مقترح رسالة ماجستير بعنوان اثبات جرائم المرور بالوسائل العلمية الحديثة

هذا جزء من المقترح

من الثابت أن تقدم وسائل النقل الآلي له دور كبير وهام في تقدم المجتمعات البشرية المعاصرة وتطورها ، إذ كلما تقدمت المجتمعات البشرية وتمدنت ازداد استخدام المركبات الالية المتطورة لتفي بحاجاتها المختلفة ، حتى أضحى استخدام المركبات الآلية ضرورة لا غنى عنها بالنسبة لأجهزة الدولة المختلفة ، أو للكثير من الأفراد على حد السواء ، وذلك ناشئ عن تعقد الحياة الإنسانية وتشابكها وتزايد حاجات الأفراد إضافة إلى حرصهم على توفير الوقت والجهد في تحقيقها ، مما أدى بهم إلى استخدام وسائل نقل آلية وسريعة في الوقت ذاته لقضاء مصالحهم ، ومن أجل ذلك نلاحظ دائماً تزايداً مستمراً في اقتناء الأفراد والهيئات للمركبات الآلية ، والذي يعود في النهاية على المجتمع بمصلحة عامة في سرعة سير عجلة التنمية الاجتماعية ، غير أنه لا يخفى ما في استخدام تلك المركبات من خطورة على الأفراد والأموال ، كما أنه لا يخفى من ناحية أخرى ما تحققه تلك الوسائل من نفع متمثل في الوفاء بحاجات المجتمع .( )

وللتوفيق بين هاتين المصلحتين المتعارضتين يتدخل المشرع بوضع القواعد القانونية التي تنظم استخدام المركبات الآلية للطرق العامة بما يحقق تلك المصالح المتعارضة ، وذلك بتقنين الضوابط المنظمة لاستعمال المركبات الآلية ، وترتيب جزاءات ذات أثر جنائي ، باعتبارها الأكثر فعالية في ضمان احترام الأوامر والنواهي التشريعية وما تحميه من مصالح اجتماعية . ( )
وعلى الرغم من تقنين الضوابط المنظمة لاستعمال المركبات الآلية في صورة نصوص قانونية ذات أثر جنائي ، إلاّ أن جرائم المرور لا تزال في تزايد مستمر حتى أصبحت داءً عضالاً يحصد العديد من الأرواح ( ) ، ولا يقتصر أثرها على الدول المتقدمة تكنولوجياً ، بل تمتد إلى البلدان النامية أيضاً .

فهذه المشكلة تزداد خطورتها كل يوم على الرغم من الجهود التي تبذل للحد من هذه المأساة على الطرق العامة سواءً على المستوى المحلي أو القومي ، وما يقابل ذلك من اهتمام متزايد على المستوى المحلي والمتمثل بصفة خاصة في المؤتمرات الدولية والندوات العلمية . ( )
وهذا البحث ( إثبات جرائم المرور في القانون الليبي والمقارن )# يتناول الجانب الأهم في هذه المشكلة المتفاقمة والمتزايدة يوماً بعد يوم كما تشير كافة الإحصائيات ( )، ألا وهو إثبات جرائم المرور.
فالإثبات في اللغة من باب ثبت الشيء ، يثبت ثبوتاً ثباتاً ، إذا دام واستمر فهو ثابت ، ويتعدى بالهمزة والتضعيف ، فيقال أثبته ، وثبته ، ويسمى تأكيد وجود الحقيقة بالبينة إثبات ، ويعني الإثبات على هذا الدليل أو البرهان أو الحجة . ( ) .

أما فقهاً فهو إقامة الدليل المقنع للشخص المحايد على وجود أو عدم وجود حق ، أو وقوع واقعة أو عدم وقوعها ، وبمعنى آخر هو كل وسيلة تصلح أو تؤدي إلى إظهار الحقيقة القضائية المنشودة من أطراف الخصومة ( )، ويراد بالإثبات في المواد الجنائية إقامة الدليل على وقوع الجريمة وعلى نسبتها إلى المتهم ، فيراد به إثبات الوقائع لا بيان وجهة نظر الشارع وحقيقة قصده منها ، فنطاق الإثبات الجنائي لا يقتصر على إقامة الدليل أمام قضاء الحكم ، بل إنه يتسع لإقامته أمام سلطات التحقيق بل وسلطات الاستدلال كذلك ( ).
وبما أن التنقيب عن الأدلة ليس بالأمر اليسير أو الهين خاصة في المواد الجنائية ، وهو ما ينطبق أيضاً على جرائم المرور التي تثير الكثير من الصعوبات من الناحية الإثباتية ، ففضلاً عن وجوب التوفيق بين اعتبارات جمع الأدلة من ناحية وبين عدم عرقلة المرور على الطرق العامة من ناحية أخرى ، هناك من الصعوبات ما يتعلق بوسائل جمع الأدلة في حد ذاتها ، وذلك يتجلى من خلال النظر إلى وسائل الإثبات في جرائم المرور التي هي ذات شقين ، شق موضوعي يتعلق بحالة الطريق والظروف البيئية ومدى ازدحامه بالمركبات الآلية أو المارة أو سرعة المركبات الآلية إلى غير ذلك من الظروف التي تساعد على تقدير عنصر التوقع الممكن للنتيجة التي وقعت لإثبات الخطأ والسببية أو نفيها ، كما قد تكون وسائل الإثبات في جرائم المرور شخصية تتعلق بالحالة النفسية التي يكون عليها أشخاص الحادث وقت وقوعه يستوي في ذلك المجني عليه وقائدي المركبات الآلية الأخرى التي ساهمت في وقوع النتيجة على النحو الذي تحققت به . ( )
ومع ولوج العلم إلى ميدان الإثبات الجنائي ، فإن إثبات جرائم المرور بدأ يأخذ منحنى آخر أصبحت التقنية الحديثة تلعب دوراً كبيراً وهاماً في إثبات العديد من جرائم المرور ، مرجحاً بذلك قوة الدليل المادي على ما سواه من أدلة الإثبات الأخرى ، الأمر الذي جعل إثبات جرائم المرور يدخل في مرحلة جديدة مغايرة ومختلفة عن المرحلة التي سبقته ، وأصبحت للخبرة في هذه المرحلة الدور الرئيسي لإثبات جرائم المرور ولكن خبرة علمية .

إشكالية البحث :

ترمي قواعد الإثبات الجنائي إلى الوصول ألى الحقيقة الواقعية وذلك لن يتأتي إلا من خلال العملية الإثباتية والمتمثلة في البحث عن الدليل الجنائي وتقديمه للقضاء ليقول كلمته على أساسه أما بالإدانة أو البراءة . ( )
إلاّ أن التنقيب عن الأدلة ليس بالأمر اليسير أو الهين خاصة في المواد الجنائية ، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على جرائم المرور التي تثير الكثير من الصعوبات من الناحية الإثباتية ، مما يبرز التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا الصدد وهو عن جدوى إثبات جرائم المرور بطرق الإثبات العلمية .
إن هذا التساؤل نابع من التطور العلمي الهائل الذي أصبح سمة العصر الحالي ، والذي أدى إلى حدوث كثير من التغيرات في مجال البحث والكشف عن الحقيقة ، الأمر الذي ترتب عليه طبع وسائل الإثبات الجنائي في هذا العصر بالصبغة العلمية معلناً بذلك بزوغ فجر مرحلة جديدة في الإثبات الجنائي ألا وهي مرحلة الأدلة العلمية القائمة على الاستعانة بالأساليب العلمية والأجهزة المستحدثة . ( )
ونتيجة لهول ما جرته الحوادث المرورية من مآسي للعالم أجمع فلقد تم تطويع العلم لاختراع العديد من الأجهزة العلمية التي تفيد في كشف وإثبات جرائم المرور ، وذلك في محاولة للحد من هذه الكوارث على الطرقات العامة ، أو الكشف عن مرتكبيها في حال وقوعها حفاظاً على السلامة العامة ، الأمر الذي أدى إلى ولوج العلم في ميدان إثبات جرائم المرور .
ولعل ذلك يظهر جلياً في أجهزة قياس نسبة الكحول في الدم على اختلاف أنواعها ، وسائر وسائل المراقبة الإلكترونية ، وأجهزة التصوير الثابتة والمتحركة التي تعتمد على التقنيات الرقمية ، وجهاز قياس السرعة التاكوغراف ( ) .
ونظراً لحداثة الوسائل المذكورة فإن أغلب التشريعات المقارنة تفاوتت وتباينت وجهات النظر فيما بينها حول هذه الوسائل الأمر الذي يستوجب معه معرفة القيمة العلمية لهذه الوسائل

بداهة ، ومدى صدق النتائج العلمية التي تسفر عنها ومدى مجانبتها للصواب ، قبل التطرق إلى أمر قبولها في مجال الإثبات الجنائي لإثبات جرائم المرور .
أي نتساءل عن مبلغ ما وصلت إليه هذه الوسائل العلمية الحديثة من ثقة وتأكيد العلماء مما يجعلها جديرة بالاعتماد عليها في مجال الإثبات لجرائم المرور .
وفي ظل هذا التطور العلمي الذي أعطى للأدلة المادية قيمة أكبر مما سواها من أدلة أخرى في حقل الإثبات الجنائي ، وتماشياً مع هذا التطور فإن الخبرة أصبحت تلعب الدور الرئيس في إثبات جرائم المرور باعتبارها ( جرائم المرور – حوادث المرور ) في أغلب الأحوال تمس مسائل تتطلب دراية ومعرفة خاصة لا يملكها القاضي الجنائي ، ولعل في تتبع قضاء محاكم المرور ما يلمس توسعاً كبيراً في الاعتماد على الخبرة في هذا المضمار ، سواءً لوحدها أو معززة لغيرها من الأدلة الأخرى .
وإذا كانت المحكمة سلطة تقديرية واسعة في اللجوء إلى الخبرة وتقدير قيمتها الإثباتة انطلاقاً من مبدأ حرية الإثبات في المواد الجنائية والذي تولد عنه ما يسمى بمبدأ القاضي خبير الخبراء ( ) ، فإننا نتساءل عن مدى جواز لجوء الخبير في سبيل أداءه لمهمته إلى أية وسيلة يتيحه له العلم الحديث لتعزيز رأيه بشأن المسألة محل الخبرة .
وتبرز الإشكالية الأخرى لهذا البحث من خلال محاضر المخالفات التي تعتبر حجر الأساس لإثبات معظم جرائم المرور ( خاصة في تشريع المرور الليبي ) والموكول أمر تحريرها إلى مأموري الضبط القضائي المختصين من رجال شرطة المرور ( )، وعن جدوى الركون إلى هذه المحاضر باعتبارها دليلاً قائماً في حد ذاته على ثبوت الفعل في حق الجاني أو

نفيه ، مع تأثيره من إشكاليات تتعلق بصدق الوقائع التي تثبتها هذه المحاضر ، ومدى إمكانية إثبات ما يخالفها بطرق الإثبات الأخرى ( ).

أهمية البحث :

من خلال تطرقنا للإشكاليات التي يثيرها البحث موضوع الدراسة تبرز على الفور أهمية هذه الدراسة التي تتناول موضوعاً على درجة كبيرة من الأهمية باعتباره يمس مشكلة أخذت في التفاقم ألا وهي حوادث المرور كما تشير كافة الإحصائيات ، مما يستوجب معه الالتفات إلى جانب من جوانب هذه المشكلة من الناحية القانونية ألا وهو إثبات جرائم المرور .
وتبرز أهمية هذا الموضوع من خلال قلة الدراسات المتخصصة التي أولت الموضوع اهتماماً يذكر ، مما أولى علينا تناوله بالدراسة والتحليل حيث أنه لم يحظ بدراسة تفصيلية ممنهجة تعرض فكرته أو الكيفية التي يتم بها إثبات هذا النوع من الجرائم ، ناهيك عن ما يثيره الإثبات العلمي من إشكاليات تفرض نفسها في هذا المجال .
وإن كان هناك تعرض لموضوع إثبات جرائم المرور ، فما هو إلاّ شذرات لدى الفقه القانوني ولا تغطي كل ما يثيره الموضوع من إشكاليات .
وهو ما حدا بنا إلى تناوله بالدراسة آملين من الله العلي القدير أن يوفقنا إلى سد هذا الفراغ في المكتبة القانونية .
ومن ناحية أخرى فإن هذا البحث على قدر كبير من الأهمية من الناحية العملية ، إذ أن جرائم المرور في تزايد مستمر كما تؤكد كافة الإحصائيات العالمية مما يترتب عليه ارتفاع نسبة الجرائم التي تعرض أمام قضاء ومحاكم المرور المختصة بالنظر في هذه الجرائم ، الأمر الذي يستدعي بداهة التساؤل عن الكيفية التي يتم بها إثبات هذا النوع من الجرائم ذات الطبيعة الخاصة .
الامر الذي سيؤدي إلى تلمس أوجه القصور أو النقص الذي قد يعتور التشريع المروري الليبي من ناحية إثبات جرائم المرور وإلقاء الضوء عليها في محاولة إلى لفت الانتباه إلى مواطن الخلل ، وسد الفراغ التشريعي في حال وجوده .

فهذه الدراسة هي محاولة خجولة لوضع لبنة أولى لرسم معالم نظرية عامة للإثبات الجنائي في جرائم المرور.

صعوبات الدراسة:

لا يفوتنا بأن نذكر في هذا المقام بأن هناك ثمة صعوبات ستواجه هذه الدراسة وتتمثل في قلة أو فلنقل بدون مبالغة انعدام الدراسات المتخصصة حول هذا الموضوع ، ناهيك عن قلة المراجع التي عالجت إثبات جرائم المرور ، وحتى تلك التي تعرضت لمسألة إثبات جرائم المرور فهي قد تعرضت له بصورة مقتضية وعرضية ، ولم تعره اهتماماً يذكر مما يجعل المسؤولية الملقاة على عاتقنا ثقيلة والمهمة شاقة وعسيرة ، إضافة إلى أن عدم إلمامنا بلغات أجنبية شكل هو الآخر حائلاً دون إمكانية الاستفادة من المراجع المكتوبة بهذه اللغات .
ورغم جسامة هذه الصعوبات فإننا لا ندخر جهداً في سبيل مواصلة مشوار البحث وتحقيق غايته بالتوصل إلى نتائج محددة يمكن أن نؤسس عليها بعض المقترحات التي قد تساهم في إزالة اللبس والغموض حول موضوع الدراسة .

منهجية البحث :

انطلاقاً من طبيعة الموضوع محل البحث وما يثيره من إشكاليات رأينا من الملائم معالجته في إطار منهج مركب يجمع في طياته بين المنهج الاستقرائي التحليلي ، والمنهج النقدي المقارن وذلك راجع إلى قلة المراجع المتخصصة في هذا المجال ، مما حدا بنا إلى المزاوجة بين هذين المنهجين للوصول إلى الغاية المرجوة .
ولن تكتمل غاية البحث إلا من خلال الاستعانة بمنهج البحث المقارن محاولين قدر الإمكان تقصي الاتجاهات الفقهية المختلفة والاجتهادات القضائية إزاء الموضوع واستقراء النصوص التشريعية ذات العلاقة مع إجراء تحليل مقارن كلما اقتضت الحاجة إلى ذلك .

خطة البحث :

إن إثبات جرائم المرور يثير الكثير من الإشكاليات من الناحية الإثباتية ولكن هذه الإشكاليات لا تطال كافة جرائم المرور ، وإنما هي تبرز أو تنحصر بشكل أكثر في جرائم جرائم معينة دون غيرها من جرائم المرور الأخرى ، مما يستوجب معه تركيز البحث على هذه الجرائم دون غيرها من جرائم المرور الأخرى(دون اغفال باقي جرائم المرور التي سنتعرض لها) ، ومن ثم فإننا سنتناول موضوع الدراسة من خلال فصل تمهيدي نعرض فيه لمبادئ عامة إضافة إلى الإشكاليات التي تمس كافة جرائم المرور ، إضافة إلى ثلاثة فصول أخرى وخاتمة .