دراسة وبحث قانوني قيم عن حقوق الإنسان في الفكر العربي المعاصر

جاد الكريم جباعي

ليست مسألة حقوق الإنسان، في أي مجتمع من المجتمعات، وفي أي زمان من الأزمنة، مسألة بديهية، مع أنها تبدو لنا اليوم كذلك، بل هي مسألة مرتبطة بنمو الروح الإنساني وانبساطه في التاريخ وفي العالم، مسألة مرتبطة بنمو الوعي والوجدان والفكر والدين والأدب والفن… وأشكال التنظيم الاجتماعي – السياسي التي تعيّنها، في كل مكان وزمان، عملية ( سيرورة ) الإنتاج الاجتماعي، إنتاج البشر لوجودهم الاجتماعي وشروط معاشهم وعلاقاتهم الاجتماعية وثروتهم المادية و الروحية. وعملية الإنتاج الاجتماعي تحمل في تعينها الفردي، بعداً طبقياً أولاً ومجتمعياً ( قومياً ) ثانياُ وإنسانياُ عاماً وكلياُ ثالثاً. وهي أبعاد تحددها العلاقة بين ماهية الإنسان الجوهرية وكينونته الاجتماعية وخصائصه الفردية، الجسدية والنفسية والذهنية. وإذا كان التاريخ تنويعة على الأشكال، فإن تاريخ ” حقوق الإنسان ” تنويعة على أشكال الوعي الاجتماعي، وسمفونية متموجة على لحن الحرية.
وليست حقوق الإنسان، كذلك، مسألة خاصة بهذه الأمة أو تلك أو بهذا الشعب أو ذاك، إلا بقدر ما يكون الخاص تعبيراُ عيانياً عن العام والكلي، وإلا كنا إزاء أيديولوجيا عرقية عنصرية، ونزعة تمركز على الذات ترى في المحرز الإنساني العام صفة أنثروبولوجية ل” شعب الله المختار”. كلية هذه المسألة تعبير عن كلية الإنسان، الكائن الذي ينتج نفسه في التاريخ وفي العالم، ليصبح التاريخ تاريخه والعالم عالمه. فليس من معنى للحديث عن حقوق الإنسان الأوروبي، أو حقوق الإنسان الأمريكي أو حقوق الإنسان العربي أو حقوق الإنسان في العالم الإسلامي إلا في إطار الضمانات الدستورية والقانونية التي توفرها كلياً أو جزئياً أو لا توفرها الدولة الوطنية ( القومية ) والنظم الإقليمية والمنظمات العالمية. وفي هذا المستوى تغدو المسألة مسألة سياسية تتعلق بالفلسفة السياسية وشكل الحكم ونمط التنظيم الاجتماعي في كل دولة أو تجمع إقليمي. وهذا يدعونا إلى أن نفصل بين / أو نميز ثلاثة مستويات في المسألة نفسها، وكل فصل هو وصل، أول هذه المستويات هو المستوى الفكري / الفلسفي وهو مستوى عام على اختلاف صيغه وتعبيراته، وعموميته هذه مؤكدة في كونية العقل ، وكلية الروح الإنساني، وفي دين الإله الواحد. وثانيهما هو المستوى السياسي المحدد بالثقافة القومية الخاصة بهذه الأمة أو تلك، والمتعلق بنظام الحكم وعلاقة الدولة بالمجتمع والسلطة بالشعب في كل دولة على حدة. ، وثالثها هو المستوى الحقوقي الذي يحيل إجرائياً على نمط السلوك السياسي العملي للأفراد والجماعات و (التضامنيات ) والمؤسسات الأيديولوجية والسلطات السياسية.

الاستلاب والاستلاب السلعي في ظل الرأسمالية

عملية الإنتاج الاجتماعي وما تعيّنه من علاقات اجتماعية مرتكزة على أشكال ملكية وسائل الإنتاج هي، في كل مكان وزمان، عملية تناقضية، فهي، من جهة، عملية اغتراب أو استلاب يموضع فيها الإنسان ذاته، أي يحولها بالعمل إلى موضوعات له، ويضع بها أفضل ما في ذاته وأجمله خارج ذاته في صورة منتجات مادية وعلاقات اجتماعية وقيم أخلاقية ومؤسسات ونظم سياسية، وهي من جهة ثانية عملية تملك، تتعدى تلبية الحاجات الضرورية والكمالية إلى تحويل الواقع المتعّين إلى صورة ذهنية ومفاهيم وعلاقات عقلية مثالية، إلى وعي. فالوعي، الذي تتعلق به مسألة حقوق الإنسان هو الوجود مدركاً على نحو ما، إدراكاً صحيحاً أو محوّراً ، وهمياً وإيهاميا، وفق الشروط المعرفية / النفسية / الاجتماعية المعطاة تاريخياً.

العمل البشري بعناصره الأساسية، الذات الفاعلة الواعية والهادفة والمادة المنفعلة ( موضوع العمل ) والوسيلة والغاية، يحول ما هو ذاتي، فاعلية الإنسان الحية، الذهنية والنفسية والحركية، إلى شيء موضوعي، ويحول ما هو موضوعي إلى مثالي والمثالي إلى واقعي ،إن كل إنتاج هواغتراب أو استلاب وكل إنتاج هو تملك في الوقت ذاته. حتى هذه اللحظة ما زلنا إزاء العلاقة الأولية البسيطة، ولكن الحاملة جميع العلاقات اللاحقة إلى ما لا نهاية، العلاقة بين الحرية والضرورة الطبيعية العمياء، حتى دخلت الملكية الخاصة ضرورة اجتماعية جديدة حالت ولا تزال تحول دون تملك الإنسان المنتج نتاجات عمله واستعادة ذاته المضيعة، استعادة حريته، فالحرية هي الاستقلال والذاتية ، فما لم يمتلك الإنسان عالمه الذي وضع ذاته فيه امتلاكاً حقيقياً، فعلياً ، سيظل التاريخ هو تاريخ استلاب الإنسان أو تنويعة على أشكال الاستلاب التي بلغت ذروتها في الاستلاب السلعي في النظام الرأسمالي العالمي، و لا سيما في الرأسمالية الأمريكية المعاصرة وليبراليتها الاقتصادية المنفلتة من كل عقل وعقال، وتاريخ الاستلاب هذا هو نفسه تاريخ كفاح الإنسان من أجل الحرية والانعتاق والسعادة، فالحرية هي غاية التاريخ وغاية أي نظام اجتماعي اقتصادي سياسي يلبي مطالب العقل.

الاستلاب هو الذي يضع الحرية ويجعل منها مطلباً قميناً أن يبذل في سبيله الغالي و النفيس. والتاريخ حتى يومنا، على الرغم من كل التقدم الحاصل، هو التاريخ الوهمي للإنسان أو تاريخ الإنسان الوهمي. أما التاريخ الحقيقي للإنسان أو تاريخ الإنسان الحقيقي ، الواقعي ، فلم يبدأ بعد.

يتبين في ضوء هذه الحيثية أن ” حقوق الإنسان والمواطن ” نتاج تاريخ كان فيه دوماً وجه من دراما ومأساة، ولكنه، في الجملة، تاريخ تحسن الإنسان وتقدم البشرية العاملة و العارفة والصانعة، على الرغم من التفاوت الحاصل، والانتكاس هنا أو هناك، وانتصار العدم على الوجود، في صراع الوجود و العدم الأزلي، في أكثر من مكان من عالمنا، وعلى أكثر من صعيد، فمنذ سبعينات هذه القرن ينتصر عدم النمو على النمو، وعدم المساواة على المساواة وعدم التسامح على التسامح وعدم الاستقلال على الاستقلال وعدم الكفاية على الكفاية وعدم العدل على العدل وعدم القانون على القانون … كل ذلك في ظل الثورة العلمية التقنية وما تحمله من وعود. فما لم يوضع التقدم الحاصل، اليوم، تحت السؤال أمام محكمة العقل والضمير، فإن ” حقوق الإنسان والمواطن” ستظل ضرباً من أيديولوجيا، وأيديولوجيا أمريكية بامتياز.

” كان دين الإله الواحد نعمة عقلية للبشر، ضرباً من استعادة ذاتية لإنسانية الإنسان تحت مقولة الله أكبر، الاستلاب السلعي في ظل الرأسمالية ضياع مضاعف لأنه في أحد وجوهه نكوص إلى الوثنية (1) ” وعبادة المال، دين المجتمع البورجوازي ودين الدولة الرأسمالية. العلاقات الاجتماعية بين البشر تتحول إلى علاقات مادية بين أشياء، والعلاقات المادية بين الأشياء تغدو علاقات اجتماعية. السياسة نظرياً فوق المال و الملكية الخاصة، عملياً الملكية الخاصة والمال يغدوان سياسة عملية وقوة عالمية، المجتمع ينفك إلى مكوناته الطبيعية، أفراد، ذرات، كائنات معزولة وأنانية، المواطن هو التجريد النظري للفرد الطبيعي الأناني، الذي ليس بعد كائناً نوعياً، أو ليس معترفاً به بوصفه كذلك ” الانخلاع هو ممارسة الترك أو رفع اليد، كما أن الإنسان، ما دام تحت قبضة الدين، لا يستطيع أن يعّين كينونته، أن يحولها إلى عياني ، إلا بأن يجعلها كائناً خيالياً و غريباً ، كذلك فهو لا يستطيع , تحت نفوذ الحاجة الأنانية، أن يؤكد نفسه عملياً، وأن ينتج موضوعات عملية إلا بإخضاعه منتجاته، وكذلك فاعليته لسيطرة كيان غريب وبتحميلها معنى هوية غريبة هي المال (2). اليهودية في التجربة الواقعية ( تتجير العلاقات الاجتماعية والإنسانية ) باتت الدين الواقعي للمجتمع الرأسمالي، والمسيحية أو الإسلام دينه المثالي، الأثيري. .

الوثنية على المستوى الروحي تنتج الاستبداد وعلى المستوى السياسي تنتج العنف الإرهاب محوراً للعلاقات المجتمعية والعلاقات الدولية على السواء. هل ثمة في عالمنا عنف وإرهاب لم ينتجهما المال ولا يغذيهما رأس المال المالي خاصة ؟ وهل يمكن فهم الاستبداد المحدث الذي ينمو في عالمنا المعاصر على حساب الحق والقانون والحريات الأساسية بمعزل عن منظومة المصالح العالمية في عالم يكثر الحديث هن صيرورته ” قرية كونية ” ؟ هذا كله في ظل التقدم، بل إن هذا كله وأموراً أخرى كثيرة، تقدم، التقدم ليس مفهوماً قدسياً، بل هو بالأحرى طريق آلام إلى الحرية، في ظل هذا التقدم لم يصبح الإنسان الكائن النوعي، الكلي، الفرد بصفته هذه سيداً،ومعياراً للقيم،وكائناً أسمى. وحقوق الإنسان المعلنة حتى يومنا هي في الجانب الأهم منها حقوق سياسية لا يمكن أن تمارس إلا إذا كان الفرد عضواً في جماعة مشتركة. المشاركة في الجوهر العام في الحياة السياسية المشتركة لحياة الدولة، ذلك هو محتواها. إنها تدخل في مقولة الحرية السياسية، وفي مقولة الحقوق المدنية / الوطنية ( حسب ماركس )(3)هي بالطبع مؤسسة على حرية الفرد، لكن الواقع العملي لهذه الحرية أو لحق الحرية هو حق الملكية الخاصة، “حق المرءفي التمتع بثروته والتصرف بها، كما يشاء، دون الاكتراث للبشر الآخرين. بصورة مستقلة عن إنسان يرى في إنسان آخر لا تحقيق، بل بالأحرى تحديد حريته “(4).

لا يمكن مناقشة حقوق الإنسان خارج إطار هذه الحيثية الحاكمة، خارج إطار السمة الأساسية لعالمنا و عصرنا. ونحن لا نسعى بذلك إلى رد الكرة إلى ملعب الآخر، فهذا الآخر هو نحن في زمن انطفاء الروح، وإلا كنا فتحنا ملف الحروب الإمبريالية، وآخرها الحرب على العراق وفرض الحصار عليه، فضلاً عن حروب أخرى كثيرة مباشرة وغير مباشرة، وملف التمييز العنصري، والصهيونية العالمية و النازية الجديدة واليمين الجديد وملف العجز القصدي في ميزان المدفوعات الأمريكي ووظيفة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي و وصفاتهما للدول ” النامية ” وضغوطهما عليها، و”حرية التجارة” و”حرية السوق” ومنطق الليبرالية الاقتصادية لأمركة العالم وإفقار شعوب برمتها وتهميشها، فضلاً عن فئات شعبية واسعة في الدول المتقدمة ذاتها، وجنون الاستهلاك وخلق الحاجات الزائفة وتوجيه الإنتاج ” الاجتماعي ” لتلبيتها على حساب الحاجات الضرورية لأربعة أخماس البشرية، الحاجات الزائفة التي تخلق إنتاجاً زائفاً معادياً للإنسان ومدمراً لبيئته. ولفتحنا ملف البطالة، وجيوش العمل الاحتياطية و السوق العالمية المبتورة (حسب تعبير سمير أمين) وسباق التسلح، وتحكم رأس المال المالي وخنق الدول والشعوب الفقيرة ومتوسطة الحال أيضاً بالديون ووضع اليد على فوائضها الاقتصادية، بل على مواردها وقوة عمل شعوبها 000 ولفتحنا ملف الحروب الإقليمية وتغذية النزاعات المحلية وإمداد أطرافها بالمال و السلاح، والعدوان السافر على أمم وشعوب تحت لافتة الديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية الاقتصادية.

على صعيد مجتمع معيّن، كما على صعيد العالم الذي تتعمق وحدته التناقضية باطراد، نحن إزاء جملة حية، جدلية، لكي تكون هذه الجملة مولدة، تصلح أساساً واقعياً فعلياً لحقوق الإنسان، ينبغي أن تكون جميع عناصرها حرة، أي أن تكون محصلة القوى الخارجية على كل منها صفراً ( حسب تعّيين الرياضيين ) , أما إذا كان أحد عناصرها مقيداً فالجملة كلها تكون مقيدة، غير حرة ولا تصلح أن تكون أساساً، عناصر الجملة المجتمعية هم الأفراد والتجمعات الحرة التشكلية التي ينضوون فيها باختيارهم فإذا كان أي واحد من هذه العناصر مقيداً فالمجتمع كله مقيد. وعناصر الجملة العالمية هي الأمم والدول و الشعوب، إذا انتقصت حرية إحداها أو أحدها انتقصت حرية الكل. تلك هي جدلية القهر والظلم، الظالم مظلوم والمستعبد مستعبد والقاتل هو المقتول، عالم الامبريالية الرأسمالية المعاصرة عالم كلية القهر وجدلية القهر. عالم تقدم التقنية وثورة العلم وتراجع الروح الإنساني .. إن مجرد وجود الظلم والقهرو الاستغلال وإهدار كرامة الإنسان، ولو كان على أضيق نطاق ، معناه انتقاص حقوق الإنسان وإهدارها في كل مكان، وإلا كنا إزاء معنى أيديولوجي وانتقائي لمفهوم الإنسان وحريته وحقوقه ( الإنسان = الأوربي أو الأمريكي. وفي نظر الولايات المتحدة، الإنسان في ” منطقة الشرق الأوسط = الإسرائيلي ). الولايات المتحدة ترفع سلاح حقوق الإنسان في وجه مقاومة الاحتلال وهي مقاومة مشروعة حسب ميثاق الأمم المتحدة، ولا ترى في أشكال العدوان الإسرائيلي على العرب عامة وعلى عرب فلسطين خاصة أي انتهاك لحقوق الإنسان، حتى أنها لم تدن مجزرة قان مثلاً وهي حلقة في سلسلة مجازر مماثلة، مع أن العالم كله أدانها ،لذلك تبدو أهم مسائل حقوق الإنسان اليوم، حماية الإنسانية من هذا الوحش الأمريكي الإلكتروني ، وحماية لأمريكيين من أمريكيتهم .

الوجه القبيح للتقدم :

لوضع مسألة حقوق الإنسان في سياق منطقي / تاريخي، في سياق واقعي ، ينبغي وضعها تحت مقولة التقدم، وهذه أي مقولة التقدم تحيل على مقولة النمو، نمو العمل البشري، منذ خروج الإنسان من الحالة الطبيعية إلى الحالة الاجتماعية، أي منذ أخذ العمل البشري يفصح عن طابعه الاجتماعي الجزئي ثم الإنساني الكلي، لأن الفرد الجزئي المعين هو التعبير المباشر عن الإنسان الكلي، ونمو التقنية التي قوامها دمج العلم بالعمل ومبدؤها، لكي تطيعنا الطبيعة يجب أن نطيعها، وصولاً إلى الثورة العلمية التقنية المعاصرة، ونمو القانون والمجتمع المدني ونمو الوجه القبيح للتقدم أيضاً، الانخلاع والاغتراب واستعمار البشر للبشر، ونمو قدرة الإنسان التدميرية للتقدم دائماً وجه قبيح يجب أن ينقد بلا هوادة.

في مسار هذا التقدم، بل في مساراته، أقحمت أمتنا، في تاريخ حديث انطلق هذه المرة من ” الغرب ” من أوروبا التي ” صاغت العصر الحديث وفرضت نفسها عليه ” قبل أن تحل الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وتعيد إنتاج الرأسمالية والعلاقات الدولية وفق المبدأ الذي قامت عليه هي نفسها ، أي مبدأ الأرض المفتوحة والعمل العبدي ، وباتت أمتنا جزءا رثا وتابعا من عالمها الذي نعيش فيه، ونتطلع إلى يوم يصبح فيه هذا العالم عالمنا المشترك أو ” بيتنا المشترك، ” وهذا العصر عصرنا أيضاً. وبات تاريخنا الحديث والمعاصر، من بعض وجوهه، تاريخ ” الغرب ” في بلادنا من حملة نابليون على مصر 1789 إلى حملة بوش على العراق 1991، من نظام الامتيازات في الإمبريالية العثمانية إلى الاستعمار المباشر فالإمبريالية المعاصرة، وتاريخ التوسع الرأسمالي من الرأسمالية التجارية ( الميركنتيلية ) إلى الرأسمالية المتوحشة الأمريكية والعولمة الاقتصادية، وهو تاريخ الكفاح من أجل الحرية والاستقلال والوحدة القومية والتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي أهداف الحركة الوطنية / القومية العربية التي اتخذت أسماء ومعاني مختلفة حسب مراحل الكفاح ودرجة تطور الوعي. وهي مقومات النهضة العربية التي عبرت عنها محاولتان أولاهما محاولة محمد علي باشا ( أواسط القرن التاسع عشر ) والمحاولة الثانية التي قادها عبد الناصر ( أواسط القرن العشرين ). . الوجه القبيح للتقدم أسهم في إجهاض هاتين المحاولتين، لكن العامل الحاسم في سقوطهما كان داخلياً. في الوقت الحاضر لا ينفصل ركود مجتمع من المجتمعات وتخثر تاريخه الداخلي عن منطق التوسع الرأسمالي والاختراق الإمبريالي وعملية التهميش التي لا تني تتعمق جراء تركز القوة والثروة في البلدان المتقدمة. ومسألة حقوق الإنسان في صيغتها العالمية وطابعها الكلي لا تنفصل عن هذه العملية.

يتماهى، في عالم اليوم مفهوم الحق والحقوق مع مفهوم القوة، قوة المال وقوة السلطة وقوة المعرفة وقوة التنظيمات الاجتماعية والقوة العسكرية ، فلكل إنسان في الواقع، من الحق والحقوق بقدر ما له من القوة. ، ولكل شعب من الشعوب ولكل أمة من الأمم من الحقوق بقدر ما له أو لها من القوة .الحق هو التعبير الذاتي للقوة، والقوة هي التطبيق العملي للحق. القوة هي التي تقرر القانون وتطبعه بطابعها وتضفي عليه صفات العقل الكلي المجرد الذي ليس بعد سوى صورة وهمية للقانون بوصفه أي القانون تعبيراً حقوقياً عما هو عام ومشترك بين الأفراد، تعبيراً عن ماهية الأفراد وجوهرهم الإنساني. . وإن إعادة القانون إلى الواقع وإكسابه مضمونا حقيقيا باتت عملية تحتاج إلى كفاح طويل . هكذا القانون الدولي أيضا في مجال التطبيق العملي والدفاع عن ” حقوق الإنسان ” التي لا يمكن الدفاع عنها إلا بوسائل تتفق مع مضمونها.
هذه الصورة الوهمية، المعقلة،للقانون هي صيغته الاغترابية. إن كلية الإنسان لا تظهر لنا اليوم إلا في صورتها السلبية، في كلية الاغتراب. .

الاختراق الإمبريالي :

” الحقيقة التاريخية الكبرى أن الوطن العربي يمثل نظاماُ سياسياً وحضارياً مخترقاً اختراقاً كاملاً من قبل الدول الإمبريالية التي تهيمن على العالم، بدأً تاريخه الحديث بالبلقنة وانتهى اليوم إلى اللبننة. .والبداية و النهاية حالتان تكون فيهما الجماعات الوطنية قد تحولت إلى شراذم تتبناها الدول الإمبريالية المتنافسة و تتلاعب بها، مانعة اندماجها في كيان سياسي متناسق قابل للحياة بشكل مستقل عن هيمنتها (5) ذلك لأن هذا الاختراق قام ولا يزال على ركيزتين أساسيتين أولاهما إدامة ” التجزئة الإمبريالية “، نعني تجزئة الوطن العربي إلى دويلات وضعت حدودها الجغرافية / السياسية في معاهدة سايكس بيكو و أخذت شكلها ” النهائي ” في مؤتمر سان ريمو. إذ تبين التجربة السياسية الحديثة والمعاصرة للأمة العربية أن التجزئة كانت ولا تزال حجر الزاوية في الاستراتيجية الإمبريالية. والثانية تعميق التأخر التاريخي للشعب العربي والحيلولة دون تحقيق اندماجه القومي والاجتماعي وذلك بفعل ” التحديث الكولونيالي ” الذي شق المجتمع عمودياُ إلى جزء حديث وتابع للمركز الاستعماري، وجزء تقليدي راكد. وكانت ديمومة تبعية الجزء المحدث وديمومة تأخر الجزء التقليدي ضمانة النفوذ الاستعماري المباشر وغير المباشر. يضاف إلى ذلك تسييس مسألة الأقليات الإثنية والمذهبية.

لذلك عاش المجتمع العربي، ولا يزال يعيش ” أعراض المسألة الشرقية ” التي تلخص خصائص النظام السياسي المخترق وهي : 1 ) أن القوى الإمبريالية الخارجية لا تقوم بإلحاقه بنظامها السياسي بالكامل ولكنها لا تتركه يفلت من قبضتها الخانقة أبداً. 2) تختلط فيه القضايا السياسية المحلية والقومية والإقليمية والدولية بحيث لا يفهم النظام السياسي للمجتمع المخترق ( حتى على المستوى المحلي ) من دون الرجوع إلى القوة أو القوى الخارجية المهيمنة. 3)يكون النظام السياسي المخترق لعبة سياسية تلعبها القوى الاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية في تحالفات متبدلة و متغيرة. (6)

لقد حددت القوى الإمبريالية علاقاتها بالعرب، منذ وقت مبكر وفق مبدأ تناقضي قوامه الاحتواء و الإقصاء، احتواء النخب الحاكمة والفئات الكمبرادورية المرتبطة بها وتعيين وظيفتها في ” النظام العالمي ” و ” السوق الدولية ” وإقصاء الشعب من هذا النظام وتهميشها ، بل إقصاء النظم الحاكمة نفسها بصفتها ” الوطنية / القومية ” ووضعها في مأزق دائم بين سندان الداخل ومطرقة الخارج، وتعميق الانفصال القائم بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والشعب، الانفصال الذي لا تجد معه الحرية تعبيراً عنها إلا خارج الدولة وبالتضاد معها، وهو ما يمكن القوى الإمبريالية من استخدام ” سلاح ” الحريات السياسية وحقوق الإنسان ضد النظم التي تحتويها نفسها، فضلاً عن شبح ” العقوبات ” المباشرة وغير المباشرة الذي يخيم عليها باستمرار. . كما تعمل على دعم إسرائيل بالمال والسلاح والتأييد السياسي وضمان تفوقها على الدول المجاورة لفلسطين، بل على جميع العرب، على افتراض تضامنهم في مواجهتها، مما يضع هذا النظام العربي المخترق في مواجهة مستمرة تستنزف موارده وتنهك قواه وتدخله في سباق تسلح يلتهم فوائضه وقوة عمل شعوبه.

لا يسع الباحث في مسألة الحريات السياسية وحقوق الإنسان أن يغفل ظاهرة الاستعمار المباشر وغير المباشر، القديم والجديد، التي أنتجت ولا تزال تنتج المستعمر والمستعمر وتضعهما في علاقة تناحرية، تدميرية ضحيتها إنسانية المستعمر والمستعمر على السواء فكل أمة استعمارية تحمل في أحشائها بذوراً فاشية، تتظاهر لدى المستعمر نفسه في “عقدة نيرون ” التي تحدث عنها الأديب و الكاتب التونسي ( البير ميمي ) في كتابه ” شخصية المستعمر والمستعمر ) الذي حلل فيه ، من واقع المعاينة المباشرة والمعاناة وضعية التدمير المتبادل للقيم الإنسانية والحضارية التي ينتجها الاستعمار. . إذ ” يجهد المستعمر في تزييف التاريخ ويعيد كتابة النصوص ويطفئ مخزونات الذاكرة. ويفعل أي شيء كي ينجح في تحويل الاغتصاب إلى عمل شرعي ” وذلك من خلال عمليتين متلازمتين أولاهما، إثبات مزايا المغتصب البارزة ورسالته الحضارية التمدينية لدرجة استحقاقه المكافأة. والثانية الإصرار عل سيئات المغتصب التي لا يمكن إلا أن تثير هذه المصيبة,”إن قلق المغتصب وعطشه لتبرير ذاته يتطلبان منه أن يرفع نفسه عالياً ، وأن ينزل المغتصب إلى أسفل درك ” (5) فالمستعمر ” بقدر ما يسحق المغتصب تزداد غلبة المغتصب في الاغتصاب، ويزداد تالياً مقدار تأكيده لذاته في جرمه وفي إدانته لنفسه. إذن هذه الآلية تزداد وتيرتها أكثر فأكثر، بفعل حركتها بالذات، في اكتمال هذه العملية يحاول المغتصب أن يزيل المغتصب لأن وجود هذا الأخير يجعله مغتصباً و لأن الاضطهاد المتزايد الذي يفرضه عليه يجعله مضطهداً. ” الاستعمار الحامل عقدة التفوق في نظرته إلى المستعمرين على أنهم ” ما دون الإنسانية ” كما يقول ماركس، يصدر عن نزعة عنصرية تضع الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتمتع بها مواطنوه في البلد الأم، ويمنعونها عن سكان المستعمرات، يضعها تحت السؤال. . فكيف يمكن أن تولد العنصرية والفاشية من الديمقراطية، وكيف يمكن أن ينظر الإنسان المتحضر إلى المستعمر على أنه ما دون الإنسان، لولا نظام الظلم والاضطهاد والاستغلال الذي اكتسب طابعاً عالمياً وبلغ ذروته اليوم مع اليانكي الأمريكي، ومبدأ الأرض المفتوحة والعمل العبدي ؟ !

المستعمر لا يستطيع أن يغفر لذاته إلا عندما يستمر بانتظام في نزع الإنسانية عن المستعمر في سبيل تعظيم الذات، ورفض صفة الإنسانية لأهل ( المستعمرة ) واعتبارهم مجرد انتقاصات ” (7 ) فالظلم هو أولاً بغض الظالم للمظلوم. ، لكن نزع إنسانية الإنسان مستحيل ف” لا أحد يستطيع أن يعامل الإنسان ( مثل ) كلب لو لم يكن يعتبره إنساناً . استحالة نزع الإنسانية عن المظلوم تنقلب إلى اغتراب الظالم عن ذاته ،. ولكي يهرب من هذا الاغتراب ” لا بد له أن يتمعدن، وأن يتخذ كثافة الصخرة، أي أن يصبح بدوره عديم الإنسانية ” (8).
تلكم هي جدلية القهر، جدلية الظلم، وكليته . الذي يتمتع بالديمقراطية وحقوق الإنسان في وطنه الأم ويقاتل من أجل ألا يتمتع بها المستعمرون هو عنصري وفاشي، مهما زها بتحضره وتمدنه وتقدمه، ومهما دبج من إعلانات ” حقوق الإنسان ” ومن ينزع أو يحاول أن ينزع عن الآخر إنسانيته، إنما ينزع إنسانيته هو . الديمقراطية، كما علمتنا تجربة الاستعمار، هي حرية الآخر أولاً. ليس هناك من هو أكثر حاجة إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان من الشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة والتابعة المظلومة، الشعوب التي زرع فيها الاستعمار بذور العنف ” فعندما لا يملك شعب من الشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة موته، وعندما لا يعطيه ظالموه إلا هدية واحدة، هي اليأس، فماذا يبقي له ليخسره ؟! مصيبته تصبح شجاعته. وهذا الرفض الذي يجابهه به الاستعمار يجعل منه الرفض المطلق للاستعمار “.

وضع المسألة على هذا النحو لا يعني، مرة أخرى، رد الكرة إلى ملعب الآخر. بل يعني توكيد مسألتين مركزيتين : الأولى هي عالمية أو كونية حقوق الإنسان المؤسسة وجودياُ ( انطولوجياُ ) على كلية الإنسان وكونية الروح البشري، وكونية العقل. ، والثانية تاريخية حقوق الإنسان التي لم تكن، وليست اليوم، معطى بديهياُ كما أشرنا. .

في المنطق ثمة مفهوم ” النقد ” وهو سمة العقل الذي ينفي باستمرار وإلى مالا نهاية ،.وفي الأخلاق ثمة مفهوم ” الضمير ” و” الوجدان ” ولحظة الأمية أو الصفحة البيضاء ، وفي الدين ثمة مفهوم ” الكفارة ” والاعتراف والتوبة وتطهير النفس وتنقية الضمير ، وفي الإسلام خاصة ثمة الجهاد الأكبر، جهاد النفس الأمارة بالسوء. فما لم تعترف الشعوب الأوروبية خاصة بما ارتكبته من جرائم وخطايا بحق الشعوب مما يثلم إنسانيتها وكرامتها الوطنية، وما لم تتخلص من إرث ماضيها الاستعماري ومن ” عقدة نيرون “، لا يمكن بناء قوة عالمية تحمي الإنسان من الوحش الأمريكي الوالغ في دماء الشعوب والذي ينتهك في كل دقيقة حقوق الإنسان وكرامته في العالم كله. ولا يمكن ، من ثم ، بناء قوة عالمية فعالة تساعد أمريكا على التحرر من أمريكيتها، أي من وحشيتها. أية حقوق للإنسان، وقد صارت الحقارة حكومة عالمية على مرأى ومسمع جميع الأمم والشعوب ؟! وأية حقوق للإنسان و للأمم والشعوب وقد باتت اللاشرعية مشرعاً وحيداً واللاقانونية تضع القوانين، واللاعقلانية نموذج عقل العالم المعاصر ؟! إن عدم الإنسانية هو الذي ينمو ويتقدم في الزمن الأمريكي. ، والذي ينمو باطراد هو العنصرية والصهيونية والفاشية والعنف والإرهاب والحروب الأهلية منها والإقليمية والنهب والاستغلال والقهر. أليست هذه سمات الزمن الأمريكي إلى جانب سباق التسلح وتدمير البيئة واحتكار التقنية وقوة السيطرة على الموارد ولا سيما الطاقة واحتكار السيطرة على التحولات المالية وعلى الإعلام والاتصالات وعلى أسلحة التدمير الشامل. . كل ذلك في ظل الثورة العلمية التقنية وتقدمها المطرد بوتائر مذهلة. .

الولايات المتحدة الأمريكية التي أعادت إنتاج الرأسمالية أمريكياً بعد الحرب العالمية الثانية، دشنت مرحلة جديدة بات يطلق عليها أسم ” العولمة الاقتصادية الجديدة “، واقعها هو التوتاليتارية وأيديولوجيتها هي الليبرالية الاقتصادية بحصر المعنى. وهما أي التوتاليتارية والليبرالية الاقتصادية وجهان لعملة واحدة، ” صنمية السلطة ” التي أخذت تكتسي أكثر فأكثر طابعاً عالمياُ، وتتحول إلى نسق مولد لأنساق فرعية تحمل خصائصه كلها أو بعضها، حتى بات مفهوم النظام العالمي الجديد الأمريكي يتوفر على كثير من الواقعية، من دون أن ينفي ذلك كونه نظاماً عابراً ومرحلة انتقالية سمتها الفوضى، أطلق عليها مفكر عربي لامع اسم ” إمبراطورية الفوضى ” (10) ويرى هذا المفكر أن ” الإجابة الإنسانية على تحدي العولمة الرأسمالية ( العولمة الاقتصادية الجديدة ) تقتضي إعادة إنتاج القوى الأيديولوجية والسياسية القادرة على تحدي الاحتكارات التي أشرنا إليها، وصولاُ إلى ” التكيف المتبادل ” فعلى الصعيد الأيديولوجي والثقافي لا بد من إعادة النظر في : 1) جدلية العلاقة بين العام (العالمي) والخاص ( الوطني ). 2) جدلية العلاقة بين الديمقراطية السياسية و التقدم الاجتماعي. 3) جدلية العلاقة بين الفاعلية الاقتصادية وقيم الإخاء والمساواة. 4) تجديد الهدف الاشتراكي في ضوء ذلك. (11) باستثناء اللحظة الناصرية أو ما يسميه يأسين الحافظ ” محاولة النهضة العربية الثانية ” التي لم تنج تماماً من ” أعراض المسألة الشرقية ” أي من الاختراق الإمبريالي بالمعنى الذي تقدم عرضه . كان النظام السياسي العربي، ولا يزال مخترقاً اختراقاً كلياً بلغ ذروته في العدوان الأمريكي على العراق 1991 واحتلال منابع النفط وإقامة نظام قواعد عسكرية في بلدان عربية عدة وفرض مشروع الصلح مع إسرائيل على الحكومات العربية تمهيداً لإقامة نظام إقليمي فرعي هو ” الشرق الوسط الجديد ” الذي أخذ يتمأسس من خلال المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمالي إفريقية الذي عقدت دورته الأولى في الدار البيضاء والثانية في عمان والثالثة في القاهرة وستعقد الرابعة في قطر الخريف القادم. وشرع ببناء نواة نظامه الأمني بتحالف تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية صاحبة هذا التصور الاستراتيجي .

هذا الاختراق المطرد لا يزال ينتج ويعيد إنتاج علاقة المستعمر بالمستعمر وجدلية القهر ويخضع جميع مناحي الحياة كلياً أو جزئياً لهذه العلاقة وإن باتت أكثر خفاء وتعقيداً. وإذا كانت ظاهرة الحركات الإسلامية المتطرفة، العنيفة هي المعادل الموضوعي لاستبدادية السلطات القطرية التابعة في الوطن العربي، فإننا لا نستطيع أن نرى في ظاهرة التطرف والعنف والإرهاب و الحرب على الصعيد العالمي سوى المعادل الموضوعي لاستبدادية ” حكومة العالم “الليبرالية ” وفسادها. وهذه حيثية حاكمة على تطور الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي. فالحكومات التي كان المستعمرون يقيمونها في أقاليم الوطن العربي، وفق نظامهم الديمقراطي. كانت في الواقع عورة ذلك النظام وسوءته ومكمن ضعفه و لا إنسانيته ، لقد كانت قفا ذلك النظام الديموقراطي ، والحكومات الاستبدادية القائمة اليوم في الوطن العربي والمندرجة في ” نظام الأمن القومي الأمريكي ” هي عورة الليبرالية الأمريكية وسوءتها ومكمن ضعفها ولا إنسانيتها أيضا‌ً، وهي قفا هذا النظام الليبرالي الجديد .

ذكر كلود جوليان في مطلع كتابه ” الحلم والتاريخ ” مفارقة لافتة هي، أنه منذ سنوات دعي مواطنون أمريكيون، في أحد شوارع نيويورك إلى التوقيع على بيان، فرفض معظمهم ذلك غاضبين مستنكرين على الرغم من أن النص الذي عرض عليهم كان نص إعلان الاستقلال الذي يقول : ” عندما يرى شعب ما، في مجرى الحوادث البشرية، أن الضرورة تحدوه إلى قطع العلاقات السياسية التي تربطه بشعب أخر، وإلى أن يحتل بين دول العالم وبمساواتها مكانه الخاص الذي تمنحه الحق به قوانين الطبيعة وإله الطبيعة، فإن الاحترام الصحيح لرأي الإنسان يتطلب من هذا الشعب أن يعلن الأسباب التي حملته على هذا الانفصال.

هذه الحقائق هي في نظرنا، حقائق بدهية بذاتها، وهي أن جميع الناس يولدون متساويين وأن خالقهم منحهم حقوقاً ثابتة ومنها حق الحياة والحرية والسعي وراء السعادة. وأن الناس يقيمون الحكومات التي تستمد سلطتها من رضى المحكومين وموافقتهم، وأن حكومة ما مهما كان نظام حكمها، إذا ما أنكرت هذه الحقوق أو تنكرت لها فمن حق الشعب أن يغيرها وأن يزيلها ليحل محلها حكومة جديدة ويقيمها على مثل هذه الحقوق والمبادئ وينظم سلطاتها حسبما يبدو له أنسب الأشكال وأضمنها لتحقيق أمنه وسعادته ” (12) وذلك على ما يبدو لأن الأمريكيين الذين تحقق لهم ذلك باتوا ينكرونه على الآخرين ولا سيما الذين هم تحت سلطان هيمنتهم. . وبين عدالة الديمقراطيين المقصورة على أصحاب الحقوق الفعليين ( الميسورين )، وتشدد المحافظين في تطبيق ” النظام ” تنمو العنصرية وعدم المساواة ليس في الولايات المتحدة نفسها فقط ، بل في العالم كله . إن ” الدولة القوية ” المفترسة، التي تحققت واقعياً معارضة للديمقراطية وحقوق الإنسان ومعادية لها على طول الخط.ليس ذلك فحسب بل إن الأمريكيين وجدوا في عبارات الحرية والمساواة شيئاً غير أمريكي، وإذا كانت قد وجدت في إعلان الاستقلال فذلك لأن جيفرسون كان واقعاً تحت تأثير الفكر الفرنسي (13).

وإذا كان أساس الاختراق الإمبريالي أو ما يسميه سمير أمين ” منطق التوسع الرأسمالي ” اقتصادياً فإنه يكفي للتدليل على عمق هذا الاختراق الإشارة إلى أن عدد الشركات الأجنبية التي كانت تعمل في العراق عام 1759 , كان 255 شركة، 72 % منها شركات أوروبية وأمريكية (17).

الاضطراب السياسي :

اتسمت المرحلة بين عام 1950 و 1978 ( الإطار الزماني للبحث) ، بالاضطراب السياسي، فقد أحصى خلدون حسن النقيب في هذه المرحلة سبعين انقلاباً عسكرياً في البلدان العربية، نجح منها واحد وأربعون انقلاباً، وأخفق تسعة وعشرون (15). كما أحصى واحداً وأربعين نزاعاً مسلحاً داخلياً وخارجياً منها أربعة مع إسرائيل (16). وذكر أن عدد الوزارات التي تألفت وانحلت في مصر وحدها بين عام 1952 و 1972، أي في مدة عشرين عاماً كان ثلاثاً وعشرين وزارة، بمعدل وزارة كل عشرة أشهر. وذكر حنا بطاطو أن عدد الوزارات التي تألفت وانحلت في العراق من عام 1920 حتى عام 1958 ثماني وخمسين وزارة

تناوب عليها ثلاثة وعشرين رئيساً (17). . ومع كل انقلاب عسكري , في أي بلد عربي، كانت تتغير لوحة التوافقات / التعارضات بين الدول العربية، وتتغير كذلك، في البلد المعني، العلاقات بين الفئات الاجتماعية والقوى السياسية من جهة والسلطة الانقلابية من جهة ثانية، ويتعمق ،على الغالب ،الاختراق الإمبريالي، لأن الحياة السياسية كالحياة الثقافية والاقتصادية كانت تتشكل تحت ضغط القوى الخارجية. . لكن الظاهرة الأهم التي نجمت عن الانقلابات العسكرية كانت سيطرة العسكر على الحكم، ثم على المجال السياسي للمجتمع، وإنجاز ما أصطلح على تسميته ” عسكرة الحياة السياسية” في البلدان التي كانت ذات يوم ” تقدمية ” وتطور جميع الدول القطرية، في الوطن العربي، إلى دول تسلطية. . وقد حاول العسكر حيثما نجحوا في السيطرة على الدولة، حاولوا ترتيب الأوضاع الاجتماعية لمصلحة بقائهم في السلطة ودوام هيمنتهم، بذريعة إنجاز الاستقلال الوطني أو حمايته وتحقيق الوحدة و التنمية. وقد منحتهم هذه الأهداف مشروعية سياسية بادئ الأمر سارعوا إلى استخدامها للسيطرة على المجال السياسي المجتمعي من خلال السيطرة على الدولة والأحزاب السياسية والنقابات ثم على مصادر الثروة ومفاصل الإنتاج الاجتماعي. .

الوجه الآخر لهذه الظاهرة كانت تصفية مكتسبات المرحلة الليبرالية وإحداث قطيعة انقصافية مع فكر النهضة والتنوير، بما فيه من عناصر أنسية وعقلانية وعلمانية وديمقراطية. فمع وصول العسكر إلى الحكم قاموا بحل البرلمان، وتعطيل الدستور والقوانين بالأحكام العرفية وفرض حالة الطوارئ، وبإغلاق الصحف وحظر الأحزاب السياسية سوى حزب السلطة ومن حالفه أو والاه، وإلغاء أي شكل من أشكال المعارضة، وربط النقابات والمؤسسات الأيديولوجية الأخرى التي تتأطر فيها التعارضات الاجتماعية وتأخذ شكلاً أيديولوجياً / سياسياً، ربطها بالسلطة مباشرة وإلغاء وظيفتها الأصلية، المهنية التضامنية لمصلحة وظيفة سياسية مزعومة هي، في الواقع الولاء للسلطة وتسويغ سياستها وإضفاء المشروعية عليها، محققين، بذلك ضرباً من التجانس مع ما يسمى ” الدول المعتدلة ” التي تفتقر في معظمها إلى دساتير وتحظر الأحزاب السياسية وتصادر حرية الرأي باسم ” الشريعة الإسلامية “، وتوحد جميع السلطات في يد الأمير أو الشيخ أو الملك الذي بات رئيس مجلس قيادة الثورة الذي لا يلبث أن يصبح رئيس الجمهورية، معادله ” التقدمي ، أو الثوري كما أن النزاعات المحلية تفصح عن واقع نقص الاندماج القومي وانقسام المجتمع عمودياً إلى قبائل وعشائر وأديان ومذاهب وأقليات إثنية، سوى في بعض الأقطار التي تتوفر على نوع من اندماج قومي تتماثل فيه أو تتماهى الهوية الوطنية / القومية مع دين الأكثرية من دون أن تقصي الأقليات الدينية أو الإثنية من إطار هويتها. كمصر ودول المغرب العربي . وتتجلى في النزاعات المحلية بوضوح أعراض المسألة الشرقية التي كان تسييس الأقليات من أبرز خصائصها ، إذ تتوزع ولاءات القوى المحلية بين القوى الإقليمية والدولية التي تمدها غالباً بالمال والسلاح. .
تعصف النزاعات المحلية بوحدة المجتمع، وتكف الدولة بالتالي، حتى إذا لم تكن طرفاً في النزاع، عن كونها تعبيراً عن الكلية الاجتماعية، ويفقد القانون قوته المعنوية والإجرائية ويغدو العنف وقوة الشوكة قانوناً وحيداً , وتنفك تدريجياً الروابط المجتمعية ، حتى الضرورية منها .

التحدي ورد الفعل :

الغرب الذي جاء إلى بلادنا بجيوشه وأساطيله ليعلمنا بالحديد والنار أنه لا مكان في عالمه سوى للأقوياء، الغرب، غرب الحضارة والتقدم، غرب الثورة الديمقراطية، غرب النهضة والإصلاح الديني والتنوير،غرب القيم والمناهج الحديثة والصناعة والتقنية، وغرب السطوة والسلطان، الذي جاء ليثار للصليبين من صلاح الدين الأيوبي الشرقي، المسلم، هذا الغرب أثار ردود فعل متناقضة حددت مسارات الفكر والسياسية و الاقتصاد . كان العرب في مطلع نهضتهم الحديثة يتطلعون إلى الغرب ويقتبسون منه، يذهبون إليه طلباً للعلم و المعرفة و التمدن. لكنه ما لبث أن جاء هو إليهم فاتحاً مزهواً بانتصاراته وتقدمه حاملاً شعوره بالتفوق والامتياز، مفعماً بالكبرياء والغطرسة إزاء شعوب لا تصلح لشيء إلا أن تكون سماداً لتاريخه وموضوعاً لإرادته، شعوب ليست سوى مادة لتظهير عظمته وتاريخه متصل الحلقات من الإسكندر المقدوني إلى نابليون، ولو كان ممكناً أن يكون استعمار من دون مستعمرين لأباد هذه المخلوقات والوضيعة الفائضة عن الحاجة وفق تعاليم إله المال أو الإله المال صاحب الوصية الوحيدة ” ربح أكبر بتكلفة أقل ” . لقد بات الغرب المتفوق، الغالب في الوعي العربي نموذجاً ومعياراً وشعوراً حاداً بالذل والمهانة والانكسار، والظلم والقهر والاستغلال . أحب العرب الغرب وكرهوه في الوقت نفسه، وذلك بقدر حبهم لذاتهم وتعلقهم بتاريخهم وتراثهم وكرههم لأوضاعهم . هذه الوضعية عبر عنها ألبير ميمي، الكاتب التونسي، الذي ينتمي إلى الطائفة اليهودية، عبر عنها من خلال التجربة و المعاناة بصيغة تقع بين الأدب و الفكر السياسي أو تجمع بينهما في بنية نصية متناغمة تتحد فيها الذات و الموضوع كما يوحد الظلم جميع المظلومين . يقول في مقدمة كتابه ” ما كنت أبغي في ذلك الوقت أن أرسم لا صورة كل المظلومين ولا حتى كل المستعمرين، كنت تونسياً وبالتالي واقعاً تحت الاستعمار، وكنت أكتشف أن القليل القليل من نواحي شخصيتي ومن جوانب حياتي لم يكن متأثراً بهذا المعطى. هذا التأثير لم يقع على تفكيري وعواطفي وسلوكي وحسب، بل أيضاً على تصرف الآخرين إزائي . ويضيف: ” واكتشفت في الوقت ذاته أن جميع الواقعين تحت قبضة الاستعمار يتشابهون كما اكتشفت بعدها أن جميع الواقعين تحت نير الظلم يتشابهون إلى حد ما ” (18) ولنا أن نقدر معاناة مواطن في وضعه وعى ازدواجية التعاون وازدواجية الرفض، التي تحيلنا ، بغض النظر عن شعوره الذاتي ووضعيته الخاصة، على العلاقة التناقضية التي قامت و لا تزال، بين العرب والغرب، والتي عبر عنها عبد الله العروي على أحسن وجه حين قال : ” منذ ما يقرب من ثمانية عقود والعرب لا يكفون يتساءلون : من نحن ومن الأخر ؟ في شهر فبراير ( شباط ) 1952 كتب سلامة موسى مقالاً بعنوان لماذا هم أقوياء ؟(انتصارات إنسان 1960 ) ولم يكن في حاجة إلى توضيح المقصود بالضمير. كان واضحاً لكل قارئ أن الكاتب يقصد الأجانب الحاضرين باستمرار معنا وفينا. قد يشك المرء في صحة القولة الشهيرة ( لا فكر إلا بالأخر ) فيما يتعلق بالفرد، أما بالنسبة للجماعة ، جماعتنا نحن العرب، فلا شك في صحتها، إذ نجربها في كل لحظة من حياتنا ” (19).

في ضوء هذه العلاقة تحددت، في الواقع، مسائل الفكر العربي، والوعي العربي : أبرز هذه المسائل :

1. مسألة الذات، أو مسألة الهوية التي باتت لا تتحدد إلا بالأخر،كلما قال العربي أنا، فإنه يشيرإلى الغير،ومن هو الغير بالنسبة للعرب سوى الغرب ؟ يستحيل إذاً أن نصف مسيرة العرب نحو تعريف ذاتهم دون أن نصف في الوقت نفسه تاريخ تعرفهم على الغرب وتعريفهم له.
2. ومسألة التاريخ، إذ ” لا تتقوم الذات وتمتلئ أملاً إلا بتعبئة أمجادالأسلاف
3. ومسألة المنهج على المستويين الفكري والعملي، أي مسألة مايضمن للعرب المساواة مع الأخر الذي طالما استعبدهم، مسألة العقل الكوني. فإذا كان العرب متساوين مع الأخر في هذه الحيثية، ” فإن مستقبل البشرية واحد. وهذه الوحدة المرتقبة تنزع كل أهمية لتلك المسائل التي ظلت عالقة حول الذات و التاريخ.
4. و أخيراً مسألة التعبير، أي ” بأية صيغة فنية يمكن تمثيل هذه الوضعية الانتقالية المؤلمة و المريبة ؟ كيف نكتسب شكلاً تعبيرياً يكون في آن مطابقاً للمرحلة التي نعيشها وذا قيمة كونية حتى يفهمه كل البشر ” (02)
عن هذه الأسئلة، المسائل، قدم الفكر العربي، منذ عصر النهضة إلى اليوم ثلاث إجابات مختلفة، تنطلق من نقطة واحدة هي : ” إشكالية النهضة والنزوع إلى التقدم ” وتؤلف ، على تباينها ، الخطوط الأساسية للأيديولوجية العربية المعاصرة . في أساس هذه الإشكالية ثمة الإنسان، والإنسان المسلم و الإنسان العربي، وكل وصف هو تقليص3 وتحديد ونفي . ” المشترك ” بين هذه الإجابات كان تغليب الصفة على الموصوف، وهو رد فعل من نوع الفعل ذاته. رد فعل المستعمر على المستعمر و المظلوم على الظالم. وهو موقف دفاع عن الذات بغض النظر عن كونه وهمياً أو فعلياً ومع أن الشيخ يرى أن سبب انحطاط الأمة كان ابتعادها عن الإسلام، فإن الإسلام يغدو عنده دين الرحمة و الرفق و التسامح، وعقيدة مدعومة بحجج العقل، ودين الحرية و المساواة يضمن لكل فرد حريته واستقلاله، لذلك يرى في الدستور وسيادة القانون، وانبثاق السلطة بالانتخاب الحر وحرية الفرد وحقوق الإنسان مسائل يقرها الإسلام و ” لا تتعارض مع الشرع “. وإذ يرى داعية القومية أن الاستبداد هو سبب الانحطاط، فإنما يحصر الاستبداد في الاستعمار التركي، ويغدو الإسلام إسلامين : إسلام عثماني أضعفه الاستبداد وإسلام عربي يحض على الحرية والاستقلال وما دامت العلة في الاستبداد فإن الدواء في النظام البرلماني الدستوري، وما دام الجهل صنع الاستبداد فإن التقدم لا يقوم إلا بالحرية و العلم .. ويعيد قراءة التاريخ والتراث في ضوء هذا المطلب فيغدو ” الاجماع ” في الإسلام ميثاقاً ديمقراطياً حقيقياً، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، إلى أن ” العربي حر بطبعه لو ترك على سجيته لأسس نظاماً ديمقراطياً ” أما داعية التقنية فيرى أن الغرب ” ليس ديناً بدون خرافة، و لا دولة بدون استبداد ، الغرب بكل بساطة قوة مادية أصلها العمل الموجه المفيد والعلم التطبيقي . ” ويوجز سلامة موسى هذه المسألة قائلاً : ” الحضارة الآن هي الصناعة وثقافة هذه الحضارة هي العلم، بينما ثقافة الزراعة هي الأدب و الدين و الفلسفة ” . (21). إذا كان الشيخ قد أخذ ينقد الأوهام و الخرافات و البدع التي أصابت الدين في عهود الانحطاط، وإذا كان داعية القومية قد أخذ ينقد التاريخ العربي الإسلامي على استحياء فإن داعية التقنية لا يرى فيهما ، أي في التراث التاريخ عاملاً فعالاً.

ثمة إشكالية معقدة حكمت الوعي العربي منذ عصر العربي منذ عصر النهضة إلى اليوم تتلخص أولاً في الفارق بين واقعية وتاريخية العلاقة بين العرب والغرب وأشكال وعيها عند العرب، من جهة، ووعي الغرب أو أشكال وعي الغرب لهذه العلاقة ذاتها من جهة أخرى. وثانياً في الفارق بين صورة الغرب في الوعي العربي وواقع الغرب الفعلي من جهة وأشكال وعي الغرب لذاته من جهة أخرى، وثالثاً في الفارق بين واقع العرب الفعلي وصورة العرب في وعي الغرب من جهة ووعي العرب لذاتهم من جهة ثانية. وإذا كان الواقع محايداً في جميع الحالات فإن الوعي ليس كذلك. ويمكن القول أن علاقة العرب بالغرب كانت بالأحرى علاقة وعي ذاتي آخر ويمكن أن نقول : مضاد فالصورة التي كان الغرب ولا يزال يقدمها عن نفسه وعن الآخر هي التي تحدد صورة الآخر ( هنا العرب ) عن الغرب وعن نفسه أيضاً. كان الغرب دائماً هو الذي يطرح الأسئلة والمسائل ويحدد الإجابات لذلك كان افتقار الوعي العربي إلى الواقعية، وإلى التاريخية و الكونية الموصولتين بها هو أساس الإشكالية الانفصال بين الوعي والواقع غيب المقولة الهيغلية / الماركسية الشهيرة ” كل ما هو واقعي عقلاني وكل ما هو عقلاني واقعي التي تحيل على علاقة الفكر بالواقع، الوعي بالوجود، وتضع مقولة المطابقة بوصفها مسعى دائماً إلى تعرف حقيقة الواقع أو تعرف الواقع كما هو من دون مشاعر أو رغبات، ومن دون أوهام. أي مع وعي أن المشاعر و الرغبات و التطلعات والأهداف 000 تنتمي كلها إلى دائرة الذاتية.

الوعي الذي يفتقر إلى الواقعية والتاريخية و الكونية، هو بالأحرى وعي أيديولوجي بكل معاني هذه الكلمة , الاعتراف بالواقع شرط لتجاوزه. ، لذا لا بد من الاعتراف أن مسألة ومسائل حقوق الإنسان وحرية الفرد وحقوق المواطن 000 كانت ولا تزال شعاراً وهدفاً وتطلعاً إلى مستقبل ممكن وواجب , و كانت هذه المسألة كلها جزءاً من قضية الحرية التي تختلف النظرة إليها باختلاف الموقع الاجتماعي، حتى عندما كانت هذه المسألة تطرح على المستوى الفلسفي.

يوتوبيا الحرية :

شهدت البلاد العربية، في القرن الثامن عشر، وكانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية ، تحولات مهمة، انطلقت من مركز الإمبراطورية تحت ضغط الغرب وفي مواجهته ، أبرز هذه التحولات بدأ في عهد التنظيمات، إذ اتسع نطاق الدولة ومجالها السياسي، وبدأت عملية دمج الجماعات والأفراد في كيانها. فتحولت فكرة الحرية من فكرة مخارجة للدولة و للممارسة السياسية إلى فكرة معارضة للدولة واستبدادها المطلق والشامل، ولكن من داخل مجالها السياسي نفسه. فضلاً عن المجال المجتمعي الذي كان ولا يزال موطن الحرية وميدان تجليها.. اتساع مجال الدولة، و كان في الوقت نفسه اتساع مجال الاستبداد المطلق، لم يغير واقعة انفصال الحاكم عن المحكوم، بل زاد من عمق الشعور بالاستلاب السياسي وحدته ، وباتت الحرية ، ولم تكن تعني سوى التحرر السيطرة التركية ، قضية العرب المركزية. وتولد عن ذلك علاقة طردية بين اتساع نطاق الدولة واتساع مجال الوعي بضرورة الحرية.” و” بما أن العادات كانت تمثل امتيازات تتمتع بها الجماعات و العشائر، وبما أن الدولة تحبذ التسوية بين الجميع، فقد اتجهت سياسة الإصلاح إلى نقض العادات وإبدالها بقوانين متعددة ومفصلة . (و) لم تعد تجربة التحرر عن طريق التجريد الصوفي نافعة، فارتبطت فكرة الحرية، التي تنتج حتماً عن معاناة الحدود، بمجال الدولة باعتبارها منبع تلك الحدود. .كلما اتسع نفوذ الدولة وتعمق ارتبطت الحرية بالدولة وتطابق مجال الأولى و مجال الثانية ” (22).

لا شك أن هذه العملية تمت ببطء وبالتدريج من دولة التنظيمات إلى الدولة الكولونيالية إلى الدولة حديثة الاستقلال ونخبتها الليبرالية. . ولعل المهم إبرازه في هذا المجال هو انتقال الحرية من ممارسة غير مشروطة في نطاق المجتمع التقليدي ومجاله السياسي الضيق إلى قضية سياسية / من الدرجة الأولى، أي إنها انتقلت من مجرد طوبى أو يوتوبيا مجسدة في رموز منافية للدولة إما داخلها أو خارجها،إلى دعوة لها صفة عملية . وما كان لهذا التحول المهم أن يحدث لولا اتساع مجال الدولة. فتجربة الحرية أساساً هي تجربة الحد من الحرية. . الصفة العملية لدعوة الحرية جعلت دعاتها يوظفون كل قول في الحرية في نطاق دعوتهم وفي خدمة قضيتهم. . ولم تكن هذه الدعوة محض تأثر بثقافة الغرب ونظمه السياسية، بقدر ما كانت نتاج حاجات نابعة من صميم المجتمع. فقد ” كان هناك تطابق بين حاجات المجتمع العربي ومضامين تلك المنظومة الفكرية التي تحمل اسم الليبرالية ” . والثورة الحقيقية هي ثورة الحاجات الجذرية ،حسب ماركس. من هنا ركز المفكرون العرب اهتمامهم على حرية الرأي و التأويل والابتكار ورفضوا الآراء المفروضة وكسروا الإجماع وتغنوا بالمبادرة الفردية وأكدوا سلطة الفرد على ذاته وفكره وبدنه. وتجاهلوا أصولا ليبرالية أخرى وتعاموا عن التناقضات التي تواجه اللبرالية عند التطبيق ” (23).

تأثر المفكرون العرب من جيل محمد عبده و الكواكبي وخير الدين التونسي، وكذلك المفكرون و الكتاب من جيل لطفي السيد وطه حسين وحسين هيكل وطاهر الحداد بالمنظومة الليبرالية. ، ولم يضعوا قضية الحرية في إطار فلسفي ولم يبحثوا عن أصلها ومداها، بل اكتفوا بوصفها و المطالبة بها، وقطعوا حبل الاتصال مع الفكر الإسلامي التقليدي من دون أن يعوا هذه القطيعة التي تنم عليها كتاباتهم. . وهذا ما يلحقهم بالفكر الليبرالي الذي يحصر مشكلة الحرية في إطارها الاجتماعي السياسي. ففي نظر الطهطاوي، الحرية هي رخصة العمل المباح من دون مانع غير مباح ولا معارض محظور ، وتنقسم إلى خمسة : حرية طبيعية و حرية سلوكية و حرية دينية و حرية سياسية . وعند الكواكبي، ” الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات الدم المسفوح ” . ويقول فيها لطفي السيد : خلقت نفوسنا حرة، طبعها الله على الحرية ” . عند هؤلاء المفكرين، الإسلام هو دين الحرية، وكل ما يناهض الحرية ليس من الإسلام في شيء. . ويقول خير الدين التونسي : ” إن الحرية و الهمة الإنسانية اللتين هما منشأ كل صنع غريب غريزتان في أهل الإسلام مستمدتان مما تكسبه شريعتهم من فنون التهذيب ” . وفي محاولة تأصيل مفهوم الحرية في المجتمع و التاريخ لجأ المفكرون العرب إلى التاريخ يستحضرون الأبطال المسلمين بوصفهم رموزاً للحرية و التسامح و الديمقراطية كأبي حنيفة وأبي ذر الغفاري وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب .

لقد ملأت الدعوة إلى الحرية صحافة ذلك الزمن وتردد صداها في الإنتاج الأدبي وكان محمد حسين هيكل رائداً من رواد الأدب في هذا الميدان إذ وصف في قصته ” زينب ” عاطفة إنسانية متحررة من قيود العادات و التقاليد، وأول السيرة النبوية تأويلاً عقلانياً، وبث في أدبه أفكار روسو وتربيته، فكان بذلك وفياً لأستاذه لطفي السيد ومذهبه في الفكر و السياسة.

وفي ابتعادهم عن تنظير مشكلة الحرية، كان دعاتها في الفكر العربي يقبلون، تحت ضغط حاجات مجتمعهم ،أية فلسفة تدعو إلى الحرية لأن الحرية هدف الحياة. وغاية التاريخ عند القومي الليبرالي، والإسلامي المجدد، والماركسي الاشتراكي والوجودي، الذين أنتجوا خطابات في الحرية أقرب إلى أن تكون نسقاً واحداً ” لأن جميع الفئات الاجتماعية التي يتألف منها المجتمع العربي متفقة في اعتناقها دعوة الحرية ” (24).
لم يجمع العرب في العصر الحديث على شيء إجماعهم على قضية الحرية، ولم تلتق المذاهب والاتجاهات الفكرية السياسية كما التقت على هذه القضية، طوال مرحلة الكفاح الوطني / القومي من أجل الاستقلال و الوحدة العربية. ولم يلتق كذلك دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة على شيء التقاءهم على هذه المسألة. فالأصالة كانت تعني إعادة إنتاج الهوية وفق منطق العصر الحديث ومعطياته، وتعني الذاتية أي الحرية والاستقلال وقد عبر الأدب عن ذلك شعراً ونثراً ورواية وقصصاً ومقالات، فضلاً عن الفكر السياسي. وحفلت به الصحف و المجلات. فليس من كاتب أو مبدع لم تشغله مسألة الحرية والاستقلال، و التطلع إلى دولة قومية دستورية حديثة قائمة على الحرية و العدل. .

ويكمن أن يميز الدارس، إلى جانب الاتجاه الوطني الليبرالي ، اتجاهات أخرى كالاتجاه الإسلامي المجدد و الاتجاه الماركسي والاتجاه الوجودي، وقد تم تأويل جميع هذه الاتجاهات بما يؤيد مطلب الحرية و الاستقلال. فالمجتمع كان يتلقى بالقبول ” أية فلسفة تدعو إلى الحرية لأن الحرية هدف تفرضه الحياة، وقد يتلقى مذاهب متناقضة في مبادئها وأهدافها البعيدة بشرط أن تتفق، ولو مؤقتاً، في الدعوة إلى الحرية. لذا نلاحظ، في العهد الليبرالية تداخلاً بين الإسلامية الجديدة والماركسية و الوجودية مع الليبرالية ” (25). وترجع أسباب هذا التداخل إلى مشاركة فئات متباينة في الكفاح الوطني، أولاً و إلى إعادة بناء العلاقة بين الفكر والواقع، بين الفكر و السياسة ثانياً. فقد بات للفكر وظيفة اجتماعية سياسية هي التي تحدد ملاءمته أو عدم ملاءمته للواقع. وإلى أن المجتمع العربي كان آخذاً بالتشكل وفق النموذج الذي يستعير منه بعض عناصره البنيوية. .

الصراع السياسي وتشظي الوعي السياسي :

كانت الحرب العالمية الثانية منعطفاً حاسماً في تاريخ العالم بوجه عام، وفي تاريخنا بوجه خاص.. فعلى الصعيد العالمي برزت الولايات المتحدة قوة رأسمالية تتطلع إلى زعامة ” العالم الحر ” والسيطرة على العالم. وطرح الرئيس الأمريكي ويلسون مبادئه الأربعة عشر، وأبرزها ” حق تقرير المصير ” الذي كان يهدف في الواقع إلى إعادة تقسيم العالم واقتسامه وفق نسبة القوى التي أسفرت عتها نتائج الحرب، وانقسم العالم، عمودياُ إلى معسكرين ونظامين متناحرين أتخذ تناحرهما صيغة ” الحرب الباردة ” وكانت أوربا وبلدان العالم الثالث ميدان هذه الحرب التي اتخذت هي الأخرى صيغة استقطاب على محوري الصراع في العالم، الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي. وانطلقت حركات التحرر القومي في كل مكان من العالم الثالث واتسع نطاق الفكر الاشتراكي وازداد نفوذه، ولا سيما إبان ” ثورة التطلعات “.

في الوطن العربي أخذ الاستعمار القديم بالانحسار، ونالت الأقطار العربية استقلالاً سياسياً هشاً ومثلوماً عينت القوى الدولية المتنافسة حدوده ومضامينه. وكانت سيرورة نزع الاستعمار طويلة ومؤلمة، من استقلال سورية ولبنان عام 1946 إلى استقلال جنوبي اليمن عام 1967 بعد ثلاثة أشهر على هزيمة حزيران عام 1967 والإجهاز على المشروع القومي الوحدوي، أو محاولة النهضة الثانية التي قادها عبد الناصر. واستقلت قطر والبحرين عام 1971 وتشكلت الإمارات العربية المتحدة في العام نفسه. مما يدل على عمق الاختراق الإمبريالي / الرأسمالي وسعي الغرب الدائم إلى ضرب إمكانات نهوض العرب ووحدتهم وتقدمهم . وانتقل الوطن العربي من ” نظام الأمن البريطاني / الفرنسي ” إلى ” نظام الأمن القومي الأمريكي “.

كان لثورة تموز / يوليو في مصر، ونزوع قيادتها إلى الاستقلال الناجز أثراً زلزالياً في الوطن العربي، وضع الأمة العربية في مواجهة مباشرة مع الاستعمار والإمبريالية وإسرائيل، و أطلق عملية تسييس وتجذير جعلت من التحرر والاستقلال والوحدة القومية والتطلع إلى الاشتراكية مضمون حركة شعبية واسعة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. . وكان وقوف الشعب العربي كله إلى جانب مصر أيام العدوان الثلاثي، البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، عليها، وتأييده من ثم لوحدة سورية ومصر عام 1958 وتطلعه إلى أن تكون نواة وحدة عربية شاملة، ووقوف الشعب المصري إلى جانب عبد الناصر إثر استقلاله من رئاسة الجمهورية بعد هزيمة حزيران وإعادته إلى سدة الرئاسة ..كانت هذه وغيرها من المعالم البارزة في المرحلة الناصرية.

في هذه المرحلة حلت مقولة ” الثورة ” محل مقولة النهضة، وظهر الالتزام في الفكر والأدب و السياسة تعبيراً عن بروز التعارضات الاجتماعية، واحتلال المسألة الاجتماعية مركز الوعي السياسي وصيرورتها، إلى جانب الوحدة العربية وتحرير فلسطين، مضمون الوعي السياسي والحركة الشعبية التي شملت مختلف فئات ” الطبقة الوسطى ” و العمال و الفلاحين. . وبرزت كذلك مسألة تحرر المرأة ومساواتها بالرجل ومشاركتها في الحياة العامة، لا سيما في الحياة السياسية. . وبات الانقسام الأيديولوجي في الوطن العربي عميقاً بين قوى تقدمية وقوى رجعية موالية للاستعمار والإمبريالية . ( هكذا وضعت المسألة آنذاك )

إزاء هذه التحولات، كان منطقياً أن ينفك الإجماع الذي انعقد على قضية الحرية فمدلولها السياسي العام الذي كان مناسباً لمرحلة الكفاح الوطني، وكذلك وظيفتها الاجتماعية / السياسية، كلاهما باتا في حاجة إلى تحديدات جديدة ذات محتوى اجتماعي ( طبقي ) وطابع نظري / فلسفي تنفق والأهداف الجديدة، أو تتفق والمحتوى الجديد للأهداف القديمة : بناء المجتمع الإسلامي و الدولة الإسلامية التي قوامها حاكمية الله بدلاً من مجتمع ” الجاهلية ” ( سيد قطب وبعده الحركة الإسلامية على اختلاف تلاوينها وتسمياتها ) وبناء المجتمع الاشتراكي العري الموحد ( التيار القومي الجديد، أو التقليدوي الجديد، ومن رموزه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ومنيف الرزاز وعصمت سيف الدولة ونديم البيطار) تحقيق المجتمع الاشتراكي ودكتاتورية البروليتاريا والأممية الشيوعية ( الأحزاب الشيوعية العربية ). وخبا أو كاد الصوت الليبرالي لتحل محله رؤية وجودية قطعت صلاتها التي كانت في الأمس بالليبرالية. . وضرب المثقفون العرب صفحاً عن فكر النهضة و التنوير ومسائله كالأنسية و العقلانية و العلمانية و الديمقراطية وحقوق الإنسان و المواطن، والشرعية الدستورية و التمثيل البرلماني وفصل السلطات و التداول السلمي للسلطة .. الخ ؛ ذلك لأن الأحزاب الأيديولوجية أحزاب الفئات الوسطى ( الأحزاب الشيوعية و القومية والإقليمية والإسلامية ) احتلت المجال السياسي المجتمعي وحالت دون تشكل مجال سياسي خاص بالفئات الاجتماعية الأخرى. فطغت أيديولوجياتها المختلفة و المتخالفة على الحقل الثقافي العربي، وتوزع المثقفون العرب، سوى استثناءات قليلة، بين هذه الأحزاب، ولا سيما بعد أن وصل بعضها إلى السلطة أو تحالف معها، وباتت الشعبوية سمة غالبة ليس على الحقل السياسي فقط، بل على الحقل الثقافي أيضاً، وأخذت في التكون والنمو ملامح الدولة الشعبوية التي أنتهت في سبعينات هذه القرن إلى دولة استبداد محدث أعادت إنتاج العلاقة المملوكية – العثمانية، أي علاقة التخارج و التنافي بين المجتمع والدولة وبين السلطة والشعب، ولا سيما بعد اغتيال جنين الدولة القومية (الأموية )، وحدة سورية ومصر في ( 28 أيلول 1961 ) ومحاولة تصفية الناصرية بحرب حزيران 1967 وتداعياتها. .

مع انفصال وحدة سورية ومصر بدأ انفصال آخر بين الحركة الشعبية و الأحزاب الأيديولوجية من جهة، وبين السلطة و الشعب من جهة أخرى، وبرز دلك بوضوح بعد هزيمة حزيران.؛ ذلك لأن السلطات الحاكمة احتكرت، باسم المشروعية الثورية أو باسم المشروعية الدينية، احتكرت المجال السياسي و أقصت منه جميع القوى السياسية بصفتها الاجتماعية ، وبات مجال الدولة \ السلطة هو المجال الوحيد للفاعلية السياسية ، أي إن السلطات الحاكمة قلصت المجال السياسي المجتمعي حتى بات مطابقا لمجالها الخاص . وأضفت عليه من ثم خصائصها الفئوية عشائرية كانت أم مذهبية أم حزبية. بعد احتكار المجال السياسي بدأت عملية احتكار مصادر القوة و الثروة، وفي كل مكان من الوطن العربي أصبحت السلطة مصدراً للثروة و الجاه و النفوذ وانطلقت سيرورة فساد الدولة.. تحولت الحرية من قضية عامة إلى قضية خاصة، من حرية البشر وحقوق الإنسان و المواطن إلى حرية ” الطبقة العاملة ” عند الأحزاب الشيوعية. وإلى حرية الأمة التي تجسدت في الحزب عند القوميين وإلى حاكمية الله وحقوقه عند الإسلاميين. وحلت مقولات الوحدة الإسلامية و الوحدة العربية والاشتراكية و التنمية و ” التصنيع ” محل الحريات السياسية و الحقوق المدنية و الدستور و الانتخابات البرلمانية وحقوق الإنسان ، وبات كل حديث عن هذه القضايا حديثاَ بورجوازياً تافهاً، ومعادياً للثورة وخروجاً على الإسلام، يعاقب قائله بالتوقيف التعسفي غير المحدد، بعد أن يوصم بكل ما يشين.

كانت ” الممارسة السياسية في العالم العربي تلح على أن تحرير الفرد يمر حتماً عن طريق تحرير المجتمع و أن حرية الفكر مرتبطة بالحرية السياسية، وهذه بالحرية الاجتماعية و الاقتصادية. . وكلما توسعت الممارسة وعمت التجربة انتشرت المقولة الماركسية على حساب المقولة الليبرالية، أولاً كدعوة سياسية ثم كنظرية فلسفية، بعد أن يعاد ربط تلك المقولة بجذورها الهيغلية ” (26).

هكذا كانت رؤية مختلف التيارات الفكرية السياسية : باستثناء الوجودية التي لم تنشر إلا في دوائر ضيقة، لكن أثرها كان جلياً في مجال الإنتاج الأدبي. . غير أنها التقت مع الماركسية المسفيتة ( كما سماها ياسين الحافظ ) على نقد الليبرالية. ويبرز هذا التداخل في قول عزيز جاسم في كتابه ” الثورة و الحرية الناقصة ” إذ يقول : “يتكشف أمامنا تناقض بين التاريخ و الحرية. فالتاريخ هو تحقيق الحرية حسب شرطي الفهم الصحيحين الهيغلي و الماركسي. ولكن صحة التاريخ ونشاطيته تبقى معلقة ما دامت الحرية مفتقدة وباقية كموضوع مجاهدة ” (27) فالسيد جاسم ينظر إلى التاريخ بمنظار الحرية في حين كان هيغل وماركس ينظران إلى الحرية بمنظار التاريخ و المذهبان الماركسي و الوجودي ينتقدان الليبرالية لسطحيتها وشكليتها، ويدعوان في الوقت نفسه إلى حرية أعمق، ولكن من خلال رؤيتين متباينتين إحداهما تضعها في الراهن وأمر اليوم وتموضعها في الفرد ( الوجودية ) و الثانية تجعلها أفقاً للتقدم وغاية للتاريخ وتؤسسها على مفهوم الإنسان وفكرة التقدم ( الماركسية ).. أما التيار الإسلامي الجديد، الذي قطع مع التأويل الليبرالي للإسلام عند محمد عبده، فيشارك أيضا في نقد الليبرالية ويؤسس الحرية على الإيمان.، يقول سيد قطب : ” إن التحرر الاقتصادي كما يراه الشيوعيون لا يكفي إن لم يكن تحرراً وجدانياً.، وذلك في الإسلام بتوحيد الله القاطع ونفي كل كهانة ووساطة”. (28) ويقول علال الفاسي : ” إن التفويت وقع على الإنسانية زمناً طويلاً … فلما جاء الإسلام وضع هذه الأوزار وفك هذه الأغلال وذلك عن طريق تفويت التفويت، ونفي النفي إثبات .. عن طريق الإيمان بالله أي عن طريق الإيمان بالحرية الحرة “. (29) فالله هو الحرية. ،والإنسان الحر هو الذي تغلب فيه الفطرة الإنسانية على الطبيعة الحيوانية. ،فإذا نزعت الإنسانية عن الإنسان عاد إلى طبيعته الحيوانية. . عند علال الفاسي الإسلام هو الفطرة و الفطرة هي الحرية إذن الإسلام هو الحرية. ويشاركه في ذلك حسن حنفي الذي يؤسس الحرية على المطلق ( الله ) إنما يؤله الإنسان ويؤنس الله كما في التصوف الإسلامي وكما عند هيغل وفويرباخ.. إن تأصيل الحرية أو تنظيرها، أي الانتقال بها من المطلب السياسي العملي إلى النظرية، لا يعني أن الإسلاميين الجدد يرفضون فكرة الحرية. ،فعلال الفاسي يرى تلازماً بين حرية الدين وحرية الفكر ” فللناس جميعاً الحق في أن يفكروا إزاء كل مسألة على الطريقة التي يختارونها بالفكر الذي يريدونه وليس لأحد أن يكرههم على اعتقاد مذهب فلسفي أو سياسي إذا كانوا يختارونه لأنفسهم، وكل من فعل ذلك فقد أخل بأعظم المقدسات ” فهو بهذا يبسط معنى الآية الكريمة القائلة : لا إكراه في الدين، تبين الغي من الرشد .

ويدافع خالد محمد خالد عن حرية الفكر و الضمير، وحرية الرأي، وحق النقد ووجوبه، وحق المعارضة بوجه عام و المعارضة السياسية بوجه خاص.، فقد كتب في مطلع الستينات ” في البدء كان الكلمة ” الكتاب الذي يرى فيه أن حرية الفكر مطلقة لا يحدها عرف ولا قانون لأن الكلمة هي ” وثيقة الآدمية لكل البشر ” وحرية الفكر تعني حرية الكلمة ملفوظة أو مكتوبة. ويفند على نحو رائع محاولات تقييد الفكر و الكلام و إلغاء الرأي باسم الدفاع عن قضية عامة أو عن الدين ، أو عن المذهب والعقيدة ؛ فالمذاهب والعقائد التي تلغي حرية الفكر إنما تلغي أساس وجودها لأنها جميعاً قامت في الأصل على حرية الفكر وحرية الرأي. وشتان بين صراع الفكر و السلطة وصراع القانون و الحرية، الصراع بين السلطة و الكلمة مختلف تماماً عن الصراع بين القانون و الحرية ؛ ذلك أن الحرية تنتظم حرية العمل وحرية القول، وليس من حق الناس أن يفعلوا ما يشاؤون دون ضابط أو كابح حتى لا تفسد الدنيا وتنقرض الحياة. ، ومن هنا لم يكن بد من قانون ينظم سعي الناس وعلاقاتهم. وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالفكر.. حرية الفكر لا ينظمها القانون إنما ينظمها ويرسم تخومها الفكر وحده، ذلك أن الفكرة الخاطئة لا يدحضها إلا فكرة محقة ” (30).

الفكر قانون نفسه و الفكر هو الكلمة، اللغة هي الفكر وهي من طبيعة الفكر نفسه لأنها تنتمي إلى الكلي فجميع مفردات اللغة، أية لغة على الإطلاق، كليات، وحرية التفكير المؤسسة على اختلاف الأفراد بالفطرة تعني حرية الرأي وحرية الضمير وحرية الاعتقاد و ” الفرد و الأمة و الدولة، هؤلاء الثلاثة لا يجدون ذواتهم وحقيقتهم إلا من خلال الكلمة الحرة و الفكر الطليق ” (31) و” حظ الحكومات من العظمة يكون دائماً مساوياً لقدرتها على احترام هذه الآراء المغايرة ومساويا لإدراكها أن حرية الكلمة ليس سيفا مصلتاً عليها، بل هي نور يهديها ومهماز يوقظها وصديق يشد أزرها ويثبت على الطريق المستقيم خطاها ” (32) كذلك في مجال العقائد الوضعية، فإن إطلاق حرية الفكر وحرية الرأي هو الذي يكشف عما فيها من حق وخير وصواب ويطلق إمكانات نموها وتطورها و ” أن تقييد حرية الكلمة في مجال الدين و الأخلاق هو الذي عطل ارتقاءنا الديني و الأخلاقي ” (33). إن العقائد و الأفكار و المذاهب تفقد بهاءها وصدقها حين تقوم على أساس من الشعور بأن حرية القول حق لها وحدها.. وهذا الشعور هو الأساس الفكري / النفسي للاستبداد و إن إنكار حرية الفكر و الرأي و الضمير هو إنكار المبدأ الذي قامت عليه جميع المذاهب في التاريخ. . الاعتقاد بحرية الفكر والأخذ به مبدأ في الدين و الأخلاق و السياسية، عاصم من التعصب و التطرف فإنه ” جدير بالعقائد في عصرنا هذا أن تتخلى عن حدتها، فإن الإيمان الذي كان ثمرة التسليم و الإذعان، قد أفسح مكانه للإيمان الذي هو ثمرة الفهم. وبهذا صار الإيمان اقتناعاً في أعلى مستويات الاقتناع (34) و للمعارضة عند خالد محمد خالد مشروعيتها العقلية و التاريخية، الواقعية، ليس فقط لأن الله فطر الناس على الاختلاف و التماثل في الوقت ذاته، بل لأن المعارضة هي السالب الذي يحمل مع الموجب طاقة الحياة الإنسانية الخلاقة، وهي بالتالي تفتح طريق النمو و التقدم أو تحول دون تحجر الأفكار و العقائد و انغلاقها على ذاتها، وتحول أيضاً دون تسويغ الأوضاع القائمة.

هذا الحديث عن الحرية لم يكن في صلب الصراعات الأيديولوجية، بل كان بالأحرى على هوامش هذه الأيديولوجيات في النقاط الني تتقاطع فيها جميعها دون أن تعي ذلك : لقد انتقلت قضية الحرية وحقوق الإنسان من المركز إلى المحيط. ذلك لأن المعركة الاجتماعية ( الطبقية ) حامية الوطيس.. يصف لنا حسن حنفي هذه المعركة في مقال كتبه عام 1970 إثر وفاة عبد الناصر قائلاً : ” هناك معركة حقيقية بين اليمين و اليسار لا بد للشعب من معرفتها، بين اليمين الذي يود إنعاش القطاع الخاص والإبقاء على الرأسمالية الوطنية 000، وتشجيع استثمار رؤوس الأموال الأجنبية، وبين اليسار الذي يود الحد من امتداد القطاع الخاص و القضاء على الرأسمالية الوطنية .. و القضاء على استغلال رأس المال الأجنبي. ، من حق الشعب أن يعرف هذا الصراع القائم، وان تتضح الأمور لديه، خاصة أن هناك يميناً يزايد على اليسار من أجل الدعوى للوحدة الوطنية وتحرير الأرض ونقد الأوضاع السائدة و الدعوة للحريات العامة و المناداة بأسلوب العمل الديمقراطي، وأن هناك يساراً يقوم بدور اليمين من أجل تبرير الأوضاع وتبريرتبعيته للسلطة ووقوفه أمام الجماهير التي تطالب بمزيد من التحويل الاشتراكي ووصفها بأنها ثورة مضادة (35) . أجل إنها معركة أيديولوجية / سياسية بين اتجاهين كان لا بد لثورة تموز أن تذهب في أحدهما بعد وفاة عبد الناصر الاتجاه القومي الديمقراطي الاشتراكي و الاتجاه ” الرأسمالي ” الذي راح يستخدم الحريات السياسية وحقوق الإنسان و الديمقراطية بوصفها أدوات ووسائل وليست أهدافاً تستمد مشروعيتها من ذاتها لتعلقها بالإنسان الواقعي و حاجاته الأساسية.. فمنذ مطلع السبعينات أخذت تتعمق الليبرالية الاقتصادية الرامية إلى مزيد من إدماج الاقتصادات المحلية في منظومة ” السوق العالمية ” التي ليست في الواقع حيّزاً مكانياً تجري فيه المبادلات بل شبكة علاقات قوة ومنظومات مصالح يحكمها جميعاً ” منطق التوسع الرأسمالي ” و العولمة الاقتصادية الجديدة “. . وقد دفع أنور السادات الذي خلف عبد الناصر، دفع مصر في هذا الاتجاه الكارثي ودشن انتقال العرب جميعاً من الحقبة الناصرية التي كان شعارها ” ارفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستبداد ” إلى الحقبة النفطية الشخبوطية ووضع مصيرالأمة في أيدي باعة المازوت من بدو الخليج و الجزيرة العربية، وانتشرت قيم البداوة انتشار الزيت فوق الماء ترافقها قيم الاستهلاك الأمريكية تحملها معاً براميل النفط. .

التيار القومي ” الثوري ” أو التقليدوي الجديد كما وصفه ياسين الحافظ ، لا يؤسس، إذا ما أهتم بالتأسيس، لا يؤسس الحرية على مفهوم الإنسان وفكرة التاريخ و التقدم ولا يرى في الفرد تجسيداً عيانياً لكلية الإنسان وماهيته ولا في المجتمع تجسيداً عيانياُ للأمة , فيؤكد على لسان أحد أعلامه أن ” الحرية موقف أخلاقي أدبي / و الموقف الأخلاقي يعني الارتباط بحقيقة خارجية ” (36). فالحرية عنده لا تعني حرية الفرد من المجتمع، بل حرية الفرد في المجتمع، كأن بالإمكان أن تتحقق حرية الفرد أو فرديته خارج إطار المجتمع أو الجماعة، أو كأن بالإمكان أن يتحرر الفرد من المجتمع هكذا مرة واحدة وليس من العلاقات الاجتماعية الجائرة التي يفرضها المجتمع في زمان ومكان محددين. وهذه المقابلة بين المجتمع و اللامجتمع من دون أي وصف لأحدهما، يسوقها البيطار بقصد المقابلة بين حرية الفرد وحرية المجتمع / الأمة. فالحرية و حقوق الإنسان و الليبرالية بوجه عام عنده عنصر سلبي قوامه النقض. فهو يقول : ” رأى كثيرون أن الحرية هي احترام رأي الغير والاعتراف بتعدد المواقف السياسية أو العقلانية وهي إمكان الشك و إمكان ارتكاب خطأ و إمكان البحث و الاستقصاء العلمي و إمكان التلفظ بكلام أمام أية سلطة أدبية فنية فلسفية أو حتى سياسية ، هذا التحديد من حق كل مفكر أن يقدمه بشكل مثالي حول مجتمع يود نشوءه، ولكنه دون شك لا ينطبق على الحرية الانقلابية كما تطالعنا في الأيديولوجيات و الحركات الانقلابية فهذه الحرية تستثني ذلك الإمكان ” (37).

وليست الحرية عنده من حاجات الإنسان الأساسية، التي يحصرها في خمس هي: الحاجة إلى التجاوب الإنساني و الحاجة إلى تجاوز وضعه و الحاجة إلى جذور أو إلى تأصيل في الوضع الإنساني و الحاجة إلى ذاتية و الحاجة إلى إطار عقائدي. .وليس احترام الرأي الآخر و الاعتراف بالتعدد وحرية التفكير و الشك، و إمكان ارتكاب الخطأ وحق البحث العلمي وحق المعارضة ، ليست هذه مما تقبل به الأيديولوجية الانقلابية أو تستسيغه. إذ إنه من دون أيديولوجية انقلابية أو وعي وجداني لها ومن دون شكل من أشكال الوعي الثوري لا يكون هناك حرية , بل عبودية. و التجربة الثورية عنده تؤجل، في أطوارها الأولى، قضية الحرية و أشكالها المجردة وتقدم عليها قضية التحرير ” فكان على جميع مدركات الحرية لذلك أن تشتق طريقها من عمل التحرير ” وهدف الحرية بالتالي ” ليس تعبير الفرد عن ذاته بشكل منسق ولا الكشف عن قواه الخاصة ولا تحقيق نمط فردي حياتي، بل اندماج الفرد تماماً في موقف عقائدي انقلابي يتخذ لونه ويركز عليه جهده ” (38) فالحرية و الروح الانقلابي وجهان لحقيقة واحدة. الحرية نتيجة الروح الانقلابي والروح الانقلابي يولد الحرية. .

ويذهب عصمت سيف الدولة بعيداً في نقد الليبرالية ويعارضها بالديمقراطية شريطة أن تقطع هذه الأخيرة جميع جذورها الليبرالية وتتخلص من مقولاتها ” الميتافيزيقية ” غير القابلة للإثبات. . ويرى أن التحرر من القهر الاقتصادي شرط ضروري وضمان لا يمكن التنازل عنه لقيام الديمقراطية.. مطلب العدالة الاجتماعية، مطلب ” الاشتراكية العربية ” له الأولوية على مطلب الحرية، وكذلك مطلب الوحدة العربية. . فهو يبني نظريته الثورية “نظرية الثورة العربية

” على جدل الإنسان ” وهذا الجدل منظوراً إليه على أنه قانون حتمي، هو جدل اجتماعي لا بد أن يفضي إلى غاية اجتماعية هي مناط شرعية القانون ومشروعية النظام السياسي وعلى هذا ” لا يكون النظام القانوني مشروعاً إلا إذا كانت الغاية التي يستهدفها هي تطور المجتمع ككل وليس تطور أي فرد فيه أو مجموعة من الأفراد. وهذا لا يتحقق إلا إذا وضعت كافة الإمكانات الفكرية و الاجتماعية والاقتصادية المتاحة في المجتمع لخدمة التطور الاجتماعي “(39) وغاية مشتركة بين أبناء الأمة الواحدة ” (40) تستهدي ” نظرية الثورة العربية ” عند عصمت سيف الدولة بالتجربة الناصرية من دون تمييز الظاهرة الناصرية الوطنية / القومية الوحدوية ذات النزوع العدالي، من السلطة الناصرية التي بادرت إلى إلغاء الحياة الدستورية وحل الأحزاب ووقف صحف المعارضة وربط النقابات بالسلطة بل لعل النظرية إياها محاولة تنظير التجربة انطلاقاُ من القيادة العسكرية التي لا يرى فيها مثلباً من مثالب ” الثورة ” بل يسعى إلى تسويغها بقوله : ” خارج نطاق البيروقراطية تضم القوات المسلحة في المجتمعات المتخلفة أو النامية قطاعاً من المثقفين. ولما كانت فرص الاستغلال البيروقراطي في تنظيم عسكري ( جيش ) أقل بكثير منها في أجهزة الدولة فإن فرص التصدي لقيادة التطور الاجتماعي متاحة للمثقفين من القوات المسلحة .. ” (41).

هؤلاء المثقفون من القوات المسلحة عندما يدركون مشكلة التطور في مجتمعاتهم المتخلفة يستطيعون تدارك سنوات التخلف الاقتصادي، وتنمية ” القدرة الإنسانية على الجدل الاجتماعي لتعويض سنوات التخلف الديمقراطي أيضاً. فإنهم يحلون المشكلة حلاً صحيحاً بالتزام أولوية الإنسان : تحرير الإنسان من القهر السياسي و الاقتصادي ليستطيع الإنسان الحر أن يبني الاشتراكية ” (42) ومع ذلك لا ينكر سيف الدولة أهمية حرية الرأي وحرية ” الشكوى ” التي تتيح إمكانات ردع البيروقراطية , وهو يؤكد أن الديمقراطية هي، طبقاً لجدل الإنسان، أسلوب المجتمعات الحرة في التطور على أساس من ” قانون الجدل الاجتماعي : حرية الرأي للجميع، حرية العقيدة للجميع، وعمل الجميع في تنفيذ رأي الأغلبية ” (43) لكن هذه الحرية موقوفة على ” الثورة ” بصفتها الأسلوب الوحيد لتحقيق الديمقراطية. فالثورة هي ” الأسلوب الديمقراطي إلى الديمقراطية و الحرية ومن هنا نفهم لماذا لا تأخذ الثورة شكل التطور الديمقراطي، فلا يستفتي الناس فيها ولا تخططها أغلبية الشعب ولا يفجرها الجميع “. ها هي ذي الإيديولوجية الانقلابية في لبوس ” الثورة العربية ” التي تستمد مشروعيتها من ذاتها، بل هي مصدر المشروعية و الشرعية بصفتها تغيير النظام في المجتمع على وجه يحقق إرادة الشعب أو أغلبيته. وهذه الإرادة كما ينم عليها نظام الخطاب تعبر عنها على أحسن وجه قيادة الثورة و ” مجلس قيادة الثورة ” الذي لا بد أن يمسك بجميع السلطات بيد واحدة قوية. ويصبح همه الدفاع عن الثورة وليس عن الوطن و الشعب ولا عن الحق و القانون و الحرية. .

ولم يكن نقد الليبرالية عند الشيوعيين أقل حدة منه عند القومويين و الإسلامويين فضلاً عن ازورارهم عن المسألة القومية في مجتمع بعاني استلاباً قومياً مضاعفاً(التجزئة والاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي والانتهاك الإمبريالي ). فقد كانت ” الثورة الاشتراكية ” و دكتاتورية البروليتاريا تبدوان لهم في متناول اليد. مما جعل الثورة الديمقراطية بكل منطوياتها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية ، تبدو لهم من مخلفات الماضي البورجوازي، وسيطرت على وعيهم مقولة ” الطريق اللارأسمالي إلى الاشتراكية ” فرأوا في الإصلاح الزراعي و التأميم ” تحولات اشتراكية ” لا يعوزها سوى قيادة الطبقة العاملة وفرض دكتاتوريتها حتى تصبح هذه “ثورة اشتراكية “، فقد تماهت أو تهاوت لديهم مقولة الحرية مع مقولة البروليتاريا. ألم يقل ماركس إن البروليتاريا عندما تتحرر سوف تحرر جميع طبعات المجتمع ؟ فالحرية و الديمقراطية وحقوق الإنسان كلها موقوفة على الثورة الاشتراكية التي تدق الأبواب، ولا تتحقق على النحو الأمثل إلا في نطاق دكتاتورية البروليتاريا و إلغاء الملكية الخاصة و إقامة النظام الاشتراكي على غرار التجربة السوفيتية أو الصينية .. وتجدر الإشارة إلى أن الاتجاهات الشيوعية أو ” الماركسية ” غير الموالية لأحد هذين النموذجين، كانت أكثر غلواً وتطرفاً في نقد الليبرالية و الديمقراطية ومقولات حقوق الإنسان و المواطن و أكثر استخفافاً بالديمقراطية البرلمانية وبالقيم البورجوازية .. احتلت مقولة الصراع الطبقي، مركز وعي اليسار العربي، في مجتمع يعاني انقسامات عمودية ما قبل قومية، وما قبل رأسمالية وما قبل بورجوازية، أو من تكسر اجتماعي صلبي أبدى أشكالاً مختلفة من التكيف مع منطق التوسع الرأسمالي الانتهاكي الإذلالي والاستتباعي في آن فبدت بنية المجتمع الذي استعير منه المفهوم مطابقة لبنية المجتمع المستعير يغني تحليلها ( أي تحليل بنية المجتمع الرأسمالي المتقدم الغربي الناجز) عن تحليله، وتاريخه عن تاريخه، إذا جاز أن نتحدث عن التاريخية و التاريخانية في مجال ” ماركسية ” وضعانية تعمل بالقوانين وليس بالمفاهيم، وتتجلى وضعانيتها في اقتصادويتها على نحو بالغ الوضوح. وفي استحالتها إلى بنيوية لا تاريخية، كما تتجلى في جهلها أو تجاهلها الجذر الليبرالي و النسغ الديمقراطي للماركسية مفهومة في سياق تكونها الموضوعي. لذلك أسهمت هذه المقولة في حجب الواقع العياني، واقع التأخر و الاستبداد و التجزئة و التبعية وعدم إدراك حاجته إلى ثورة قومية ديمقراطية تضعه على عتبة العصر الحديث، شرطها اللازم هو تمثل الليبرالية بوصفها محرزاً إنسانياً أولاً، ولأنها أرست أسس المجتمع الحديث و الفكر الحديث، رأسمالياً كان هذا المجتمع أم اشتراكياً، ثانياُ فالماركسية من دون جذرها الليبرالي ونسغها الديمقراطي، وروحها الجدلي الديالكتي ، يمكن أن تتحول إلى أيديولوجية شمولية ونسق مولد للاستبداد، وقد تحولت بالفعل. .

الظاهرة المهمة التي تكشف عن القاع الأيديولوجي المشترك، وعن الجذر الأبيستمي المشترك بين الاتجاهات الإسلامية و القومية و الشيوعية في الوطن العربي، هي اتفاقها جميعاً على نقد الليبرالية و الديمقراطية وتنكرها لهما، ليس في سيرورة نمو المجتمعات الحديثة فقط، بل في التجربة التاريخية العربية أيضاً، وإذا كان الشيخ و السياسي وداعية التقنية، قد أسهموا، قبل الحرب العالمية الثانية، في إنقاذ التقليد، كل بطريقته، فإن ” المناضل ” الإسلامي و القومي و الاشتراكي، قد أعادا بعد الحرب العالمية الثانية إنتاج عملية الإنقاذ هذه، وإلا كيف يمكن نفسر هذا المد الإسلاموي الكاسح الذي كتلته الأساسية هي ما كان جماهير الحركة القومية و الأحزاب الاشتراكية ؟ وكيف يمكن تفسير انتقال “مثقف ومناضل ماركسي متطرف إلى إسلاموي متطرف ( منير شفيق نموذجاُ ) ؟ وقد يبدو ملتبساً الحديث عن قاع أيديولوجي مشترك بين اتجاهات متباينة، بل متصارعة أيديولوجياً إذا لم يتضح مفهوم الأيديولوجية أولاً و التفارق بين الفكر والأيديولوجية ثانياً , وإذا لم يتضح واقع أن هذه الاتجاهات جميعاً تنتمي اجتماعياً ( طبقياً إلى فئات الطبقة الوسطى في المجتمع العربي ( بالجمع ) ثالثاً.وهي الفئات نفسها التي تنتني إليها السلطات الاستبدادية الحاكمة في معظم الأقطار العربية ( نستثني دول مجلس التعاون الخليجي). وإذا كان تشارك الأحزاب الإسلامية و الأحزاب القومية واضحاً ومفهوماً. فإن المفارقة تبدو في اشتراك الأحزاب الشيوعية معها في هذين العنصرين المشتركين. ولعل كتاب ” النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية “الذي طالب فيه حسين مروة بحصته من تراث الأجداد، ودفع حياته ثمناُ لذلك، يجلو بعض هذا الالتباس. ، ذلك السفر المهم الذي يتجاهل مسألة أن التناقض بين المادية و المثالية تناقض مطلق في المسألة الفلسفية الأولى فقط ( حسب ماركس ) ونسبي في ما عداه. . وإذا كان صحيحاً الافتراض أن التيارات الإنسانية في الوطن العربي تنتمي اجتماعياُ إلى فئات الطبقة الوسطى التي سيطرت على الحقل السياسي المجتمعي في الأقطار المعنية، فإن الافتراض الثاني المرتبط به منطقياً وواقعياً هو أن الصراعات الأيديولوجية كانت ولا تزال تخفي صراعاً ضارياً على السلطة يحاول كل طرف فيه أن يتسنم ” ذروة المشروعية ” العليا ( الدين – القومية – الاشتراكية )، وبهذا نكون إزاء جماعات ” تتخابط في مناخ ركودي ” حسب ياسين الحافظ أكثر مما نكون إزاء صراع طبقي/سياسي يدفع إلى التقدم. .

لقد كانت ” دولة العلم والإيمان ” التي أعلنها السادات منذ 1971 تعبيراً عيانياً، وخلاصة واقعية لهذا الصراع في مناخ العولمة الاقتصادية الأمريكية. .
النتيجة الموضوعية الثانية للصراع الأيديولوجي، المثؤر، بين أيديولوجيات انقلابية حقاً بالمعنى الذي نجده عند نديم بيطار، وفي الانقلابات العسكرية التي وسمت هذه المرحلة، هي تشظي الحقل السياسي القومي للأمة العربية ( تدل على ذلك النزاعات العربية العربية ) وتشظي الحقل السياسي المجتمعي في كل قطر على حدة ( تعبرعنه الانقسامات المتتالية في الأحزاب السياسية وظهور أحزاب جديدة على الأرضية الاجتماعية / السياسية و الأيديولوجية ذاتها )، لا سيما بعد أن أصبح مجال السياسة الوحيد هو مجال ” الدولة التسلطية ” كما يسميها خلدون حسن النقيب ويرى فيها تظاهرة فرعية لظاهرة عالمية. . بدأ هذا التشظي في الحرب الأيديولوجية التي شنتها الحركة الإسلامية ( مع التحول الذي أحدثه فيها سيد قطب متأثراً بالمودودي و الندوي ) وحزب البعث وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية على الناصرية، وبلع ذروته بعد انكفاء الناصرية وموت عبد الناصر عام 1970. .

في خضم هذا الصراع لم يكن أي حزب سياسي يحتج على اضطهاد الأحزاب السياسية الأخرى المناوئة له من قبل السلطات القمعية التي لم ينج أي حزب من اضطهادها، ولم يكن المثقف ” التقدمي ” يحتج على اضطهاد المثقف ” الرجعي ” وبالعكس، مما يكشف عن البذرة الاستبدادية و الفاشية التي تنطوي عليها هذه الأيديولوجيات و التي تحولت إلى ممارسة يومية للأحزاب ” التقدمية ” الحاكمة سواء في صراعها مع المجتمع، ومع الأحزاب المعارضة أم في صراعاتها الداخلية، وكان كل حزب ينشد الحرية و الحقوق لنفسه ويضن بها على سواه وكل مثقف ينشد الحرية و الحقوق لنسقه الخاص ويضن بها على الأخر. فانقطاع جدلية الأنا/ الأخر كانت تعبيراً عن سيرورة تفتيت وتذرير مارستها السلطات الحاكمة مستجيبة بذلك موضوعياً لمنطق العولمة الجديدة وقانون السوق وما تطلقانه من آليات تفكيك لجميع البنى الوطنية / القومية. وهي آليات تضع المجتمعات دائماً على حافة الانفجار.

الدولة التسلطية في الوطن العربي ( لا يستثنى من هذا الحكم أي نظام في الوطن العربي ) أعادت إنتاج علاقة التخارج و التنافي بين الدولة و المجتمع، وأعادت كذلك إنتاج مبدأ دولة التنظيمات الاستبدادية أي توسيع مجال الدولة السياسي حتى يشمل مجال المجتمع كله، والذي يعني واقعياً تضييق المجال السياسي المجتمعي وتقليصه حتى يتطابق مع مجال الدولة / السلطة، وذلك بنزع السياسة من المجتمع أولاً وعسكرة مجال الدولة ذاته ثانياً أي بمأسسة القمع وتعميقه بالاحتكار الفعال لمصادر القوة و السلطة، وإنتاج تناقض بين الدولة و المجتمع بلغ ذروة لم بعد ممكناً معه سوى حذف أحد طرفيه ( الحالة الجزائرية نموذجاً ،وكذلك الحالة السودانية حيث هناك حزب ” تقدمي ” حاكم وهنا ” جبهة إسلامية ” ). وما هو عار وصريح في الجزائر و السودان، ضمني وقائم بالقوة في الأقطار العربية الأخرى .

وكلما اتسع مجال الدولة، وهو هنا مجال القمع، يتسع مجال الوعي بأهمية الحرية و الديمقراطية وحقوق الإنسان وضرورتها، وتأخذ هذه بالتحول من جديد إلى مطلب وشعار، لهما طابع سياسي عملي لدى القسم الحي أو الذي لا يزال حياً من الجسم السياسي، ويجري التعبير عن ذلك بطرق شتى سمتها المشتركة معارضة الأوضاع القائمة. وفي ظل حظر المعارضة السياسية بدرجات متفاوتة من قطر لأخر، يصبح مجال الأدب و الفن و الإنتاج النظري، على ندرته، مجال التعبير الرئيس. .

يجد القارئ ذلك بوضوح في كتابات عبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وفريدة النقاش وصنع الله إبراهيم، وفي أشعار نزار قباني وقصص يوسف إدريس وغيرهم كثير..
يصف عبد الرحمن منيف في ” شرق المتوسط ” أثر القمع في تدمير الروح البشري وهدر الكرامة الإنسانية قائلاً : ” على الأرض حيوان له قامة طويلة و أذرع قريبة الشبه بأذرع الشمبانزي، أما الساقان فضامرتان وفي نهايتهما أقدام عريضة، أما في القمة فكتلة صلبة مغطاة بالشعر وفيها ثقوب عديدة في المقدمة وعلى الجانبين. وهذا الحيوان يستخدم الثقب الأمامي وخاصة العريض في أسفل الكتلة الصلبة، في القرض و الغناء والصغير، وأيام الشتاء يستخدم للتنفس. أما أيام الرعب فإنه يستعمله لغرض واحد فقط، وهذا الغرض لم يعرف له أسم محدد، قال بعضهم : للدفاع عن النفس ، وقال آخرون : للقتل، أما الكثرة الغالبة فتؤكد أن الاستعمال الوحيد لهذا الثقب في زمن الرعب يكون للقتل أو للانتحار !(44).

هذه صورة الإنسان في زمن ” أصبحت فيه الحياة عارية لدرجة أن الإنسان بدأ يخاف من نفسه، يظنهم موجودين دائماً، حين ينام، أو حين يحلم، حين يسير بالشارع، بل وحين يموت ” في زمن لم يعد المستبد يكتفي بجعل الناس يتصرفون كما يريد، بل يريدهم أن يفكروا كما يريد، يريدهم أن يشربوا ماء البحر ويسموه عصير الليمون، يريدهم أن يقتنعوا أن الوشاية وقلة الضمير خدمة جليلة للوطن الذي تماهى بشخصه المهيب، يريدهم أن يشكروه كل صباح لأنه يسبغ عليهم نعمة البقاء على قيد الحياة مع أنهم لا يستحقون ذلك، ويقول بعض خطباء المساجد أن جميع فروض الطاعة و الولاء التي يقدمها الناس بمناسبة وبلا مناسبة، ليست شيئاً إزاء فضيلة العفو التي يتحلى بها الحاكم. ” فالمستبد، كما قال الكواكبي : ” يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين ( وكعب رجله هنا أجهزة الأمن و المخبرون من الناس ) يسدها عن النطق بالحق و التداعي لمطالبته “(45). و المستبد عدو الحق عدو الحرية وقاتلهما و الحق أبو البشر و الحرية أمهم. وهذه الحالة، كما يضيف الكواكبي ” هي التي سهلت في الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المستبدين الألوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية حتى يقال إنه ما من مستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله ” .(46).

هكذا تفرض الحريات السياسية و الحقوق المدنية وحقوق الإنسان خاصة، تفرض نفسها بوصفها حاجة واقعية ومطلباً سياسياً ومسألة عملية مهما أشاحت عنها الأيديولوجيات الثورية التي أرجأتها إلى مستقبل بعيد، ولم تر فيها مدخلاُ ضرورياً لتحقيق الأهداف الكبرى كالوحدة العربية و الاشتراكية .. الخ، لا سيما حين يكشف حاملو هذه الأيديولوجية أنهم خسروا الأهداف الكبرى وخسروا الحريات السياسية والحقوق المدينة والحياة الدستورية وحقوق الإنسان و المواطن.

الوعي النقدي :

إذا كانت مسألة الحرية، بجميع منطوياتها وفروعها قد تحولت، كما أشرنا، من قضية سياسية عامة في مرحلة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، إلى مسألة نظرية حرص المفكرون على تأصيلها في التراث الفكري و التاريخ السياسي وفق الأيديولوجيات المختلفة و المتخالفة ، فاكتست طابعاً خاصاً لدى كل اتجاه من اتجاهات الفكر العربي، الإسلامية و القومية و الاشتراكية، فإن هزيمة الأمة العربية عام 1967 أطلقت حركة نقدية حاولت تلمس أسباب الهزيمة في بنى المجتمع العربي.
هذا الاتجاه النقدي الذي يمثله الياس مرقص وياسين الحافظ وعبد الله العروي بصورة أساسية أعاد لمسألة الحرية طابعها العام و الكلي بوصفها قضية الإنسان الأساسية في التاريخ وفي العالم وبوصفها مدخلاً ضرورياً لعمل تاريخي قومي ديمقراطي واجب وممكن، ونزع عنها الطابع المثالي و القشرة الصوفية، ووضعها في نطاق الكلية الاجتماعية بوصفها مسألة سياسية ذات جذر فلسفي منطلقاً في هذه القضية، كما في غيرها من وحدة النظر و العمل و الفكر و الممارسة فالياس مرقص يرى علىسبيل المثال أن مسألة الفلسفة هي مسألة الواقع ومسألة الشعب بالتلازم. الفلسفة تصور الإنسان وتاريخه ومصائره ” وأن فصل الفلسفة عن الواقع وعن الشعب من أبرز سمات الوضعانية العربية، المنبهرة بالغرب، بجانبه العلمي التقني، دون المبدأ و المبادئ التي تأسس عليها تقدم الغرب، أو الحالمة بالاشتراكية من دون أساسها المنطقي التاريخي ( الثورة الديمقراطية ) يقول الياس مرقص : ” لا يمكن أن تكون هناك اشتراكية في بلادنا مناقضة لأمور بارزة في صميم التاريخ الأوروبي : الكومونات(البلديات ) فكرة الحق و القانون و الحق الطبيعي، ثنائية الوطن و المواطن، الفرد و المجتمع، العمل و التعامل، نقابات العمال في القرنين 19 و20، ” الحريات البورجوازية ” ولكن المجتمع المدني ليس نهاية المطاف في تاريخ الإنسان وتقدمه .. “(47).

وفي المسألة السياسية، في السياسة بما هي العام و المشترك بين جميع أفراد المجتمع، يتجاوز الياس مرقص وكذلك ياسين الحافظ السطح السياسي، الدولة كامتداد وولاية على البشر، ويذهبان إلى ما تحت الدولة، إلى أساس الدولة ، المجتمع المدني و الفرد الاجتماعي، ويضعان دولة الحق و القانون أساساً منطقياً وتاريخياً للدولة الديمقراطية ويريان في الديمقراطية مضموناً، معرفياً وسياسياً لسيرورة نهوض الأمة ووحدتها وتقدمها وليس مجرد شكل سياسي وعلاقة خارجية بين الحاكم و المحكوم، يعرف الياس مرقص الديمقراطية بأنها حرية الفرد وحقوق الإنسان و المواطن، أو بأنها ” الليبرالية + مفهوم الشعب “. ويربط الديمقراطية بالديالكتيك أي بمنطق التاريخ بما هو توقيع الممكنات، بمنطق الواقع، منطق التعارضات الاجتماعية الملازمة للكينونة التي تتعدى صراع الطبقات وتناقض البنية الفوقية و التحتية، ولا تستنفد في مقولتين ولا في جميع المقولات ما دامت وظيفة الفكر هي مفهمة الواقع المتغير باستمرار. ويرى أن الديمقراطية تتضمن الليبرالية وتتخطاها معرفياً وتاريخياً أي واقعياً. الديمقراطية وحدها تنصف الليبرالية و الديالكتيك وحده ينصف الوضعية الإيجابية.. ويحذر اليسار العربي من الليبرالية التي أبدت سفحها الاجتماعي الطبقي وخفضت إلى حرية المشروع الاقتصادي وحرية السوق وها هي ذي تصدر إلينا من الولايات المتحدة في صيغة ليبرالية اقتصادية نقية لرأسمالية جديدة نقية قطعت كل علاقة كانت تربطها بجذورها النهضوية التنويرية الإنسانوية، أي بالثورة الديمقراطية البورجوازية التي كانت تحمل إمكانات الانتقال من المجتمع المدني إلى المجتمع المؤنسن. .

وهذا ليس معناه رفض الليبرالية من العتبة بل معناه أن ثمة فرقاً وحداً بين موقفين ومبدأين : الليبرالية و الديمقراطية. و”أن هذا الفرق شرط ، بين جملة أمور ، لفهم تاريخنا الأخير وحاضرنا ومستقبلنا، بلا ضياع ولا أحلام هوائية. وشرط لتصالح قطاع واسع من المثقفين الجيدين مع تاريخنا وشعبنا. . والديمقراطية ليست هدفاً وطريقاً وأداة في العمل السياسي وحسب بل هي أيضاَ موقف في نظرية المعرفة. الديمقراطية هي موقف اعتراف بالكائن و الواقع، بذات الواقع و التاريخ. موقف اعتراف بالبشرية الأمية صانعة التاريخ. . سياسياً ، الليبرالية هي موقف اعتراف بنخبة بطبقة وسطى، ببورجوازية، بمثقفين و أحزاب، بدائرة حديثة من مجتمعنا، أي بشكل من أشكال ” شعب الله المختار “حديث و “أيديولوجي”. كنخبوية، من اسهل أن تنقلب هذه الليبرالية إلى فاشستية. .
الديمقراطية هي موقف اعتراف بجماهير هي كتل كبيرة ومهمشة ويجب أن تتحول إلى ذات تاريخية وسياسية ومن أجل هذه القضية التي هي قضية تاريخنا الأخير و الراهن، على المثقف أن ينتقل بوعي من ” عنصر ” وضعانيته الفلسفية إلى عنصر الجدل(48). عنصر الجدل هنا هو عنصر الديمقراطية سياسياً. الاعتراف بذات الواقع و التاريخ، بذات الشعب، بواقع التعدد والاختلاف و التعارض، بحرية الفرد وحقوق الإنسان، بواقع أن حرية الآخر هي الضمان الواقعي الوحيد لحرية ال أنا بالحقوق المتساوية سياسياُ واجتماعياً للأفراد، وهي حقوق تجد أساسها الموضوعي في تماثل العمل البشري المجرد الذي يعبر عنه مفهوم القيمة المجرد حين نبادل سترة بطاولة أو بعشرة كيلو غرام من القمح , هنا الإنسان هو محور المنظومة الفكرية / السياسية، ومعيار التقدم، مثلما هو محور العالم ومعيار القيم. .

يشترك الياس مرقص وعبد الله العروي وياسين الحافظ في نقد الماركسية العربية المفتقرة إلى جذر ليبرالي. يقول العروي : ” لا سبيل إلى الشك لكل من له معرفة وذهن ثاقب أن المحيط العربي الثقافي و الاجتماعي و السياسي، يلون ماركسية العرب، حتى أولئك الذين تعمقوا في دراسة ” أصل المذهب ” وهم قليلون جداً، فكم بالأحرى من اكتفى ببعض النتف المترجمة المبسطة في الصحف و المجلات، أقول يلون ماركسيتنا بصبغة العداء لكل ما هو ليبرالي : ضد الرأسمالية في الاقتصاد، ضد الديمقراطية التمثيلية في السياسية وضد النفعية في الفلسفة، ضد المادية في العلاقات اليومية، ضد النثر في التعبير …(49). المحيط العربي الثقافي و الاجتماعي و السياسي هو محيط ” التأخر التاريخي العربي ” الذي كشف العروي عن أبرز تظاهراته في نقد الأيديولوجية العربية المعاصرة وتعرية منطقها الداخلي و نظامها المعرفي الفقهي.

ويلتقي كذلك العروي و الياس مرقص في تمييز الليبرالية الكلاسيكية، ثمرة كفاح الطبقة الوسطى ضد الإقطاع، من أيديولوجية الليبرالية الحالية الجديدة التي تسخر الأنظمة البرلمانية في الدول المختلفة لمصالحها وتزورالانتخابات وتستغل الحرية الاقتصادية لتركيز الاستثمارات الرأسمالية. وهذا التمييز ناجم عن الاعتراف بأن الماركسية هي وارثة المنطق الليبرالي الحديث، وهو الذي يجعل من الممكن فصل الليبرالية كمنهج عن الليبرالية كسياسية. . العروي يرى في إخفاق الليبرالية العربية سبباً أساسياً لتعثر المسيرة العربية و أن ” الفكر العربي لم يستوعب مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية وفعالية و أنسية … الخ، لكن هذا الاستيعاب مهما تأخر، سيبقى على جدول الأعمال .
لا بد إذن للفكر العربي من تمثل الليبرالية واستيعابها من دون المرور بمرحلة ليبرالية هذان التمثل و الاستيعاب أشبه بثورة كوبرنيكية على صعيد الوعي، ثورة تمس المنهج لا الأهداف التي ستبقى لمدة طويلة هي التنمية و الديمقراطية و الوحدة العربية و الاشتراكية..

الأهداف التحررية تقتضي منهجاً حديثاُ يساعد على الوصول إلى ” مطابقة التعبير للمعبر عنه في زمن التعبير”. يركز العروي في نقده على المنطق التقليدي الذي ،على الرغم من حملات أصحابه البليغة على الاستعمار الفكري و الغزو الثقافي، ودعوتهم إلى الأصالة، إنما يقود في الواقع إلى التصالح مع الغرب، لذلك يرى في تمثل الليبرالية شرطاً ضرورياً للانتقال إلى الماركسية التي لا غنى عنها لمثقف العالم الثالث. وذلك لأنه لم يتحقق التداخل المطلوب و الضروري بين العلم و الأيديولوجية العامة في البلاد المتخلفة ومن صمنها البلاد العربية. إذ “تبقى الثقافة القومية المكتوبة وحتى الشعبية، معزولة عن ممارسة المجتمع لا يغذيها هذا الأخير بأسئلة جديدة، وبموضوعات و إحساسات جديدة، فتعبر حتماً عن حالة اجتماعية كانت ملائمة لها في الماضي، ولم تعد تعبر عن الواقع الذي يعيشه القسم المنتج من المجتمع، ليست ممارسة المجتمع المتخلف متأخرة بالنظر إلى ممارسة مجتمعات أخرى، بل ثقافة ذلك المجتمع متخلفة بدورها عن ممارسته ” (51 ) الماركسية هنا، عند العروي ماركسية تاريخانية تعيد الاعتبار لموضوعية التاريخ ومنطقه وفكره، وتعيد إنتاج وحدة التاريخ و العمل السياسي، إذ ينصهر الوعي التاريخي و الوعي السياسي المدني في وعي موحد بموضوعية الأعمال الإنسانية ووحدة التاريخ البشري. فلا يبقى ثمة مجال لتاريخ تصوري خاص بأمة من الأمم منفصل عن التاريخ العام و الكلي، ولا من مجال أيضاً لتمييز مرحلة مضيئة وأخرى مظلمة في التاريخ القومي، ولا من معنى للخصوصية والانغلاق على الذات، أو التمركز على الذات ما دامت الموضوعية واجباً يفرضه التاريخ نفسه على الجميع ، بذلك يستعيد التاريخ طابعه الإيجابي الإنجازي فلا يظل تاريخ حقيقة مطلقة اجترحت مرة واحدة منذ البدء،ولا تاريخ حقيقة مستحيلة إلى الأبد ، بل تاريخ هو حركة وصيرورة لحقيقة هي في متناول البشر وأمامهم وفوقهم أيضاً

الديمقراطية في نظام مدني تقتضي كما يرى العروي أن لا أحد في المجتمع يملك الحقيقة السياسية ، أي ما يصلح وما لا يصلح لخير المجتمع وسعادته ، فالحقيقة السياسية ينتجها الجميع، وهي بالأحرى حقيقة توفيقية يصطلح عليها مؤقتاً بانتظار نتائج التجربة وتغير الأوضاع ، الحقيقة العقلية والحقيقة التاريخيةوالسياسية ليست شيئاً خارج عالم الإنسان وحياته الاجتماعية ، بل هي بالأحرى حقيقة حياته الاجتماعية و السياسية . ياسين الحافظ ، على الخط النقدي ذاته ، اختار ميداناً أكثر لصوقاً بالعمل السياسي، ميدان الهزيمة العربية الطويلة والأيديولوجية المهزومة ، على اختلاف تلاوينها السلفية و القوموية والماركسوية المذهبية المعتقدية الصادة للفكر الحر ، ونقد النخب السياسية التي خانت قضية الديمقراطية بعد الاستقلال ، وبررت خيانتها هذه تارة باسم الاشتراكية وتارة أخرى باسم وحدة الأمة أو ضرورات المعركة مع الإمبريالية وإسرائيل” .
والواقع أن الصراعات بين أجنحة الحركة التقدمية العربية بفرعيها القومي و الماركسي العربي المسفيت ، وخاصة الصراع بين الناصرية و الشيوعية في العراق بعد 14 تموز 1985 ، هي التي وأدت الديمقراطية في المشرق العربي . فحين يغيب التسامح وتدان التعددية ويعتبر كل فريق نفسه مالك الحقيقة ، وحين يمارس التقدميون السحل والسحل المضاد ، ويصبح السجن المكان الوحيد للخصم ويوضع القانون على الرف أو يصبح غلافاً لشهوة الحاكم أو مصلحته ، حينما يحدث هذا كله أو بعضه ماذا يبقى للمجتمع من قيم ووسائل يدافع بوساطتها عن الديمقراطية ؟. ولذلك لا يمكن للمجتمع العربي ، في نظر الحافظ ، أن يتجاوز وضعية التأخر والاستبداد ويتحرر من الهيمنة الخارجية ما لم يتبن القيم و المناهج التي توجه المجتمع الحديث وتنظم حياته : القومية ، المواطنة، سيادة الشعب أو الديمقراطية ، الإنسانوية ، الفردوية ، قيم الشغل ، سيادة القانون السيطرة على الوقت ، ربط الكلمة بالشيء أو الفكر بالواقع ، الفكر العقلاني التحليلي التركيبي .

فالمكر الأكبر الذي أعطى شرعية لتقليد الاستبداد الشرقي المنبعث من جوف التاريخ هو نقد الديموقراطية باسم اشتراكية قيد التحقيق أو باسم ماركسية عربية مسفيتة أو معتقدية قومية عربية ذات تلاوين ماركسية مسفيتة ، فالاشتراكية لا يمكن أن تكون إلا إنجازاً للديمقراطية وتجاوزاً لها في آن ، وليست نفياً لها . والديمقراطية ذاتها في الوطن العربي الذي يعاني من نقص في اندماجه القومي و الاجتماعي، تتطلب أولاً علمنة المجتمع وليس السطح السياسي فحسب، وتحديث الفكر عامة و الفكر الديني خاصة، وحل مسألة الأقليات المذهبية المتحاجزة التي يعيق تحاجزها سيرورة التقدم العربي. إذ لا يمكن إحراز التقدم في ظل تديين المجتمع . وعلمنة السياسية ، هذا إذا لم نتحدث عن تطييف (من الطائفة ) المجتمع وتديين السياسة. العلمانية عنده حصيلة نظرة تجمع بين الدنيوة والعقلانية نظرة إلى الكون والإنسان و المجتمع والثقافة، وفي الحيز الأخير السياسة .إن حل مشكلة الأقليات المذهبية والدينية بالعلمانية،وحل مشكلة الأقليات القومية بالديمقراطية شرط أولي وأساسي لانطلاق التاريخ الداخلي للأمة .وإذا كان قرار التقدم العربي لا يمكن إلا أن يكون قرار الأكثرية السنية فإنه لا يجوز أن يكون سنوياً، مذهبياً. “إن قبض النخبة الأكثرية على مشكلة الأقليات تشكل مقدمة لا بد منها لارتفاعها إلى وعي قومي عربي حديث، وإلا فإنها ساقطة حتماً في شراك وعي طائفي سنوي مضاد. أن مسألة التقدم العربي تصبح أقل صعوبة بقدر ما تتجاوز الانتلجنتسيا الأكثروية وعيها الطائفي الضمني إلى وعي قومي عربي، علماني وديمقراطي. بخاصة في حالة أمة تعاني نقصاً في الاندماج القومي. الوجه الأول لميدالية القومية هو العلمانية والثاني هو الديمقراطية “(52) .

مشكلة الأقلية، والأقليات، في الوطن العربي هي مشكلة الأكثرية نفسها أولا وإلا فالتقدم العربي سيظل محتجزاً وملجوماً. الانتقال من مفهوم الملة إلى مفهوم الأمة يتوقف على علمنة المجتمع العربي وتحديث بناه وإطلاقه الحريات السياسية والحقوقية المدنية على أساس من المساواة وإطلاق حرية الفرد وحقوق الإنسان بضمانات دستورية وقانونية.
كشف ياسين الحافظ بروحه النقدي جذور الهزيمة المشينة والمذلة أمام إسرائيل عام 1967 ورأى فيها حلقة من حلقات هزيمة طويلة عمرها أكثر من ألف عام بدأت نذرها مع سقوط المعتزلة وانهيار الدولة المركزية العربية الإسلامية . وكشف كذلك عن أسباب إخفاق محاولتي النهضة الأولى والثانية، وهي أسباب جسدها انتقال الأمة من الحقبة الناصرية إلى الحقبة الشخبوطية التي أهم سماتها وتظاهراتها ” تصفية مشروع أو جنين الدولة –الأمة (أو الدولة القومية ) والتقهقر إلى مرحلة ما قبل الدولة، أي الدولة العشيرة، الدولة الطائفة والدولة الطغمة يتجلى( ذلك )أولاً في الانفصال المتزايد بين الحكم والشعب، وثانياُ في تنامي الطابع التوتاليتاري للأنظمة العربية وثالثاً في التوسع المذهل في فساد “الدولة ” ، فساد لم يعد لا هامشياُ ولا استثنائياً ولا مدلساً، كما أنه فساد ارتدى طابعاً سياسياً مملوكياً، أي أنه لم يعد مجرد مسألة انحلال أخلاقي، بل تعبيراً عن انفصال الحكم عن الأمة .
منذ هزيمة حزيران بدا واضحاً أن سلطان الأيديولوجية التقليدية السلفية في توسع ملحوظ .. كما أن الصراعات السياسية الطائفية المكتومة أو المتفجرة التي يعانيها عدد من الأقطار العربية غذت أيديولوجيات طائفية صبت في تدعيم السلطات الأيديولوجية التقليدوية السلفية، فخلخلت هنا أو قطعت هناك اللحمة القومية للشعب، وطرحت مسألة الأقليات نفسها كمسألة متفجرة. والتقليد الشعبي أو المكتوب ما زال يقدم لكتلة الأمة ( الريف –المرأة – أميي المدن ) غذاءها الثقافي ووعيها السكوني المفوت، رغم الهزات والتغيرات السياسية التي أصابت السطح السياسي العربي.. ولعل السبب الأكثر أهمية .. هو تهافت وإخفاق الأيديولوجية والحركة القوميتين العربيتين وكذلك الماركسية العربية.. والواقع أن الحركة القومية .. رغم تناقضاتها السياسية الحادة مع الحركات التقليدية ( الإخوان المسلمين مثلاُ ) تشارك إلى هذا الحد أو ذاك الأخيرة بعض عناصرها الأيديولوجية : الماضوية،اللاعقلانية، ناهيك عن إدانتهما المشتركة ، انطلاقاُ من منظورات روحية وإيمانية لليبرالية والماركسية على حد سواء… وجاء أخيراً دور الأيديولوجيا البدوية التقليدية المحمولة بدلاً من على ظهور الجمال، على براميل البترول “.(53)
الظاهرة اللافتة للنظر في الوطن العربي هي تحديث السطح السياسي وبقاء المجتمع راكداً وهاجعاً، بل إن الأخير انتكس بفعل انفصال مجاله السياسي في صيغة الدولة القطرية الاستبدادية التابعة التي يعاد إنتاجها من الخارج (باستثناء اللحظة الناصرية ) انتكس إلى أسوأ ما في تاريخه، ويرتبط بهذه الظاهرة تحول السياسة و الثقافة إلى سياسة وثقافة نخب منفصلة عن الشعب ومرتبطة بدولة ” العلم والإيمان ” أو بمعادلها الموضوعي، حركات التطرف الديني، وثمة دائماً علاقة تناسب طردي بين الاستبداد و الفساد، وكلاهما ينحطان بالدولة إلى ما دون مفهومها ويلغيان وظائفها الاجتماعية والإنسانية العامة ويجعلان منها أداة للنهب ومن الشعب موضوعاً له، ويجعلان منها بالتالي وبالضرورة أداة للقمع ومن الشعب موضوعاً له. وحين يجتمع القمع والإفقار لا يبقى للبشر من ملاذ سوى الله. في مواجهة هذه المعادلة الكارثية التي تلخصها ” ثنائية العسكري /الشيخ” تصبح الأمة أمام أحد خيارين : إما الدوران في هذه الحلقة الجهنمية المعيبة، أو القيام بعمل تاريخي وكلي هو حسب الحافظ ” الثورة القومية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي “.

مع أن التنمية كانت ولا تزال من أهداف الحركة القومية العربية إلا أن إخفاق محاولات التنمية القطرية دفع الحافظ إلى نقد التصورات التنموية التي هي في الأساس تصورات الحركة القومية العربية، ذلك لأن الأخيرة بسبب من امتثاليتها وتقليدويتها أولاً وافتقارها إلى وعي كوني ثانياً، تجهل الثورة الديمقراطية وتنكرها في آن. وبخاصة عندما تفهم هذه الثورة بوصفها عملية دنيوة أو علمنة شاملة للمجتمع. وحديث الحركة القومية ، على اختلاف تلاوينها الأيديولوجية الإسلامية والقومية والاشتراكية، عن عدالة اجتماعية أو مساواة، قبل أن تسقط خلال ممارسة الحكم في نمط محدث من الاستبداد الشرقي، وقبل أن ترث وتوسع امتيازات الفئات المستغلة القديمة، حديث لا يمت بصلة إلى الاشتراكية كصيغة عصرية وإنسانية للعدالة، ولا إلى الديمقراطية كصيغة عصرية للمساواة. إذ إن أفقها الأيديولوجي وذخيرتها الثقافية جعلا نزوعها إلى العدالة الاجتماعية ضرباً من تطلع إلى تنظيم بدائي، قطيعي للمجتمع، لا مكان فيه للفردية الخلاقة ولا أثر لحقوق الإنسان. أضف إلى ذلك أن المنظورات التنموية تتفق مع منظوراتها المفتقرة إلى النزعة الإنسانية ( النزعة التي تعتبر الإنسان مركز الكون وقيمته الأسمى والتي تشكل حجر الزاوية في عمارة المجتمع الحديث. ويبدو لنا أن مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي رهن باندياح هذا الوعي النقدي وانغرازة في متن الأمة، أي رهن بتبني الأنتلجنتسيا العربية، والأحزاب السياسية بالتالي وعياً تاريخياً وكونياُ حديثاُ أي علمانياُ وعقلانياُ وديمقراطياُ وفي المحصلة أنسياً أو إنسانوياً .

الاحتفاء بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان :

صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الأمم المتحدة في 10/12/1948، وكان من بين أعضاء اللجنة التي وضعت مشروع الإعلان عربيان هما : شارل مالك من لبنان ومحمود عزمي من مصر، وكان شارل مالك مقرر اللجنة، ويعد هذان المفكران
من أوائل المدافعين عن حقوق الإنسان في صيغتها الجديدة، المحددة التي أقرتها الأمم المتحدة وكانا من القلائل من أبناء جيلهما يدافعان عن الأفكار والمناهج والقيم الليبرالية

وينقدان في ضوئها الأحزاب الأيديولوجية ولا سيما الشيوعية منها، وإذا كان شارل مالك ليبرالياً له رؤيته الخاصة لدور لبنان الوسيط بين أوروبا والشرق العربي، فإن محمود عومي كان أقرب إلى الاتجاه الاشتراكي مع تمسك شديد بالحياة الدستورية والتمثيل البرلماني والانتخابات الحرة ونقد شديد أيضاً للستالينية “وفي عام 1930 ألف محمود عزمي مع عدد من المصريين المقيمين بأوروبا”لجنة تابعة لجماعة حقوق الإنسان .. وهو يفاخر بأن الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان قد أعلن “عداءه لكل نظام دكتاتوري يميني أو يساري فاشي أو بولشفي ” (54) وقد كتب عزمي كتاباً بعنوان ” حقوق الإنسان ” عام 1950 قال في مقدمته : “ولما كانت حقوق الإنسان عندي من أعز ما أصبو إلى أن أراه سائداً الجماعة المصرية من اعتبارات، وكنت فد حضرت أول اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي خلال الدورة الأولى للأمم المتحدة التي عقدت بلندن في شهري يناير وفبراير (ك2 وشباط ) من سنة 1946 وتابعت بانتظام جلساته التي عقدت بمدينة جنيف في سنتي 1947 –1948، ثم جلسات الجمعية العامة في دورة قصر شايو التي وقعت الدول خلالها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان… فقد رأيت أن أساهم من جانبي في إذاعة المبادئ التي انطوى عليها ذلك الإعلان، وأنه لخير وثيقة أخرجتها الأمم المتحدة للناس “(55).

كان الإعلان موضع ترحيب من معظم المثقفين والكتاب العرب، وترددت أصداؤه في كتاباتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وجهد كثيرون منهم كما فعل محمود عزمي في نشر مبادئه وإيضاح مراميه، ففي مقدمة كتاب أصدرته وزارة الإرشاد والبناء الكويتية صدره وزير الإرشاد بمقدمة قال فيها: ” نخن في الكويت نؤمن بأهمية الإنسان وقدسية حقوقه ونعلم علم اليقين أن اجل وأغلى ثروات الأمة هي الثورة البشرية”(56)وحاول المثقفون ورجال السياسة توكيد أن مبادئ الإعلان جميعها تتفق مع رسالة الإسلام السمحاء ، ومع ما وزخر به تراث الأمة وتاريخها من تكريم الإنسان بصفته خليفة الله في الأرض ، وأن العرب المسلمين كانوا سباقين إلى إعلاء شأن الإنسان والمناداة بالحرية والمساواة والعدالة فقبل الماغناكارتا، وبيان الاستقلال الأمريكي ، وإعلان الثورة الفرنسية كان الخليفة عمر بن الخطاب قد أعلن أن الناس يولدون أحراراً متساوين في الكرامة الإنسانية “متى استعبدتم الناس وقد ولدتكن أمهاتهم أحراراً ” وذلك على هدي القرآن الكريم الذي قال: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم, وسنة الرسول العربي الذي قال: ” الناس سواسية كأسنان المشط ” وأنهم جميعاً لآدم و آدم من تراب. فإعلان حقوق الإنسان لم يزد على إظهار ما في الإسلام وما في تراث العرب من مبادئ التسامح والرحمة والعدل والإحسان والحرية والعدالة والمساواة.

إلا أن هذا الاحتفاء لم يكن يخلو من الإشارة إلى ما بين المبادئ والممارسة السياسية من تفارق وتعارض. فعلى الرغم من حرص دساتير كثير من الأمم، ولا سيما الأمم المتقدمة ،على المناداة بحقوق الإنسان، فقد كان هناك بون شاسع بين النظريات والتطبيق “فالحقوق التي ضمنت للمواطن في الدول الديمقراطية لم تضمن لأبناء المستعمرات الذين عوملوا معاملة يندى لها جبين الإنسانية والمدنية (57) ولولا ثورة أبناء المستعمرات في أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية لظل الإنسان في هذه البلاد مهيض الجناح لا يعترف له بحقوق الحياة الحرة الكريمة. فالمستعمرون الذين ألفوا استرقاق الشعوب وتمرسوا في فرض إرادتهم على غيرهم ما زالوا يستهينون بحقوق الإنسان. ولن تسود حقوق الإنسان وتتحقق إنسانيته إلا بزوال التمييز العنصري والقضاء التام على الاستعمار الذي يعترض سبيل الشعوب النزاعة إلى الحرية والاستقلال. يتساءل محمد شاهين حمزة قائلاً: ” أ صحيح أن حقوق الإنسان قد ولدت لأول مرة في التاريخ في اليوم العاشر من شهر ديسمبر 1948 في قصر شايو بباريس؟ ” وهو سؤال استنكاري كما يبدو يحيل على تاريخ أقدم لحقوق الإنسان ربما يبدأ مع بزوغ الإسلام. ثم يتساءل: ” وما قيمة الوثيقة التي سطرت عليها تلك الحقوق من الناحية العملية؟ ومن هم حماة هذه الحقوق المسطرة وحراسها اليوم، أتراهم أصحابها الضعفاء أم هم خصومهم وخصومها الأقوياء؟!(58)

حقوق الإنسان في نظر هذا الكاتب قديمة لا تقف في قدمها عند ما ظهر منها في الشرق مشرقاً وضاحاً من قبل، بل تمتد جذورها إلى أغوار الماضي وما رسل الشرق وأنبياءه وهداته ومن جاء بعدهم من مفكري الغرب سوى سلسلة متصلة الحلقات ” ولو أن الشرقيين كانوا دوماً هم الذين يشقون الطرق ويعبدون السبل”. وأن الصراع في سبيل هذه الحقوق كان تقدماً ولا شك وإن لم يكن موصولاً دائماً، بل تعرض لتوقف أو نكوص. ولا يفوته أن يعرض بالتمييز العنصري في الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا ويرى فيه دليلاً على صورية إعلان حقوق الإنسان وعلى تفارق الممارسة الواقعية والإعلانات. فما كان ” من قسمة الناس إلى رومانيين وبرابرة في الماضي لا يزال واقعاً حيث يوجد تمييز عنصري” (59) كما أن الاستعمار واقعة تكشف بجلاء عن عدم إيمان معظم الموقعين على الإعلان بمضمونه ودعوته. ولهذا صدر الإعلان خالياُ من أية ضمانات قانونية تلزم الدول به أو عقوبات تفرض على مخالفي نصوصه ومبادئه. ويشير إلى أن مندوب إحدى الدول حاول أن يسد هذه الثغرة إلا أنه لم ينجح. وكان نص اقتراحه: ” أن الحقوق الإنسانية والمدنية والحريات الأساسية الواردة في هذه الوثيقة يجب أن تحميها قوانين الدولة وكل انتهاك أو تقييد لهذه الحقوق سواء بطريق مباشرة أو غير مباشر يعتبر انتهاكاً لهذه الوثيقة ، كما يعتبر متعارضاً مع المبادئ السامية الواردة في ميثاق هيئة الأمم المتحدة ” (60) ولعل المندوب المشار إليه هو مندوب الاتحاد السوفييتي.

ويشير محمد شاهين حمزة كذلك إلى واقعتين مهمتين تعدان تنكباً عن طريق حقوق الإنسان أولاهما، سباق التسلح المحموم الذي يهدد الأمن والسلام واستقلال الدول والشعوب الضعيفة ومصير الإنسانية . وثانيهما الفقر الذي تشكو منه أكثرية السكان في العالم، ولا سيما في المستعمرات والدول حديثة الاستقلال فلا حرية، ولا كرامة للإنسان مع الفقر والعوز. لذلك فإن إعلان حقوق الإنسان ” لم يحرز مكسباً مادياً ولم يستطع أن يقي أحداً شراً من الشرور التي جيء به للوقاية منها. لكن ما يجب أن يدرج في باب الأرباح ما أحرزته الوثيقة من كسب أدبي كبير “(63)ويلفت النظر الكشف المبكر عن واقع أن لجنة حقوق الإنسان فرع من شجرة الأمم المتحدة. ومن فروع هذه الشجرة لجان ومنظمات لتمويل مشروعات التنمية الاقتصادية وتحسين الشؤون الاجتماعية، ومنظمة الأغذية والزراعة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ” وليس يجوز في الأذهان شيء كدعوى المدعين بتجرد هذه جميعاً من الهوى “(62)

معلوم أن فردية الفرد لا تبلغ تمامها إلا في إطار جماعة إنسانية، فأول ثورة في تاريخ البشر بعد ظهور النوع،هي نشوء الاجتماع البشري، فإن مجرد انتقال الإنسان من الحالة الطبيعية إلى الحالة الاجتماعية كان تقدماً تحددت فيه من البداية حرية الإنسان هدفاً للتاريخ وغاية للتقدم، وكان ظهور ” الدولة ” ملازماً لظهور الاجتماع البشري لحاجة الإنسان إلى وازع من نفسه، حسب تعبير ابن خلدون، ويتخلى بموجبه عن جزء من حريته وحقوقه لقاء العيش المشترك مع الآخرين، وهذا الجزء الذي يتخلى عنه كل فرد بدافع الحاجة إلى الاجتماع هو جوهر القانون ” ووظيفة الدولة هي تحقيق فكرة القانون التي استشعرها الإنسان في حلقات تطوره الطويل قبل إنشاء السلطة الزمنية وقبل الدخول في الجماعة السياسية ” (63) لذلك فإن القانون وسيلة لتحقيق سعادة الإنسان ( الفرد ) والإنسان غاية في ذاته في حين ليست الدولة سوى وسيلة لتحقيق فكرة القانون. وبدلاً من أن يكون الإنسان غاية في ذاته سار التطور الواقعي على أساس أن الدولة غاية في ذاتها، ولم تكن هذه الدولة سوى الملكية الخاصة وقد صارت دولة. منطقياً الفرد هو أساس الدولة الطبيعي، انفصال الدولة عن أساسها الطبيعي جعل منها على مر التاريخ دولة تسلط واستبداد. حقوق الإنسان وكرامته وحريته مؤكدة بقوة في الدين، دين الإله الواحد، تحت مبدأ الله أكبر والله أعلم. تسييس الدين كان أول خطوة مكنت الدولة من التنكر لمبدئها وأساسها. فقد كانت المسيحية ترفض الفكرة الرومانية القائلة بخضوع الدين للدولة، وترى في عبادة الإمبراطور نوعاً من الشرك وعبادة الأصنام، لذلك أمرت أتباعها أن يرفضوا هذه الشعائر وبها تغيرت الأسس التي كان يقوم عليها المجتمع البشري ” فبينما كان الروماني القديم ينظر إلى الدين على أنه جزء من كيان الدولة وشعائرها، أخذ الإنسان المسيحي ينظر إلى الدين على أنه شيء منفصل عن المجتمع الإنساني وأنه أسمى من هذا المجتمع ” (64) بهذا اللون الجديد من التفكير أكدت المسيحية الفصل بين الدين والدولة وحررت الإنسان من عقيدة الحاكم، من عبادة الدولة،من الوثنية الجديدة.

الفلسفة التي استمدت مبادئها ومقولاتها من الدين بوجه عام، ومن دين الإله الواحد بوجه خاص قامت على أساس النزعة الفردية، وكانت حركة الاعتراض على هذا الانتكاس الذي فقد معه الإنسان جميع مقوماته وحرياته ولم يعد له منها شيء، حتى في مجال الدين والعقيدة. وكان لرجال الكنيسة أنفسهم أثر مهم في هذه النكسة فقد انتهى القديس أوغسطين وتوما الأكويني إلى إنكار حرية العقيدة. بل إلى وجوب حمل الخارجين على الكنيسة على العودة إليها بالقوة والتعذيب وبالقتل عند اللزوم. وكان لا بد من العمل، على فصل الدين عن الدولة، والحد من سلطة الكنيسة والإكليروس،على أن ذلك لم يمس سطوة الدولة وسلطانها، بل على العكس أسهمت كتابات مكيافلي وبودان وهوبز في توكيد غلبة الدولة وسيادتها، وتعزيز سلطان الملوك. ” ومن وحي هذه الفلسفة الجديدة ابتعدت تعاليم المذهب الفردي ، وعادت السلطة الزمنية في شخص الملك طاغية متحكمة، ويفنى فيها الفرد نهائياُ “وباتت الدولة غاية في ذاتها فوق القانون وفوق الأفراد . ودام ذلك حتى القرن الثامن عشر وبزوغ الفكر الجديد ” الذي يدور حول تقديس الفرد ، وأنه هو محور النظام وغايته وأنه هو مصدر القانون يملك حقوقه ويتمتع بحرياته نزولاُ على مقتضى أحكام القانون الطبيعي” (65) في ضوء مفهوم الدولة ، وبنيتها ووظيفتها وغايتها باتت تتحدد بصورة واقعية حقوق الإنسان وحرية الفرد ومعنى المواطنة وكذلك مبادئ المساواة والعدل.

الفكر العربي ، كان ولا يزال معنياُ بتوكيد أهمية الدولة أولاً وصيرورتها دولة حق وقانون ثم دولة ديمقراطية ثانياً . ومع ذلك لم يغفل الكتاب والمفكرون العرب مسألة حقوق الإنسان فقد أسس روكس بن زايد العزيري حقوق الإنسان على مبدأ ” قابلية الكمال اللانهائي ” أي قابلية الإنسان للتحسن والتقدم والارتقاء إلى مالا نهاية . وهي ” من أعظم الأفكار تأسيساً للمطالبة بحقوق الإنسان وهدماً لكل موروث من الأفكار التي تحد من تقدم الإنسان ” (66)

حقوق الإنسان في الدساتير العربية :

منذ نالت الأقطار العربية استقلالها تباعاً لجأت السلطات الوطنية في بعضها إلى وضع دساتير تحدد الأسس العامة لسياسة الدولة وطابع علاقتها بالمجتمع . وقد تضمنت هذه الدساتير ، حيث وجدت ، نصوصاً صريحة حول الحريات العامة والحقوق المدنية ولا سيما حقوق الإنسان والمواطن ، مطابقة في كثير من الأحيان لما جاء في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، بعد أن كان الحقوقيون العرب منقسمين فقهاً واجتهاداً حول القوة الإلزامية لإعلانات حقوق الإنسان وسائر أحكام القانون الدولي في الحقل الداخلي ضمن كل دولة ، إذ كان بعضهم ينظر إلى الشرائع الدولية والقوانين الوطنية كنظامين متجاورين متوازيين وغير متداخلين ، وكان بعضهم الأخر يرى أن الأولى ( الإعلانات العالمية وأحكام القانون الدولي ) أعلى مرتبة من الثانية ، وفريق ثالث يتمسك بأولوية الثانية . إلا أن الاتجاه العام كان يميل إلى التوفيق بين أحكام القوانين الدولية وأحكام القوانين الوطنية وإزالة التناقض بينهما و ” مهما يكن من أمر فإن المنطق يفرض على الدولة التي تعتنق مبادئ حقوق الإنسان أن تراعي تلك المبادئ الجوهرية في تشريعاتها وسياساتها ، وإلا كان اعتناقها إياها نوعاً من الرياء المفضوح . فالدولة التي تقر حقوق الإنسان لا يسعها . منطقياً أن تخلق امتيازات وأفضليات بسبب العرق أو المذهب الفلسفي أو الديني أو أن تفرق بين الرجل والمرأة في ممارسة الحقوق السياسية والعائلية أو في الإرث ، ولا يمكن منطقياً أن تصدر قوانين تحد من حرية الرأي و المعتقد أو أن تعتبر اختلاف الدين مانعاً من موانع الإرث والزواج ” ( 67)

ولا يسع المرء إلا أن ينوه منا تضمنته الدساتير العربية من مواد تتعلق بهذا الموضوع فهي تدل دلاله قاطعة على وعي النخبة السياسية ومدى تمثلها القيم والمبادئ الليبرالية ، وهي قيم ومبادئ كان فكر النهضة والتنوير قد أشاعها في أوساط المثقفين والسياسيين،وكان الكفاح القومي العربي ضد الاستبداد العثماني ، ثم ضد الاستعمار الغربي، قد انطلق من وعي الحاجة إلى الحريات السياسية والشرعية الدستورية والحقوق المدنية وأهميتها في عملية تحديث المجتمع وتجديد بنيان الأمة . وكان قد استقر في وعي القطاع الحديث أو المحدث من المجتمع أن حقوق الإنسان الأصلية ليست هبة تمنحها سلطة دينية أو زمنية ، بل هي حقوق نابعة من كيان الإنسان نفسه ، فليس للدولة أو للسلطات أو لقوة من القوى أن تدعي أنها صاحبة الحق أو صاحبة الفضل في منحها للأفراد .

على أهمية ما جاء في هذه الدساتير إلا أنها باستثناء الدستور التونسي ظلت تميز بين الجنسين تمييزاً واضحاً،وقد تركت بعض البلدان بل معظمها مسائل .. الأحوال الشخصية للمحاكم المذهبية، مما يعني وجود قانونين في البلد نفسه وهي حالة تدل على نقص الاندماج القومي، فوحدة المجتمع تعبر عن نفسها حقوقياً بوحدة القانون، وتقدمه في سلم المدنية تعبرعنه سيادة القانون وسموه وسيادة مفهوم الحق كذلك, فقد أبقت كثير من القوانين العربية على حق الرجل في تعدد الزوجات، باستثناء القانون التونسي الذي منع ذلك منعاً مطلقاً إذ جاء في المادة 18 من مجلة الأحوال الشخصية التونسية ما يلي: “تعدد الزوجات ممنوع، كل من تزوج وهو في حالة الزوجية، وقبل فك عصمة الزواج السابق يعاقب بالسجن لمدة عام وبغرامة قدرها مائتان وأربعون ألف فرنك أو بإحدى العقوبتين، ولو أن الزواج الجديد مبرم طبقاُ للقانون”.
وتجدر الإشارة إلى أن فقهاء الآستانة، قبل سقوط الإمبراطورية العثمانية، قد أفتوا بأن للمشرع أن يمنع تعدد الزوجات دون أن يكون في المنع ما يخالف الشرع الإسلامي.وقد جاءت هذه الفتوى في لائحة الأسباب الموجبة لقانون حقوق العائلة الصادرة عام 1917 م. وظل حق التطليق كذلك مرهوناً بإرادة الرجل دون المرأة وإلا فإن عليها في بعض البلدان أن تتنازل عن جميع حقوقها عند الزوج مقابل الحصول على الطلاق

وعلى الرغم من اعتراف المجتمع، واعتراف القانون كذلك، بحقوق أساسية للمرأة كحق العمل وحق المشاركة في الحياة العامة، وحق الانتخاب والترشيح، وأخذ المجتمع يتسامح إلى حد كبير، في حق المرأة في اختيار زوجها بمحض إرادتها، سوى في بعض البيئات الأكثر تأخراً، ولا سيما البدوية منها، إلا أن الطلاق ليس من حقها، ومازالت بعض القوانين تبدي تسامحاً في قتل الزانية زوجة كانت أم أختاً فقد جاء في قانون العقوبات اللبناني المادة 562 ما يلي: ” يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في حالة الجماع غير المشروع فأقدم على قتل أحدهما أو إيذائه بغير عمد، ويستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر.

ولا تزال القوانين لا تساوي بين المرأة والرجل في الإرث. مع أن قوانين الانتقال الإرثي االعثمانية بالأراضي الأميرية كانت قد بدأت تساوي الأنثى بالذكر منذ عام 1487 م. كما أن الدولة العراقية أصدرت في 19/1/1959 قانوناً يساوي بين المرأة والرجل في جميع أحكام الميراث ولم يعتبر ذلك وقتئذ افتئاتاً على الشرع الإسلامي “(68) .
ولاية الرجل على العائلة بوجه عام، وقوامته على المرأة بوجه خاص هي من سمات المجتمع الأبوي، البطريركي ، الذي لا يعترف بحقوق الفرد وحريته.

لقد حظيت مسألة تحرير المرأة باهتمام جميع المثقفين العرب، مفكرين ومبدعين، ورأى معظمهم في تحرر المرأة رائزاً لتحرر المجتمع وتقدمه، وخاضت المرأة نفسها معركة تحررها بجسارة وثبات ولا يستطيع المرء إلا أن ينوه بما تحقق في هذا المجال على الرغم مما ذكرناه من هنات القوانين. وكان في طليعة النساء اللاتي أسهمن في هذه المعركة هدى شعراوي، وهدى قسطنطين زريق وفاطمة المرنيسي ونوال السعداوي وزليخة أبو ريشة ونور مغيزل وكثيرات غيرهن. لقد أقرت الدساتير ، حيث وجدت ، في الأقطار بمساواة المواطنين أمام القانون وبالحقوق المدنية والحريات السياسية وبالمساواة في التعليم واهتمت كثير من الدول بالأمومة والطفولة، وتضمنت معظمها نصوصاً تكاد تكون مطابقة لمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إلا أن الباحث الموضوعي لا بد أن يلاحظ ما يلي:

1. تعدد مصادر التشريع في جميع هذه الدساتير.
2. وجود أكثر من قانون في المجتمع الواحد بسبب التعدد الديني والمذهبي .
3. الانتقاص من حقوق المرأة .
4. تقييد الحريات العامة، ولا سيما الحريات السياسية.
5. تعزيز التفاوت الاجتماعي في توزيع الدخل القومي وتوزيع عوامل الإنتاج بين فئات المجتمع,
بيد أن الدساتير والقوانين شيء والممارسة السياسية شيء آخر. لا سيما في ظل هيمنة العسكر على الحكم في بعض البلدان، وفي ظل حكم الحزب الواحد أو الحزب القائد كما في بلدان أخرى، ناهيك عن أنماط الحكم العشائرية والمذهبية ، وفي ظل فساد الدولة المتنامي باطراد.
لم نحاول فيما عرضناه تزيين أوضاعنا القائمة، ولا تقديم خطاب اعتذاري عن تأخرنا، ولا خطاب تفاخري نستحضر فيه أمجاد ماضينا، ولا تحميل غيرنا مسؤولية ما نحن فيه وما عانيناه، بل حرصنا انطلاقاً من كلية مسألة حقوق الإنسان أن نشير إلى بعض العوامل التي أسهمت ولا تزال في إهدار كرامة الإنسان والانتقاص من حقوقه في كل مكان من عالمنا المعاصر .