حدود سلطات الجهات الإدارية في التنفيذ المباشر

مصطفى عمر أمين

مستشار قانونى محام بالنقض

على سبيل التقديم

تخص الأنظمة والقوانين فى غالب البلاد قاطبة الجهات الإدارية بمزايا عديدة كفالة لأداء المهام المنوطة بها على الوجه الأكمل فى إدارة المرافق العامة واستهداف النفع العام لمواطنى الدولة والعمل على استباب أركان الدولة ، وهى مزايا تدور مع هذه المصلحة دوران العلة بالمعلول ، فان لم تستهدف الجهة الإدارية فى جميع تصرفاتها وقراراتها هذه المصلحة تجردت من الحق فى التمتع بهذه المزايا

ومن المزايا التى تتمتع بها الجهة الإدارية استصحاب جميع قراراتها وتصرفاتها لقرينة السلامة ، فالأصل هو مشروعية هذه التصرفات وسريانها وترتيبها لكافة الآثار القانونية منذ صدورها ، وهى قرينة تستوجب نقل عبء الإثبات على من يدعى مخالفة هذه القرارات أو التصرفات للأنظمة أو اللوائح بما يترتب عليه أن تصبح الإدارة بصفة دائمة فى مركز المدعى عليه وهو مركز أيسر كثيرا فى إجراءات التقاضى

مزية التنفيذ المباشر وخطورته

على أن أخطر المزايا التى تكفلها الأنظمة للجهة الإدارية حقها فى التنفيذ المباشر لقراراتها وتصرفاتها ، فهى تصدر قراراتها بنفسها ، ثم تنفذها على الأفراد بالقوة الجبرية إذا رفضوا تنفيذها طوعا ، ودون حاجة إلى إذن سابق من القضاء وهو مايمثل خطرا على حقوق الأفراد وحرياتهم ، كما يمثل انتزاعا لجانب مما اختصت به السلطة القضائية وبما استوجب إحاطة ذلك التنفيذ بكثير من الضمانات التى تكفل إجراء الموازنة بين أداء الإدارة لواجبها ، وبين المحافظة على حقوق الأفراد وحرياتهم

ضرورة التنفيذ المباشر بين الأصل والاستثناء واثر ذلك التكييف

تمنح النظم والقوانين الجهة الإدارية سبيل التنفيذ المباشر لقراراتها فى حالات تنص عليها مسبقا فتضع لهذه الحالات والشروط مايكفل حسن تطبيقها فى الغرض الذى شرعت من أجله، كما يعترف القضاء الادارى ـ بصفته قضاء ابداعياً ـ للإدارة بمباشرة ذلك الحق بأن يدعو الى التنفيذ المباشر خطر عاجل على النظام العام بمدلولاته الثلاثة من الصحة والسكينة والأمن

بشروط وضوابط تضمن الموازنة بين أداء هذه الجهات لوظائفها وبين رعاية حقوق الأفراد وحرياتهم بما مؤداه ولازمه نتيجتين هامتين:

النتيجة الأولى : انه لايجوز للجهة الإدارية أن تجرى التنفيذ المباشر فى جميع قراراتها وتصرفاتها ، بل لابد أن تكفل الأنظمة أو اللوائح للجهة الإدارية مباشرة حق التنفيذ المباشر ، وأن تركن فى مباشرة التنفيذ الى نص جلى المعنى واضح الدلالة فى مباشرة هذا الحق أو أن تتوافر حالة من الحالات التى يجيز فيها القضاء مباشرة ذلك الحق

ويترتب على اعتبار التنفيذ المباشر استثناء من الأصل العام عدم مشروعية تنفيذ الجهة الإدارية لقراراتها وتصرفاتها بنفسها مالم تكفل لها الأنظمة أو اللوائح مباشرة ذلك الحق بنص جلى المعنى واضح الدلالة فى حقها فى إجراء هذا التنفيذ ، وهى لاتمنح مباشرة ذلك الحق إلا لاعتبارات تدعو إليها ضرورة انتظام سير المرافق العامة

وقد أخذ بهذه القاعدة قضاء ديوان المظالم فى القضية رقم (83/ت/3 -1411هـ) حيث قضى بأن قيام إحدى الشركات بالتسبب فى كسر ماسورة مياه يوجب إلزامها بقيمة التعويض المقدر بنفقات الإصلاح إضافة إلى قيمة المياه المهدرة كما قضى الديوان بعدم أحقية وزارة الزراعة فى توقيع غرامة على الشركة دون سند نظامى إذ لايجوز توقيع جزاء دون نص

وخلص ديوان المظالم إلى أنه لايجوز لوزارة الزراعة والمياه الاستناد إلى لائحة الجزاءات المتعلقة بمنشآت وشبكات مصلحة المياه بالرياض أو إلى نظام مصالح المياه والمجارى الصادر بالمرسوم الملكى رقم 22 وتاريخ13/6/1394هـ ، أو إلى ولائحة الجزاءات الصادرة تنفيذاً له لأن هذه النصوص جميعها لاتطبق على شبكات المياه التابعة لوزارة الزراعة .

كما أكد الديوان هذه القاعدة فى القضية رقم (766 / ت /1 – 1411هـ)
حيث قضى بأنه طبقاً لأحكام المادة الخامسة من نظام البلديات والقرى الصادر بالمرسوم الملكى رقم م/5 وتاريخ 21/2/1397هـ سلطة مراقبة أسعار الخدمات العامة الأمر الذى يقتضى بحكم اللزوم وجود سعر محدد لتلك الخدمات حتى تمارس البلدية سلطتها المخولة لها بمراقبة الالتزام بالسعر – عدم وجود سعر محدد يجعل الاتفاق بين مقدم الخدمة والمستفيد منها ملزماً للطرفين طالما لم يخالف نصاً من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، وأنه لايجوز تعديل شروط التعاقد إلا باتفاق الطرفين– تدخل البلدية بتعديل العقد أو إلغائه يعد خطأ يلزمها بالتعويض عن الأضرار .

النتيجة الثانية : ان اعتبار التنفيذ المباشر استثناء يستوجب ألا يقاس عليه ولايتوسع فى تفسيره

من القواعد العامة أن الاستثناء لايقاس عليه ، ولايتوسع فى تفسيره ، فإذا حدد النظام أو القانون الحالات التى يجوز فيها للجهة الإدارية أن تلج سبيل التنفيذ المباشر فانه لايجوز القياس على هذه الحالات ، كما يجب عدم التوسع فى تفسيرها ، فالضرورة تقدر بقدرها

ومرجع اعتبار التنفيذ المباشر استثناء من القواعد العامة أنه مباشرة لاختصاص أصيل للسلطة القضائية وهو استثناء دعت إليه اعتبارات عملية ، فالأصل أن الإدارة شأنها كشأن الأفراد يجب أن تخضع لأحكام القضاء

وقد استقر قضاء مجلس الدولة المصرى على أن التنفيذ المباشر ليس الأصل فى معاملة الإدارة للأفراد ، وإنما الأصل أن تلجأ الإدارة ـ شأنها شأن الأفراد ـ إلى القضاء لاستيفاء حقوقها

إدارية عليا جلسة 24/11/1962 أحكام المجلس السنة الثامنة ص 95 وحكم

الإدارية العليا مجموعة المكتب الفني الطعن رقم 358 لسنة 14 ق

جلسة 21/4/1973 السنة الثامنة عشر ص79

التنفيذ المباشر بين مشروعية القرار وبين تنفيذه

إذا نص النظام أو اللائحة على الحق فى التنفيذ المباشر فان تصرف الجهة الإدارية يكون تصرفا مشروعا ، ولايجوز النعى عليها بعدم سلامة التنفيذ ، ويجدر التفرقة فى هذا الصدد بين مشروعية القرار وبين تنفيذه

فتنفيذ القرار يختلف عن مشروعية ، فالقرار قد يكون غير مشروع ويكون تنفيذه صحيحا إذا صدر استنادا إلى الحالات التى تكفلها الأنظمة ، كما قد يكون القرار مشروعا ثم يشوب تنفيذه مايبطله ويحيله إلى تعد مادى إذا لم تتوافر الحالات التى استوجبها القانون للتنفيذ المباشر ، فالحديث عن التنفيذ المباشر لاعلاقة له بمشروعية القرار من ناحية سببه ، ولا من ناحية استهدافه مصلحة عامة ، بل يدور الحديث فى كنف مدى أحقية الإدارة فى تنفيذ قراراتها بنفسها سواء كانت هذه القرارات مشروعة أو غير مشروعة

وعلى سبيل المثال فان نظام المنافسات الحكومية والصادر بالمرسوم الملكى م /58 وتاريخ 4/9/1427هـ يكفل للجهة الإدارية فى المادة ( 53 ) حق سحب العمل من المتعاقد ، ومن ثم فسخ العقد أو التنفيذ على حساب المتعاقد دون أن تتربص الجهة الإدارية بأحكام القضاء فى التحلل من أحكام العقد الملزم للجانبين ، فتدخلها فى هذه الحالة وتنفيذها المباشر تدخل صحيح ولو قضى عقب ذلك بإلغاء القرار لعدم مشروعيته

على حين استوجب نظام هيئة السوق المالية فى المادة التاسعة والخمسين على الهيئة أن تقيم دعوى أمام اللجنة المختصة لاستصدار قرار بتوقيع العقوبة المناسبة عند المخالفة ، ولم يكفل لها النظام إيقاع هذه العقوبات عند تحقق المخالفة رغم خطورة التعامل فى الأوراق المالية ومايستوجبه من سرعة اتخاذ القرارات التى تستوجب المحافظة على ضبط هذه الأسواق

وموجز القول ـ وكما ذهب جانب من الفقه ـ بأن الضمير العصرى يتطلب أن تتصرف الإدارة فى وضح النهار ، وأن يحاط الجمهور مقدما بمجريات الأمور ، فهو يقبل الالتزامات التى تفرضها الإدارة راضيا ، ولكن من حقه أن يحاط بها قبل فرضها بمدة معقولة