التطليق للشقاق كمسطرة احتياطية في حالة عجز الزوجة عن إثبات الضرر في ضوء أحكام مدونة الأسرة

من إعداد:

ذ/ محمد قاسمي

باحث في العلوم القانونية وخريج ماستر الأسرة – أكادير

مدير مجلة الباحث للدراسات القانونية والقضائية

مقدمة

سعى المشرع المغربي في مدونة الأسرة إلى إيجاد حلول بديلة لبعض المعضلات التي قد تطرح أمام أصحاب الحقوق عند بغية اقتضاء حقوقهم، ولعل من أهم الحلول الاحتياطية التي جاء بها المشرع في المدونة نجد مسطرة الشقاق[1]، حيث كثيرا ما يحيل عليها أطراف الإدعاء عند عدم جدوى الحل الأول الموضوع رهن إشارتهم، حيث باستقراء مواد المدونة نجد أن عدد الإحالات على هذه المسطرة وصلت لحدود الخمس إحالات وهي: اللجوء لمسطرة الشقاق عند إخلال أحد الزوجين بالواجبات المترتبة عليه استنادا إلى ميثاق الزواج[2]، كذلك لجوء الزوجة لمسطرة الشقاق عند العجز عن إثبات الضرر[3] – وهو الذي يهمنا في هذه الدراسة – وكذا حالة إصرار الزوجة على طلب الطلاق بالخلع ورفض الزوج لذلك[4]، وكذا رفض الزوجة رجعة زوجها لها[5]، بالإضافة إلى حالة تمسك الزوج بطلب التعدد ورفض الزوجة الإذن له بذلك[6].

فالمشرع جعل للزوجة العاجزة عن إثبات الضرر المبرر للتطليق مخرجا يسير، وهو اللجوء لمسطرة الشقاق، وهو ما نلمسه بصريح النص في الفقرة الثانية من المادة 100 من مدونة الأسرة، حيث جاء فيها:” إذا لم تثبت الزوجة الضرر، وأصرت على طلب التطليق، يمكنها اللجوء إلى مسطرة الشقاق.“

فانطلاقا من كل ما تقدم، تطرح لدينا الإشكالية التي مفادها: هل استطاع المشرع المغربي من خلال مسطرة الشقاق كمسطرة احتياطية لانحلال العلاقة الزوجية إيجاد الحلول البديلة للزوجة العاجزة عن إثبات الضرر الحاصل لها أم أن العكس هو الحاصل؟

وعليه، سنقسم دراسة هذا المقال إلى مطلبين، نخصص (المطلب الأول) للحديث على التأصيل الفقهي للشقاق وموقف مدونة الأسرة والقوانين المقارنة منه، على أن نرجئ الحديث بعده إلى إجراءات ممارسة دعوى الشقاق والحكم الصادر بشأنها في (المطلب الثاني).

المطلب الأول: التأصيل الفقهي للشقاق وموقف المدونة والقوانين المقارنة منه

شرع الزواج أساسا لمصلحة تحقيق السكن والمودة واللذة الطيبة وإنجاب الدرية الصالحة، وتحقيق المجتمع المتماسك، فهو مرعي وواجب الاستمرار لا يمس بسوء، ما دام خادما أهدافه محققا لأغراضه، لكن ما يحيد عن ذلك ويتحول إلى وسيلة لدفع المصلحة، وجلب الضرر من قبيل إنتاج الخوف والرعب والخصام، والقسوة، والألم، والأولاد المقهورين نفسانيا، فإن إنهاءه ووضع حد له يصبح من صميم مقصود الشرع باعتبار أن دفع الضرر كذلك مصلحة[7]، فالدين الحنيف من أعرق مقاصده أن لا ضرر ولا ضرار وأن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.

فالشقاق باعتباره نوعا من أنواع النفور بين الزوجين يعد من ضمن الأسباب التي تنتهي بها العلاقة الزوجية وتتهدم به عديد من صروح الأسر، ويدخل به الخراب إلى العديد من البيوت وتصبح مرتعا للمحن.

فلقد أولى فقهاء الإسلام لموضوع الشقاق عناية كبيرة في مؤلفاتهم، وقاموا بالتأصيل له في تدويناتهم، كما وضعوا له إجراءات لأجل فضه (الفقرة الأولى) وعلى دربتهم سارت العديد من التقنينات العربية الأسرية المقارنة ومنها مدونة الأسرة المغربية، حيث بدورها تطرقت لموضوع انفصال الرابطة بالشقاق وقننت الأحكام الخاصة به، وبينت مجمل الإجراءات التي يتم سلوكها عند بروز معضلة الشقاق بين الزوجين (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تأصيل فقهاء الشريعة الإسلامية لموضوع الشقاق

الشقاق في الفقه الإسلامي بالمفهوم العام للمصطلح إما أن يكون من جهة الزوجة، أو من جهة الزوج أو من كلتيهما معا[8]، فإذا ظهر للقاضي بالبحث والتمحيص والتحقق من الأدلة والشهود والاعترافات أن الشقاق من المرأة فهو نشوز، يقول البارئ تعالى فيه (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا )[9] أما إذا ظهر للقاضي أن الشقاق من الرجل، فهو إضرار بالزوجة وتعدي عليها، فتطلق عليه من أجل رفع الضرر برضاها ورغبتها، لأن الضرر محرم شرعا لقوله تعالى (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)[10] وإن ظهر للقاضي أن الشقاق منهما معا، وخشي أن يتفاقم أمره وتطول الخصومة، فتتطور إلى العداوة والعصيان، بعث حكما من أهله وحكما من أهلها برضاهما[11]، لقوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا )[12].

فالشقاق في الفقه الإسلامي إن كان من الزوجة فهو نشوز منها، وإن كان من الزوج فهو إضرار منه بها، وإن كان منهما معا فهو شقاق بالمفهوم الخاص للمصطلح[13]، فالشقاق الذي نحن نهم بدراسته هو الذي يكون من الزوجين معا، حيث الزوجة تدعي إضرار زوجها بها، ومع ذلك تعجز عن إثبات ضررها للقاضي، فإن لم تستطع إثباته رفض دعواها، فإن تكررت شكواها بعث القاضي حكمين للإصلاح بينهما، ويشترط في الحكمين أن يكونا رجلين عدلين راشدين عالمين بالمطلوب منهما شرعا في هذه المهمة، ويكون أحدهما من أهله والآخر من أهلها إن أمكن، فإن لم يجد من أهلهما ما يصلح لذلك بعث – أي القاضي – حكمين أجنبيين ممن لهم صلة بالزوجين[14].

فقد أجمع فقهاء الشريعة الإسلامية عند وجود نزاع وشقاق بين الزوجين على ضرورة بعث الحكمين[15]، وفي ذلك قال الإمام الشافعي رحمه لله، قال لله تبارك وتعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) الآية، قال لله أعلم بمعنى من أراد من خوف الشقاق الذي إذا بلغاه أمره أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها[16].

فإن كان فقهاء الإسلام قد أجمعوا عند احتدام الشقاق بين الزوجين على ضرورة بعث الحكمين، فقد اختلفوا في مسألة أحقية الحكمية في التفريق بين الزوجين من عدمه، فذهب الحنفية والجعفرية والشافعية في أحد قوليه واحمد في إحدى الروايتين…إلى القول إن الآية – أي 35 من سورة النساء – قصرت عمل الحكمين على محاولة الإصلاح بين الزوجين، ولم تجعل لهما حق التفريق…وذهب المالكية والأوزاعي والشافعي في قوله الآخر وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الحكمين فهما بمعنى الحاكمين فيثبت لهما حق الحكم ولا حكم هنا إلا بالتفريق إذا تعذر الإصلاح. وقد ثبت أن عثمان أرسل حكمين وقال لهما: إن رأيتما أن تفرقا ففرقا[17].

يتضح مما سبق أن مسألة الشقاق بين الزوجين تجد لها أصداء عميقة من التأصيل عند فقهاء الإسلام، فرغم عدم اختلافهم في وجوب الإصلاح بين الزوجين عند الشقاق، وبعث الحكمين لنفس الغاية، إلا أنهم وقع الخلاف معهم في مدى أحقية الحكمين في التفريق بين الزوجين، بين من يرى أحقيتهما في ذلك، وبين من ينزع هذه المكنة منهما، وكل هذا حسب اعتقادنا ليس إلا من قبيل الخلاف العالي بين المذاهب الفقهية، وهذا الخلاف محمود مادام يستند على أدلة شرعية قوية، وما دام كذلك أن بالاختلاف تتطور العلوم.

الفقرة الثانية: موقف المدونة والقوانين العربية المقارنة من موضوع الشقاق

لم يكن لموضوع الشقاق ومسطرته أي وجود في ظل مدونة الأحوال الشخصية الملغاة[18]، فقد كانت الزوجة المتضررة وقتذاك تسلك مسطرة التطليق للضرر، فإذا هي عجزت عن إثبات ما تدعيه فالمحكمة ترفض طلبها الرامي إلى التطليق، حيث القضاء المغربي في ظل تطبيق هذا القانون كان يتشدد في الأخذ بمفهوم الضرر المبرر للتطليق وفي إثباته وتقديره عند سماع دعوى التطليق للضرر[19] المرفوعة من الزوجة.

حيث كثيرا ما يؤول القضاء النصوص المنظمة للتطليق لصالح الزوج، مما يكون معه الاستجابة لطلب الزوجة بالفرقة كثير الاستبعاد وهو ما يتضح في أحد قرارات المجلس الأعلى جاء فيها:” يثبت من تصفح لفيف إثبات الضرر…أنه لفيف سماعي، وأن شهوده يشهدون معرفة الزوجين ويسمعون أن الزوج يضر بزوجته بأنواع الضرر المختلفة، وأن كل ذلك في علمهم وصحة يقينهم بالسماع الفاشي، وموجب كهذا لا يمكن قبوله شرعا لإثبات الضرر بالسماع، إلا أن يشهد الشهود بأن إساءة الزوج لزوجته تكون من غير ذنب جنته”[20] ونعارض في هذا الصدد توجه المجلس الأعلى هذا الذي سار في حقيقة الأمر إلى تطبيق نوع من الحيف في حق هذه الزوجة، لأنه و المعلوم أن إضرار الزوج بزوجته كان في مكان مغلق عن أعين الشهود وهو البيت فكيف لهم أن يعلموا حقيقة كون إضرارا الزوج بزوجته قد كان من غير ذنب منها والحال هته.

فالتشدد والتضييق في مسألة الضرر مفهوما وإثباتا وتقديرا، وما خلفه من آثار سلبية على حق المرأة في التطليق، هو من الأسباب التي دفعت بالمشرع المغربي إلى استحداث مسطرة الشقاق، حيث تناولها بالتنظيم كمسطرة أصلية في المواد من 94 إلى 97 من مدونة الأسرة، كما تطرق لها كمسطرة احتياطية في العديد من مواد المدونة[21]، لكن هذه الأخيرة لم تعمل على تعريف الشقاق، وهو الأمر الذي استدركه عنها الدليل العملي حينما عرفه بأنه الخلاف العميق والمستمر بين الزوجين بدرجة يتعذر معه استمرار العلاقة الزوجية[22]. وهو التعريف الذي سبق للقضاء المغربي أن كرسه، حيث جاء في حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالرماني[23] ما يلي:” إن الشقاق هو الخلاف العميق والمستمر بين الزوجين لدرجة يتعذر معها استمرار العلاقة الزوجية…وهو مفهوم واسع عام لا يشمل حالة معينة” وهو نفس التوجه الذي سلكته في تعريفه المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء في أحد أحكامها[24]، حينما اعتبر الشقاق كونه الخلاف والنزاع الحادين بين الزوجين والذي من شأنه أن يحدث شقا في العلاقة الزوجية بينهما.

وعلى نهج المدونة مضت العديد من التشريعات العربية المقارنة، حيث أقرت مسطرة الشقاق في قوانينها الأسرية، فالمشرع الجزائري تطرق لها في المادة 56 من قانون الأسرة الجزائري التي تنص على أنه:” إذا اشتد الخصام بين الزوجين ولم يثبت الضرر، وجب تعيين الحكمين” كما تطرق المشرع المصري لنفس المسطرة في المادة السادسة وما يليها من قانون الأحوال الشخصية، حيث نصت هذه المادة على ما يلي:”…فإذا رفض الطلب وتكررت الشكوى ولم يثبت الضرر بعث القاضي حكمين وقضى على الوجه المبين بالمواد 7و8و9و10و11″ كما نص القانون الأردني على مسطرة الشقاق كذلك في المادة 126 من قانون الأسرة الأردني حيث نصت على أنه:” لأي من الزوجين أن يطلب التفريق للنزاع والشقاق إذا ادعى ضرر ألحقه به الطرف الآخر يتعذر معه استمرار الحياة الزوجية…” وتعليقا على هذه المادة قال الدكتور محمد علي السرطاوي[25] بأنه “إذا ظهر نزاع وشقاق بين الزوجين فلكل منهما أن يطلب التفريق إذا ادعى إضرار الآخر بيه قولا أو فعلا بحيث لا يمكن مع هذه الأضرار استمرار الحياة الزوجية”

صفوة البيان تدفعنا إلى القول أن تنصيص المشرع على مسطرة الشقاق في المدونة وكذا معظم التشريعات العربية المقارنة في قوانينها الأسرية، ليس إلا تحصيل حاصل، ونحن نعلم أن هذه الدول تتخذ من المذاهب الفقهية منهلا لها عند تقنينها للأحوال الشخصية، وأن جل المذاهب الفقهية إن لم نقل كلها تقر وتندب إلى الإصلاح بين الزوجين عن طريق بعث الحكمين عند وجود شقاق طال أحوالهما، وكل ذلك منبثق من سراج وهاج يتمثل في القرآن كريم والسنة النبوية العطرة.

المطلب الثاني: إجراءات ممارسة دعوى الشقاق والحكم الصادر بشأنها

إذا عجزت الزوجة عن إثبات الضرر المبرر للتطليق أمام القضاء فإن هذه الأخير يغض الطرف عن هذا الطلب، لكن الزوجة التي تصر على التطليق رغم فشلها في إثبات الشرر خول لها المشرع المغربي إمكانية اللجوء لمسطرة الشقاق، وذلك بصريح الفقرة الثانية من المادة 100 من المدونة التي جاء فيها :”إذا لم تثبت الزوجة الضرر، وأصرت على طلب التطليق، يمكنها اللجوء إلى مسطرة الشقاق”.

جاء في الدليل العملي للمدونة[26] تعليقا على هذه الفقرة أنه:” عند عدم ثبوت الضرر وتشبث الزوجة بطلب التطليق، أمكنها تقديم طلب إلى المحكمة يرمي إلى حل نزاع مع زوجها على أساس الشقاق دون حاجة إلى فتح ملف جديد في الموضوع “.

من خلال التمعن في النصين السالفين الذكر، يتضح أن مسطرة التطليق للشقاق في هذه الحالة قاصرة على الزوجة دون الزوج، وذلك عندما تعجز عن إثبات الضرر المزعوم لحوقه بها، فتلجأ إلى التطليق للشقاق الذي لا إثبات فيه، وهو نظر ينسجم مع التوجه العام الذي تبناه مشرع مدونة الأسرة سواء مورس بالأصالة أو بالتبع، تلقائيا أو بناءا على طلب[27].

وعليه، سنقسم مضامين هذه الفقرة إلى فقرتين، نخصص (الفقرة لأولى) للحديث عن تقديم طلب الشقاق من الزوجة وانتداب المحكمة لمؤسسات الصلح لأجل الإصلاح، على أن نتطرق في (الفقرة الثانية) إلى نجاح أو فشل محاولات الصلح المقامة والآثار المترتبة عن ذلك.

الفقرة الأولى: تقديم الزوجة لطلب الشقاق وانتداب المحكمة لمؤسسات الصلح لأجل الإصلاح

قد يتعذر على الزوجة إثبات إضرار الزوج بها، وذلك لخصوصية العلاقة الزوجية[28]، والمشرع المغربي ورغبة منه في رفع الحرج والضرر عن الزوجة عما قد تتعرض له في علاقة لا ترغب في الاستمرار فيها، فإن أحدث مسطرة جديدة لا تكلف الزوجة سوى أن تدعي وقوع نزاع وخلاف حاد مع زوجها بشكل يحول دون استمرار علاقتهما[29].

وعليه، سنقسم هذه الفقرة إلى وحدتين، نخصص (أولا) للحديث عن رفع الزوجة لطلب التطليق للشقاق، على أن نخصص (ثانيا) للحديث عن انتداب المحكمة لمؤسسات الصلح لأجل التوفيق والإصلاح بين الزوجين.

أولا: تقديم الزوجة لطلب التطليق للشقاق

إن الزوجة عندما تطالب بالتطليق للضرر تصطدم بعقبة إثبات لإضرار الزوج بها[30]، حيث إذا لم تقم بإثباته وعجزت عن ذلك، فقد أسعفها المشرع عندما فتح الباب على مصراعيه للجوء لمسطرة الشقاق[31] المنظمة في المواد من 94 إلى 97 من مدونة الأسرة، حيث نصت المادة 94 من مدونة الأسرة على ما يلي:” إذا طلب الزوجان أو أحدهما من المحكمة حل نزاع بينهما يخاف منه الشقاق، وجب عليها أن تقوم بكل المحاولات لإصلاح ذات البين طبقا لأحكام المادة 82 أعلاه.“

ففي هذه الحالة، فالزوجة هي مقدمة طلب التطليق للضرر[32]، وهي التي عجزت عن إثبات الضرر، وهي التي أصرت على المطالبة بالتطليق رغم ذلك، لذلك فهي التي تقدم طلبا إلى المحكمة لحل نزاع بينها وبين زوجها يخاف منه الشقاق[33]، وذلك حسب منطوق المادة 94 والتي يفهم منها أنه يمكن لكلا الزوجين حسب الحالة أن يقدم طلبا لأجل فض نزاع قد يصل مرحلة الشقاق فيما بعد بينه وبين الزوج الآخر.

فإذا كانت الزوجة قد سبق لها في المسطرة الأصلية للتطليق للضرر أن قدمت طلبا أصليا ترمي منه التطليق للضرر، فبعد عجزها عن تحقيق هذه الغاية، تلجأ إلى مسطرة الشقاق في هذه الحالة عن طريق رفعها لمقال إصلاحي، إذ لا يعقل أن يقدم ذلك بمقتضى مقال أصلي وإلا كان تطليقا للشقاق عاديا أي أصليا وليس تبعيا، وكذلك بمقتضى مقال إضافي إذ لا يعقل أن يقدم طلب نوعين من التطليق في نفس الوقت بمقتضى مقال أصلي وإضافي فيكون المسلك الطبيعي لذلك هو مقال إصلاحي يجب ما قبله[34].

فحتى ولو قدم طلب الشقاق بمقال إصلاحي[35]، فلابد لهذا الأخير أن يتضمن مجمل البيانات المقررة في المقال الأصلي، وهي التي صرح بها الفصل 32 من ق.م.م[36]، ويجب كذلك أن يقدم هذا المقال إلى المحكمة المختصة مكانا ونوعا للبت فيه، وفي غالب الأحيان ما تكون هذه المحكمة هي التي سبق لها وأن رفع إليها المقال الأصلي القاضي بالتطليق للضرر، وذلك تفعيلا لمقتضيات الفصل 212 من ق.م.م الذي ينص على أنه:” يقدم وفقا للإجراءات العادية مقال التطليق إلى المحكمة الابتدائية التي يوجد بدائرة نفوذها بيت الزوجية أو موطن الزوجة أو التي أبرم فيها عقد الزواج”.

فبعد إيداع الزوجة لمقالها الرامي إلى تطبيق مسطرة الشقاق ذات الهدف الإصلاحي بكتابة ضبط المحكمة المختصة وتسجيله، يتدخل رئيس المحكمة ليعين قاضيا مكلفا به، حيث هذا الأخير يستدعي الأطراف بالطرق المحددة في الفصل من 36 إلى 41 من قانون المسطرة المدنية في العناوين المبينة في المقال الإصلاحي المرفوع، وإلا أعتبر التبليغ غير سليم مما يعرضه للبطلان هو وما قد يترتب عليه من إجراءات بعده[37]، وهو الأمر الذي سبق لمحكمة النقض أن أبانت عنه في قرار لها[38] جاء فيه:” يتوجب على المحكمة استدعاء الأطراف في عناوينهم المدرجة في المقال المقدم أمامها، ويعتبر استدعاء أحد الأطراف في عنوان آخر وعدم حضوره وصدر الحكم غيابيا في حقه خرقا لقواعد الدفاع مما يوجب نقض القرار”.

فبعد استدعاء المحكمة للأطراف في عناوينهم وحضورهم، تبدأ إجراءات هذه المسطرة، والتي يطبع عليها إجراء الصلح بشتى الطرق والوسائل التي يعتبر من أبرزها مؤسسة الحكمين[39]، بالإضافة إلى الوسائل الأخرى التي تراها المحكمة كفيلة لإصلاح ذات البين، وهو ما سنتطرق له تبعا لما سيأتي.

قيام المحكمة بمحاولات الإصلاح عن طريق الحكمين وباقي السبل
ندب الدين الحنيف إلى إصلاح ذات البين بين الزوجين وحث على ذلك مصداقا لقوله تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)[40] كما يقول عز من قال (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)[41] وفي ذلك قال خير البشرية صلى لله عليه وسلم (لا أُنبَّئكم بدرجة أفضل من الصلاة والصيام والصدقة ؟ ” قالوا : بلى، قال: ” إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة )[42].

وعلى نفس النهج سارت كل المذاهب الفقهية الإسلامية، حيث رغبة في الإصلاح بين الزوجين بكل السبل لعل أهمها بعث الحكمين لإصلاح ورأب الصدع بين الزوجين، وعلى سبيلهم غدت كل التشريعات العربية المقارنة[43]، ومنها مدونة الأسرة المغربية[44]، حيث يتميز الصلح طبقا للمواد المنظمة له في مدونة الأسرة بمجموعة من الخصائص يشترك في بعضها مع العقود المدنية الأخرى والبعض الآخر ينفرد به نظرا لخصوصياته في المجال الذي يجرى فيه، حيث يمكن إجمالها فيما يلي:”وقوع نزاع بين الزوجين وسبقية رفع دعوى الشقاق، إلزامية القيام بالصلح من طرف المحكمة، تم رضائية إجراءا الصلح في دعوى الشقاق”[45].

فالمحكمة عند الإدعاء بوجود النزاع والشقاق المستمر بين الزوجين، تلتزم بالقيام بكل محاولات الإصلاح عن طريق المؤسسات المرصودة لذلك، سواء أكان ببعث الحكمين (أ) أو بواسطة مجلس العائلة أو عن طريق المجلس العلمي (ب).

ادعاء الشقاق وانتداب المحكمة للحكمين للإصلاح
نصت المادة 94 من مدونة الأسرة على ما يلي:” إذا طلب الزوجان أو أحدهما من المحكمة حل نزاع بينهما يخاف منه الشقاق، وجب عليها أن تقوم بكل المحاولات لإصلاح ذات البين طبقا لأحكام المادة 82 أعلاه.“

انطلاقا من هذه المادة يتضح أن المشرع حث المحكمة على القيام حسب سلطتها التقديرية بمحاولات الإصلاح بين الزوجين، لكنه لم يبين في نفس النص الطرق والوسائل التي يتم بها هذا الإصلاح، إلا أنه أحال على مقتضيات المادة 82 من نفس القانون، والتي تبين الطرق والمؤسسات التي يتم بها الإصلاح والتوفيق بين الزوجين عند الرغبة في الطلاق، حيث نصت نفس المادة على ما يلي:”… للمحكمة أن تقوم بكل الإجراءات، بما فيها انتداب حكمين…”، يتضح من هذا النص أن أول المؤسسات التي رصدها المقنن المغربي لإصلاح أحوال الزوجين عند الشقاق هي مؤسسة الحكمين[46]، وعلى نهجه حدت معظم التشريعات العربية[47]، وهذه المؤسسة تجد لها تأصيلا في الذكر الحكيم[48]، وقد تناولها فقهاء الشريعة الإسلامية بكثير من الأهمية نظرا لما لها من عظيم الأثر والفضل الكبير للإصلاح بين أعمدة الأسر، قال الناظم:

وإن ثــــــــــــــــبوت الضرر تعذرا لــــــــــــــزوجة ورفعها تـــــــــــكررا

فالـــــــــــــــــــــحكمان بعد يبعثان بــــــــــــينهما بمقتضى القرآن[49]

فالمشرع المغربي أقر ببعث الحكمان لمحالة الإصلاح والتوفيق بين الطرفان، وغالبا ما يكونان من أهل الزوجان، استنادا في ذلك إلى الآية 35 من سورة النساء في القرآن، إلا أنه ليس هناك ما يمنع أن يكونوا من غيرهم إن لم يكن في أهل الزوجان ما يصلح لتقمص هذا الدور العظيم، قال البرادعي في التهذيب:” وإذا قبح ما بين الزوجان وجهلت حقيقة أمرهما بعث الإمام حكما من أهله وحكما من أهلها، من أهل العدول والنظر، فإن لم يكن من أهلهما ما يراه ذلك أهلا، أو لا أهل لهما، بعث من غير الأهلين”[50]. ويشترط في الحكمان العدالة والذكورة والتفقه والعلم بالإضافة إلى كونهما من أهل الزوجين كقاعدة عامة[51].

فالحكمان يقومان بعد بعث القاضي لهما باستقصاء أسباب الخلاف بين الزوجين ويبدلان جهدهما لإنهائه[52]، وهو الأمر الذي سبق لقضاء النقض المصري أن كرسه في أحد قراراته[53] جاء فيها:” …المشرع خول للحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق بين الزوجين ويبدلا جهدهما في الإصلاح فإن أمكن على طريقة معينة قرراها” وهو نفسه ما ذهبت إليه محكمة النقض السورية في قرار لها[54]، جاء فيه:” على الحكمين أن يبدلا الجهد وعقد جلسات في سبيل رأب الصدع”.

فإذا توصل الحكمان إلى الإصلاح بين الزوجين، حررا مضمونه في تقرير من ثلاث نسخ يوقعه الحكمان والزوجان ويرفعانه إلى المحكمة التي تسلم لكل واحد من الزوجان نسخة منه وتحفظ الثالثة ويتم الإشهاد على ذلك من طرف المحكمة، وتقرير الحكمان بمثابة وثيقة رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور، كما سبق لمحكمة النقض السورية وأن صرحت بذلك في قرار لها، جاء فيه:” تقرير الحكمان من الأسانيد الرسمية التي لا يطعن فيها إلا بالتزوير ولا رقابة لمحكمة النقض على قناعة الحكمين”[55].

وفي حالة ما إذا اختلف الحكمان في مضمون التقرير أو في تحديد المسؤولية، أو لم يقدماه خلال الأجل المضروب لما من قبل المحكمة، أمكن لهذا الأخير أن تجري من الأبحاث الإضافية والوسائل الكافية ما تراه ملائما للإصلاح[56]، ولعل من أهمها اللجوء إلى عقد مجلس العائلة أو عند الاقتضاء الاستعانة بالوساطة الأسرية، وكل ذلك في سبيل التوفيق والسداد بين الزوجين.

ومما تجدر الإشارة إليه أخير، أن المشرع المغربي إن كان في المدونة قد قصر سلطة الحكمين في التوفيق والإصلاح بين الزوجين، وترك إمكانية التفريق بينهما للقاضي حصرا، فإن هناك من التشريعات من وسعت من سلطة الحكمين إلى أبعد مدى، حيث اعترفت لهما بالحق في التفريق بين الزوجين عند فشل محاولات الصلح المقامة، ومن أمثلة هذه التقنينات نجد المشرع الأردني في الفقرة (و) من المادة 138 من قانون الأحوال الشخصية الأردني والذي جاء فيه:” إذا ظهر للحكمين أن الإساءة من الزوجين قررا التفريق بينهما على تسلم من المهر بنسبة إساءة كل منهما، وإن جهل الحال ولم يتمكن من تقدير نسبة الإساءة قررا التفريق بينهما على العوض الذي يريان أخذه من أي منهما”، وهذا التوجه في نظرنا يجد سنده في بعض أراء المذاهب الفقهية أهمها مذهب المالكية والحنبلية.

الإصلاح بين الزوجين بواسطة مجلس العائلة والمجلس العلمي
أحال المشرع في المادة 94 من مدونة الأسرة على المؤسسات المرصودة للإصلاح بين الزوجين الواردة في المادة 82 من نفس القانون، حيث جاء في هذه الأخيرة:” للمحكمة أن تقوم بكل الإجراءات، بما فيها انتداب حكمين أو مجلس العائلة، أو من تراه مؤهلا لإصلاح ذات البين. وفي حالة وجود أطفال تقوم المحكمة بمحاولتين للصلح تفصل بينهما مدة لا تقل عن ثلاثين يوما.”

انطلاقا من مضامين النص القانوني أعلاه، يتضح أن القيام بالإصلاح بين الزوجين، يعد أحد أهم أوجع الحماية القانونية والقضائية الهادفة بالأساس إلى الحفاظ على كيان الأسرة من التشتت والضياع[57]، ويعتبر مجلس العائلة إلى جانب مؤسسة الحكمي من المؤسسات التي أقر بها المشرع المغربي لأجل الإصلاح بين الزوجين، وهو من مستحدثات تعديل ظهير 10 شتنبر 1993، حيث تم التنصيص عليه في الفصل 56 مكرر، وهذا التعديل الذي جاء كإضافة أخرى لمساعدة الجهاز القضائي[58] في إيجاد الحلول البديلة والسريعة لحل القضايا الشائكة داخل الأسرة، في الحالات التي لا تنفع معها المساعي الحبية الأخرى، وقد حددت مقتضيات هذا المجلس وأحكامه بمقتضى المرسوم 2.04.88 الصادر في 25 ربيع الأخير 1425 الموافق ل 14 يونيو 2004 ناسخا بموجبه مقتضيات المرسوم[59] 26 دجنبر 1994 كما نصت عليه مدونة الأسرة في المادة 251 مؤكدة أن اختصاصه وتكوينه ومهامه ستحدد بمقتضي نص تنظيمي[60].

وفعلا فقد صدر مرسوم2.04.88 في 25 من ربيع الآخر 1425 الموافق ل 14 يونيو 2004[61] ناسخا بموجبه مقتضيات المرسوم رقم 2.94.31 الصادر في 26 دجنبر 1994، كما صدرت بموازاته العديد من المناشير الوزارية من أجل تفعيل مقتضياته[62].

فرغبة من المشرع في تكريس آلية الوساطة كأحد الحلول المعول عليها لفض المنازعات الأسرية، تظهر شاخصة من خلال ما أشير إليه في ديباجة مدونة الأسرة من الرغبة في تعزيز آليات التوفيق والوساطة بتداخل الأسرة والقاضي[63]. فبمجرد ادعاء الزوجة للشقاق بينها فيمكن للقاضي أن يدعوا إلى انعقاد مجلس العائلة كمؤسسة للتوفيق بين الزوجين، ويتألف المجلي حسب منطوق المادة الأولى[64] من المرسوم المنظم له من القاضي بصفته رئيسا، بالإضافة إلى الأب أو الوصي أو المقدم، وأربعة أعضاء يعينهم رئيس المجلس – أي القاضي – من الأقارب والأصهار بين جهة الزوج وجهة الزوجة، وإذا تعذر توفرهم من الجهتين أمكن تكوينهم من جهة واحدة.

وتعتبر مهام هذا المجلس مهام استشارية، حيث يقوم بالتحكيم والإصلاح بين ذات البين، وبإبداء رأيه في كل ما يتعلق بشؤون الأسرة، وهو ما نستشفه من مضمون المادة 7 من القانون المنظم للمجلس، والذي جاء فيها:” مهام مجلس العائلة مهام استشارية. يقوم مجلس العائلة بالتحكيم لإصلاح ذات البين، %D