دراسة وبحث قانوني عن تأهيل المهن القضائية

عرض من تقديم الأستاذ نور الدين حنيكيش

رئيس المجلس الجهوي للمفوضين القضائيين بآسفي

مقدمة :

يعتبر ورش إصلاح منظومة العدالة من الاوراش الكبرى والمهمة في بلادنا ، وذلك في أفق استكمال دولة الحق والقانون والمؤسسات ، وباعتباره أيضا اختيار استراتيجي لا رجعة فيه.

ومما لا شك فيه أن هذا النهج نابع من إرادة ملكية راسخة وداعمة لهذا الاختيار المبني على المقاربة التشاركية والمندمجة لجميع القطاعات الحيوية والفعاليات المؤهلة المعنية بإصلاح منظومة العدالة ومنها على الخصوص المهن القانونية والقضائية المرتبطة بقطاع العدل.

ومن هذا المنطلق تعتبر مهنة المفوض القضائي من المهن القضائية الفاعلة في النسيج القضائي المغربي نظرا لدورها الهام والمحوري من خلال الإجراءات القضائية التي تضطلع بها انطلاقا من عملية التبليغ والى مسطرة التنفيذ مرورا بإنشاء الحجج وانجاز الأبحاث والمعايانات وتبليغ الإشعارات والإنذارات وباقي المساطر المختلفة التي يحتاجها المتقاضي أثناء مرحلة الدعوى.مما يساهم بشكل عام في تحقيق الأمن القضائي وجعل القضاء في مفهومه الشامل في خدمة المواطن.

إلا أن مؤسسة المفوض القضائي وكباقي المهن القضائية الأخرى تحتاج بدورها إلى التأهيل والإصلاح من خلال مجموعة من المرتكزات الأساسية للنهوض بهذه المهنة والرفع من مستوى أدائها حتى تلعب الدور المنوط بها داخل منظومة العدالة.

وسأحاول التطرق بإيجاز من خلال هذا العرض إلى المحاور التالية :

1)) : القانون المنظم للمهنة ، الحاضر وتحديات المستقبل.

2)) : تأهيل وتحديث مهنة المفوض القضائي.

3)) : التكوين وتخليق المهنة من خلال المراقبة والتأديب.

4)) : تحسين الأوضاع المادية والاجتماعية للمفوضين القضائيين وتوفير الحماية لهم.

5)) : بعض الإشكاليات المطروحة واقتراح الحلول الملائمة.

أولا )) القانون المنظم للمهنة بين الحاضر وتحديات المستقبل :

لقد كان قطاع العدالة ببلادنا وإلى عهد قريب يعاني من طول عمر القضايا المعروضة على القضاء وضعف نسبة التبليغ والتنفيذ ، ففطنت الحكومة المغربية إلى تدارك الموقف وذلك بعدما قامت باستشارات عديدة مع مجموعة من الدول التي سبقتنا في هذا المجال وأبانت عن نجاعة تحرير مساطر التبليغ والتنفيذ ، بحيث صدر الظهير الشريف بتاريخ 25/12/1980 بتنفيذ القانون رقم 41.80 بتنظيم مهنة الأعوان القضائيين ، ولم يتم العمل به إلا في غضون سنة 1990 وبعد مرور سنوات عن هذه التجربة ، ظهر لــوزارة

العدل نجاعة المهنة ونجاحها في تحقيق الأهداف التي جاءت من أجلها فتم تغطية باقي محاكم المملكة بالأعوان القضائيين ، بعد ما كان الأمر في البداية يشمل بعض المحاكم فقط.

ورغبة من المشرع المغربي في تطوير هذه المهنة والرفع من مستواها فقد صدر ظهير شريف رقم 1.06.23 بتاريخ 14 فبراير 2006 بتنفيذ القانون رقم 81.03 بتنظيم مهنة المفوضين القضائيين والمرسوم التطبيقي المؤرخ في 28/10/2008 بتطبيق إحكام هذا القانون فتم تغيير التسمية إلى المفوضين القضائيين كما تم تغيير شروط الولوج إلى المهنة وكذا الشهادة العلمية المطلوبة للترشح للمبارات والخضوع لتكوين نظري وتطبيقي بكل من المعهد العالي للقضاء وبمكاتب المفوضين القضائيين وبالمحاكم الابتدائية وإحداث الهيئة الوطنية والمجالس الجهوية.

إلا أن القانون 81.03 لم يخلو من مجموعة من الانتقادات والملاحظات من طرف المهنيين والمهتمين بهذا الشأن خصوصا فيما يتعلق أولا بالاختصاصات التي تم تقليصها واستثناء بعضها ( المادة 15 ) علما بأن المادة الثانية من القانون 41.08 لم يتم التنصيص فيها على أي استثناء ، مما يجعل التساؤل مطروحا حول أسباب هذا التراجع خصوصا وأن المهنة راكمت تجارب مهمة وخبرة عالية في مجال التبليغ والتنفيذ لمدة عقدين من الزمن ، وبالتالي كان من المفروض تمكين هذه المؤسسة من مهام واختصاصات أخرى تساهم في اقتصاد البلاد وتشجع على الاستثمار الوطني وتسرع إنعاش الدورة الاقتصادية هذا بالإضافة إلى ما يخلقه هذا الوضع من ازدواجية التبليغ والتنفيذ بين مؤسسة المفوض القضائي وكتابة الضبط التي تجد صعوبة كبيرة بين

….//3 //….

التوفيق بين عملها الإداري وتدبير الإجراءات القضائية والمسطرية اليومية وبين العمل خارج بناية المحكمة وما ينتج عن ذلك من ضياع لحقوق المتقاضين الوافدين على تلك الأقسام إضافة إلى التراكم وإنهاك الموظفين بأعمال مزدوجة الشيء الذي يؤثر سلبا على النجاعة والسرعة والجاهزية لتلبية طلبات المواطنين.

ولذلك فانتظارات المفوضين القضائيين وباقي الفاعلين بالشأن المهني يتطلعون إلى قانون حداثي متطور على مستوى التشريع وهيكلة المهنة يواكب في تصوراته التطورات الحاصلة في بلادنا وكذا المشروع المجتمعي لإصلاح منظومة العدالة في إطارها الشمولي وحتى يكون هذا القانون قاطرة ونظاما يحتدى به من طرف الدول التي ترغب في اعتماد هذا النظام كبديل عن أساليب التبليغ والتنفيذ العقيمة التي أبانت مع مرور الوقت عن فشلها وعدم نجاعتها .

ولهذا فالمتغيرات التي سيأتي بها هذا القانون يجب أن تكون نابعة من إرادة حقيقية صادقة وتتميز بالقطيعة مع أساليب الماضي ، خاصة هاجس التردد من التفعيل القانوني لاستقلالية المهنة والطابع الاحتكاري لها كما هو الشأن بالنسبة للنظامين التونسي والجزائري مثلا واللذان خطيا خطوات هامة في هذا المجال كما يجب كذلك إلغاء هاجس عدم التفاعل الايجابي مع المهنة المغلف بعدم التسرع والخوف من انزلاق المهنة وضبط آليات نموها بمقاسات مختبرية جاهزة على اعتبار أن اقتحام المفوض القضائي لجميع اختصاصاته بالمقاييس الدولية أحد مظاهر استقلال الإثبات والتنفيذ.

وتجدر الإشارة أن مؤسسة قاضي التنفيذ وفق المقتضيات التي تضمنها مشروع المسطرة المدنية يعتبر تراجعا خطيرا عن المكاسب الايجابية التي حققتها المهنة وتكريسا غير مبرر للتعقيدات المسطرية والبروقراطية المكشوفة المقتبسة من قوانين عربية مهترئة وعتيقة لا تواكب الطفرة الدستورية والسياسية والحقوقية النوعية التي يعرفها بلدنا ، وبالتالي سنرجع بالمهنة عقودا إلى الوراء لننتج من جديد تخلفا معرفيا وقانونيا نحن في غنى عنه ، وسنعود إلى منطق السخرة بدل استقلالية إجراءات التنفيذ التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من استقلال القضاء.

ومن تم وجب التأكيد من جديد على رفض هذا المقتضيات والتي نعتقد ومن حسن الحظ ربما أنها وضعت قبل بدء ورش الإصلاح العميق لمنظومة العدالة التي نتق حتى الآن في مرجعياته ومنهجيته ونتائجه.

وفي هذا الصدد يجب تعديل بعض المقتضيات في إطار تحديث المنظومة القضائية بما يحقق الأهـــــــداف والمتطلبات التالية :

– التأكيد على الصفة الضبطية للمفوض القضائي باعتباره ضابطا عموميا يمارس إجراءات قضائية هي من مهام السلطة العمومية.

– إسناد مهام التبليغ والتنفيذ حصريا للمفوضين القضائيين وتفعيل مبدأ الاحتكارية والتخصص.

– منح الهيئة الوطنية وأجهزتها مزيدا من الاختصاصات والوسائل القانونية حتى تضطلع بمهامها على مستوى التأطير والإشراف والمراقبة والتأديب.

– الرفع من مستوى التكوين للمفوضين القضائيين المتمرنين إلى سنتين بدل ستة أشهر.

– تمكين المفوضين القضائيين من ولوج باقي المهن القضائية بشروط مع الاستفادة من الإعفاء من المباريات كما هو الشأن بالنسبة للمهن الأخرى.

– خلق مدونة التبليغ والتنفيذ كمرجعية وحيدة لجميع الإجراءات الخاصة بتبليغ وتنفيذ الأحكام القضائية وتحصيل الديون العمومية.

– اعتماد نظام الشركة المدنية المهنية بدل عقد المشاركة.

– اعتماد الدقة في المصطلحات القانونية الواردة في بعض الفصول كمصطلح يتعين ويمكن بدل كلمة يجب والتي خلقت مشاكل كبيرة وفتحت عدة تأويلات عادت بالمهنة لعدة سنوات إلى الوراء محدثة بذلك نقاشا بزنطيا لم يفد مصالح المتقاضين في شيء.

ثانيا )) تأهيل وتحديث مهنة المفوضين القضائيين :

أ – معطيات حول مؤسسة المفوض القضائي :

تتوفر هذه المؤسسة على هيئة وطنية يتواجد مقرها بالرباط وتضم جميع المفوضين القضائيين رسمين ومتمرنين وينبثق عنها ثلاثة عشر مجلسا جهويا ، بحيث بلغ عدد المفوضين بما مجموعه 1232 منهم 1096 ذكور بنسبة 89 % و 136 إناث بنسبة 11 %.

….//5 //….

ويتضح من خلال هذه الإحصائيات انخفاض نسبة العنصر النسوي بهذه المهنة وأن السبب في ذلك يرجع إلى طبيعة المهنة التي تحتاج بالإضافة إلى المجهود الذهني والفكري القانوني إلى مجهودات عضلية نتيجة لوعورة المسالك والتضاريس التي ينتقل المفوض إليها ولطول المسافات ، وثانيا لحداثة تجربة ولوج المرأة إلى هذه المهنة على اعتبار أن الوزارة لم ترخص لهذه الفئة لمزاولة المهنة إلا في سنة 2005.

وتجدر الإشارة إلى أن الهيئة الوطنية في تصورها لهذه المسألة لا تقيم إطلاقا أي تميز بين العنصرين ، بل بالعكس تحتاج إلى هذه الفئة التي أبانت بدورها عن كفاءة وتضحية كبيرة من أجل إيصال الحقوق إلى أصحابها في الوقت المناسب رغم بعض المعوقات والاكراهات التي تعترض عملها.

ب – تنظيم المهنة وهيكلة أجهزتها.

لقد أسند المشرع للهيئة الوطنية والمجالس الجهوية اختصاصات محدودة في مجال التنظيم والإشراف على شؤون المهنة ، بحيث جاء دور هذه الأجهزة محدودا جدا و لا يرقى إلى مستوى المسؤولية التي يجب أن تحظى بها ، ورغم ذلك فقد عملت الهيئة الوطنية ومجالسها بالدور المنوط بها وبالوسائل المتواضعة المتاحة لها وأبانت عن كفاءة في التنظيم من خلال تدبير وتنظيم معظم مكاتب التنسيق والاستخلاص ضمن تصورها ومساهمتها في إنجاح أهداف قضاء القرب ، ولهذا وكما سبق الذكر يجب على المشرع رفع الوصاية على مؤسسات المهنة وتمكينها من كافة الوسائل القانونية لتكون مؤهلة للإشراف والمراقبة والتأطير والتأديب نظرا للتجربة التي راكمها المفوض القضائي في عدة مجالات ومنها عملية التنظيم والتأطير كما أن المشرع مدعو كذلك إلى التقليص من عدد المجالس حتى تكون قوية ومهيكلة ولها مداخيل كافية تؤهلها للقيام بهذه المهام على الوجه الأكمل.

أما على مستوى المكاتب فيجب أن يتوفر المفوض القضائي على مكتب لائق ومناسب لممارسة المهنة وأن يكون متميزا عن المحلات التي تمارس فيها نشاطات أخرى ، كما يجب أن تتوفر فيه الضمانات الكافية لاستقبال الوثائق والودائع وجميع المستندات الأخرى ، حفاظا على حقوق المتقاضين. وهذا قد تم تنظيم هذه الشروط في الفصل الثاني من الباب الأول من النظام الداخلي للهيئة الوطنية والمجالس الجهوية.

…//6 //….

إلا أن هذه الشروط لا يمكن أن تتحقق دون تحسين الأوضاع المادية للمفوضين القضائيين كما سيأتي بيانه.

ج- حول شروط الولوج إلى المهنة :

لقد حددت المادة الرابعة من القانون 81.03 مجموعة من الشروط لمزاولة المهنة ، ومن بينها الحصول على شهادة الأجازة في الحقوق أو الشريعة الإسلامية مع اجتياز مبارة الولوج واختبار نهاية التمرين.

إلا أن الشهادة العلمية لا تكفي وحدها لإيجاد مفوض قضائي مكون ومؤهلا تأهيلا قانونيا يمكنه من خلال ذلك الدخول ميدان الاحترافية والتخصص.

ولبلوغ هذه الأهداف لا بد من توسيع قاعدة ولوج المهنة بالانفتاح على الكفاءات التي تضيف قيمة نوعية للمهنة ولا بد من إخضاع المفوض المتمرن الناجح في المبارات لتمرين معقلن ومتكامل لمدة سنتين ، يقضي السنة الأولى في المعهد العالي للقضاء ويكون ذلك بشراكة من الهيئة الوطنية وممثلي بعض الجامعات المتخصصة وذلك حتى يكون التكوين شاملا لجميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمالية وليس القانونية فقط على اعتبار أن المفوض القضائي يتعامل مع جميع شرائح المجتمع بدون استثناء.

ثم يقضي السنة الثانية بمكاتب المفوضين القضائيين المشهود لهم بالكفاءة والتجربة والمهنية وذلك باقتراح من الهيئة الوطنية وكذلك بالمحاكم الابتدائية وبعد نهاية فترة التكوين يتم اجتياز امتحان التخرج ومناقشة بحث نهاية التمرين يمنح للمفوض القضائي بعد النجاح شهادة الكفاءة المهنية ، بدل الترخيص لمزالة المهنة الذي أصبح لا يساير الطفرة الحقوقية والقانونية وكذا التصور المستقبلي لمشروع تأهيل وتحديث المهن القضائية ضمن منظومة إصلاح العدالة.

ثالثا )) التكوين وتخليق المهنة من خلال المراقبة والتأديب

مما لا شك فيه أن قوة أية مهنة من المهن القضائية تكمن في سلوك الثقافة القانونية لأنها هي السلاح الأساسي لكل ممارس مهني. وبالنسبة لمهنتنا فإنها تمنح للمفوض القضائي إمكانية التصدي لكل الإشكالات المتعلقة بالتنفيذ على الخصوص وذلك في غياب نصوص قانونية واضحة أو نصوص قانونية حاضرة لكنها أصبحت لا تستجيب لحركية العصر ويصعب بالتالـي تنزيلها على أرض الواقع.

ولذلك فقد فطنت الهيئة الوطنية بالأمر وقامت بتنظيم مجموعة من التظاهرات العلمية والقانونية وذلك بشراكة مع الإتحاد الدولي للمفوضين القضائيين والضباط العموميين وكذلك بانفتاحها على محيطها الثقافي .