان

كثيرا ما يدمج الباحثون الجامعيون في كتاباتهم بينمصطلحي الحريات العامة وحقوق الانسان معتبرين بأن الأمر يتعلق

المبحث الثالث : المأسسة السوسيولوجية للحريات العامة بالمغرب

المطلب الأول: العمل الجمعوي بالمغرب بين النص والممياؤرسة

المطلب الثاني : التجمعات العمومية :

ماذا نعني بالاجتماع العمومي؟وما هي عناصره؟ وكيف أطر المشرع المغربي الاجتماع العمومي ؟

للإجابة على هذه التساؤلات سنخصص الفرع الأول للحديث عن ماهية أو لنقل أدبيات حول الاجتماع العمومي فيما سنفرد الفرع الثاني للحديث عن الإطار القانوني المنظم للاجتماع العمومي.

الفرع الأول : ماهية الاجتماع العمومي

إذا كان المشرع الفرنسي لم يضع تعريفا لمفهوم الاجتماع العمومي فغن نظيره المغربي تجاوز هذا الاشكال المفاهيمي وعرف الاجتماع العمومي من خلال الفصل الأول من ظهير 15 فبراير 1958 معرفا إياه بكونه: كل جمع مؤقت مدبر؛ مباح للعموم تدرس خلاله مسائل مدرجة في جدول أعمال محدد من قبل “

على ضوء هذا التعريف يمكننا استخلاص أربعة عناصر رئيسية محددة للاجتماع العمومي

* أولا : عنصر تدبير الاجتماع: نعني بعنصر التدبير وجود نية مشتركة سابقة لاجتماع المشاركين قصد تحقيق هدف معين؛ وهو ما يضفي على الاجتماع صبغته التنظيمية.

إن الاجتماع العمومي يتميز عن الاجتماع العرضي كاجتماع الزبناء في المطعم مثلا وهذا ما أكده الاجتهاد القضائي لمجلس الدولة الفرنسي في تمييزه بين الاجتماع واللقاء ولوكان اعتياديا لقاء رواد المقهى يوميا وعن سابق موعد مثلا “

كما يتميز الاجتماع عن التجمهر وهو التجمع الفعلي الذي يقع صدفة ودون تدبير سابق؛ وقد استشارت في ذلك محكمة النقض الفرنسية في عدة أحكام تقرر أن التقاء أشخاص صدفة ودون أن تكون بينهم أية رابطة لا يؤلف اجتمعا عموميا.

*ثانيا: الطابع المؤقت لاجتماع العمومي: يتميز الاجتماع عن الجمعية بكونه يبقى مؤقتا؛ إذ لا ينشئ أية رابطة سابقة ولا لاحقة بين الأفراد الذين يشاركون فيه فيما يفرض على الجمعية أن تتسم بوجود رابطة بين أعضائها سواء اجتمعوا أم لم يجتمعوا

لماذا الاجتماع لا ينشئ روابط بين أعضاءه ؟

لكونه محدد في الزمان والمكان وهذا ما دفع الفقيه الفرنسي بيردو إلى القول بأن القيام باجتماع ما لايهدف سوى إلى التفكير والتنوير جماعة فيما يتوخى من تأسيس جمعية معينة التشاور والعمل المشترك”

الفرع الثاني : عمومية الاجتماع العمومي

انطلاقا من مصطلح الاجتماع العمومي فإنه يبقى مفتوحا على الجمهور بخلاف الاجتماع الخصوصي كاجتماع أعضاء الجمعية الذي يفترض على الشخص أن يكون متمتعا بصفة العضوية( أي توفره على بطاقة الانخراط) حتى يتاح له ولوج الاجتماع.

الفرع الثالث : الاطار القانوني المنظم للاجتماع العمومي

إن الاجتماع العمومي يعفي أصحابه من سابق إذن لكنهم ملزمون بتقديم تصريح سابق الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن ماهية الإجراءات والقواعد القانونية التي تخضع لها الاجتماعات العمومية من جهة وماهي طبيعة العقوبات المترتبة عن مخالفة هذه القواعد من جهة أخرى ؟

*أولا : الإجراءات القانونية المصاحبة للاجتماعات العمومية

لكي ينعقد الاجتماع العمومي بشكل قانوني لابد لأصحابه من احترام المقتضيات القانونية التالية:

– ضرورة وضع تصريح سابق للسلطات المعنية ؛ بحيث يتضمن هذا التصريح جملة من البيانات وهي : ضرورة وجود شخصان يقطنان في البلدة التي سينعقد فيها هذا الاجتماع العمومي؛ بحيث ينبغي لهذين الشخصين أن يشيرا إلى اسميهما؛ صفتهما؛ عنوان كل منهما.

وعلى اعتبار أن القانون هنا لا يضع أي تمييز من حيث الجنسية فيمكن أن يكون الموقعين من جنسية مغربية أو غير مغربية لكن لايحق لأشخاص المجردين من الحقوق المدنية والسياسية؛ إذ بالرجوع إلى القانون الجنائي نجد تنصيصا واضحا على هذا المنع في الباب الخاص بالجرائم والجنح ضد أمن وسلامة الدول

ويقدم هذا التصريح إلى السلطة المحلية الممثلة في الباشا أو القائد التي ينبغي أوالقائد التي ينبغي لها أن تقدم فصلا يتثبت تاريخ تقديمه باليوم وبالساعة بحيث يحتفظ بهذا الوصل من قبل الأعضاء فلدلاء كلما طلبه أعوان السلطة.

وإذا لم يتمكن المصرحان من الحصول على الوصل المذكور يرسلان التصريح إلى السلطة المختصة برسالة مضمونة.

ولا يمكن المصرحان أن يعقدا الاجتماع إلا بعد مرور أجل لايقل عن 24 ساعة في حالة تسلمهما الوصل و48 ساعة في حالة توجيه رسالة مضمونة.

لماذا ترك هذا المشرع هذا الحيز الزمني؟

إن الأسباب الذي دفعت المشرع إلى ترك هذا الحيز الزمني تعود بأساس إلى ضرورة تمكين السلطات العمومية من اتخاذ كافة التدابير اللازمة للمحافظة على الأمن أثناء الاجتماع.

إلى جانب التصريح السابق الذكر لابد لعقد الاجتماع العمومي أن يتشكل من مكتب يضم رئيس ومستشارين اثنين على الأقل.

إذا كان القانون الفرنسي لسنة 1881 ينص على أن أعضاء المكتب ينتخبون من طرف لمجتمعين إذا لم يعينوا في التصريح المقدم إلى السلطة فإن نظيره المغربي لم يوضح كيفية تعيين هذا المكتب هل يتشكل من قبل المنظمين له أم نتيجته الجمهور الذي يحضر الاجتماع؟

طبقا للفصل السادس من نفس الظهير فإن هذا لمكتب يناط له مهمة المحافظة على النظام والحيلولة دون أي مخالفة للقوانين ومنع كل خطاب يتنافى مع النظام العام أو الأخلاق الحسنة أو يتضمن تحريضا على ارتكاب جريمة.

إن السؤال المطروح هنا هو ماذا لو وقع إخلال بمقتضيات المادة السادسة فعلى من تقع المسؤولية؛ هل تقع على الموقعين على التصريح السابق لعقد الاجتماع؟ أم تقع على لمكتب المنتخب من قبل المجتمعين ؟

هنا نجد فراغا تشريعيا واضحا لدى المشرع المغربي.

إن هناك إجبارية في حضور الموظف الإداري في الاجتماع العمومي ؛ إذ يحضر دون أن يستطيع أي أحد أن يمنعه من ذلك وذلك طبقا للفصل السابع من الظهير السالف الذكر.

ويحق للموظف الاداري أن يتدخل في الحالات التالية :

-1 إما بطلب من المكتب المسير.

-2 في حالة انسحاب المكتب المسير.

-3 عدم احترام جدول الأعمال المقدم في التصريح.

-4 حدوث اصطدامات أو أعمال عنف بين المشاركين.

– 5إذا ما تبين له أن تسيير الاجتماع سيخل بالأمن العمومي.

مثلما لا يحق للمشاركين أن يتجاوزوا المدة الزمنية التي أوردوها في التصريح كما لايحق لهم عقد الاجتماع في الطرق العمومية

لكن ماذا لو خالف المشاركون هذه المقتضيات؟

إن المشرع المغربي كان واضحا هنا بخصوص ممارسة نوعين من الرقابة؛ فهناك في الرقابة القبلية ثم الرقابة البعدية.

الأولى تهم منع السلطة الإدارية الاجتماع العمومي

الثانية : توقيع عقوبات على المخالفين لهذه المقتضيات.

إن هناك إشكالية رئيسية تتعلق بالاجتماعات العمومية؛ فظهير 1958 ينص صراحة على عدم منع الاجتماعات العمومية لكن إذا ما تبين بأن هذه الاجتماعات ستحدث اضطرابات خطيرة بحيث تهدد النظام العام.

هذا التوجه نجده حاضرا حتى في النظام الفرنسي حيث سبق لمجلس الدولة أن أقر هذا التوجه في حكم بنجمان.

إلى جانب المنع يحق للموظف العمومي الحاضر في الاجتماع أن يفضه إذا ما حدثت أعمال عنف أو إذا ماتبين له إخلال بالأمن العمومي.

وقد أفرد المشرع المغربي جملة من العقوبات الزجرية في حالة مخالفة القوانين :وتأتي هذه العقوبات وفق الحالات التالية :

-1 عقد اجتماع دون تصريح سابق للسلطة الادارية.

-2 تقديم معلومات زائفة حول الهدف من الاجتماع.

-3 عقد اجتماع منعته السلطة الادارية

-4 التحريض على ارتكاب جرائم.

– 5الإخلال بالنظام العام والأخلاق الحسنة

-6 عدم الامتثال لأمر الانصرام الصادر عن الموظف العمومي الحاضر في الاجتماع.