بحث قانوني متميز عن حقوق الانسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي

( دراسة مقارنة )

تأليف
الدكتور محمد أحمد مفتي الدكتور سامي صالح الوكيل

دار النهضة الاسلام

حقوق الانسان في الفكر السياسي الغربي والشرع الإسلامي

( دراسة مقارنة )

قال الله تعالى :
(( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها و الله سميع عليم))
سورة البقرة ( آية ـ 256 )

حقوق الانسان
في
الفكر السياسي الغربي
والشرع الإسلامي

( دراسة مقارنة )

الدكتور محمد أحمد مفتي الدكتور سامي صالح الوكيل

دار النهضة الاسلامية

الطبعة الأولى

1413 هـ ـ 1992 م

الحقوق محفوظة للناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

أصبحت فكرة حقوق الإنسان، والدعوة إليها، من الأمور الجوهرية في المجتمعات المعاصرة. وارتبط قيام مبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها في العصر الحديث, سواء في المجتمعات التي تنتسب إلى الإسلام أو غيرها، بالغرب، الذي أصبح مرجعاً للحقوق الإنسانية، حيث أسهم الاستعمار الغربي على المستوى العالمي في تأطير النظرية الغربية للمفاهيم المكونة للحقوق الأساسية للإنسان، وسعى في كثير من الدول إلى فرض قيمه ومنظوره عن الحياة، عن طريق القهر الاستعماري، والسيطرة الاستبدادية المادية في كافة مجالات الحياة.

وفي المجتمعات الإسلامية، ترسخت المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان بسبب غياب المفاهيم الإسلامية المنظمة للحقوق الشرعية للأفراد والجماعات، مما أدى إلى بناء تصور للحقوق الإنسانية عند المسلمين مستمد من التجرية الغربية لمعالجة الواقع، ومحاولة الارتقاء بحقوق الأفراد والجماعات. ولذلك يمكن القول: إن المفاهيم والمبادئ الغربية صارت المرجع الأساسي لبناء قواعد اجتماعية لتنظيم الحقوق الفردية في العالم أجمع. ونجم عن ذلك سلب الحضارة الإسلامية مقومات وجودها كواقع ممارس في العديد من المجتمعات الإسلامية، وصارت “تراثاً” عاجزاً عن تنظيم الواقع، ومرجعاً “أخلاقياً” محدود الأثر في الواقع التشريعي المعاصر المنظم لحقوق الإنسان.
ولهذا، فإنه من الأهمية بمكان بيان الإطار المنظم للحقوق الشرعية في النظام السياسي الإسلامي، وإبراز القواعد الفكرية التي تبني عليها فكرة الحقوق الإنسانية في الفكر الغربي، وبيان تناقضها مع التصور الإسلامي
للحقوق الشرعية للإنسان. ومن هذا المنطلق، يعرض البحث الحقوق الشرعية للإنسان، ومصادرها، ومقاصدها، وتفصيلاتها، ويبرز اختلافها عن الحقوق الغربية الوضعية. كما يبرز البحث المفاهيم السياسية الإسلامية المنظمة للحقوق، ويؤكد أن قيام الحقوق الشرعية الإنسانية، والمحافظة عليها، لا يتم في المجتمع الإسلامي إلاً بالعودة إلى جذور الفكر الإسلامي، واستنباط التشريعات المعالجة للحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية من القيم الإسلامية الراسخة الثابتة.

الدكتور محمد أحمد مفتي الدكتور سامي صالح الوكيل

الباب الأول
حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي وفي الشرع الإسلامي

التنظير والممارسات

يقدم هذا الفصل، تحليلاً لحقوق الإنسان من منظور سياسي إسلامي، مقارناً بالتنظير لحقوق الإنسان في الفكر الغربي، بماً يؤكد خصوصية الشريعة الإسلامية في تصورها لحقوق الإنسان، ويبين تهافت الفكر الغربي، سواء في التنظير أو الممارسات الاجتماعية والسياسية المتعلقة بتنظيم هذه الحقوق. ويستعرض الفصل منظور الإسلام للحقوق، والذي ينطلق من تكريم الله للإنسان واستخلافه له في الأرض، ويرتكز على العقيدة التي يعتنقها الإنسان، والتي تخول له حقوقاً شمولية عامة لا تشابه الحقوق الطبيعية، أو القومية، أو الوطنية الممارسة في الغرب. كما سيتبين للقارئ من هذا الفصل أن الحقوق الشرعية الإنسانية ترتبط بالعقيدة، وتقوم على مفاهيم عالمية مصدرها الشريعة الإسلامية، وتقدم منظوراً واقعياً لحقوق الإنسان منسجماً مع الفطرة الإنسانية، وثابتاً في التصور.

الفصل الأول
حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي

تصدر حقوق الإنسان في الفكر السياسي الغربي من فكرة “الحق الطبيعي”، حيث يؤكد علماء الفقه الدستوري الغربي على أن فكرة حقوق الإنسان تعد:
الأصل المشترك الذي استقت منه المدارس الفلسفية في القرن الثامن عشر.. وهي وليدة “مدرسة الحق الطبيعي”.. كما عرضها ودافع عنها الفيلسوف لوك سنة 1690، وصيغت أفكار لوك بتعابير حقوقية ـ فيما بعد ـ من قبل الفقيه الإنجليزي بلاكستون في أواسط القرن الثامن عشر[1].

ويسعى الفكر السياسي الغربي الحديث لذلك إلى تنظير قواعد ومفاهيم مجردة لحقوق الإنسان، يرتكز إليها في الحد من سلطة الحاكم، وإقرار حقوق الأفراد، مستنداً في هذا المجال إلى ما يسمى “بالحقوق الطبيعية” للأفراد، والمستمدة من فكرة “القانون الطبيعي” الوضعي أو المرجع الأعلى للحقوق والواجبات[2]، والذي يستنبط من الطبيعة، ويتوصل الإنسان إلى معرفته عن طريق العقل، الذي يقوم باستنباط التشريعات الكفيلة بصيانة الحقوق الفردية من القانون الطبيعي الثابت الأزلي الذي لا يتغير[3] ولقد أدت فكرة القانون الطبيعي إلى:

بناء منطوق نظري لتحديد أصول فطرية لبعض المراكز القانونية مثل “نظرية العقد الاجتماعي”، وغيرها من النظريات التي اتجهت لتقرير حقوق أصلية للأفراد سابقة على قيام السلطة الحاكمة.. وهي نظريات انتهت إلى فكرة “حقوق الإنسان”[4]
يتضح من ذلك أن حقوق الإنسان ترتكز على الحقوق الطبيعية، ولا يختلف في ذلك منظرو الاشتراكية، الذي يختلفون فقط في عدم ربط الحقوق الإنسانية بالحرية الفردية. حيث يرى الفكر الرأسمالي أن هناك تلازماً حتمياً بين فكرة الحقوق الطبيعية والفردية، ويرى الربط بين القانون الطبيعي، والحقوق الطبيعية، بهدف إقرار قاعدة غربية واضحة وهي: “حماية الحرية الفردية”.
فحيث كان المجتمع، الوحدة التي ينطلق منها التحليل السياسي والتنظير الاجتماعي، كما لدى الإغريق… لم تكن تعرف “الحقوق الطبيعية”… ومن جملة الأسباب لذلك: فقدان الاهتمام بالفردية، بالمعنى الذي يتطلبه مفهوم “الحقوق الطبيعية”. فحيث كان المجتمع يعتبر كالجسم الإنساني، كما لدى أرسطو وأفلاطون، فأية فردية تمنح للقلب أو للعين أو لليد… ثم إن إمكانية التضارب بين مصلحة الفرد، الذي لم يصبح بعد فرداً قائماً بذاته يتمتع بحقوق طبيعية لا يمكن انتزاعها منه، ومصلحة المجموع لم تكون واردة بإلحاح محرج حينذاك[5].
أما حين أصبح “الفرد وحدة قائمة بذاتها، ذات حقوق لا يصح أن يعتدي عليها”، فإننا نصبح أمام المقدمة المنطقية لفكرة الحقوق الطبيعية[6]. ولذلك، فالحقوق الطبيعية عبارة عن:

نص يعبر عن مرحلة هامة وحاسمة في تطور الفردية، ويربطها ربطاً وثيقاً بالاجتماع والسياسة، وعلى الخصوص بكيفية الحد من سوء استخدام القوة السياسية[7].
وهذا يعني أن هناك ترابطاً منطقياً واضحاً بين فكرة الحقوق الطبيعية، وفكرة الحرية الفردية، التي جعلها الفكر الغربي الرأسمالي إحدى دعامات الحكم الديمقراطي. فالمجتمع ينشأ، والدولة تقوم أساساً لصيانة وحماية الحقوق الفردية.
ولقد ظهر هذا الترابط بسبب كون “الحقوق الطبيعية” مفهوماً غامضاً يتحدد من التنظير الاجتماعي، والواقع السياسي للمجتمع، ولأن البحث عن مدلول الحقوق الطبيعية يعتبر خطأً منهجياً وعلمياً لدى بعضهم، حيث أكد د. ملحم قربان:

إن السؤال: ما هي الحقوق الطبيعية ؟ ليس بالسؤال المناسب، ذلك لأن نصوصها تعددت واختلفت، وهكذا يصبح التساؤل المناسب الأصح عنها، هو: كيف فهمها مفكر معين مثل هوبس، أو لوك، أو روسو؟ وما هي المهمات التي كلفت بالقيام بها في نظامه السياسي ؟ وهل نجحت بالقيام بهذه المهمات، نظرياً على الأقل، وماذا قصد أن يحقق باللجوء إليها[8]؟.
من هذا المنطلق، يظهر أن الحقوق الطبيعية إنما هي تصور ذهني مجرد، وليس بالضرورة أن تتمثل بواقع محسوس، وأن البحث عن ماهية الحقوق الطبيعية يستلزم النظر في واقع التنظير السياسي للمجتمع، وتكييفه لحقوق الإنسان، ومقاصده من ذلك. وبالنظر في المذهب الحر، نجد أن هناك أسساً عامة لتحديد الحقوق بناء على مفهوم “الحقوق الطبيعية” منها:
أولاً: إن الحقوق الطبيعية للأفراد سابقة للوجود السياسي، ولذلك تقع على الدولة مسؤولية احترام الحقوق والحريات الفردية، والامتناع عن المساس بها.
ثانياً: إن علاج التناقض القائم بين السلطة والحرية، يحسم لصالح الحرية الفردية، وذلك لأن غاية الدولة حماية الحرية والمحافظة عليها.
ثالثاً: يتضمن جعل الحرية قاعدة الوجود السياسي، تقييد سلطة الدولة، ومنعها من التعسف بتقييد حرية الأفراد[9].
وقد دافع بعض مؤيدي المذهب الفردي الحر عن الموقف السلبي للدولة بقولهم: إن المذهب الحر يتفق والنظرية الحيوية في التطور، أو “مبدأ البقاء للأصلح” الذي أثبته “دارون”. فالوجود الطبيعي، كما يقولون، ما هو إلا عملية من عمليات الصراع على البقاء للأصلح. والنتيجة الطبيعية لمثل هذه العملية، هي التقدم. ولما كان تدخل الدولة سوف يعرقل هذا التقدم، لذل يجب على الأفراد أن يقرروا مصيرهم دون مساعدة من الحكومة أو سيطرتها[10].

كما نتج عن تقرير الحرية الفردية في الفكر الغربي، قيام المدرسة الاقتصادية الطبيعية، التي مثلت النواة لقيام النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على المبادرة الفردية، والحرية الاقتصادية، وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد، والاعتماد على “اليد الخفية” لتحقيق التوازن والاستقرار الداخلي.

ويلاحظ، أيضاً، ارتباط فكرة حقوق الإنسان الطبيعية بالعلمانية السياسية، التي سادت الفكر الأوروبي منذ مطلع القرن السابع عشر، فعندما أصبحت الطبيعة المرجع الأساسي لقياس الحقوق والواجبات في المجتمع، لم يعد للدين مجال يذكر في تفسير الظاهر المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي والسياسي[11]. ولهذا عمد مفكرو الرأسمالية إلى استبعاد فكرة وجود قوانين إلهية تحدد حقوق الإنسان، وعملوا على أن يستبدلوا بالقانون الإلهي القانون الطبيعي المستند إلى العقل، مع أن فكرة القوانين الطبيعية عند نشأتها لدى الأوائل مثل شيشرون في العصر الروماني القديم، تعود إلى وجود ذات عليا تضع هذه القواعد القانونية، حيث يخلص شيشرون إلى أن:
قانون الله، أو القانون الطبيعي، يجب أن يشمل الدولة وقوانينها. وهذا القانون الإلهي هو الأسمى، وله السيادة على كل ما عداه من التصرفات البشرية، والمنظمات الدنيوية[12].
لكن عقب الانفصال الذي ظهر منذ القرن السابع عشر بين الدين والدولة، جرى إغفال ذكر المصدر الإلهي لهذه القوانين، والرجوع بها إلى الطبيعة.

كما برزت فكرة حقوق الفرد مقابل الدولة، والتي أصبحت تعرف فيما بعد بحقوق الإنسان أثناء الثورة الأمريكية عام 1776م، وفي الثورة الفرنسية عام 1789م، واكتسبت الفكرة بعداً دولياً بعد الحرب العالمية الثانية في هيئة الأمم المتحدة[13].

وتوالت المواثيق المؤكدة على ضرورة حفظ حقوق الإنسان، وحماية حريته من الطغيان والاستبداد، والتي أصبحت غاية الوجود السياسي. ونتيجة لما سبق ذكره من استناد فكرة حقوق الإنسان في الفكر الغربي على قاعدة “الحق الطبيعي” وعلى “العلمانية”، أن صارت المواثيق والدساتير الوطنية تجعل الإنسان مصدراً للحقوق في المجتمع، كامتداد لفكرة الحقوق الطبيعية، والقانون الطبيعي الوضعي، الذي جعل الإنسان غاية في حد ذاته.
وترتب على ذلك، ظهور عدد من النظريات السياسية- الدستورية لحماية الحقوق الشخصية الفردية، مثل نظرية “الفصل بين السلطات” التي هدفت إلى الحد من تركز السلطة في يد الحاكم، والنظرية الديموقراطية، التي جعلت الفرد محور اهتمامها، وركزت على حماية حقوقه الشخصية[14]، مما جعل حقوق الإنسان المنصوص عليها في هذه الدساتير والمواثيق تبنى على متغيّرات مرتبطة بهياكل ثقافية واجتماعية وسياسية معينة وتهدف إلى تعزيز الفكرة الغربية عن الحياة بإرجاع قواعد الفكر إلى الطبيعة، وذلك بعد فصل الدين عن واقع الحياة في المجتمعات الغربية.
إن العرض فيما سبق لمفهوم الحقوق الطبيعية في الفكر السياسي الغربي، يظهر تهافت هذا المفهوم تنظيراً وواقعاً، فمن حيث التنظير نجد أن جعل الحقوق الإنسانية تستند إلى الطبيعة والعقل، قد يؤدي إلى انتفاء الحقوق الإنسانية أصلاً، بقيام حركة فكرية تنفي وجود حقوق طبيعية ثابتة. ويؤكد هذا وجود تيارات فكرية نادت بإرساء قاعدة البقاء للأصلح، كما فعلت الدارونية، والمدارس التي تركز على “السلوك الفطري” للإنسان، والتي تدعي أن بعض البشر عدوانيون بطبعهم، وبذلك لا توجد مساواة طبيعية تعطي كل إنسان نفس الحق. ومن هذا يتضح أن ربط حقوق الإنسان بالحقوق الطبيعية قد يترتب عليه فقدان الحقوق الإنسانية ابتداء عند المخالفة في ذلك.

كذلك فإنه يمكن بيان فساد التنظير للحقوق الطبيعية للإنسان، في كون الحقوق الطبيعية الأزلية أمراً لا يمكن قياسه، والتأكد من وجوده عملياً بالعقل المجرد، حيث إن الإنسان اجتماعي بطبعه، وتحيط به العديد من المؤثرات، التي تصاغ من خلالها مفاهيمه وشخصيته، ولا يمكن إثبات وجود حقوق طبيعية أصلية أزلية بمعزل عن الوجود الاجتماعي في إطار الجماعة السياسية. ويظهر التناقض في الفكر الغربي، في المناداة بوجود حقوق طبيعية أزلية للإنسان، مع تقرير هذا الفكر أنه ليست هناك تشريعات أزلية، تنظم هذه الحقوق، حيث يرى العديد منهم أن التشريع وليد التطور الاجتماعي المعبر عن رأي الجماعة، ويرى كذلك، أن وجود القانون يرتبط بخصائص حضارية محددة، ويتطور بحسب حالة المجتمع، من بدائية، أو تقليدية، أو غيرها. وكذلك لا ينسجم القول بوجود حقوق طبيعية إلا بإقرار وجود تشريع أزلي، ينظم هذه الحقوق وهو ما يرفضه الفكر الغربي حتماً.

أضف إلى ذلك، أنه بالنظر إلى الواقع نجد، أن الدساتير والمواثيق الوضعية لم تتناول “تحديد الحقوق بشكل قانوني واضح، وإنما عمدت إلى تقرير الحرية والمساواة بأسلوب عاطفي أدبي”[15] مما يزيد من مرونة السلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق، أو عدم إقرارها في المجتمع، وليس أدل على ذلك من التفرقة العنصرية ضد الملونين، والتي تمارسها الدول الديموقراطية، التي تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، أو السياسة الاستعمارية البشعة، التي يمارسها العديد من الدول الكبرى في العالم.
علاوة على أن المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م، والعهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1966م، لم تنص صراحة على الوسائل الكفيلة بضمان حقوق الإنسان، واكتفت بالنص على ضرورة صيانتها فقط. فعلى الرغم من إقرار الإعلان العالمي، والعهد الدولي لحقوق الإنسان المتعلقة بشخصه وبدنه، وحرية تفكيره، وعدم اعتقاله اعتقالاً تعسفياً، وعدم تعذيبه أو حبسه بدون نص قانون، إلا أن الإعلان الدولي “لم يحدد.. الوسائل الدولية لكفالة تمتع الإنسان بحقوقه وحرياته المقررة فيه”[16] وهذا ما يجعل حقوق الإنسان خاضعة لاعتبارات ذاتية، ترتبط بمصلحة الدولة، أو مصلحة الحكام، دون النظر إلى الاعتبارات الموضوعية، المتعلقة بإقرار الحقوق والواجبات.

أضف إلى ذلك، أن الحماية التي كفلتها الدساتير الغربية، وغيرها من دساتير الدول النامية المقلدة لها، قد قيدت بالنصوص القانونية الوضعية، التي تنص عادة على عدم جواز الاعتقال أو الحبس، أو التجسس، إلا بحكم القانون. ولما كان القانون أصلاً من وضع الحكام، فقد نجم عن ذلك، في كثير من الأحيان، فقدان الحقوق الإنسانية، وانتهاك كرامة الأفراد باسم القانون، وتقنين تلك الانتهاكات بوضعها في نصوص تشريعية، نحو: “قانون الطوارئ”، و”الأحكام العرفية”، و”المحاكم الاستثنائية”، وغيرها من الاستثناءات التي تصير في نهاية الأمر هي الأصل في تقرير الحقوق الإنسانية، ولقد ترتب على ما سبق أن:
يتقلص عدد المنتفعين عملياً في واقع الأمر من الألفاظ الرنانة الفخمة، التي تضمنتها هذه الوثائق، وتصبح مزاياها وقفاً على فئة محددة من القابضين على السلطان، تمارس الحكم بدكتاتورية متجبرة، تقمع أغلبية الشعب، وتصفي شركاءها في الحكم أولاً بأول، ليحتكر الحقوق أقل عدد من الأفراد[17].

الفصل الثاني
حقوق الإنسان في التصور الإسلامي

ينطلق الإسلام من اعتقاد راقٍ في نظرته إلى الإنسان، حيث جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض، لعمارتها، وإقامة أحكام شريعته فيها، قال عز وجل: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) “الأنعام: 165”. وقال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) “البقرة: 30”. ويرى الإسلام لذلك أن الإنسان موضع التكريم من الله عز وجل الذي حباه بذلك التكريم، ومنحه إياه فضلاً منه تعالى. ويتساوى بهذا التكريم جميع البشر بصفتهم الإنسانية، مهما اختلفت ألوانهم ومواطنهم وأنسابهم، كما يتساوى في ذلك الرجال والنساء، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً). “الإسراء: 70”.
ويؤكد التصور الإسلامي، أن ميزان التكريم يعتمد على الارتباط العقائدي للإنسان، حيث إن منزلة التكريم تحددها تقوى الإنسان، وقبوله هداية الرسل، ومنهج الوحي، وفي ذلك يقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) “التين: 4-6”. كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء. إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب”[18].
ويقول تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، “الحجرات: 13”.

والارتباط العقائدي، يختاره الإنسان بإرادته ورغبته، وليس أمراً طبيعياً مفروضاً لازماً للإنسان، لا يستطيع عنه فكاكاً. قال الله عز وجل: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) “طه: 123 – 124”.

ومن هذا الاعتقاد، تنطلق حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، والتي يبرز الفرق واضحاً بينها وبين الفكر الغربي المنظّر لحقوق الإنسان. فالإسلام يرى أن الإنسان مكرّم لتكريم الله تعالى له، ومنحه إياه ذلك، ويرتبط التكريم بعبودية الإنسان لربه، بينما يرى الفكر الغربي ذلك حقاً طبيعياً، ينبع من السيادة المطلقة للإنسان، التي لا تعلوها سيادة. والتكريم في الإسلام حين ينطلق من كونه منحة ترتبط بالعبودية، يعني أن هناك أحوالاً يرتكس فيها الإنسان، ويتجرد فيها من ذلك التكريم، بكفره وبعده عن المنهج الشرعي الحق، الذي تزدان به إنسانيته، بينما لا يقر الفكر الغربي ذلك، حيث يرى أن الإنسان ذو حقوق طبيعية ثابتة، ينالها مهما كان مرتكباً للسوء، طافحاً بالإثم والرذيلة. كما أن النظام الغربي يربط بين حقوق الإنسان، وسيادة وحرية الإنسان الفردية دوماً، وينجم عن ذلك قيام النظام الديموقراطي المستند إلى فكرة العقد الاجتماعي، المؤكدة على أسبقية الحقوق الفردية للوجود السياسي. وينجم عنه أيضاً مبدأ الحرية الاقتصادية، والذي يقوم عليه التنظيم الاقتصادي للمجتمع، بغض النظر عن الجوانب الأخلاقية، أو البدنية المتعلقة بذلك.

ولا يقتصر الاختلاف بين الشريعة الإسلامية، والفكر الغربي فيما يتعلق بحقوق الإنسان على التصور والتنظير لدى كل منهما، بل إن هناك تضاداً واختلافاً أيضاً في جوانب عديدة شاملة تتركز في:
أولاً: الآثار الناجمة عن تصور حقوق الإنسان في المنهج الشرعي مقارنة بتلك في الفكر الغربي.
ثانياً: شمولية التشريعات والأنظمة المنبثقة عن التنظير للحقوق الإنسانية.
ثالثاً: التكييف القانوني لمصدر الحقوق، وتفصيلاتها، ووسائل تحقيقها.

لقد أفرز التصور والتنظير لحقوق الإنسان في الفكر الغربي آثاراً ورؤى خطرة على الحضارة الإنسانية في مجملها. فحين تكون الحقوق نابعة من الطبيعة، فإن الحكم في فصل النزاع عند تضارب الحقوق الطبيعية للأفراد أو الأمم، يكون حينئذ للقوة المادية، التي يختص بها الفرد أو الأمة. ومادامت الطبيعة هي أصل الحقوق الإنسانية، يكون في غاية المشروعية هلاك الأفراد، الذي خلقوا ضعفاء، أو لم يحوزوا على القوة أو القدرة المادية، التي تمكنهم من نيل حقوقهم الطبيعية. ولهذا فمن المشروع في المجتمعات الرأسمالية تركز الفقر والبؤس والتخلف لدى الأقليات، وتحكم الرأسماليين في السلطة السياسية، واستغلال الطبقات الضعيفة في المجتمع. كما تضفي تلك النظرة المشروعية كذلك على إفناء شعوب كاملة بالحروب، والأسلحة المبيدة، لأن الشعب ذا السيادة، والقوة المادية، أقدر على نيل تلك الحقوق الطبيعية من أعدائه، مما جعل للمجتمعات الغربية القوية الحق في نهب خيرات الشعوب الأخرى، واستعمارها، بهدف تمكين الشعوب الغربية من الاستمتاع بحقوقها الطبيعية بأقصى ما يمكنها.

وعلى النقيض من ذلك، فإن الآثار التي تنجم عن التصور الشرعي، باعتبار حقوق الإنسان تكريماً له من خالقه، ومنحة من عنده، تجعل الحقوق منوطة بالتحديد الشرعي لها، وليست خاضعة للقوة المادية، ولا يعتمد تفسيرها على المصالح الآنية، والرغبات الخاصة للأفراد، أو الشعوب. ولهذا يكون حق الشعوب في إزالة الاستبداد، والظلم السياسي، حقاً ثابتاً لاعتماده على عدم جواز العبودية لغير الله، أو الخضوع لغير شرعه، ويكون للضعيف والمسكين حق في الحياة الكريمة، بتوفير ما يحتاجه من نفقة للعيش، كحق مشروع له ثابت من مال الأمة، ولا يحول ضعفه وقصور قوته دون نيل ذلك الحق، كما يكون الاحتكام عند تضارب المصالح للمرجع الثابت في ذلك، من أحكام الشريعة الإسلامية والتي لا تتبدل باختلاف الحكام أو العصور والأماكن.

أضف إلى ذلك: يترتب على ما أكده الإسلام من ارتباط الحقوق الشرعية للإنسان، بما يعتنقه من عقائد وأفكار، وما يمارسه من أحكام وتصرفات، أن صار بإمكان الإنسان أن يرتقي في حقوقه بقدر سمو عقيدته وتصرفاته، فمثلاً باعتناق الإسلام يحق للفرد أن يكون رئيساً للدولة، وأن يتولى كافة المناصب والمراكز السياسية في المجتمع الإسلامي، وبالردة عن الإسلام تسقط عنه حقوق شرعية عديدة،كما قد يفقد حقه في الحياة، إذا لم يرجع عن ردّته، وبالهجرة إلى دار الإسلام، يحق للمسلم ما يحق لسائر مواطني دار الإسلام، دون أدنى فرق. وقبول غير المسلم لعقد الذمة مع المسلمين، يترتب عليه نيله حقوق الحماية ورعاية الشؤون، والدفاع عنه، وغير ذلك من حقوق لا تمنح لمن يرفض الانضواء تحت سلطان دار الإسلام.

ولهذا فإن حقوق الإنسان الشرعية حقوق شمولية للجنس الإنساني كله، ولا ترتبط بجنس الفرد أو عنصره. وحين يختار الإنسان وجهة أيديولوجية معينة بإرادته، ويمارس تصرفاته وفقها، فإنه يحدد لنفسه بذلك حقوقاً وواجبات في المجتمع الإسلامي. وبمقارنة ذلك في الفكر الغربي، نجد أن الفكر الغربي، يجعل الحقوق الإنسانية مرتبطة بالحرية الفردية، وبقدرة الأفراد على الحصول عليها واقعيا، ولهذا اضطر منظّرو السياسة الديمقراطية الغربية، لحماية هذه الحقوق داخل مجتمعاتهم، إلى الدعوة إلى تقييد سلطة الدولة قدر الإمكان، حتى لا تتحول أجهزتها إلى أداة قمعية، كما ظهرت الدعوة إلى حقوق المواطن، وتميز المواطن عن المهاجر. كما نجم عن ذلك إهمال التشريع الغربي في كثير من الأحوال، حقوق الشعوب غير الغربية مما يجعل حقوق الإنسان في النظرية الديمقراطية حقوق الإنسان الغربي فقط، وحقوق من تتركز لديه الثروة، والقوة المادية، وليست حقوقاً عالمية شمولية للإنسان، وإن ادعى منظّرو الفكر الغربي ذلك، والواقع السياسي المعاصر يحمل من الشواهد، ما يدل على ذلك، مما لا يحتاج إلى بيان.

وعليه، فإن الحقوق الشرعية في الإسلام، بخلاف حقوق الإنسان في الغرب، ليست حقوقاً ترتبط بالطبيعة، وبذلك تنتهي في غايتها آخر الأمر إلى أن تصبح حقوقاً قومية عنصرية. كما لا تبنى الحقوق الشرعية في الإسلام على الارتباط الوطني، كما تقرر في الفقه الوضعي، من تميز المواطن عن غير المواطن. ولهذا تعد الحقوق الإسلامية حقوقاً شمولية للإنسان، وليست ذات مفهوم متحيز كما هي الحال في الحقوق الإنسانية الطبيعية في الحضارة الغربية. كذلك يظهر الفرق، بين الحقوق الشرعية، وحقوق الإنسان في الغرب، في التكييف القانوني لهذه الحقوق، من حيث مصدرها، وتفصيلاتها، ومقصد المشرّع من وضعها. فمن حيث المصدر نجد أن مصدر الحقوق الشرعية هو الأوامر والنواهي، التي جاء بها الوحي من الله تعالى، والثابتة في الأدلة الشرعية، من كتاب وسنة. وإقامة تلك الحقوق في واقع الحياة، وفي الممارسات، يتم عن طريق التزام الفرد المسلم بها، بدافع الإيمان بالله، والذي يفرض على المسلم الانصياع لأوامر ربه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام. حتى لو خالفت مصلحته الفردية ورغباته، كما تقام تلك الحقوق عن طريق السلطان الإسلامي الذي يتمثل في الدولة الشرعية، التي أناط بها الإسلام إقامة العدل بين الناس، ومنع التظالم، وإيصال الحقوق إلى أهلها، ورعاية شؤون الرعية.

ولهذا فإن المصدر الذي تنبثق عنه الحقوق الشرعية، وطرق تنفيذها في المجتمع الإسلامي، لا يحيط بها لبس أو غموض، ولا يرتبط تفسيرها بالمصالح الذاتية، ولا يعتمد على القدرة في نيل الحقوق بالقوة والسيادة البشرية.
ومن ذلك يظهر، أن الإسلام يقدم منظوراً واقعياً لحقوق الإنسان في تشريعاته، منسجماً مع الفطرة الإنسانية، وثابتاً في التصور، حيث حدد الحقوق بأوامره ونواهيه الشرعية، وحدد الكيفية، والضمانات التي يتم بها تأكيد تلك الحقوق وإبرازها، وبين الأداة التي يناط بها إقامتها. وهذا كله بخلاف ما تقرر في الفكر الغربي الرأسمالي، الذي ربط مصدر الحقوق وتشريعاتها بمبدأ الحرية، وترك الأمر لكل قادر لنيل حقوقه بناء على ما يراه من مصلحة، ثم قيدها بالقيود الخيالية، عند الاضطرار لذلك، كالتأكيد على أن الحقوق والحرية الفردية تنتهي حين تبدأ حقوق الغير، أو التأكيد على عدم تدخل الدولة إلا عند انتهاك الحريات، وجعل مسؤولياتها الرئيسة: حماية الحريات دون رعاية الشؤون، مما يجعل الحقوق في الغالب أمراً نظرياً، لا أثر له في الواقع، نظراً لعدم إمكانية الاتفاق حول المصلحة، ولوجود الأثرة والنزعة الأنانية لدى الكثير، مما يؤدي في النهاية إلى سيطرة القوي على الضعيف، وسطوة القادرين، ووضع التشريعات من قبل الرأسماليين لخدمة مصالح طبقتهم وحدها، دون مراعاة حقوق سائر أفراد المجتمع، كما يظهر نتيجة لذلك التناقض البين، في التشريعات الغربية الخاصة بالحقوق، حيث يرى بعضها حماية القاتل من عقوبة القصاص بالإعدام، وحماية السارق من عقوبة القطع، دفاعاً عن حقوقه الإنسانية، دون النظر في ما ينجم عن ذلك من ضياع حقوق سائر أفراد المجتمع، الذين يعيشون في رعب وخوف من هذه الجرائم. كما ظهرت التشريعات التي تتيح للفرد مزاولة كل ما يحقق رغباته، وحقوقه الطبيعية، دون أي قيد من دين أو خلق. ولهذا يصبح الربا والاحتكار أمرين مشروعين، وتكون الإباحية الجنسية والإلحاد حقين للفرد، بغض النظر عما يترتب عن ذلك من نتائج مدمرة في حياة الأمة.

كذلك يظهر الاختلاف جلياً في تفصيلات الحقوق الشرعية، عن تلك في الفكر الغربي. حيث إن الحقوق في الإسلام فصلت بغاية الوضوح، ولم تترك لمفاهيم عامة مبهمة، وجاءت النصوص الشرعية في القرآن الكريم والسنة محددة للحقوق ، ومنعت تجاوزها وانتهاكها، نحو: تحريم القتل، لحفظ الحياة الإنسانية، ووجوب الجهاد، لإزالة الاستبداد وعبودية الإنسان للإنسان، وتحريم الزنى والقذف، حماية للأعراض والكرامات، وتحريم الربا والاحتكار، لضمان ممارسة حق الكسب الحلال، والحيلولة دون سيطرة القوي على الضعيف. وأوجبت على الدولة الشرعية رعاية الشؤون لكافة الأفراد، ومنع الظلم بين الرعية، وإقرار قواعد العدالة الشرعية في المجتمع.

ورتبت الشريعة الإسلامية على المخالفات التي ينجم عنها ضياع حقوق الإنسان، عقوبات زاجرة، تحول دون ضياع تلك الحقوق. حيث شرع الإسلام عقوبات صارمة للفرد المخالف، كما رتب نزع الشرعية عن الدولة، وخروجها إلى الكفر البواح، إن هي أظهرت مخالفة الأحكام الشرعية الصريحة، المنظمة لحقوق الإنسان وواجباته، التي جاء بها الوحي في ذلك، مثل: تعطيل حكم القصاص للقاتل، والذي فيه حياة المجتمع الإسلامي، أو تعطيل حد السرقة أو إباحة الربا، لما فيه من ضياع لحقوق الضعفاء، أو تعطيل الجهاد الذي يهدف إلى منع الاضطهاد، والضلال العقائدي، والتشريعات التي تستعبد الشعوب. وبهذا فإن الشريعة الإسلامية أظهرت التفصيلات لحقوق الإنسان من الجانب الإيجابي بالتشريع لضمان هذه الحقوق، ومن الجانب السلبي بمنع التجاوزات، وهذا بخلاف ما تقرر في الفكر والتنظير الغربي لحقوق الإنسان، كما سبق أن أسلفنا، من أن تحديد وتفصيل هذه الحقوق يقتصر في الكثير من الأحيان على مبادئ عامة مجردة، تستند على مفهوم الحرية، نحو: العدالة، والمساواة، والإخاء والكرامة، ومنع التعذيب، دون بيان للتقنينات التفصيلية التي تحدد هذه العدالة، وتقرر حقيقة صيانة الكرامة الإنسانية، ولهذا تتباين القوانين والتشريعات المنظمة للحقوق في المجتمع الغربي، من دولة لأخرى، ومن زمن لآخر. ولعل أقرب مثال بهذا الخصوص الحركات السياسية في الغرب، والتي تنادي بالمساواة بين المرأة والرجل، وتطالب بما يسمى بحقوق المرأة، بسبب غياب التقنينات التفصيلية، التي تظهر تلك الحقوق في النظم الغربية.

كما يجب التأكيد كذلك على اختلاف غاية ومقاصد التشريع في التصور الإسلامي، عن الفكر الغربي، فيما يتعلق بأحكام حقوق الإنسان. فغاية التشريع لأحكام الحقوق في الفكر الغربي: تقرير القيم الغربية للحياة، عن طريق إثبات أهمية تلك الحقوق، والدعاية لها، وكذلك جعل مصدر التنظيم الاجتماعي، وصياغة الحضارة الإنسانية وفقاً للحضارة الغربية، باعتبارها المنشأ الذي صدرت منه تلك المفاهيم لحقوق الإنسان.

والتطور التاريخي لفكرة حقوق الإنسان في الغرب، يؤكد أن المعنى المقصود في تشريع الحقوق الإنسانية هو تحقيق الأهداف، والقيم الغربية، والتي تختص بها طبقات أو شعوب معينة. فانطلاق فكرة الحقوق الإنسانية، جاء مع الثورة الفرنسية، وهدف إلى التخلص من الاستبداد السياسي لملوك فرنسا وأباطرتها، وتزامن مع كتابات مفكري حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في أوروبا، والتي سعت إلى إزالة سلطان الكنيسة عن طريق التأكيد على كون الإنسان ذا حقوق طبيعية، وبالتالي سيادة لا تعلوها سيادة أخرى من ملوك، أو أباطرة، أو أديان. ولهذا فإن مقصود المقررين لمفاهيم حقوق الإنسان هو تركيز القيم والمبادئ التي انتهى إليها الفكر والأوروبي الرأسمالي، أثناء تطوره التاريخي، وجرى لاحقاً، التأكيد على هذه القيم، في المجتمعات الغربية المعاصرة، أثناء صراعها الحضاري مع المبادئ الاشتراكية والشيوعية. ومن الواضح استغلال ذلك سياسياً في كثير من الأحيان، كما يحصل في العلاقات الدولية المعاصرة، بين دول الكتلة الغربية والكتلة الشرقية، وكما يحصل من دعاية لحقوق أقليات معينة بهدف زعزعة النظم السياسية المخالفة. ولهذا فإن حقوق الإنسان في الغرب، ليست وليدة مبادئ قانونية ثابتة، تعالج الواقع الإنساني، فضلاً عن أنها لا تعمل على تحقيق أهداف إنسانية للبشرية جميعاً.

وبالنظر في ما يقابل ذلك في الشريعة الإسلامية نجد أن حقوق الإنسان ترتبط بالغاية الكبرى من مقصود التشريع الإسلامي، وهي تحقيق عبودية الخلق لله عز وجل، وحفظ مقاصد الشريعة في الوجود الإنساني، والتي هي المحافظة على “ضرويات” وجود الإنسان، والتي حددها علماء الأصول: بحفظ الدين، والنفس والعقل، والمال والعرض، فضلاً عن حفظ “حاجيات” هذا الوجود وذلك بوضع أحكام العلاقات الإنسانية في سائر المعاملات. وأخيراً حفظ “تحسينات” الوجود الإنساني، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات[19].

وبهذا البيان لاختلاف التصور، والتنظيم، والممارسة، للحقوق في الشريعة الإسلامية، عن المنهج والفكر الغربي، يظهر خطأ ما يردده العديد من المفكرين والكتاب بأن هناك تشابهاً بين حقوق الإنسان الطبيعية في الغرب، وحقوق الإنسان الشرعية. من ذلك ما يقوله الدكتور أحمد جلال حماد: إن ما يسميه الغرب بالقانون الطبيعي، لا يختلف عن مضمون الإسلام، قانون الله الدائم لكل البشرية، والذي يعلو على كل ما عداه. ولعل فقهاء القانون الطبيعي قد اقتبسوه من المسلمين في مضمونه أثناء احتكاكهم الثقافي والحضاري بهم في الأندلس[20].

وكما سبق القول: إن منطلق حقوق الإنسان في الغرب هو الحق الطبيعي، المرتبط بذاتية الإنسان من الناحية الطبيعية، بغض النظر عن الفكر والمنهج، بينما الحق الشرعي للإنسان في الإسلام، يستند على التكريم الإلهي للإنسان، وهو منحة من الله تعالى، ويرتبط بعبودية الإنسان لله تعالى، وانصياعه لشرعه، واتباعه لهدي رسله، وذلك بالإضافة إلى التضاد والاختلاف الكامل بين الحقوق الشرعية في الإسلام، وحقوق الإنسان في الفكر الغربي، من حيث التكييف القانوني والتفصيلات، والمقاصد والآثار المترتبة عليها.

الفصل الثالث
أنواع الحقوق

قدم المفكرون الغربيون تقسيمات مختلفة للحرية. فقد قسم “أيزمان” الحريات إلى: حرية فردية مادية، وتشمل: سلامة البدن، وحق الأمن، والملكية، والتجارة، والصناعة، وحرمة المسكن، وسرية المراسلات.. وحرية معنوية، تشمل: حرية العقيدة، والآراء، والاجتماع، والصحافة، والتعليم، وتكوين الجمعيات. أما “هوريو” فقد قسم الحريات إلى ثلاثة أقسام تشمل الأولى: حرمة الحياة الخاصة، وتتضمن حرية البدن، وحق الأمن، والتنقل، والعمل. أما الثانية فتتعلق بالحريات الروحية، ومنها حرية التعليم، والصحافة، والاجتماع. في حين تتضمن الثالثة حرية تأليف الجمعيات، والنقابات، والشركات، وتكوين الطوائف. وقد فرق “دوجي”، من ناحية أخرى، بين ما أسماه بالحريات السالبة، وهي تشكل قيوداً على الدولة؛ وبين الحريات الإيجابية، وهي التي تتضمن خدمات الدولة للمواطنين. وقد نحا “جلينك” نفس المنحى بالتفرقة بين حقوق الأفراد ذات العنصر النشط، والتي تشمل حق المرء في سؤال دولته تقديم خدمات إيجابية له، وحقوق الأفراد ذات العنصر السلبي، والتي تشمل: الحريات الفردية المقيدة لسلطة الدولة. كما قسم “بلانتي” الحريات إلى: حريات فردية: وتشمل حرية الحياة الخاصة، وحرية العقيدة، والرأي، وحق العمل… وحرية جماعية، وتشمل: حق المشاركة، وتكوين الأحزاب، والنقابات[21].

ولقد كانت الحقوق في مضمونها “التقليدي”، كالمساواة، والحرية الشخصية، وحرية العقيدة، والاجتماع وغيرها، تكتفي بإبراز الجانب السلبي، المتمثل في امتناع الدولة عن الإتيان بعمل يمس حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولكن ذلك لم يشمل مطالبة الدولة بضمان حق التعليم، أو العمل، أو الملكية، أو غيرها من الحقوق. ولذلك لم تراعِ الدول الغربية في السابق حقوق المواطن كعضو في جماعة، وما يترتب على ذلك من توفير ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية، التي تكفل تكامل الجماعة، وإنما اكتفت بإقرار حقوق للفرد كفرد لا ككائن اجتماعي. ولكن ضغط التيارات الاشتراكية، المطالبة بتدخل الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية، دفع الدول الرأسمالية نحو إقرار عدد من الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية ، والتي فرضت تدخل الدولة لضمان حق العمل، وتكوين النقابات، والضمان الاجتماعي، وحق التعليم، وغيرها من الحقوق، وذلك بهدف تحسين الأوضاع الداخلية ومقاومة الفكر الشيوعي[22]. وقد أدى ذلك إلى مزج تقييد سلطان الدولة بمبدأ الإصلاحات الاجتماعية، حتى أصبحت الدولة تتدخل لضمان حقوق الفرد التقليدية والاقتصادية.

وتختلف نظرة الكتاب حول مكانة الحرية وأولوياتها في الدولة، فبعضهم يرى التركيز على الحرية الشخصية، واعتبارها قاعدة الحريات في المجتمع، في حين يبرز آخرون الحرية الاقتصادية، مرتكزين في ذلك على المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية، التي انبثق عنها المذهب الحر المنادي بالحد من سلطة الدولة. كما أعطى بعضهم الآخر الأولوية للحرية السياسية، أو حرية الرأي السياسي، لما لها من أهمية في خلق الوعي الاجتماعي، ودعم البنية الاجتماعية الداخلية، نتيجة التقويم الدائم لتصرفات السلطة[23].

أما بالنسبة للحقوق في التصور الشرعي، فإننا نجد أن الشريعة لم تميز بين أنواع الحقوق بوصفها حقوقاً للرجل، أو للمرأة، أو حقوقاً شخصية، أو عقيدية، حيث إن الحقوق في الشريعة، إنما هي أحكام شرعية، مستنبطة من الكتاب والسنة. ولذلك، ليس هناك فرق بين حق الإنسان في منع التصدي والعدوان والظلم، وحقه في المحاسبة السياسية للحكام، حيث إن كلا منها أمر شرعي، دل عليه الكتاب والسنة. كذلك لا يوجد في الشريعة إهمال لنوع من أنواع الحقوق على حساب نوع آخر، بخلاف ما حصل في التنظيم الغربي القانوني، الذي على سبيل المثال، يسمح بالحرية الاقتصادية دون تحديد وسائل الحيازة، والتي لا تربط بأطر أخلاقية أو دينية، مما ينجم عنه ضياع لحقوق الفرد في ذلك الجانب، وإهدار الكرامة الإنسانية في نهاية الأمر، حيث قد تصبح مراكز الدعارة والربا والقمار وسائل اقتصادية قانونية رغم ما يترتب عليها من فساد.

أما الشريعة، فقد عمدت في تحديدها للحقوق إلى بيان الإطار الشرعي المنظم لوجود الحقوق وفقدانها، فحين يشرب المسلم الخمر مثلاً يترتب عليه فقدان حقه في عدم الإهانة، وفي الكرامة. وكذلك أجازت الشريعة الإسلامية في أحوال مخصوصة تقديم حقوق على غيرها، مراعاة لمصلحة شرعية، ولكن دون إهمال للحقوق ابتداء حيث تقدم حق حفظ الدين في المجتمع الإسلامي على حق الحياة للفرد، ومن هنا يكون الجهاد واجباً لحماية المسلمين، ولنشر الدعوة الإسلامية حتى لو أدى إلى القتل والقتال، ولكن هذا التقديم التدريجي للحقوق في الشريعة لا يؤدي بحال إلى غض النظر عن الحقوق الأدنى وإهمالها ابتداء، بخلاف ما يظهر في التقنينات الغربية.

الباب الثاني
الحقوق الشخصية والاجتماعية للأفراد في الشريعة

لعل من أبرز ما أكدته النصوص الشرعية من حقوق للإنسان، الحقوق التي تتعلق بشخصه، وبعيشه في المجتمع، حيث قرر الإسلام للإنسان من الجانب الإيجابي حقوقاً اجتماعية، تكفلها الدولة لرعاية شؤونه وتأمين الحياة والعيش الكريم له، كما أكد الإسلام من جانب آخر، على صيانة الحياة والعيش الكريم له، كما أكد الإسلام من جانب آخر ن على صيانة وحماية شخص الإنسان، بتحريم التجسس، والاعتداء عليه، وظلمه وإيذائه بغير وجه حق، إضافة إلى التشريعات الأخلاقية، التي تضمن حفظ هذه الحقوق، كمنع الغيبة والحسد، والكبر، والاحتقار للإنسان، والحث على مكارم الأخلاق.

لقد أوجبت الأدلة الشرعية تأمين حقوق الإنسان، بجعل الدولة مسؤولة تجاه الرعية،كما أوجبت على الدولة رعاية شؤون كافة من يحمل تابعية الدولة، وحمايتهم، وحفظ حقوقهم، والعدل بينهم، من مسلمين وذميين، وحرمت على الدولة الحيف بين أفراد الرعية، بسبب الدين، أو الطائفة، أو الجنس، أو اللون، أو غير ذلك. فالإسلام لم ينصب الدولة لفظ الحريات، كما في النظام الرأسمالي، أو للحكم نيابة عن طبقة معينة، كما في الأنظمة الماركسية، إنما نصبها لإقامة أحكام الشرع. ويقتضي ذلك مسؤولية الدولة عن رعاية كافة الشؤون للرعية وإيصال الحقوق لأهلها، ويستوي في ذلك المسلم، وغير المسلم، من ذميين أو معاهدين مقيمين في ديار الإسلام. كما تقتضي إقامة أحكام الشرع من قبل الدولة منع التظالم بين الرعية، ومنع ظلم الرعية، والتفريق الجائر بين أفرادها من قبل الدولة كما يحصل في ظل الأنظمة الوضعية، من ظلم الأغنياء للفقراء، أو البيض للملونين، أو الأكثرية للأقلية.

والأدلة على ذلك عديدة في الكتاب والسنة، حيث أمر تعالى بالعدل فيقول عز وجل: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، “النساء: 58”. ويقول: (وأمرت لأعدل بينكم)، “الشورى: 15”. ويقول: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط)، “المائدة: “42”. ويقول: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي)، “النحل: “90”. ويقول تعالى: (ولا يجرمنّكم شَنَآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، “المائدة 8”.

وهذه النصوص القاطعة في القرآن شرعت للعموم، ولم يخص بها تعالى قوماً دون قوم، أو أناساً دون آخرين حيث إن الشريعة الإسلامية هي للناس كافة، قال عز وجل: (وما أرسلناك إلاً كافة للناس بشيراً ونذيراً)، “سبأ: 28”. فالأمر بالعدل بالآيات السابقة، وتحريم البغي، أو الظلم، عام لجميع الخلق، مما يجعل حقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي حقوقاً شمولية لكل أفراده. كما جاء القرآن بالعديد من أحكام رعاية الشؤون، من أحكام الصدقات، وتوزيع الغنائم على مستحقيها، لرعاية الشؤون الاقتصادية للمحتاجين، قال عز وجل: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله)، “التوبة: 60″، وقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)،”الحشر: 7”. كما شرع القرآن الكريم إقامة الحدود والقصاص، لحماية الأعراض، والدماء، قال عز وجل: (ولكم في القصاص حياة)، “البقرة 179”. كما أكد القرآن الكريم رعاية الشؤون الشخصية، من زواج، وطلاق، إلى غير ذلك من أحكام لرعاية شؤون الرعية من قبل الدولة.

وكما ثبتت إقامة العدل ورعاية الشؤون بالكتاب، فقد ثبتت كذلك بالسنة القولية والفعلية لرسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: “من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا -وربما قال- إلى الله ورسوله”[24]. والظلم محرم بقوله عليه السلام: “إن الظلم ظلمات يوم القيامة”[25]. وعن أبي ذر الغفاري، عن النبي عليه السلام فيما يرويه عن ربه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا”[26]. وفيما يتعلق برعاية الشؤون، روى البخاري عن النبي عليه السلام قال: “كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته”[27]، وفي رواية مسلم عن نافع عن ابن عمر قال: “ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته”[28].

كما نهى عليه الصلاة والسلام نهياً جازماً عن غش الرعية، وعدم تفقد أحوالها ورعايتها، حيث يقول: “ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته”[29]، وفي رواية البخاري عن عبد الله بن معقب بن يسار المدني: “ما من عبد يسترعيه الله رعية ثم يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”[30]. وقال عليه السلام: “إن شر الرعاء الحطمة”[31] أي: الذي يشق على الرعية. ونهى عليه السلام عن الحيف بين الرعية، وعلى الأخص في تولية المناصب، قال عليه الصلاة والسلام: “ومن ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين، فقد خان الله ورسوله”[32]، وفي رواية: “ومن قلد رجلاً عملاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين”[33].

ويقول ابن تيمية رحمه الله:
فإن عدل – الحاكم – عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما.. أو موافقة في بلد، أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، كالعربية، والفارسية، والتركية، والرومية، أو غير ذلك… فقد خان الله ورسوله ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: (لا تخونوا الله والرسول)[34].
ونهى عليه الصلاة والسلام عن التفريق في إقامة الحدود، حيث أقام الحد على المخزومية عندما سرقت وقال: “إنما ضل من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذً سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد”[35]. كما وردت النصوص بتحريم الظلم والحيف عامة، ووردت نصوص خاصة بذلك في حق غير المسلمين، حيث روى أبو داود عن النبي عليه السلام: “ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيبة نفس فأنا حجيجه يوم القيامة”[36].
وكما ثبتت أحكام العدل، والنهي عن الحيف، ورعاية الشؤون بالكتاب وبالسنة القولية، فقد ثبتت كذلك بالسنة الفعلية للنبي عليه السلام، فمن المعلوم قيامه عليه السلام بتنفيذ أمر الله، ورعاية شؤون المسلمين، سواء الدينية كإقامة الصلوات، والحج، وتعليم القرآن، أو الأمور الاقتصادية، من أخذ الصدقات وتوزيع الفيء وإقطاع الأراضي، أو إقامة الحدود والقصاص، وكذلك تنظيمه لشؤون المسلمين الاجتماعية والشخصية، بعد هجرته عليه السلام للمدينة، كمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وحمايته للرعية، نحو قتاله لليهود بعد قتلهم لرجل مسلم، وخفرهم لامرأة مسلمة، إلى غير ذلك من أحكام رعاية الشؤون وإيصال الحقوق.
وقد ثبت أيضاً بإجماع الصحابة، زمن الخلفاء الراشدين من بعده عليه السلام، وجوب قيام الخلفاء، وولاة أمور المسلمين برعاية الشؤون وإيصال الحقوق، ورفع الظلم والحيف. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يقول لعماله إذا بعثهم إلى الأمصار : “.. ولكنني بعثتكم لتقيموا فيهم الصلاة، وتقسموا فيأهم وتحكموا بينهم بالعدل”[37].

وروى البخاري عن عمرو بن ميمون فيما ذكر عن وصية عمر رضي الله عنه عند موته قال: “أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، وأوصيه بالأنصار.. وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنهم درء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو ولا يؤخذ منهم إلا فضلهم، عن رضى منهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم”[38]. و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “لا بد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة”، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة، قال: “يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء”[39]. وقد قاضى الإمام علي من نفسه عندما ادعى عليه يهودي ملكية لدرعه[40]، وأجرى عمر مالاً على رجل من أهل الذمة لفقره فيما رواه ابن عساكر والترمذي[41].

من كل هذه الأدلة من كتاب وسنة، وسيرة الصحابة، يظهر أن مسؤولية الدولة عن ضمان الحقوق الإنسانية لأفراد الرعية، ورعاية شؤونهم، وإيصال الحقوق إليهم ومنع التظالم بينهم أمر لا لبس فيه ولا خفاء.
أضف إلى ذلك: تؤكد الأدلة الشرعية على تأمين حقوق الإنسان الشخصية، وحرمة ذاته، ومنع الاعتداء والتجسس عليه، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: “ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام”[42]. ويقول: “كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله وعرضه”[43]. وجاءت الأدلة الشرعية بتحريم كل ما يؤدي إلى الاعتداء على الإنسان، أو عرضه، أو ماله، حيث حرم الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الاعتداء على النفس البشرية، بالقتل أو الجناية، وشرع لذلك أحكام القصاص، والديات، لردع المعتدي، قال تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها)، “النساء: 93”. وقال عز وجل: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً)، “الإسراء: 33”. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “لا يحل دم امرىء مسلم إلا في أحدى ثلاث…”[44].

وحرم الشرع الاعتداء على الأموال، قال صلى الله عليه وسلم: “من اقتطع أرضاً ظالماً لقي الله وهو عليه غضبان”[45]، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: “من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار”[46]. وشرع الإسلام أحكاماً زاجرة، كعقوبة للسارق، والزاني، وقاطع الطريق، من قطع، ورجم وجلد، ونفي في الأرض، وصلب وغير ذلك.

أضف إلى ذلك، أن الشرية الإسلامية جاءت بأحكام تصيلية لضمان حرمة الفرد في المجتمع المسلم، ومن ذلك تحريم التجسس على الرعية من قبل الدولة، ومن قبل الأفراد بعضهم على بعض، ومنح حرمة للمساكن، ومنع دخولها إلا بإذن أهلها، وحرم التعذيب المادي والمعنوي، والإيذاء والسجن بغير حكم شرعي، ونستعرض فيما يلي هذه الأحكام بالتفصيل.

لقد بينت الشريعة أن هناك تجسساً جائزاً شرعاً وواجباً عند الحاجة إليه، وهو ما كان على الأعداء (الكفار المحاربين) بهدف معرفة أخبارهم، وأحوالهم المادية والمعنوية، لخدمة أغراض الدولة الإسلامية، وليس هو المقصود هنا، وتجسساً حراماً شرعاً وهو تقصي أخبار الرعية، وكشف عوراتهم للإيقاع بهم، وذلك بالاستماع لأحاديثهم دون علمهم، أو النظر إلى ما هو خفي من أسرارهم، بهدف معرفة بواطنهم، أو استكشاف ما أخفوه وستروه. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن التجسس مطلقاً بقوله عز وجل: (يا أيها الذي آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا)، “الحجرات: 12″، كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التجسس فقال: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً[47]. وقال صلى الله عليه وسلم: “يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته”[48].

وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التجسس من قبل الأمير على الرعية فقال: “إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم”[49].
وقد نهى كبار الصحابة رضي الله عنهم، عن التجسس على الناس بهدف اكتشاف الجرائم غير الظاهرة، فقد قيل لابن مسعود رضي الله عنه: “هل لك في الوليد بن عقبة إنه تقطر لحيته خمراً، قال: “قد نهينا عن التجسس، فإن يظهر لنا شيء نقم عليه”[50]. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته”[51].

وقد أكد الماوردي هذا المعنى، ولم يسثن إلا حالة واحدة، عندما تكون جريمة وشيكة الوقوع، ولا يمكن تدارك نتائجها إذا ما وقعت، نحو القتل أو الزنى، وثبت الخبر عن وقوعها من العدول الثقات حيث يقول:

وأما ما لم يظهر من المحظورات، فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار، حذراً من الاستتتار بها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: “من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته تقم حد الله تعالى عليه”، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارات دلت وآثار ظهرت، فذلك ضربان: أحدهما أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه، أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها، أو برجل ليقتله، فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسس، ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك، من انتهاك المحارم، وارتكاب المحظورات.. والضرب الثاني: ما خرج عن هذا الحد، وقصر عن حد هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه”[52].
ولذا فإنه بحسب اجتهاد الماوردي: إذا لم يكن هناك جريمة على وشك الوقوع، أخبر عنها العدول الثقات، ولا يمكن استدراكها، فلا يجوز التجسس بحال.

وبالتدقيق في ما ذكره الماوردي من جواز التجسس في الحالة السابقة، نجد أن ذلك لا يعد تجسساً في حقيقة الأمر، بل هو من نوع التحقيق القضائي، بهدف عقاب مرتكب المنكر، أومن العمل على إزالة المنكر.

والتحقيق القضائي لعقاب مرتكب المنكر، إذا ظهر وتحقق جائز شرعاً، حيث إن الرسول عليه وسلم أمر بالتحقيق مع امرأة ادعى رجل أنه زنى بها، وأمر بالتحقيق في رجل مسلم قتل بين اليهود. والتحقيق القضائي لذلك، لا يعد من باب التجسس، حيث إنه ما دام المنكر قد ظهر، فإن التحقق من واقعه لا يعد تجسساً محرماً، حيث إن التجسس المحرم، إنما يكون في غير المعلوم الظاهر، بهدف إظهاره والعلم به، وهو ما لا يجوز للدولة أو الأفراد فعله مطلقاً، لعموم النص وإطلاقه، بتحريم التجسس بين المسلمين. وكذلك تغيير المنكر بعد ظهوره – سواء بالبينة الشرعية، أو المشاهدة – يعد واجباً شرعاً، حيث أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتغيير المنكر باليد واللسان عند القدرة، ولا ينطبق واقع ذلك على التجسس المتعلق بالكشف عما خفي ولم يعلم. ولهذا فإننا تخالف اجتهاد الماوردي، بجواز التجسس في الحالة التي ذكرها، نظراً لأن قوله بالاستثناء يتنافى مع ما ذكر من تحريم التجسس من الدولة والأفراد في الشرع، ولم يذكر أي نصوص شرعية تخصص الحالة التي ذكرها، وتجيز التجسس لها، فضلاً عن أن وصف الماوردي للحالة يبين أنها في حقيقتها من جنس إزالة المنكر وتغييره، بعد ظهوره وتحققه، أو من التحقيق القضائي لعقاب مرتكب المنكر، وهذان يختلف حكمهما عن حكم التجسس، نظراً لاختلاف واقع كل منهما عن واقع التجسس.

أضف إلى ذلك، أنه نظراً لما علم من الدين، وأجمع عليه المسلمون من حرمة التجسس مطلقاً بين المسلمين، فإن الفقهاء يؤكدون على عدم جواز التجسس للبحث عن المنكرات غير الظاهرة المتحققة، حيث يؤكد الفقهاء:
إنه إذا كان المنكر مستوراً لا علم للمحتسب به.. لا يجوز للمحتسب أن يسعى للكشف عنه، حتى لا يرتكب التجسس المنهي عنه شرعاً.. (وإذا كان) المنكر مستوراً، ولكنه يستريب به، لا تكفي الاسترابة هذه مبرراً لسعي المحتسب للكشف عن المنكر، وفي أكثر الروايات عن الإمام أحمد أنه: ليس للمحتسب أن يتعرض لمرتكب المنكر، ( وإذا كان ) المنكر مستوراً (و) علم به، ولم يتحققه لا يكفي مجرد العلم… للكشف عن المنكر[53].
كما يذكر فقهاء المالكية أن النهي عن المنكر يشترط فيه “ظهور المنكر من غير تجسس، ولا استراق سمع، ولا استنشاق ريح، ولا بحث عما أخفي بيد أو ثوب أو حانوت، فإنه حرام”[54].
فضلاً عن ذلك أكد الفقهاء على أن قيام الدولة بالتجسس لكشف المنكر يفقد الدليل المستمد في الكشف عن المنكر مشروعيته، حيث يشترط لإضفاء المشروعية:

ألا يكون الكشف عن المنكر وليد تجسس منهي عنه شرعاً، ويتحقق هذا التجسس، إذا ثبت أن المحتسب قد سعى إلى طلب الأمارات المعرفة بالمنكر، أو.. إلى طلب البينة الدالة عليه.. وإن كل منكر لم تظهر أماراته، أو بينته، يعد منكراً مستوراً، لا ينبغي للغير أن يكشف عنه، وإلا كان هذا الكشف تجسساً محظوراً[55].

وبذلك يكون الأصل عدم جواز التجسس على الأفراد من قبل الدولة، لا لكشف المنكر، ولا لإزالته، أو عقاب مرتكبه، أو غير ذلك، لتحريم الشرع القطعي للتجسس مطلقاً. كما تدل الأحاديث والآيات السابق ذكرها على أنه:
.. لا يجوز التجسس على الناس، والنظر إلى عوراتهم، أو الاستماع إلى أسرارهم، سواء أكان ذلك من أحد الناس تطفلاً، أم من المسؤولين، ولأي سبب من الأسباب. كما أنه لا يجوز من جماعات الناس لخدمة جهة من الجهات[56].
ومما يدل على أهمية المحافظة على خصوصيات الفرد في المجتمع الإسلامي، الأحاديث التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤكدة على حرمة التجسس، بالاطلاع على البيوت بغير إذن، وعلى جواز عقاب من يفعل ذلك عقاباً مادياً رادعاً، وكذلك ما ورد به الشرع من حرمة البيوت، ووجوب الاستئذان والاستئناس قبل دخولها. وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم، على أنه إن تجسس أحد على جماعة ففقأوا عينه فلا دية له، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: “لو أن امرءاً اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح”[57]. وعن أنس رضي الله عنه “أن رجلاً اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه بمشقص – أو مشاقص – وجعل يختله ليطعنه”[58].

وعن سهل بن سعد الساعدي: أن رجلاً اطلع في حجر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم – ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه- فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك..”[59].

وقد اتفق الشافعية، والحنفية والحنابلة،وبعض المالكية، على هدر عين من اطلع بيوت الناس من ثقب الباب أو نحوه، ورأوا أن فقء عينه جائز، لدفع الضرر إن لم توجد وسيلة أخرى لتحقيق الغرض ذاته. في حين اشترط المالكية وبعض الحنفية الضمان على من يفعل ذلك، دون النهي عن القيام به[60].
وقد ورد في شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل ما نصه:
وفي الإقناع وغيره من كتب فقه مذهبنا: أن من نظر من خصاص الباب، أو من ثقب في جدار، أو من كوة ونحوه، إلا من باب مفتوح، فرماه صاحب الدار بحصاة أو نحوها، أو طعنه بعود فقلع عينه، فلا شيء عليه، ولو أمكن الدفع بدونه[61].
وقال ابن تيمية رحمه الله:
ظن طائفة من العلماء أن (طعن عين الناظر) من باب دفع الصائل.. ولو كان الأمر كما قالوا لدفع بالأسهل فالأسهل، ولم يجز قلع عينه ابتداء.. والنصوص تخالف ذلك، فإنه أباح أن تخذفه حتى تفقأ عينه، قبل أمره بالانصراف.. وهذا يدل على أنه من باب المعاقبة له على ذلك، حيث جنى هذه الجناية على حرمة صاحب البيت، فله أن يفقأ عينه[62].
كذلك جعل الشرع للبيوت حرمة، بأن نهى عن دخولها بغير إذن أهلها، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم). النور “27 – 28”.
فقد أوجب تعالى بهذه الآية طلب الإذن قبل الدخول، وعبر عنه بأنه: الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش.. فإذا أذن له استأنس.. ولما كان الاستئناس لازماً للإذن، أطلق اللازم وأريد ملزومه، الذي هو الإذن..[63].

ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله أيضاً:
اعلم أن هذه الآية الكريمة، دلت بظاهرها، على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز، لأن قوله لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم، نهي صريح، النهي المتحدد عن القرآن يفيد التحريم على الأصح.. واعلم أن الاستئذان ثلاث مرات، فإن لم يؤذن له عند الثالثة فليرجع، لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال البخاري في صحيحه.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع”.. وهذه الروايات الصحيحة تبين أن الاستئناس المذكور في الآية هو الاستئذان المكرر ثلاثاً..[64].
وقال النووي في شرح مسلم: “أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة..”[65]. وقال الشنقيطي أيضاً: “إذا قال أهل المنزل للمستأذن ارجع، وجب عليه الرجوع، لقوله تعالى: (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)[66]، “النور: 28”.
وقد روي أيضاً أن رجلاً جاء إلى سفيان الثوري بالبصرة، وقال له:
يا أبا عبد الله، إني أكون مع هؤلاء المحتسبة، فندخل على هؤلاء الخبيثين، ونتسلق على الحيطان. قال: أليس له أبواب ؟ قلت: بلي، ولكن ندخل عليهم لكيلا يفروا. فأنكر ذلك إنكاراً شديداً، وعاب فعالنا[67].

ويتبين مما سبق، حرمة دخول البيت بغير إذن. ولذلك فلا يجوز للدولة اقتحام البيوت، ولا تفتيشها أو دخولها، إلا بعد موافقة أهلها وإذنهم، حيث لم يستثن الله تعالى من طلب الإذن، وأمر بالرجوع عند عدمه، مما يجعل طلب ذلك أمراً مؤكداً ثابتاً بالشرع.

وقد ذكر بعض الفقهاء، أنه يستثنى من عدم جواز دخول البيت الحالة التي تتطلب إزالة منكر ظاهر محقق وقوعه، ويفوت استدراكه، وذكروا أن ذلك مبني على ما ورد في سيرة عمر رضي الله عنه، وما ذكره بعض الفقهاء، بأن ارتكاب المنكر من أهل البيوت وتظاهرهم به مدعاة لإزالة حرمة بيوتهم، إذا ما توفر شرطان لازمان: الأول منهما أن يثبت كون المنكر محقق الوقوع، بقول الثقات العدول، أي بالبينة الشرعية، أو القرينة الجازمة. والثاني أن ينجم عن المنكر انتهاك حرمة، أو مفسدة، يفوت استدراكها، نحو وقوع جريمة قتل أو زنى، ونحو ذلك، ففي هذه الحالة فقط أجاز هؤلاء الفقهاء دخول البيوت بغير إذن أهلها لإزالة المنكر، حيث يقول الإمام الغزالي:
فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولو أخبره عدلان ابتداء من غيره استخبار، بأن فلاناً يشرب الخمر في داره، أو أن في داره خمراً أعده للشرب، فله آنذاك أن يدخل داره ولا يلزم الاستئذان، ويكون تخطي ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر[68].
كما يقول ابن الجوزي:
لا ينبغي له أن يسترق السمع على دار غيره، ليسمع صوت الأوتار، ولا يستخبر جيرانه ليخبروه بما جرى، بل لو أخبره عدلان ابتداء أن فلاناً يشرب الخمر فله آنذاك أن يدخل ويكبها[69].

ولنا أن النص الشرعي، في القرآن الكريم، والسنة المطهرة لم يجز لأحد دخول البيوت بغير إذن أهلها، ولم يستثن الشارع في ذلك، ولو كان دخول البيت بغير الإذن جائزاً لدفع المنكر، أو لإثباته على مرتكبه، لبينه الشرع، ولم يرد في السيرة النبوية قيام الرسول عليه الصلاة والسلام بصفته إمام المسلمين باقتحام بيوت المنافقين، الذي علم تآمرهم على الدولة الإسلامية.
فضلاً عن ذلك، فإن الثابت في سيرة الصحابة رضوان الله عليهم، عدم جواز دخول البيوت لإثبات المنكر، حيث استشهد الماوردي على ذلك بقصة عمر رضي الله عنه، والتي جاء فيها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، دخل على جماعة تشرب خمراً فقال: ألم أنهكم عن معاقرة الخمر؟ فقالوا له، وكان قد دخل عليهم بدون إذن وتجسس عليهم بدون إذن: “قد نهاك الله عن التجسس فتجسست، ونهاك عن الدخول بغير إذن فدخلت” فتركهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويدل ذلك، كما أكد المارودي، على أن من:
سمع أصوات ملأ منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم، أنكرها خارج الدار ولم يهجم عليهم بالدخول، لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عما سواه من الباطن[70].
أضف إلى ذلك أن الشارع، فيما يتعلق بالبيوت، التي علم أن فيها منكراً، لم يأت بحكم الدخول إليها بغير إذن أهلها، وإنما أجاز إخراج أهل المنكر منها، دون دخول البيت. والدليل على ذلك ما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام، بهمه بحرق بيوت أقوام لتخلفهم عن الصلاة، حيث يدفع حرق البيوت أهلها إلى الخروج منها، ولم يرد عنه عليه الصلاة والسلام إجازة اقتحام بيوتهم، مع علمه بارتكابهم لهذا المنكر.
كما أفرد الإمام البخاري كتاباً في صحيحه، تناول فيه إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة، واشترط في ذلك المعرفة، والتي تدل على وقوع المنكر وتحققه، واستشهد لذلك بما روي أن عمر رضي الله عنه أخرج امرأة حين ناحت داخل بيتها[71].
ومما سبق، يتبين أن دخول البيوت بغير إذن أهلها لا يجوز مطلقاً، وأنه ليس للدولة التجسس على البيوت، ولا دخولها أو تفتيشها لإثبات التهمة، أو للتحقق عما خفي من الأسرار، أو لدفع المنكر.
ولا يعني ذلك أن الدولة تدع المنكر سارياً مع علمها بارتكابه، داخل البيوت، وإنما تعمل على إيقافه عن طريق إخراج أهل المنكر من بيوتهم، دون الدخول بغير إذن، ولها في سبيل ذلك إن رفض أهل المنكر الخروج، اللجوء إلى الوسائل المادية لإخراجهم، نحو قطع وسائل العيش عنهم من ماء وكهرباء، أو استخدام غازات مسيلة للدمع، أو إحراق إن اقتضى الأمر، لإجبار أهل المنكر على الخروج منه. وذلك لأن الشارع أكد تأكيداً جازماً على حرمة البيت وعلى عدم دخوله إلا بإذن أهله، فحصول الإذن مقصود للشارع، ولذا ينبغي التقيد بذلك، من قبل الدولة والأفراد، فإن حصل الإذن سواء مباشرة أو تحقق أن أهل البيت يرضونه، نحو حالة دفع الأذى والضرر عنه عند حصول الكوارث مثلاً، فإنه يجوز للدولة عندئذ دخول البيوت وأما إن لم يأذن أهل البيت، فلا يجوز لها الدخول مطلقاً.

بالإضافة إلى حرمة التجسس، وحرمة دخول البيوت بغير إذن أهلها، أكدت الشريعة على حفظ حقوق الإنسان، بتحريم الأذى، والتعذيب للإنسان مطلقاً، سواء لإثبات الجرم بالإكراه، أو لأخذ الإقرار، والاعتراف من المتهم، أو غير ذلك، حيث يخالف ذلك ما جاء به الشرع، من صيانة النفس والمال والعرض، في دار الإسلام، قال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً)، “الأحزاب: 58”. وقد جاء في فتح الباري قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: “… فإن الله تبارك وتعالى قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها…[72].
والتعذيب مناف لإكرام الله تعالى للإنسان، الوارد بالنصوص الشرعية، كقوله عز وجل: (ولقد كرمنا بني آدم)، “الإسراء: 70”. ولذلك حرم الإسلام قتل المؤمن إلا بالحق، أو أن يكون خطأ كما قال تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ)، “النساء: 92”. لما في ذلك من إهدار للحياة الإنسانية.
وحرم الإسلام كذلك الاعتداء على المسلم، وإيذاءه بغير حق، وقرر عقوبة شرعية على كل من يعتدي على نفس المسلم، أو على جزء من بدنه. قال تعالى: (وكتبنا عليهم فيما أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له). “المائدة: 45”.
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك عن تعذيب الناس في الدنيا بقوله: “إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا”[73]. وقد ذكر أبو فراس الربيع بن زياد رحمه الله قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في خطبته:
“إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، من فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه”، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته، أتقص منه؟ قال: “إي والذي نفسي بيده، إلا أقصه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه”[74].
وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في النهي عن إيذاء المسلم بقوله: “من جلد ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان”[75]. وحرم الإسلام كذلك ترويع المسلم، وظلمه، فقال صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً”. وقال عليه الصلاة والسلام: “لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم”[76].
ولما كان التجسس، والاعتداء على المسلمين بالحبس والإيذاء والتعذيب المادي والمعنوي يضاد الأخوة الإسلامية، فقد اعتبر من الظلم المحرم في الإسلام. وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه”[77]، وجاء في شرح ابن حجر العسقلاني ما ذكره:
فإن ظلم المسلم للمسلم حرام. وقوله: “ولا يسلمه” أي لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من قول الظلم، وقد يكون واجباً، وقد يكون مندوباً بحسب اختلاف الأحوال[78].
وقد حظر الإسلام أيضاً تعذيب المسجونين، فقد جاء عن عمر بن الخطاب قوله لولاته في الأمصار: “لا تدعن في سجونكم أحداً من المسلمين في وثاق، لا يستطيع أين يصلي قائماً، ولا أحداً في قيد، إلا رجلاً مطلوباً بدم، وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وأدمهم”[79].
وقد نهى الإسلام كذلك عن “الأخذ بإقرار الخائف، غير المعروف بالفجور” ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: “ليس الرجل بمأمون على نفسه: إن أجعته، أو أخفته، أو حبسته، أن يعترف على نفسه”[80].
ومن ذلك يظهر جلياً، أن الإسلام لا يجيز تعذيب المتهم، لكي يقر بما ارتكب، خلافاً لما يراه بعض الفقهاء، وذلك لأن الإسلام لا يقر أصلاً الإقرار والاعتراف الناجم عن الإكراه: لقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوً عليه”[81]، كما أنه لم يرد دليل صحيح يبيح تعذيب المتهم، وقد بينا بالأدلة الشرعية تحريم التعذيب عموماً، وتخصيص هذه الأحاديث يحتاج إلى دليل شرعي يجيز ذلك بحق المتهم.
أما ما ذكره بعض الفقهاء من أدلة للاستشهاد بها على جواز تعذيب المتهم وعقوبته، أو إكراهه على الاعتراف، فإنها لا تصلح حجة في ذلك، ونستعرض فيما يلي هذه الأدلة بهدف الرد عليها وإثبات عدم حجيتها في ما يتعلق بجواز تعذيب المتهم.
استشهد أولئك الفقهاء بقصة فتح خيبر، وما ورد فيها، من أن الزبير عذب يهودياً متهماً في تلك الغزوة، واستندوا على ذلك لتجويز تعذيب المتهم. والواقع أن هذا الاستشهاد ليس صحيحاً، وذلك لأن الرواية تدل على أن اليهود قد أخفى حقاً واجباً عليه إعادته، وثبت ذلك عليه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعقابه، لكي يرد ما أخذه. حيث إن تفصيل الرواية كما جاءت في كتب السيرة هي:
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، صالح أهل خيبر من يهود على حقن دمائهم، وقال لهم: برئت ذمة الله وذمة رسوله منكم إن كتمتموني شيئاً. فصالحوه على ذلك، فقال رسول الله لكنانة بن الربيع: ما فعل مسك حيي.. فقال أذهبته النفقات والحروب… فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العهد قريب، والمال كثير، أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك ؟ قال: نعم، فجاء رجل من يهود إلى رسول الله فقال له: إني رأيت كنانة يطوفون بهذه الخربة بكل غداة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي فأبى إن يؤديه، فأمر به الزبير فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده[82].
فهذه الرواية تبين أن التعذيب إنما كان لإخفاء اليهودي المال، بعد ثبوت وجوده عنده، بالشهادة والأدلة المادية المحسوسة، ولذلك ليس اليهودي متهماً وإنما مرتكب لجرم إخفاء أموال يجب إخراجها، ولذلك استحق العقوبة على فعله.
ولقد بينت الشريعة أن هناك فرقاً بين عدم أداء الحق الواجب، والذي يستحق من فعله العقوبة التعزيرية، وبين المتهم الذي لم يثبت عليه جرم، حتى يعذب للاعتراف. والإسلام رغم أنه لا يبيح بحال التعذيب للمتهم، أو غيره إلا أنه يقرر مع ذلك عقوبة من امتنع عن أداء حق واجب عليه، مع قدرته على ذلك، كمن يمتنع عن قضاء دينه، أو النفقة على أهل بيته، أو أداء الزكاة مع القدرة، ونحو ذلك، وهذا هو ما تدل عليه الرواية السابقة.

كما استشهد الفقهاء المجيزون لتعذيب وعقوبة المتهم، بما ورد في حديث الإفك، من أن علياً رضي الله عنه، ضرب جارية الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يحملها على الإخبار بما تعرفه عن عائشة رضي الله عنها والاستدلال بهذا الحديث، على جواز تعذيب المتهم ليس في محله، حيث إن الرواية الواردة في صحيح البخاري لم تذكر ضرب الجارية، كما أن الجارية لم تكن متهمة أصلاً، بل كانت شاهدة، ولو صح الاستدلال لكان لجواز ضرب الشاهد وليس المتهم، وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل غيرها الشهادة، مثل زينب بنت جحش رضي الله عنها، وغيرها، دون اللجوء إلى الضرب، وذلك يبين، أن ضرب الجارية، إن صحت الرواية، ليس لعقاب الشاهد، أو المتهم، وإنما هو من باب التأديب للخادم، حيث أجاز الشرع للمسلم تأديب خادمه، إذا بدر منه ما يستوجب ذلك.
كما استدل الفقهاء، بحديث المرأة، التي حملت رسالة حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، لتخبرهم بقرب غزو الرسول عليه الصلاة والسلام لمكة، وما ورد من أن علياً رضي الله عنه، هددها بكشف سترها إن لم تخرج الرسالة، وظنوا أن في ذلك جواز تهديد المتهم، ولكن الاستدلال بهذه القصة باطل، حيث ثبت يقيناً بخبر الوحي للرسول عليه السلام، بأن المرأة تحمل كتاباً معها، فيكون التهديد لها لكونها أخفت أمراً لا يجوز إخفاؤه وامتنعت عن أداء ما ثبت قطعاً وجوب أدائها له، ولذلك لم تكن المرأة في تلك القصة متهمة بجرم لم يثبت، وإنما كانت مرتكبة لجريمة ثابتة يقيناً بخبر الوحي، فاستحقت لذلك العقوبة بالتهديد بكشف الستر.
زد على ذلك، أن الأدلة الشرعية، تؤكد عدم جواز عقاب المتهم لحمله على الاعتراف، حيث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه زنى بامرأة فسماها له، فبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت، فجلده وتركها”[83]، ويوضح ذلك أنه على الرغم من وجود التهمة للمرأة، لم يقم الرسول عليه الصلاة والسلام بعقابها لحملها على الاعتراف، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “ادرؤا الحدود بالشبهات”، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة”[84]، وإذا كان المتهم في جرائم الحدود – والتي تعد من أعظم الجرائم في نظر الشرع – لا يعاقب ولا يعذب دون بينة شرعية، ولا يكره على الاعتراف، فإن ما دون الحدود أولى بعدم التعذيب والإكراه.
ولذلك لا يجوز التعذيب مطلقا، فحياة الإنسان مصونة شرعاً:
فلا يجوز التعرض لها بقتل، أو جرح أو أي شكل من أشكال الاعتداء الظالم. سواء أكان الاعتداء على البدن كالضرب، أو السجن، أو الجلد، ونحوه، أم الاعتداء على النفس، والمشاعر، كالسب، والشتم، والازدراء، والتخويف، والانتقاص وظن السوء به ونحو ذلك[85].
ومع التأكيد على ما سبق، فإنه ينبغي ملاحظة أنه لا يقصد بالتعذيب المحرم إيقاع التعذيب، والأذى، والألم، كعقوبة قضائية مقررة، على جرم ثابت شرعاً في مجلس القضاء، وذلك نحو رجم الزاني المحصن، وقتل القاتل، وقطع يد السارق، وخلافه، حيث حدد الشرع عقوبات على مخالفة أحكامه المتعلقة بالحدود والقصاص، ومنها قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)، “البقرة: 178″، ومنها قوله تعالى في عقوبة المحاربين المفسدين ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أوينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)، “المائدة: 33″، وقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، “المائدة: 38″، وقوله تعالى في حد الزاني والزانية غير المحصنين: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)، “النور: 2”.
ولذلك فالعذاب الواقع كعقوبة تعزيرية على جريمة ارتكبت أو كعقوبة شرعية على مخالفة أمر الله أو نهيه تعالى، جائز بالنص لما يترتب على ذلك من زجر المعتدين، وصيانة المجتمع، وتطهيره من الفساد،وهذا أمر تقره كافة التشريعات حتى الوضعية منها، مع تفاوتها في نوع العقوبة، حيث إن جميع العقوبات ينجم عنها ألم وأذى وعذاب للمجرم.
ومما سبق يظهر أن التعذيب محرم في جميع الأحوال، سواء للمتهم أو غيره وأن الواجب هو التقيد بما جاء به الشرع، بإيقاع العقوبات الشرعية فقط وفي ذلك الصلاح والفلاح كله.
وبناء على ذلك فإنه يظهر جلياً أن الشريعة قد راعت حقوق الإنسان، سواء في الجوانب الإيجابية، بتأمين حقوقه الاجتماعية، والعيش الكريم له، ورعاية شؤونه،كما صانت حقوقه الشخصية، بأن حرمت على الدولة التجسس على الرعية لاستكشاف ما خفي من أسرارهم، أو لمعرفة بواطنهم،كما منعت مطلقاً التسلط على أفراد الرعية بالإيذاء أو التعذيب ما لم يكن ذلك لإيقاع عقوبة قضائية عن جرم ثبت شرعاً تحريمه.
والواقع المشاهد أن التجسس في المجتمعات، وتسلط الدول على رعاياها بالإيذاء، أو التعذيب بغير حق، يمزق وحدة المجتمع، ويمنع الأتقياء، وأهل الصلاح، وأفراد المجتمع، من العمل على صيانته وحفظه، مما يهدم بنيانه، ويسارع في عوامل الفناء، التي تنخر في كيانه. كما يترتب على ذلك في النهاية تدهور الدول، أو خضوعها لأعدائها أو محو آثارها بالكلية.
ولذلك يؤكد ابن خلدون أن الحاكم:
إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات… فتفسد الدولة ويخرب السياج[86].
ويقرر ابن خلدون، أيضاً، أن تعدي الدولة على الرعية يؤذن بخراب الدولة حيث يقول:
إن التعدي والظلم عائده الخراب في العمران، وعلى الدولة بالفساد والانتقاض. وكل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلم…. وبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها وهذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم[87].

الباب الثالث
الحقوق السياسية

الفصل الأول
الحرية السياسية الغربية وحق إبداء الرأي في التصور الإسلامي

أكدت الشريعة الإسلامية على ضمان حق الرعية السياسي، في إبداء الرأي في حدود ما أجاز الشرع. وتختلف الشريعة الإسلامية بذلك جوهرياً عن حرية الرأي السياسي في التصور الغربي، ولذلك سنقوم بإلقاء الضوء على معنى إبداء الرأي، والحرية السياسية في الغرب، لبيان الفروق، بين مفهوم إبداء الرأي في الشرع الإسلامي، وحرية الرأي السياسي في الفكر الغربي، وذلك قبل عرض الأحكام الشرعية الخاصة بممارسة الحقوق السياسية في المجتمع الإسلامي.

تعرف حرية السياسي في الفكر الغربي بأنها:
قدرة الفرد على التعبير عن آرائه وأفكاره بحرية تامة، بغض النظر عن الوسيلة التي يسكلها، سواء كان ذلك بالاتصال المباشر بالناس، أو الكتابة، أوبواسطة الرسائل البريدية أو البرقية، أو الإذاعة، أو المسرح، أو عن طريق الأفلام السينمائية، أو التلفزيونية، أو الصحف[88].
وقد نصت دساتير معظم الدول الغربية على كفالة حرية الرأي للمواطنين. فقد نص الدستور الأمريكي على كفالة حرية الرأي. وكذلك أكد الدستور الإيطالي على أن للجميع حق التعبير بحرية عن آرائهم بالقول والكتابة ))، وكذلك الدستور الألماني الذي أكد الرأي للجميع[89].
ولكن المتتبع لواقع حرية الرأي في الفكر الغربي يجدها قد قيدت بقيدين: يتعلق الأول منهماً بسيطرة الاحتكارات الرأسمالية الكبرى على وسائل الإعلام، وقدرتها على توجيه الإعلام، والتحكم في مصادر الأخبار والمعلومات. أما الثاني فيتعلق بالقيود التي تفرضها الدولة، بحجة عدم الاعتداء على حريات الأخرين، والمحافظة على الأمن الداخلي، والتي غالباً ما تستخدم كذريعة للحد من قدرة الأفراد على التعبير عن آرائهم[90].

كماً عمدت الأنظمة الغربية إلى وضع قيود أخرى على حرية الرأي، منها تجريم الرأي، فعلى الرغم مما تؤكده:
النظرية الديمقوقراطية من أن قيود الحريات ـ ولا سيماً ما اتصل منها بحرية الرأي ـ لا تستوحي من الاعتبارات، إلاً ما كان متصلاً بحماية أمن الجماعة ونظامها المادي، تكذبه التشريعات الديمقوقراطية المعاصرة، التي صارت تعاقب على النقد، حتى ولو لم يؤد إلى الإخلال بالأمن، أو تحريض عليه. ويبرز ذلك بصفة خاصة بالنسبة للرأي المعارض لأسس النظام الاجتماعي[91].
وتتبع حرية الرأي في الغرب من مفهوم الحرية، فهي تتصل اتصالاً وثيقاً بالحرية الشخصية، وما يتفرع عنها، من حرية تكوين النقابات، والجمعيات، وحرية الاجتماعات.
ومن قاعدة حرية الرأي، المستمدة من الحرية الفردية، تتبع فكرة الحرية السياسية، التي تجعل للفرد حرية تبني ما شاء من آراء ومعتقدات سياسية، وحرية تكوين الجماعات والأحزاب، حول الأفكار التي يعتنقها الأفراد. وذلك لأن حرية الرأي تعني لدى الغرب:
حق الإنسان في أن يعتنق الآراء التي يشاء، وذلك في أي شأن من الشؤون: في السياسة، والدين، والاجتماع، والعلم، والثقافة[92].

والحرية الفكرية في المنظور الغربي، تبيح للأفراد تبني ما شاؤوا من معتقدات، شريطة عدم إضرارها بالآخرين، وقد أكد “جون ستيورات ميل” هذا المعني بقوله:
فمهماً كان اعتقاد الشخص راسخاً في كذب رأي ما، بل وفي ضرر نتائجه ـ بل وفي فساده أخلاقياً وإلحاده… فإنه مع ذلك يدعي العصمة، إذاً حال دون الإستماع إلى ما يقال في الدفاع عن هذا الرأي، حتى لو كان مؤيداً من الرأي العام في بلده أو في عصره[93].

ومن هذا المنطلق، تصبح الحرية السياسية وسيلة، يتمكن بها المرء من إبراز حقوقه السياسية، والفكرية، في مواجهة النظام، والحد من سلطة الحاكم، عن طريق السماح بإبراز رأي الأفراد مطلقا، وتكوين الأحزاب والنقابات.
أضف إلى ذلك، أن الحرية السياسية في الفكر الغربي مستمدة من كون الشعب مصدر السلطات، وصاحب السيادة. ولذلك لا يفرق الكتاب الغربيون، بين الحقوق السياسية الناجمة عن الاشتراك في الجماعة، مثل حق الانتخاب، والتصويت، وبين الحرية السياسية، لأن مصدر الحقوق ومصدر الحرية واحد وهو سيادة الشعب. فالشعب هو الذي يحدد الحقوق والواجبات، والحريات الممنوحة للأفراد والسلطة المخولة للحكام[94]. ولذلك ترتبط الحرية السياسية في الفكر الغربي بعدة حقوق، منها: حق المساهمة في السيادة الشعبية، وهي تنطلق من أن إرادة الشعب مصدر سلطة الحكومة، والتي تجعل لكافة المواطنين الحق في الإسهام في إدارة شؤون الدولة، وتقلد المناصب، بصرف النظر عن الدين، أو اللون، أو الجنس. كما ترتبط، كذلك، بحق التصويت ومنها التصويت على القوانين، تعبيراً عن الإرادة العامة، التي تقتضي أخذ رأي الشعب في تعديل القوانين القائمة، أو وضع قوانين جديدة[95].

من هذا العرض لمصدر الحقوق السياسية في الغرب، يتبين خطأ جعل الحرية السياسية قاعدة يبنى عليها السلوك السياسي في الدولة الإسلامية. فالسيادة في الدولة الإسلامية بيد الشرع، والشعب ليس في يده صلاحية إقرار الحقوق والوجبات لأنها مقررة شرعاً. كما أن استعارة مفهوم الحرية السياسية لممارسة الحقوق السابقة، كالبيعة الشرعية والنهي عن المنكر، وبذلك ربط بين حق إبداء الرأي، وبين ما يجب على المسلم القيام به، حين يستشعر قيام أمر مخالف للشرع، مما يؤكد المسؤولية الفردية، ويدعم المواقف الفردية والجماعية المتصدية للانحراف عن المنهج الشرعي. وبناء على ذلك ميز الإسلام في حقوق تولي المناصب السياسية والأعمال السياسية، بين الأفراد بقدر التزامهم بالعقائد، وبالأحكام الشرعية. ومن هناً لا يجيز الإسلام تولية الكافر، أو المسلم الفاسق الإمارة، كما جعل الشورى حقاً للمسلمين دون غيرهم، لارتباط هذه الممارسة السياسية بالعقيدة الإسلامية، وأجاز سماع رأي غير المسلمين، من رعايا الدولة لدفع أي مظلمة تقع عليهم ومن هذا المنطلق، يتضح أن إبداء الرأي ليس منطلقاً من حرية فردية، تقع المرء إلى تبنيه أو رفضه، لكونه مرتبطاً بالشرع الموجب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولعل هذا يفسر جرأة الصحابة رضوان الله عليهم على قول الحق دون تحفظ، حيث استوعب الصحابة الإطار الشرعي، المنظم لإبداء الرأي في حدود واجب الأمر بالمعروف، والمناصحة للحكام، واتخذوا منهجاً، ووسيلة، لتقويم الحاكم والمحافظة على القيم الإسلامية، والأحكام الإسلامية، مطبقة في واقع الحياة. ولقد أكد الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى، فقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه قوله في أول خطبة له بعد تولية الخلافة:

يا أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبق، إن الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنماً أناً متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني[96].

لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم، يدركون حدود الشرع المنظم لأمر الدولة، الذي دفع أباً بكر رضي الله عنه إلى قوله: “إنما أنا مثلكم”، وإلى طلبه من الصحابة أن “يطيعوه” إن هو التزم الشرع منهجاً، وأن “يقوموه” إن زاغ عنه، لتتحقق سيادة الشرع على الحاكم والمحكوم.
ومن الجرأة على قول الحق ما ذكره الطبري من أن عمر رضي الله عنه سال سلمان الفارسي رضي الله عنه: “أملك أنا أم خليفة ؟”، فأجابه سلمان بكلمة حق بقوله: “إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، أنت ملك غير خليفة”[97].
ومن الأمور الدالة على أن إبداء الرأي مرتبط بالإطار الشرعي، ما ذكره الطبري منأن عمر ضي الله عنه قال للصحابة يوماً:
أما والله لوددت أني وإياكم في صفينة في لجة البحر، تذهب بناً شرقاً وغربا، فلن يعجز الناس أن يولواً رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: إن يعوج عزلوه، فقال: لا، القتل أنكى لمن بعده[98].

يتضح من ذلك، أن الصحابة رضوان الله عليهم، عرفوا حق الأمة في اختيار الإمام، وتوليته المنصب، ومراقبته، ومحاسبته، وفقاً للإطار الشرعي المنظم لذلك، استجابة للشرع، المؤكد على ضرورة المناصحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ولذلك لا يجوز، الربط بين إبداء الرأي في الإسلام، “والحرية” التي قد تدفع المرء على قول الحق، أو عدمه، وإلى تبني الخير، أو رفضه، من منطلقات فردية مصلحية. ويؤكد هذا المعنى أن الإسلام لم يأت مطلقاً بحكم “الحرية السياسية”، وإنما أتى بأحكام ثابتة، كالوجوب، والحرمة، والندب، والإباحة، تتعلق بالأطر والممارسات السياسية في المجتمع الإسلامي، والأصل في الأفعال أنها مقيدة بالشرع، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، “النساء: 65”.

ولذلك فإبداء الرأي الذي أباحه الشرع مقيد بالأطر الشرعية، التي وضعها الإسلام، والتي لا يجوز للمسلم تجاوزها. وعليه فالحرية السياسية، التي تبيح للمرء من منطلق الحرية الشخصية، إبداء رأيه، وفق معتقداته الذاتية، مرفوض أصلاً، لكن الإنسان في الإسلام مقيد بالشريعة، ولا يسمح له مطلقاً بالمناداة بآراء كفر، كالشيوعية، والإلحاد، وما شابهها، من أحكام كفر. من هذا المنطلق أيضا، لا يجيز الإسلام تكوين الجماعات، والأحزاب السياسية التي تبنى على مفاهيم عقائدية مخالفة للشرع.
ومما سبق يتبين خطأ ما يؤكده بعضهم من منطلق الحرية السياسية الغربية، بأن الأمة في الإسلام مصدر السلطات، ان “أهم الحقوق التي يجب أن تمنحها الأمة حتى تكون مصدراً للسلطات، أن يكون لأفرادها الحق في اختيار الحاكم، والحق في مراقبته ومحاسبته”[99] وكذلك يظهر عدم صحة الرأي القائل بأن النظام السياسي الإسلامي يجعل:

معنى الحرية السياسية: أن يكون الشعب، هو صاحب الكلمة العليا في شؤون الحكم، ويتم ذلك بالمشاركة في مسؤولية الحكم ـ سواء بطريق مباشر أو عن طريق ممثليه ـ ويتمثل ذلك في حق الأمة في اختيار الحاكم، وفي مراقبته ومحاسبته على أعماله، وفي مشاركته في الحكم، وفي عزله إذا حاد عن الطريق القويم، أو إذا خالف ما فوضته الأمة فيه[100].
حيث بنيت الآراء السابقة على افتراض أن الأمة مصدر السيادة، وعلى فكرة الديموقراطية الغربية، سواء المباشرة، منها أم النيابية. وفي حيث جعل الإسلام السيادة بيد الشرع، وقرر للأفراد حقوقاً، وألزمهم بواجباتها محددة، وجعل من ضمن الحقوق السياسية للأفراد حق اختيار الحاكم ومراقبته ومحاسبته.
كما يظهر جلياً خطأ من يؤكد بأن الحرية السياسية جزء من الدين[101] حيث أكد سعدي أبو جيب بأن الحرية السياسية في الإسلام لا حد لها إلا قيدين، عدم الخروج على أحكام الشرع، وعدم الإضرار بمصلحة الجماعة على الدولة، ومن ذلك يقول:
ولكن الذي أحب أن أنوه به في هذا المقام، أن القيود التي تفرض على ممارسة الحرية السياسية، رعاية لمصلحة الأمة والدولة، إنماً هي قيود عارضة وطارئة، لانها لم تفرض أصلاً إلاً بمقتضى قاعدة الضرورة، ودفع أشد الضررين… وكلها قواعد استثنائية…[102]

والذي نود تأكيده في هذا المقام، هو أن القاعدة التي تبنى عليها الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة الإسلامية، مقيدة بالشرع، وليست منطلقة من فكرة الحرية السياسية، وذلك لأن الحرية السياسية تفترض سيادة الشعب، والتي يرفضها الإسلام، حيث يجعل السيادة بيد الشرع. هذا بالإضافة إلى أن إبداء الرأي الذي أباحه الشرع، وأوجبه في بعض الحالات، يختلف في شكله ومضمونه عن الحرية الفكرية، في المنظور الغربي، التي تبيح للأفراد تبني ما شاؤوا من معتقدات، شريطة عدم إضرارها بالآخرين.

حيث إن إبداء الرأي في الإسلام هو واجب شرعي على المسلم، وحق له كذلك. كما أن الإسلام يقرر أحكاماً شرعية، تنظيم الممارسات السياسية، أهمها: جعل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، فرض على المسلمين أفراداً وجماعات، وأوجب على الدولة تمكينهم من مزاولتها، ومنع التقصير فيها، وأن تضمن لهم حق إبداء الرأي في حدود ما أجاء الشرع. ومن هذا المنطلق تمتاز الدولة الإسلامية بكونها الدولة الوحيدة، التي ينص دستورها الشرعي على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كأمر وجوبي، فضلاً عن كونه حقاً سياسياً للمسلمين.

الفصل الثاني
المعارضة السياسية مقارنة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

بعد أن أوضحنا فيما سبق، قواعد ومنطلقات الحقوق السياسية في التصور الإسلامي، نعرض هنا تفصيل الأحكام الشرعية الخاصة بممارسة الحقوق السياسية، مع إبراز أوجه الفروق مع الممارسة السياسية في التشريعات الغربية.
تنطلق المعارضة السياسية في الفكر الغربي من ضرورة ضمان حقوق الأفراد السياسية، وحرياتهم، وتعكس حقاً فردياً مطلقا، يتبع من كون السيادة مصدرها الشعب، فهي تعكس مصالحهم ورغباتهم. ولذلك إذا اتضح لسبب أو لآخر أن السلطة الحاكمة لا تعبر عن مصالحهم، جاء لهم إظهار عدم قناعتهم عن طريق المعارضة السياسية.
ومن منطلق الحرية المطلقة، حدد “ميل” القواعد الفكرية الأساسية، التي تبنى عليها المعارضة السياسية للنظام السياسي، والتي منها:

أولاً: إذا أرغم أي رأي على السكوت، فإن هذا الرأي، في حدود علمنا قد يكون صحيحاً، وإنكار ذلك إنما يعني افتراض العصمة فينا.
ثانياً: رغم أن الرأي الذي أخمد قد يكون باطلاً، فإنه قد يتضمن، وعادة يتضمن، جزءاً من الحقيقة، ولما كان الرأي العام، أو السائد في أي موضوع نادراً جداً ما يكون هو الحقيقة كلها، فإنه لا أمل في الوصول إلى بقية الحقيقة إلا باصطدام الآراء المتعارضة.
ثالثاً: حتى إذا كان الرأي المعلن، ليس جزءاً من الحقيقة ، بل الحقيقة كلها، فإنه إذا لم تسمح بمعارضتها، وإذا لم تعارض فعلاً، بقوة وحماسة، فإن من يتلقونها سيتنقونها كما لو كانت تحيزاً ولا يفهمون أو يحسون كثيراً بأسسها العقلية[103]. “أي الحقيقة”.
ويؤكد الكتاب الغربيون، كذلك، أن “السلطة” و “المعارضة” توأمان لا ينفصلان:
والواقع أن إقامة واستمرار الحكم يتطلبان دوماً ـ مهما كانت أشكاله وجود عدم المساواة والامتياز. وبالضرورة وجود تباعد وتفاوت بين الحاكم والمحكومين، وبالتالي امتياز لصالح الأولين… وهذا التفاوت وهذا الامتيازات هي التي تغذي، أساساً، ما يجب أن يسمى، بسبب عدم وجود تعبير أكثر ملاءمة، “بالمعارضة”[104].

أما الإسلام فإن الحقوق السياسية للمسلم تتركز على ضرورة العمل الإيجابي لإصلاح المجتمع،دون اللجوء إلى المعارضة الدائمة للنظام. ولذلك جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لدوام صلاح البلاد والعباد، والنجاة والهلاك، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم)، “هود: 116”. ولما كانت دولة الإسلام، دولة فكرية، قائمة على شرع الله سبحانه وتعالى، ملتزمة بالجهاد في سبيله، وجب عليها التأكد من حسن تطبيق الشرع في الداخل، ومن سلامة البنيان الداخلي للدولة. وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبباً لتميز أمة الدعوة بقوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف والنهي عن المنكر)، “آل عمران: 110”. ومن هنا تختلف الدولة الإسلامية عن الدول الوضعية، التي تؤكد دساتيرها على معارضة الحاكم فقط، وذلك رغبة في الحد من سلطته، نظراً لأن السلطة “مفسدة” في الفكر الغربي، وكونها مفسدة يعني ضرورة تغييرها.

ولذلك تنص دساتير بعض الدول الغربية على الشروط الكفيلة بمنع تركز السلطة، وذلك عن طريق مبدأ الفصل بين السلطات، وعن طريق تبني مبدأ المعارضة السياسية، كوسيلة دائمة للتعبير عن عدم القناعة بالممارسات السياسية، التي تنتهجها الحكومة.
ويختلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كحق سياسي للمسلم عن “المعارضة” السياسية في الفكر الغربي من عدة أوجه:
أولاً: تنطلق المعارضة في الفكر الغربي من قاعدة حفظ “الحرية الفردية”، ومنع الاستبداد، وتهدف في الغالب إلى إظهار خطأ الممارسات السياسية للحكومة، والكشف عنها، بهدف إضعافها أو إسقاطها. أما الإسلام فقد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتأكد من التزام الحاكم بالشرع، لحراسة الذي من الضياع، ومنع تفشي الظلم والفساد. ولذلك، فهدف الأمر بالمعروف ليس حفظ حقوق وحريات الأفراد فقط، وإنما التأكد من إقامة أحكام الإسلام.

ثانياً: يرفض الإسلام فكرة “المعارضة” الدائمة للنظام السياسي، أي “المعارضة للمعارضة”. إن الأصل في نظام الإسلام، الطاعة، مصداقاً لقوله تعالى: (يا أيها الذي آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، “النساء: 59”. ولتأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على وجوب طاعة الأمير، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني”[105]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: “واسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة”[106]، وقوله عليه الصلاة والسلام: “من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية”[107]، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: “السمع والطاعة على المرء المسلم، فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا بمعصية فلا سمع ولا طاعة”[108].

تدل هذه الأحاديث وغيرها مما تعلق بها، أن طاعة الحاكم في الإسلام، أداء لفرض من فروض الدين، وهي بالتالي ليست نابعة من خوف من سطوة حاكم، أو رغبة في دفع شر فاسد، بل هي نابعة من إيمان بمبدأ، واعتناق لعقيدة. هذا وقد قيد الشرع الطاعة “بالمعروف”، أي بما وافق الشرع، ونهى الإسلام عن الطاعة في المعصية: “ما لم يؤمر بمعصية”. فالطاعة واجبة ما أقام الحاكم الشرع، وذلك مصداق لقوله تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)، “الشعراء: 151-152″، وقوله تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً)، “الكهف: 28”.

ولذا كان الإمام يطاع في كل معروف، ولا طاعة له في المعصية، وأما إن كان في الأمر اجتهاد، فإن الواجب على الرعية طاعة الإمام، ولو خالف رأيهم اجتهاده، لكون أحاديث الطاعة في المعروف، جاءت مطلقة، ولم تقيد بكون المعروف موافقاً لرأي أفراد الرعية، أو مخالفاً لهم، وكذلك فقد كان العديد من الصحابة يخالفون إمامهم في مسائل اجتهادية، ومع هذا يتبعون أمره بالتنفيذ في ذلك، مما يدل على أن الإمام يطاع في كل معروف حتى لو خولف في الرأي.

والمعارضة للمعارضة، فيها إصرار على الخطأ، المؤدي إلى الخيانة، والفسق، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الخيانة بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)، “الأنفال: 27”. وقال تعالى: (لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون)، “آل عمران: 71”. ونهى سبحانه وتعالى عن قول الزور بقوله: (واجتنبوا قول الزور)، “الحج: 30”. ولذلك يرفض الإسلام فكرة المعارضة للمعارضة، لقيامها على مرتكزات تخالف الشرع. ومن هنا يظهر خطأ من يقول: إن المجاهرة بالرأي المعارض ليس جائزاً فقط، بل هو واجب، وما كان واجباً فإن عدم القيام به، أو التقصير فيه، إثم وزور[109].
حيث إن هذا القول يسلم بالمنطلقات الفكرية للمعارضة الغربية، ولا يدرك مناقضتها للأحكام الشرعية.
وتؤكد تعاليم الإسلام، مع ذلك، أن من الحقوق السياسية للمسلمين وجوب المحاسبة، حيث ينحرف الحاكم عن شرع الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”[110]. ولذلك، فظهور الانحراف يستلزم وجود المحاسبة للحاكم، وقيام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لإزالة المنكر، والتأكد من حسن تطبيق الشرعية الإسلامية. أما المعارضة السياسية في الفكر الغربي فتبني على اعتبار السلطة السياسية ذات سلبي على حرية الأفراد، مما يستلزم تقييدها في أضيق حدود.

ثالثاً: إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كحق سياسي للمسلم، يعتبر واجباً شرعياً وفرضاً على المسلمين، في الوقت ذاته، لأمر الله سبحانه وتعالى به، لضمان تحقيق الإيمان والعدل، الذين هما أساس الحكم، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)، “التوبة: 122”. يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا الصدد:

ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة[111].
بينما تنطلق فكرة المعارضة السياسية من اهتمام وحرص الأفراد فقط على عدم استبداد الحاكم.
يتضح إذا، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطلق من قاعدة شرعية، وليس من فكرة الحرية الفردية، ويجمع بين كونه حقاً سياسياً للمسلمين وواجباً دينياً عليهم. وقد وردت العديد من الأدلة الموجبة للأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر، والتي تدل دلالة واضحة على أن الاقتصار على الجانب السلبي المتمثل في المعارضة السياسية، لا يكفي لقيام مجتمع إسلامي متكامل، حيث تجب المبادأة بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحاسبة ليستقيم حال المجتمع. وبذلك تقدم النظرية السياسية الإسلامية لحقوق الأفراد السياسية تجسيداً حقيقياً للمشاركة السياسية، يربو على فكرة المشاركة لدى الغرب، لكونها تهدف إلى النهوض بالدولة، وليس الاكتفاء فقد بنقدها ومعارضتها. كما يهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك، إلى تأكيد الحق الشرعي للأفراد والجماعات في التصدي لانحرافات الحكومة، في حين تجسد المشاركة السياسية في الفكر الغربي رغبة الأفراد في الحد من سلطة الحاكم، وبالتالي التخفيف من سيطرة الدولة، التي أسماها المفكر السياسي هوبز ( التنين ).

ومن الأدلة الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الذكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)، “الحج: 41”. ومنها قوله تعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، “التوبة: 71”. وقوله تعالى في وصف بني إسرائيل الذين أغفلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)، “المائدة: 79”.

ومما يدل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن الله سبحانه وتعالى جعله صفة، يمتاز، بها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث)، “الأعراف: 157”. وقد أمر الله به صراحة على لسان عبده لقمان عليه السلام: (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)، “لقمان: 17”.
قد أكد ابن تيمية رحمه الله بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان حسب قدرته[112].

الفصل الثالث
ضمانات الحقوق السياسية في الشريعة

لم تكتف الشريعة الإسلامية بتقرير قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحاسبة، كحق سياسي للمسلمين، وواجب عليهم فقط، بل جاءت الشريعة كذلك بوسائل عملية، لضمان قيام الأمة والأفراد، بمزاولة هذا الحق وإقامته، حيث حددت الشريعة جهات رئيسة تتولى القيام به هي: الدولة، والجماعات، والأفراد.
أما من حيث مسؤولية الدولة كوسيلة لضمان الحقوق السياسية، لتنبثق من ما تقرر بالشريعة، فالدولة الإسلامية تقع عليها مسؤولية إصلاح المجتمع، الذي لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتأكد من إقامة أحكام الشرع، وذلك لامتلاك الدولة القوة السياسية والمادية الضرورية لمتابعة حسن تطبيق أحكام الإسلام.

قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)، “الحديد: 25”. “فالمراد من الحديد” كما يؤكد المودودي “هو القوى السياسية” ولذلك فغاية بعث الرسل: إقامة “نظام العدالة الاجتماعية”. وذلك يدل على أن هدف الدولة ليس سلبياً، يتمثل في حماية الحرية الفردية، والدفاع عن الدولة، وإنما غايتها الإيجابية إقامة نظام العدالة الاجتماعية[113]، الذي لا يتحقق إلا بقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمكين الرعية من القيام به. وقد جاء عن سيدنا عثمان عبارة مشهورة تجسد هذا المفهوم وهي “يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن”[114]. وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: (الذين إن مكناهم في الأرض..)، ومعناها كما جاء في صفوة التفاسير: “هؤلاء الذين يستحقون نصرة الله، هم الذين إن جعلنا لهم سلطاناً في الأرض، وتملكاً، واستعلاء، عبدوا الله، وحافظوا على الصلاة، وأداء الزكاة”[115]. ولذلك، فالتمكين بمعنى الحكم، أي الذين تناط بهم أمور الرعية.
ولذلك ربط ابن تيمية رحمه الله بين الولاية، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث جعل أصل الولاية الأمر بالمعروف:
الولايات كلها: الدينية –مثل إمرة المؤمنين، وما دونها: من ملك، ووزارة، وديوانية.. ومثل إمارة حرب، وقضاء، وحسبة، وفروع هذه الولايات- إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[116].
هذا بالنسبة للدولة، أما الجماعات فدورها لضمان القيام بما أوجب الشرع، من أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومحاسبة، كحق وواجب سياسي على الأمة والأفراد، فينبع من قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، “آل عمران: 104”. حيث يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: “ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. قال الضحاك: هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة. يعني المجاهدين والعلماء.. والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه”[117].

وعليه،فإن هذه الآية توجب على المسلمين إيجاد جماعات إسلامية، بهدف ضمان الحقوق السياسية للمسلمين، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير. ومن الواضح أنه ليس المراد من الآية هنا، قيام كل المسلمين، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،بل المراد إيجاد الجماعة التي تتولى هذا الشأن، “فالأمر الإلهي مسلط على إقامة الجماعة، وليس على العملين”[118]. وتتولى هذه الجماعات الإسلامية التأكد من حسن تطبيق الراعي والرعية للشرع. ومن الواضح أن الهدف الذي من أجله طلب الشارع قيام هذه الجماعات الإسلامية، لا يتحقق إلا بأداء هذه الجماعات لأعمال سياسية، أهمها أمران: الأول هو مناصحة الحكام ومحاسبتهم للتأكد من التزامهم بأحكام الإسلام، والثاني القيام بمهام النصيحة لأفراد المسلمين وعامتهم، ومراقبة انحرافهم عن تطبيق أحكام الشرع. وقد ورد في ذلك العديد من الأدلة المؤكدة على مناصحة الحكام ومحاسبتهم، منها قوله صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة”. قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”[119].

وقد جعل الإسلام، كذلك، محاسبة الحاكم أفضل من الجهاد. وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”[120].
وأكد عليه السلام في موقع آخر أهمية محاسبة الحاكم في حياة الأمة، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم”، وقال صلى الله عليه وسلم: “والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم”[121]. أما الشق الثاني من عمل الجماعات في المجتمع، فيتعلق بنصح المسلمين، وتنبيههم إلى ضرورة التمسك بالشرع، والعمل على تثقيفهم، ونشر الأفكار، التي تعالج شؤون الأمة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية بينهم، بهدف النهوض بهم، لتحمل مسؤولية الخلافة في الأرض، وعمارة الكون.
ومما سبق يظهر جلياً أهمية الجماعات السياسية، كما:

يتضح لنا إذن، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس –فقط- منحصراً في إطار المسلكيات الفردية للناس العاديين، بل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في الأساس عملية تصحيحية وردعية لأي حاكم تحدثه نفسه بظلم الناس، أو ببخسهم أشياءهم، أو هضمهم حقوقهم[122].

أما الجهة الثالثة والمسؤولة عن ضمان القيام بالحقوق السياسية للأمة، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم الأفراد، وما ذكرنا من أدلة بشأن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينطبق على كل فرد بحسبه، ويكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقهم لذلك، فرض كفاية بمعنى: إذا قامت به الجماعات والدولة سقط وجوبه عنهم. أما عند عدم قيام الدولة أو الجماعات بذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصبح قائماً على كل فرد بحسب استطاعته حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”[123].
وعليه فإن الشريعة الإسلامية تنيط بكل من الدولة والجماعة والأفراد مسؤولية ضمان قيام الحقوق السياسية للأمة، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يجب على الدولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويعاونها في ذلك الجماعات والأفراد، ويتأكد هذا إن قصرت الدولة في ذلك، أو تولى أمرها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. فيجب على الجماعات والأفراد القيام بهذا الفرض. فالأمر بالمعروف فرض كفاية، وكونه فرض كفاية يعني أن الأمة كلها مكلفة بإقامته ولكن إن أقامه بعضهم كالدولة مثلاً، والذي هو في حقها أوجب، سقط عن الفئات الأخرى، وفي حالة التقصير يطال الوجوب كل فرد من الأمة. وبتحقيق ذلك تسير الأمة والمجتمع والدولة في طريق الرقي، تصان من عوامل الهدم والانحطاط، الذي هو نتيجة حتمية للانحراف عن شرع الله تعالى ودينه الحق.

الباب الرابع
حقوق الإنسان التعبدية والاعتقادية

تقوم الحرية الدينية في الفكر الغربي على مرتكزات، تناقض مفهوم حرية العقيدة في الفكر الإسلامي. فالحرية الدينية في الغرب، تنطلق من قاعدة كون التدين صلة روحية محضة، بين الإنسان وخالقه، لا شأن لها بكيان الدولة السياسي، ولا علاقة لها بالبناء التشريعي، والاجتماعي، والاقتصادي، الداخلي منه والخارجي، لارتكاز الدولة على المبدأ “القومي” و”العلماني”، الذي يفصل الدين عن الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، الداخلية والخارجية.

أضف إلى ذلك، أن الحرية الدينية في الغرب، تعني حق الإنسان في أن “يختار الدين الذي يشاء، بل وأن يختار أن لا يكون مؤمناً بأي دين كان”[124]. والحرية الدينية السلبية أي حق “الإلحاد” لا تتوفر إلا في ظل اتخاذ الدولة موقفاً محايداً من الدين “وهي حالة تسفر عنها الوضعية القانونية، الموصوفة بعلمانية الدولة”[125]. كما يخضع الغرب حرية ممارسة الشعائر الدينية لمقتضيات المصلحة العامة، وحفظ النظام. ولذلك، يقيد الغرب هذه الحرية بقيود جمة، بزعم الحرص على “لا تنقلب الحرية إلى فوضى، فتمس، بحجة التمتع بها، راحة الأهلين، وشعورهم، الذي قد يكون مغايراً لهذه المظاهر”[126] وإن حرية التدين، والعابدة ينبغي منعها من “أن تهدد سلامة المجتمع أو أمنه.. التي قد تضطر الإدارة المسؤولة إلى (تقييدها) لحفظ النظام العام”[127].

ومن ذلك يظهر أن حرية ممارسة الشعائر، وحرية التدين، تقع في مرتبة أدنى من حفظ النظام العام، وبقاء الدولة في الفكر الغربي، مما يتيح للسلطة الحاكمة فرصة إلغاء الحرية الدينية، بحجة حفظ المصلحة العامة، أو منع الأقليات الدينية من ممارسة شعائرها، بحجة تنظيم مظاهر العبادة، أو عدم الإضرار بالآخرين، كما يظهر اليوم من منع المسلمين في بعض أقطار العالم من إقامة الأذان، أو تدريس الدين الإسلامي في مدارسهم، أو إكراههم على تغيير أسمائهم أو إقامة أي حكم شرعي، له صلة بالتنظيم الاجتماعي.

ومن ذلك يظهر وجود التناقض بين الزعم بحرية التدين، ثم عزله عن أي ممارسات تؤثر على الواقع الاجتماعي، وحصره في تصرفات وشعائر روحية محضة، لا علاقة لها بواقع الحياة.

وبمقارنة ذلك بما يتعلق بحقوق الإنسان في التصور الإسلامي، ذات العلاقة بالاعتقاد والتدين، نجد أن الحقوق التعبدية والاعتقادية للإنسان في الإسلام لا تنطلق من فكرة الحرية أصلاً، بل تنضوي تحت أحكام خاصة، دلت عليها الشريعة، وتشمل عدم الإكراه في الدين لغير المسلمين، وما جاء به الشرع من أحكام في أمور العبادات، والعقائد، الظاهرة والباطنة، التي اختلفت اجتهادات المسلمين فيها، كما تشمل أحكاماً ذات بعد اجتماعي، لحفظ دين الإسلام وحمايته من العبث، وصيانة النظام الاجتماعي للدولة والمجتمع، من الانحرافات العقائدية، والفكرية، التي قد تطرأ على بعض أفراد المجتمع.
ولهذا يتطلب عرض الحقوق الشرعية في الجوانب الاعتقادية والعبادية البحث في عدة مسائل:

المسألة الأولى:
أحكام عدم الإكراه في الدين لغير المسلمين، لاعتناق الإسلام ابتداءً وعدم الإلزام بما يتعارض مع عقائدهم وأديانهم.

المسألة الثانية:
واجب الدولة في حفظ عقائد وشرائع دين الإسلام، وصيانتها من البدع والانحرافات.

المسألة الثالثة:
ما يجب على الدولة عمله، تجاه ما يظهر من اختلافات بين المسلمين، في العقائد والأحكام، وما قد ينجم عن ذلك من ظهور فرق عقائدية، ومذاهب فقهية مختلفة بين المسلمين.

المسألة الرابعة:
واجب الدولة، إذا ما ظهر كفر بواح صريح، في العقائد، أو الأحكام، ممن انتسب إلى دين الإسلام.
ونبدأ بذكر ما يتعلق بالمسألة الأولى. إنه مما علم من دين الإسلام بالضرورة وثبت بالسنة، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، أن العقائد والعبادات الإسلامية لا يكره أحد على اعتناقها ابتداءً، حيث أقر الإسلام مبدأ “لا إكراه في الدين” لغير المسلمين في عقائدهم وعباداتهم، وطبق الرسول عليه السلام ذلك عملياً في تعامله مع غير المسلمين، سواء أكانوا كفاراً من أهل الكتاب كيهود المدينة، وخيبر، ونصارى نجران، أم كانوا لا يتدينون بكتاب كمجوس هجر، وإنما يلزم غير المسلمين بالخضوع للأحكام الشرعية، المنظمة للواقع الاجتماعي، التي لا تتعارض مع عقائدهم وعباداتهم، نحو الأحكام المدنية، كالبيع، والتجارة، أو أنظمة العقوبات، كحد السارق، وقصاص القاتل، ونحو ذلك. ولهذا شرعت أحكام الجزية على كل من كفر، وأراد البقاء على دينه، وعدم التحول عنه إلى دين الإسلام، لإبراز التبعية للدولة الشرعية، وسيادة أنظمتها العامة. وبذلك استقر الأمر على ترك كل كافر على ما يعتقده، ويتعبد به، في دار الإسلام، ما دام خاضعاً لأحكام الشريعة العامة، التي تنظم المجتمع، وتسير بها أحكام الدولة، حيث يلتزم غير المسلم بتلك الأحكام العامة من جانبها التشريعي نفسه، كأنظمة قانونية للمجتمع، دون الجانب التعبدي الروحي لها، كما يعفى من الالتزام بالأحكام التي تتعارض مع عقيدته، ودينه، كأحكام العبادات، والانضمام إلى جيش المسلمين، وكذلك تلك الأحكام التي نظمها دينه نحو أحكام الزواج والطلاق والمأكل والمشرب، بحسب ما فصّله الفقه الإسلامي.

يقول عز وجل: (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشدُ من الغيّ)، “البقرة: 256” يفسر الإمام القرطبي هذه الآية بقوله:

الدين في هذه الآية: المعتقد والملة، بقرينة قوله: “قد تبين الرشد من الغي”، والإكراه الذي في الأحكام من الأيمان، أو البيوع، والهبات، وغيرها ليس هذا موضعه[128].
كتب أبو يوسف في كتاب الخراج: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لنصارى نجران، كتاباً جاء فيه: أنه لنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وأرضهم، وملتهم، لا يغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانية..[129]. كما روى أبو يوسف: أن الصحابة تركوا غير المسلمين، وما يأكلون، وما يشربون، ويتخذون، بحسب أديانهم، وقد روى أبو يوسف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعماله: “يا هؤلاء بلغني عنكم أنكم تأخذون في الجزية، الميتة، والخنزير والخمر.. لا تفعلوا ولكن ولّوا أربابها بيعها وخذوا منهم الثمن”[130]. مما يدل على ترك غير المسلمين، يملكون الخمر والخنزير، كطعام وشراب، ويتبادلونها بينهم، ما داموا يرون إباحتها في دينهم، حتى لو لم يجز الإسلام ذلك.

هذا بالنسبة لمن كان غير مسلم أصلاً، أما من اعتنق دين الإسلام، فإن الأصل في التعبد للمسلم هو القيام به وفق ما جاء في الشرع، سواء أكان ذلك في العقائد، أم كان في العبادات، ولا يحل للمسلم أن يتعبد بكيفية، أو هيئة، ليس لها أصل في الشريعة، أو خارجة عما رسمه الشرع عمداً عالماً بذلك، وإلا عد مبتدعاً للإثم، مغايراً للشرع، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:

المبتدع معاند للشرع، ومشاقّ له، لأن الشارع قد بيّن لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها. وأخبر أن الخير فيها، والشر في تعديها.. فالمبتدع رادّ لهذا كله، فإنه يزعم أن ثمّ طريقاً آخر.. قد نزّل نفسه منزلة المضاهي للشارع[131].
وروى العرباض بن سارية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: “عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة”[132]، ويقول عليه السلام: “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ”[133].
وقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام التعبد بخلاف ما شرع تفرقاً عن الدين، ومروقاً منه حيث روى الترمذي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: “إن بني إسرائيل تفرقّت على اثنتين وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي”[134].
ووصف عليه الصلاة والسلام أقواماً ابتدعوا بالمروق من الدين، بقوله: “يخرج قوم من أمتي، يقرأون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء.. لا تجاوز صلاتهم تراقيَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية”[135].

تؤكد هذه الأدلة، على وجوب اتباع الشارع، في كل اعتقاد وتعبد للمسلم. ويترتب على ذلك، أن الدولة التي تقوم على أساس الإسلام مسؤولة عن حفظ الأحكام التعبدية والعقائدية، كما جاء بها الشارع، ومسؤولة كذلك عن صيانتها عن الانحرافات الفكرية والعملية. وهذه المسؤولية جزء من وظيفة الدولة الشاملة في تطبيق الأحكام الشرعية، وإبلاغ رسالة الإسلام. وتتولى الدولة حفظ الأحكام، كما تتولى صيانتها، باستخدام ما يتوفر لها من وسائل، كالتعليم والإرشاد في مدارسها ومعاهدها، لبيان الأحكام والعقائد لأفرد الأمة، وعن طريق وسائل الإعلام، لإيضاح تعاليم الشريعة، وإبلاغها، وكذلك بإرسال الدعاة والمعلمين والعلماء، وبنصب الأئمة والوعاظ في المساجد، وبنشر الكتب الشرعية، وبث المعارف الإسلامية في المجتمع إلى غير ذلك. وقد ثبت فعل ذلك في سيرة الرسول عليه السلام، وخلفائه الراشدين، حيث كان يقوم عليه الصلاة والسلام بالإبلاغ والتعليم، وبعث الدعاة إلى القبائل، ويرسل من يعلم الناس أمور دينهم من صحابته، وقام بإرسال الكتب، التي تحوي أحكاماً شرعية إلى من دخل في دين الإسلام.

ومع ثبوت هذا لأصل، من وجوب صيانة الدولة وحمايتها للأحكام والعقائد، فإنه قد يرد في الكتاب والسنة نصوصاً يحتمل تأويلها عدة أوجه، وقد يتفاوت المسلمون، في إثبات الطرق، التي وردت بها بعض سنن العبادات، أو بعض الأحكام العقائدية، وقد لا يصل العلم ببعض العقائد والأحكام إلى بعض من المسلمين، ويترتب عن ذلك، ظهور أفهام متعددة ومختلفة من المسلمين، وقد ينجم عن ذلك ظهور مذاهب فقهية في الأحكام الشرعية، وظهور فرق متنازعة في بعض الأمور الاعتقادية الواردة بالنصوص الشرعية، والتي يطلق عليها علماء الأصول: المسائل الخبرية العلمية: مع إقرار جميع هذه المذاهب: وأهل الفرق، على أن مرجعهم هو الكتاب والسنة، وتعظيمهم إياهما، وكون هذه المسائل لا تخرج قائلها إلى الكفر والردة عن الإسلام.

فالواجب في هذه الأحوال، عندما يكون الفهم مبنياً على تأويل مسوّغ لنص شرعي في الكتاب والسنة، سواء أكان مصيباً أم مخطئاً، مبتدعاً أم ناجماً فهم معنى محتمل لألفاظ اللغة التي جاء بها النص، أو بناء على اجتهاد مبذول ممن توفرت له وسائله، أن يعذر المسلمون بعضهم بعضاً، فيما يدركه كل منهم، ولا يجوز للدولة، وولاة الأمر، في هذه الأحوال، حمل الرعية بالوسائل القسرية المادية على فهم واحد من الأفهام المشتركة، التي تحتملها النصوص، كما لا يجوز للدولة أن تمنع الناس بالقوة، وتجبرهم على ترك ما تعبدوا به، من عقائد وأحكام متنازع فيها حينئذ، لما قد ينجم عن ذلك من شقّ وحدة المسلمين وتمزيق شملهم، وكلمتهم، وإشاعة البغضاء بينهم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة.. والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي، أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين.. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، فقاتلهم لدفع ظلمهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسبِ حريمهم، ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع، لم يكفّروا، فكيف الطوائف المختلفين، الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلطوا فيها.. فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفّر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كان فيها بدعة محققة”[136].
وقد ذكر الشاطبي، أحد علماء المالكية، أن الطوائف المتأولة لو ابتدعت، واعتنقت بعض الاعتقادات غير الصحيحة بتأويلها، فإنه مع ذلك لا يجوز قتالها ما لم تخرج عن الجماعة، وتحارب الدولة، وضرب لذلك مثلاً:
ما صنع علي في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، حيث إنه لما اجتمعت الحرورية من الخوارج، وفارقت الجماعة، لم يهجرهم علي ولا قاتلهم. كما ضرب الشاطبي مثلاً في فعل الصحابة رضي الله عنهم حين ظهر معبد الجهني، وغيره من أهل القدر، حيث لم يكن من السلف لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران، دون إقامة الحد المقام على المرتدين. وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز أيضاً لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل، أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه، ولم يعاملهم معاملة المرتدين[137].
وقد أكد ابن قدامة من فقهاء الحنابلة، عدم جواز قتال الطوائف المسلمة، التي قد تعتنق المفاهيم والأفكار المبتدعة بتأويل، إذا لم تقاتل الدولة، حيث بين ابن قدامة أنه إذا أظهر قوم رأي الخوارج، مثل تكفير فعل كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم لم يخرجوا من قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام، فإنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم. وذكر بان قدامة أن هذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور الفقه، وأنه قد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، حيث استدل هؤلاء الفقهاء على ذلك بفعل علي رضي الله عنه، فإنه كان يخطب يوماً فقال رجل في باب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: “لكم علي ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله، أن تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا تمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال”، كما احتج الفقهاء أيضاً بما ورد من أن عدي بن أرطاة، كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن الخوارج يسبونك، فكتب له: إن سبوني فسبهم، أو اعف عنهم، وإن شهروا السلاح فاشهر عليهم، وإن ضربوا فاضرب. ومن الأدلة على ذلك أيضاً أن النبي عليه السلام لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة… فعدم التعرض لغيرهم، أولى..[138].
ويعلل الشاطبي السبب، الذي من أجله لم يشرع الإجبار والإكراه، عمن انتسب إلى الإسلام من أهل البدع، ما لم يرتدوا أو يشهروا السلاح، بأن أهل هذه الفرق المبتدعة، قد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة والجماعة، في مطلب واحد هو الانتساب إلى الشريعة، إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين، وإنما وقع اختلافهم في الطريق، فحصل من هذا الخلاف في هذه المسألة من أصول الدين، وصار بصحة القصد، كالخلافات في فروع الأحكام، في كونه لا يخل بصحة الإسلام، وفي كون المخطئ يعذر فيه[139].

ولهذا يقول الشاطبي لتأكيد المعنى السابق من عدم الإكراه لأهل الفرق: ذلك أن كل فرقة تدعي الشريعة.. وأنها المتبعة لها.. وهي تناصب العداوة من نسبها إلى الخروج عنها.. وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام لأن المرتد إذا نسبته إلى الارتداد أقربه ورضيه.. بخلاف هؤلاء الفرق فإنهم مدّعون الموافقة للشارع، والرسوخ في اتباع شريعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. (وسبب العداوة بينهم وبين أهل السنة) ادعاء بعضهم على بعض الخروج على السنة[140]. وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنية على الخصوص وجدنا كل طائفة تتعلق بذلك أيضاً..[141].
ومن هذه الأقوال يتأكد، أنه ليس للدولة إجبار أو إكراه على اعتناق عقائد متنازع فيها، أو أحكام تعبدية متنازع فيها، بين المسلمين، ما دام المخالف لم يخرج عن دائرة الإسلام، وما دامت العبادات، أو الأحكام، التي يعتنقها مرجعها في فهمه وعلمه إلى الكتاب، والسنة، وأدلة الشرع، حتى ولو كانت هذه الأحكام والعقائد بدعاً محققة في نظر الدولة.
ويتأكد هذا المعنى أيضاً من تجويز الفقهاء لولاية من كانت يحمل اعتقاداً خلاف الحق، بشبهة أو بتأويل، حيث ذكر الماوردي قول كثير من علماء البصرة: إن الاعتقاد خلاف الحق بتأويل وشبهة، ولا يمنع من انعقاد الإمامة، ولا يخرج من فيها، كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشهادة[142].
ومماً سبق يظهر أن تدخل الدولة يقتصر في حالة حدوث أفكار وممارسات بدعية، على بيان الحقائق، وبيان فساد تلك الأفكار والعقائد، بالحجة والبرهان، لا بالسيف والسنان، كما وتعمل على منع تأثير الأفكار والعقائد المبتدعة على المسلمين، بتحذير المسلمين من أهلها، وهجرهم، في حالة دعوتهم، دون القسر والجبر لهم، لواجب الدولة في حفظ الدين كما سبق بيانه.
ولهذا يقرركثير من العلماء، أن التشهير بأهل البدع، إنما يقتصر على الحالات التي يكون فيها النشر والدعوة للبدع في المجتمع جماعياً، حيث يبين الشاطبي أنه حينما تكون الفرقة تدعو إلى ضلالها، وتزينها للعوام، ومن لا علم عنده، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدع والضلالة، ولا بد من ذكرهم، والتشهير بهم، لأن ما يعود على المسلمين من ضلالهم إذا تركوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم، أما إذا لم يكن هناك دعوة للبدعة، ونشر لها، فإنه لا ينبغي أن يشهر بأهل البدعة، وإن وجدوا، ويعلل الشاطبي ذلك بأنه سيؤدي إلى إثارة الشر، وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين، ويبين الشاطبي أن الأسلوب الواجب اتباعه عموماً هو المذاكرة برفق، وعدم التكفير، بدعوى الخروج عن السنة، وأن يقتصر على بيان الدليل الشرعي، وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا..[143].
ويتفق في ذلك الإمام الغزالي، الذي يؤكد على أن أكثر الجهالات، إنما رسخت في قلوب العوام، بتعصب جماعة من جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي، والإذلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، مما أدى إلى حصول المعاندة والمخالفة، ورسوخ الاعتقادات الباطلة، وتعذّر على العلماء المتلطفين محوها[144].
ويحلل الإمام الجويني، بأن الواقع السياسي كذلك، يتطلب أن لا تعمل الدولة على إثارة الفرقة عن طريق الإجبار لأهل العقائد والعبادات المبتدعة على تركها، أو قسرهم على اتباع ما تراه، إذا ما كان ذلك سيؤدي إلى ظهور التمزّق والتشتت والفتنة من المسلمين، حيث يقول:
“إن كان ما صار الناجم بدعة، لا تبلغ مبلغ الردة، فيتحتم على الإمام المبالغة في منعه ودفعه، وبذل كل المجهود في ردعه ووزعه.. فهذا كله إذا أخذت البدع تبدو، أو أمكن قطعها، فأما إذا شاعت الأهواء، وذاعت، وتفاقم الأمر.. وفات استدراكه.. وعسرت مقاومة ومصادمة ذوي البدع والأهواء، وغلب على الظن مسالمتهم ومتاركتهم، وتقريرهم على مذاهبهم وجه الرأي، ولو جاهدهم لتألبوا وناشبوا ونابذوا الإمام.. وسلوا أيديهم عن الطاعة.. وقد يتداعى الأمر إلى تعطيل الثغور.. واستجراء الكفار، فإن كان كذلك، لم يظهر ما يخرق حجاب الهيبة، ويجر منتهاه عسراً وخيبة”[145].
ومما سبق، يظهر أن الدولة مع عملها في حفظ الدين على أصوله، ليس لها إجبار أحد من المسلمين، أو إكراهه بالعنف والسيف على ترك اعتناق عقائد أو عبادات بعينها، حتى ولو كانت بدعاً ما دام مرجع المسلمين في ذلك الكتاب والسنة، وأدلة الشرع، وما لم يخرج أهل هذه البدع على الدولة، أو يرتدوا عن دين الإسلام.
وإنما تعمل الدولة جاهدة على تبيان الحق ونشره، ولها في ذلك منع الدعوة إلى البدعة، والتحذير من شرها، وكذلك التشهير بمن يدعو إليها، ويعمل على إغواء العوام بها، وذلك دون اللجوء من الدولة إلى القوة المادية، من قتل أو سجن، ودون قتالهم، أو قتلهم، ودون سلبهم حقوقهم المدنية، من فيء، أو غيره، ما داموا مقيمين على الطاعة، وأيديهم مع سائر المسلمين، ولم يخرجوا ببدعتهم إلى الكفر الصريح، أو يخرجوا على الدولة.
والذي ينبغي ملاحظته، أنه مع لجوء الدولة إلى منع أهل البدع من الدعوة إليها، والتشهير بهم، عند الحاجة لذلك- لواجب الدولة في حفظ الإسلام- إلا أنه ينبغي أن يتم القيام بذلك وفق الطرق القضائية المتبعة في الدولة، فليس لها التشهير، أو المنع، أو مصادرة الكتب مثلاً، إلا بعد عرض الأمر على القضاء، وصدور حكم قضائي يثبت وجود البدعة، والمخالفة لما علم من الإسلام، ويوجب إنزال عقوبة التشهير أو التعزير بالدعاة إلى تلك البدعة أو المخالفة.
ما سبق تفصيله يتعلق بالاجتهادات، والمخالفات البدعية، أما إن كان الاجتهاد والفهم في الفروع، وله تأويل سائغ في النصوص الشرعية، كاختلاف فقهاء المذاهب، فإن الدولة في هذه الحالة ليس لها مطلقاً إجبار أحد على مذهب فقهي معين، أو العمل بحكم شرعي معين، فيما يختص بالأفراد، فيما بينهم، إذا لم يحتكموا فيه إلى الدولة، وليس لها فرض فهم، أو اجتهاد فقهي، على العامة أو إجبارهم على التقيد به، حيث يقول الإمام الجويني في ذلك:
فأما اختلاف العلماء في فروع الشريعة، ومسائل التحري والاجتهاد، والتآخي من طريق الظنون، فعليه درج السلف الصالحون، وانقرض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكرمون، واختلافهم سبب المباحثة، وهو منة من الله تعالى وفضل، فلا ينبغي أن يتعرض الإمام لفقهاء الإسلام، فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام، بل يقر كل إمام ومتبعيه على مذهبهم، لا يصدهم عن مسلكهم ومطلبهم[146].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
الأمور الكلية ليس لحاكم، كائناً من كان.. أن يحكم فيها بقوله على من نازعه قوله، فيقوم ألزمته ألا يفعل، ولا يفتي، إلا بالذي يوافق مذهبي، بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله، والحاكم واحد من المسلمين.. وأما باليد والقهر فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه.. إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكوم عليه بما حكم..[147].
كما يؤكد ابن تيمية بأن الحكم والسلطة، لا تعطي الحق في فرض الرأي المذهبي، أو القول الملزم في المسائل التي يتنازع عليها أهل المذاهب، وأنه لا يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره، لكونه حاكماً فإن هذا ينقلب، فقد يصير الآخر حاكماً فيحكم بأن قوله هو الصواب، ولذلك لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضاربين يلزم جميع المسلمين، بخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي من عند الله حق، وهدى، وليس فيه خطأ قط. كما يذكر ابن تيمية أن الجبر والإكراه من الحكام والدولة في أمور الفروع والأصول التعبدية المتنازع عليها بين المسلمين يؤدي إلى انهيار الدولة، حيث إنه يجب على الدولة منع التظالم، ولذلك لا يسوغ لولاة الأمر أن يمكنوا طوائف المسلمين ن اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض، بقولهم ومذهبهم، لما في ذلك من ظلم، ولأنه مما يوجب تغير الدول وانتقاضها[148]. كما يقرر أنه إذا خرج ولاة الأمور عن هذا، فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم “وهذا من أعظم أسباب تغير الدولة”[149].
كما يؤكد ابن تيمية بطلان الأحكام الصادرة من الدولة، التي توجب إلزام الفقيه والعالم بمذهب معين، أو حكماً معيناً في غير محاكم الدولة، حيث يستدل على ذلك بأنه قد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهاده، كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث، والعطاء، السياسة. وهم أئمة الدين الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة[150].
والخلاصة: أن الدولة تعمل على حفظ دين الإسلام، وصيانته من البدع، ولكن لا تلجأ إلى القتل والقتال، إلا عند ظهور الردة أو الخروج على لدولة، وليس للدولة أن تلزم المسلمين، أو تكرههم، على اعتناق عقائد، أو ترك عقائد، وعبادات، ما دام للمسلمين دليل شرعي، يستندون إليه في شرعية هذه العقائد والعبادات، كما ليس لها التدخل في الإلزام بمذاهب فقهية معينة، أو اجتهادات لعلماء معينين، ما دام الأمر لم يتحاكم فيه إلى محاكم الدولة وأجهزتها.
أخيراً، نختم القول في ما يتعلق بالأحكام التعبدية والعقائدية، بتقرير واجب الدولة إذا ما ظهر الكفر البواح، الذي قام عليه البرهان، من ظهور الردة ممن ينتسب إلى الإسلام، حيث أكدت الأحكام الشرعية الثابتة بالسنة والإجماع، وجوب استخدام القوة لحماية العقائد في حالة معينة تنحصر في منع الخروج الصريح على الشريعة، بالكفر البواح، الذي قام البرهان عليه، حيث أكد الإسلام هنا وجوب إقامة أحكام المرتد، وذلك بهدف منع الأفكار المنحرفة الضالة الخارجة على دين الإسلام، ومنع المفاهيم المكفرة، من التأثير على أفراد الأمة، والانتشار في المجتمع الإسلامي، وأجاز الإسلام للدولة لهذا، حظر كل ما يوصل إلى الكفر الصريح في المجتمع.
فقد ثبت بالسنة أن المرتد عن الإسلام متى ثبت فعله، يقتل حدّاً، وأن الدولة مسؤولة عن استتابته وردعه عن ذلك، روى ابن حزم عن البخاري، أن أبا موسى الأشعري، قدم عليه معاذ بن جبل باليمن، وإذا برجل موثق، فقال: ما هذا؟ قال كان يهودياً فأسلم، ثم تهوّد، قال: لا أجلس حتى يقتل.. قضاء الله ورسوله “ثلاث مرات”، فأمر به فقتل”[151]. وعن أبي أيوب السختياني عن عكرمة،قال: “أتي علي بن أبي طالب بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله، ولقتلتهم.. وعن أبي عمر الشيباني قال: أتي علي بن أبي طالب بشيخ كان نصرانياً فأسلم، ثم ارتد عن الإسلام، قال: فارجع إلى الإسلام، قال: لا، فأمر علي فضربت عنقه”[152].
وروي عن النبي عليه السلام قال: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”[153].
وروي عن ابن قدامة في المغني، قال: “من ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء بالغاً عاقلاً دعي إليه.. فإن رجع وإلا قتل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بدّل دينه فاقتلوه)، “رواه البخاري”[154].
والردّة اسم شامل لكل رجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، قال تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، “البقرة: 217”. فتشمل بذلك الرجوع إلى العقائد الكافرة، نحو اعتناق الماركسية، أو المادية الجدلية، أو النصرانية، أو العلمانية. وكذلك قد تقع الردة بجحود ما ثبت قطعاً في شرع الإسلام، نحو وجوب تحكيم الكتاب والسنة، والاحتكام إلى شرع الله، أو أن الرابطة بين المسلمين هي الإيمان بالله ورسوله، أو وجوب إقامة الحدود. كما تقع الردة بجحد تحريم ما حرم قطعاً في الإسلام، نحو تحريم الخمر أو الزنى. كما قد تقع بفعل يناقض ويضاد الإيمان، نحو السجود لصنم، أو الصلاة مع النصارى في الكنائس، أو الدعاء والاستغاثة بغير الله من المخلوقين فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، اعتقاداً بألوهية المخلوق، أو الاستهزاء بالله ورسوله، أو سبّ الله تعالى، أو كتبه، أو رسله، سواء أكان فعل ذلك مزاحاً أم في مجال الجد.
ويشترط لإقامة حد الردة التثبت من وقوع الردة، قال ابن تيمية رحمه الله:
لا يجب أن يحكم على كل شخص بأنه كافر، حتى تثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال، لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره، ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة.. وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان..”[155]..
كما أن إجراء حكم المرتد إنما يكون على “من كان مسلماً ثم ارتد عن الإسلام”، وذلك بهدف تميّز من نشأ على الكفر، وولد من أبوين مرتدين، بعد ردتهم، فإن هؤلاء لا يعتبرون مرتدين، وإنما يعاملون معاملة كالكفار، لأنهم يعدون كفاراً أصليين.
يقول ابن قدامة في المغني:
فأما أولاد المرتدين، فإن كانوا ولدوا قبل الردة فإنه محكوم بإسلامهم تبعاً لآبائهم، ولا يتبعونهم في الردة، لأن الإسلام يعلو وقد تبعوهم فيه، فلا يتبعونهم في الكفر.. وإن كفروا فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة.. وأما من حدث بعد الردة فهو محكوم بكفره، لأنه ولد بين أبوين كافرين.. نص عليه أحمد[156].
ولهذا يعامل أبناء أفراد الطوائف، التي ارتدت عن الإسلام في الماضي، وولدوا بعد الردة –كالمنتسبين إلى طائفة القاديانية، أو الإسماعيلية، والبهائية، وغيرها من طوائف الكفر- معاملة الكفار الأصليين، من غير أهل الكتاب المقيمين في دار الإسلام، من حيث إجراء الأحكام، أما من اعتنق البهائية أو القاديانية بعد إسلامه فإنه يعد مرتداً، ويعامل وفق أحكام أهل الردة.
ومن الأدلة السابقة، يظهر أن الواجب على الدولة والمسلمين حفظ دين الإسلام، على أصوله المستقرة، أي الثابتة بالكتاب والسنة، ومنع الانحراف عنه بإقامة أحكام المرتد على من خرج كفراً عنه. وتثبت أهمية هذا الحكم من إدراك أن الخروج عن الإسلام هدم للنظام الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع، وهدم للأساس، الذي قامت عليه الدولة.
ويقرر عبد القادر عودة هذا المعنى حيث يقول:
تعاقب الشريعة على الردة بالقتل، لأنه تقع ضد الدين الإسلامي، وعليه يقوم النظام الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام، ومن ثم عوقب عليها بأشد العقوبات استئصالاً للمجرم من المجتمع، وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية.. ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة.. وأكثر الدول اليوم تحمي نظامها الاجتماعي بأشد العقوبات، تفرضها على من يخرج على هذا النظام، أو يحاول هدمه أو إضعافه.. والقوانين الوضعية اليوم تعاقب على الإخلال بالنظام الاجتماعي بنفس العقوبات التي وضعتها الشريعة لحماية النظام الاجتماعي الإسلامي”[157].
وقبل أن ننهي البحث في هذا الموضوع، نناقش بعض الآراء المعاصرة التي لا تتفق مع ما سبق ذكره، من وجوب قتل المرتد حدّاً، استشهد بعض المعاصرين بعدم وجوب قتل المرتد حدّاً بما نقل عن بعض فقهاء السلف: إبراهيم النخعي بأن: “المرتد يستتاب أبداً” وقد رواه عنه سفيان الثوري[158]، واستشهد كذلك برواية عن عمر بن الخطاب، أنه سئل عن قوم قتلوا بعد ردتهم، فقال.. “كنت عارضاً عليهم الباب الذي خرجوا منه، أن يدخلوا، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا استودعتهم السجن”[159]، كذلك نقل عن عمر بن عبد العزيز أن قوماً أسلموا، ثم ارتدوا، فأمر برد الجزية عليهم، وتركهم. ومن ذلك يتوصل د. العوا إلى “أن عقوبة الردة إنما هي عقوبة تعزيرية، وليست عقوبة حد، وأنها عقوبة مفوضة إلى السلطة المختصة، تقرر بشأنها ما تراه ملائماً بين أنواع العقاب”[160].
والرد على هذا القول، يتلخص في أنه قد ثبتت مخالفة سائر الفقهاء لقول إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، حيث وصف ابن قدامة الحنبلي في كتابه المغني قول إبراهيم النخعي في استتابة المرتد بأنه قول شاذ، مخالف للسنة والإجماع[161]، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله عليه السلام. أما الرواية عن عمر رضي الله عنه، فلا تخالف في وجوب قتل المرتد، وإنما تحمل على وجوب الاستتابة قبل القتل، وأن لا يقتل فور ردته، بل يمهل في ذلك لعله يرجع، حيث نقل عن عمر رضي الله عنه مسارعته في طلب قتل من ثبت نفاقه، واستئذانه النبي عليه السلام في قتل بعضهم، مما يدل على ما استقر في عرف الصحابة من وجوب قتل المرتد، فضلاً عن أنه قد قتل عدد من المرتدين على يد ولاة عمر بين الخطاب رضي الله عنه، حيث قتل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “ابن نواحة لردته”، وروي أنه كتب إلى عمر عن قوم ارتدوا فأجابه: “أن اعرض عليهم شهادة الحق.. فإن قبلوها فخلّ عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم”[162].
وثبت في رواية الشافعي للشوكاني في نيل الأوطار قول عمر في المرتد: “هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً، واستتبتموه لعله يتوب، ويراجع أمر الله”[163]، مما يدل بأن المقصود من رأي عمر المنقول بسجن المرتد عدم قتل المرتد مباشرة، بل الاستتابة له لعله يتوب، ويرد ابن حزم الظاهري على قول من يزعم بوجوب الاستتابة أبداً، بأن قول من رأى ذلك، لو صح، بطل الجهاد جملة، لأن الدعاء للمعاندين للدعوة كان يلزم أبداً مكرراً بلا نهاية، وليس دعاء المرتد وهو أحد الكفار بأوجب من دعاء غيره، من أهل الكفر الحربيين، مما يسقط هذا القول”[164].
ويذكر الشيخ أبو زهرة: “أن المقصود من قول النخعي هو استمرار الاستتابة حتى اليأس من عودة المرتد إلى الإسلام، وعند ذلك يكون القتل، وهذا القول موافق لمن يرى قتل المرتد حداً، لأنه يقرر القتل بالنهاية، وهو الثابت بالسنة الصحيحة، وإجماع أهل العلم، وقضاء الصحابة رضي الله عنهم[165].
أيضاً من الواضح أن القاعدة الأساسية عند إقامة الحدود، هي درء الحدود بالشبهات، وليس مستبعداً أن يكون مقصود عمر رضي الله عنه تطبيقها قبل إقامة الحد، للتأكد من إدراك المرتدين لجريمتهم، وعدم وجود شبهة له، تحتاج إلى كشف وبيان.
أما ما نقل عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، في ترك المرتدين بعد فرض الجزية عليهم، فإن الرواية خاصة في قوم جهلوا أحكام الشرع، ولذلك لم يطبق عليهم حكم الردة، لفقدان شرط العلم، والإدراك بالجرم، كما أن الرواية الأخرى عن عمر بن عبد العزيز تدل على أن الحد يقام إذا كان المرتد محلاً لإقامة الحكم، لعلمه بالشرع، حيث إنه ورد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بشأن المرتد: “أن سله عن شرائع الإسلام، فإن كان قد عرفها فاعرض عليه الإسلام، فإن أبى فاضرب عنقه، وإن كان لم يعرفها فغلظ الجزية ودعه”[166]، وهذا يدل على أن المرتد إذا لم تنطبق عليه شروط الردة، أو أركانها، كأن يكون جاهلاً أو متأولاً، أو كليهما، فإنه يمكن حينئذ تعزيره، وهذا يطبق على كل جريمة حد، إذا لم تستوف شروطها وأركانها، وقد ورد أمثلة لذلك عديدة في فقه السلف، حيث لم يقم عمر رضي الله عنه حد السرقة على من سرق بسبب جوعه عام الرمادة، ودرء عثمان رضي الله عنه حد الزنى عن جارية نشأت تجهل حكم الزنى، ولذلك لا حجة بالاستدلال بما نقل عن عمر بن عبد العزيز بهذا الصدد، حيث إن ذلك مقصور على الحالات التي لا تتوفر فيها شروط إقامة الحد على جريمة الردة.
أيضاً ورد من الأقوال المعاصرة من يرى أن سبب التعزير في جريمة الردة هو أن الحدود لا تثبت بحديث الآحاد، وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم، وإنما المبيح هو محاربة المسلمين، وفتنتهم عن دينهم، وأن ظواهر القرآن الكريم تمنع الإكراه في الدين، ولهذا يرى الشيخ شلتوت أن هذه قرائن تصرف عن الوجوب إلى الإباحة[167].
والجواب أن القول: بأن أحاديث الآحاد لا يثبت بها القتل، مردود. حيث إن من الثابت العمل بهذه الأحاديث في أحكام الشريعة العملية، وقد ورد حكم القتل بأحاديث لجرائم أخرى كقتل الزاني المحصن، وقتل الساحر، واللوطي، ولذلك لا وجه لاستبعاد حكم القتل للمرتد، لوروده بأحاديث آحاد، خاصة مع إجماع العمل عليه من لدن الصحابة رضي الله عنهم، وكون جملة القرائن التي يستشهد بها من يرى أن المرتد يعزر، ولا يقتل حداً، ليست بقرائن قوية، حتى تصرف صيغة الأمر بالأحاديث الداعية إلى قتل المرتد من الوجوب إلى غير ذلك، بل إن جملة أقوال من رأى التعزير، في مجملها أقوالٌ شاذة أو مؤولة بما يناسبها.
كذلك وردت شبهة لبعضهم في عدم قتل المرتد بكون الرسول عليه الصلاة والسلام عرف المنافقين، وعلم أنهم مرتدون، كفروا بعد إسلامهم، ولم يقتلهم، ولذلك يرى هؤلاء أنه لا قتل للمرتد. ويرد ابن حزم رحمه الله على هذه الشبهة في بحث طويل، يخلص فيه إلى أن المنافقين إما قوم لم يعرفهم عليه السلام بأنهم منافقون ولذلك لا حدّ عليهم، وإما قوم افتضحوا فعرفهم فلاذوا بالتوبة، ولذلك لم يقم الحد إجراء لحكم الظاهر عليهم، فيبطل بذلك زعم من قال بعدم قتل المرتد[168]. وقد فصّل ابن حزم في ذلك بما لا مزيد عليه في رد هذه الشبهة، وتوصل إلى أن من عرفهم عليه السلام بأنهم منافقون “أظهروا الإسلام فحرمت بذلك دماؤهم في ظاهر الأمر، وباطنهم إلى الله تعالى، في صدق أو كذب”[169].
أخيراً، نذكر أنالردة من الجرائم ذات الخطورة البالغة على المجتمع والدولة والأمة الإسلامية. والحس الإسلامي يرفض أن يكون هناك تساهل فيها. وقد شرع الإسلام القتل لجرائم أخف ضرراً، حيث أمر بقتل الزاني المحصن بأسلوب رادع زاجر، لما يترتب على فعله من نشر الفحشاء بين المسلمين، وأمر بالقصاص حفظاً لأمن الجماعة، فلا يعقل أن يكون معالجة جريمة الردة، وعقاب مرتكبها، والتي يترتب عليها انهيار أركان المجتمع بمجمله، دون ذلك. والحق أن المرتد إذا ثبتت ردته، وانطبقت عليه شروط الحد فإنه يجب على الدولة الإسلامية قتله حداً، إذا لم يتب لما ثبت في من السنة وإجماع الصحابة.

الخلاصة

قدم البحث تحليلاً لحقوق الإنسان الشرعية من منظور سياسي إسلامي. وقد سعى البحث إلى تأكيد خصوصية الشريعة الإسلامية، في تصورها لحقوق الإنسان، فالإسلام يقدم منظوراً للحقوق، ينطلق من تكريم الله للإنسان واستخلافه له في الأرض، ويرتكز على العقيدة التي يعتنقها الإنسان، والتي تخول له حقوقاً شمولية عامة، لا تشابه الحقوق الطبيعية، أو القومية، أو الوطنية، الممارسة في الغرب، وذلك لأنها ترتبط بالعقيدة، وتقوم على مفاهيم عالمية، مصدرها الشريعة الإسلامية. كما يقدم الإسلام منظوراً واقعياً لحقوق الإنسان، منسجماً مع الفطرة الإنسانية، وثابتاً في التصور، وقد حاولنا في ثنايا البحث إبراز التصور الإسلامي للحقوق، ثم دراسة حقوق الإنسان بالشخصية، سواء من الجانب الإيجابي برعاية شؤون الأفراد والجماعة، أو من جانب صيانة الحقوق الشخصية بتحريم التجسس على الإنسان، والاعتداء على بدنه، أو ماله، بدون وجه حق، وأحكام حرمة البيوت، وبتحريم الشريعة الإسلامية على الدولة والأفراد دخول البيوت بدو إذن أهلها. ومن ذلك يتضح أن الشريعة جاءت بأحكام عديدة توفر ضمانة للحقوق الشخصية، لا تتوفر في أي نظام سياسي آخر. كما ينطلق الإسلام في تصوره للحقوق السياسية من ضرورة المناصحة، والمحاسبة السياسية، للحكام ومن قاعدة المسؤولية الجماعية، والفردية، الواجبة على المسلم، حين يستشعر أمراً مخالفاً للشرع، مما يدعم المواقف الفردية والجماعية المتصدية للانحراف في التصور الغربي، لارتباط الحقوق بالحرية السياسية في الغرب، والتي ترتبط بميول الفرد ورغبته في ممارسة حقه من عدمه. وفي حين أوجب الشارع على المسلمين المناصحة والمحاسبة السياسية للحكام، فقد اكتفت النظرية السياسية الغربية بإبراز حق المرء، من منطلق حريته الشخصية والسياسية، في أن يتبنى المعارضة السياسية للنظام، أما الإسلام فقد تجاوز النظرة الضيقة بالتأكيد على أن دور الفرد ليس سلبياً يتمثل في المعارضة السلبية للنظام، وإنما يبنى أساساً على قاعدة الطاعة الشرعية لتحقيق الوحدة الداخلية، وعلى قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تشمل مناصحة ومحاسبة الحاكم، عن الانحرافات الشرعية، والتي قد تصل إلى عدم الطاعة في المعصية، أو الخروج على الحاكم، إذا أظهر الكفر البواح في المجتمع.
وبذلك تربط الشريعة الإسلامية ربطاً محكماً، بين الحقوق السياسية للمسلمين والواجبات الشرعية عليهم. كما تقدم النظرية السياسية الإسلامية، كذلك، عدة ضمانات للحقوق السياسية، منها ما يتعلق بمسؤولية الدولة في إقامة الشرع الإسلامي، ومنها ما يتعلق بدور الجماعات والأفراد في ضمان الحقوق السياسية للمسلمين، من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، ومحاسبة الحكام، ونصح المسلمين، وتثقيفهم، ونشر الأفكار، التي تعالج شؤون الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بينهم، بهدف النهوض بهم لتحمل مسؤولية الخلافة في الأرض وعمارة الكون.
كما تناول البحث، كذلك، حقوق الإنسان التعبدية، والتي أكد البحث أنها تبنى على قواعد تخالف فكرة الحرية الدينية في الفكر الغربي، وذلك لأن الحرية الدينية في الفكر الغربي تنطلق من أن التدين صلة روحية محضة بين الإنسان وخالقه، لا شأن لها بواقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يتعلق بذلك من تشريعات وأنظمة، وذلك لارتكاز الدولة في الغرب على المبدأ “العلماني” و”القومي”. كما أن الحرية الدينية تعني حق الإنسان في اعتناق أي دين يشاء، وفي الإلحاد. أما حقوق الإنسان التعبدية في الإسلام فتنطلق من قواعد شرعية لا علاقة لها “بالحرية”. فقد جاءت الشرعية بأحكام تفصيلية، في أمور العقائد، والعبادات، وأحكام ذات بعد اجتماعي، تتعلق بحفظ دين الإسلام من العبث، وصيانة المجتمع من الانحرافات العقائدية، والفكرية، التي قد تطرأ على بعض أفراد المجتمع. وقد تمت دراسة حقوق الإنسان التعبدية بالنظر إلى أحكام عدم الإكراه في الدين لغير المسلمين، ثم النظر في واجب الدولة الشرعي في حفظ عقائد، وشرائع الدين الإسلامي، كجزء من مسؤولية الدولة في إقامة الشرع الإسلامي، ومعالجة الدولة للاختلافات التي تظهر بين المسلمين نتيجة لاختلاف الاجتهادات، ثم واجب الدولة إذا ما ظهر الكفر البواح في العقائد، من أي فرد، أو جماعة تنتسب إلى الإسلام.
وقد بينّا من خلال دراسة الأحكام التعبدية أن الإسلام قد حدد للدولة دوراً ينطلق من واجبها المقدس في حراسة الدين، من البدع، وألزمها التقيد بأطر تمنعها من التدخل في الأمور الاعتقادية، والتعبدية المختلف فيها، بين المسلمين، وجعل لها حق الدعوة إلى الحق، وتصحيح المفاهيم، دون اللجوء إلى القوة المادية، لإكراه المسلمين على اعتناق أفكار ومفاهيم غير قطعية من الشرع، والتي تتفاوت العقول في إدراك أدلتها، ما دام أن تلك المفاهيم والأفكار لا تخرج عن الإسلام. بالإضافة إلى ذلك، جرى في ثنايا البحث الرد على عدد من الشبهات المتعلقة بأحكام المرتد الثابتة بالشريعة الإسلامية، وبيان أهمية تلك الأحكام في بناء المجتمع الإسلامي، ضمن الأطر الشرعية الثابتة.
ومن خلال الجوانب المختلفة التي تطرق إليها البحث يتأكد أن أحكام وحقوق الإنسان التي جاء بها الشرع لا يضاهيها أحكام وتشريعات أي تنظيم اجتماعي آخر، فضلاً عن أن تحقيقها يستلزم قيام المجتمع الإسلامي، الذي يبني كيانه السياسي، وعلاقاته، على العقيدة الإسلامية، ومفاهيمها، وأحكام الشريعة المنظمة لواقع الحياة.

قائمة المراجع

1- القرآن الكريم.
2- ابن الأثير، جامع الأصول من أحاديث الرسول، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1400هـ -1980.
3- الأعظمي، محمد، سنن ابن ماجة، الرياض، شركة الطباعة السعودية، 1403هـ-1983م.
4- ابن تيمية، أحمد عبد الحليم، الفتاوى، جمع عبد الرحمن بن قسام، بيروت، دار العربية للطباعة والنشر، 1398هـ.
5- أبو حبيب، سعدي، دراسة في منهاج الإسلام السياسي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1406هـ- 1985م.
6- ابن حزم، أبو محمد، المحلى، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الفكر، (مكان وتاريخ النشر غير معروف).
7- الجويني، الغياثي، غياث الأمم في التياث الظلم، قطر، الشؤون الدينية، 1400هـ.
8- الدكتور حلمي، محمد، المبادئ الدستورية العامة، بيروت، دار الفكر العربي، 1969م.
9- الدكتور حماد، أحمد جلال، حرية الرأي في الميدان السياسي في ظل مبدأ المشروعية، بحث مقارن في الديمقراطية الغربية والإسلام، المنصورة، دارالوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1408هـ-1987م.
10- الدكتور الحمادي، سليمان، عمر بن الخطاب، القاهرة، دار الفكر العربي، 1969م.
11- الحنبلي، محمد السفاريني، شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد،بيروت، المكتب الإسلامي، الجزء الأول، 1399هـ.
12- الخلال، أبو بكر أحمد بن محمد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دراسة وتحقيق: عبد القادر أحمد عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، 1406هـ- 1986م.
13- ابن خلدون، المقدمة،بيروت، دار القلم، ط1، 1978م.
14- الدغمي، محمد راكان، التجسس وأحكامه في الشريعة الإسلامية، عمان، جمعية عمال المطابع التعاونية، 1404هـ-1984م.
15- الدكتور رباط، أدمون، الوسيط في القانون الدستوري العام، بيروت، دار العلم للملايين، 1965م.
16- أبو يوسف، القاضي، كتاب الخراج، (مكان وتاريخ النشر غير معروف).
17- الشاطبي، الإمام أبو إسحاق، الاعتصام، بيروت، دار المعرفة، (بدون تاريخ).
18- الشاطبي، الإمام أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، دار المعرفة، (بدون تاريخ).
19- الشنقيطي، محمد الأمين، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الرياض، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1403هـ.
20- الدكتور الشيشياني، عبد الوهاب عبد العزيز، حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة، مطابع الجمعية العلمية الملكية، (بدون مكان نشر)، 1400هـ-1980م.
21- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري، بيروت، دار الكتب العلمية، 1407هـ – 1987م.
22- الدكتور طبلية، القطب محمد القطب، الإسلام وحقوق الإنسان، دراسة مقارنة، القاهرة، دار الفكر العربي، 1396هـ-1976م.
23- الدكتور ظاهر حسن، دراسات في تطور الفكر السياسي، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1405هـ- 1985م.
24- عبد الله، عبد الحكيم حسن محمد، الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، دراسة مقارنة، القاهرة، دار الاتحاد العربي للطباعة، 1394هـ1974م.
25- الدكتور عثمان، محمد فتحي، من أصول الفكر السياسي الإسلامي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1404هـ-1984م.
26- العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر، (بدون تاريخ).
27- عودة، عبد القادر، التشريع الجنائي في الإسلام، بيروت، دار الكتاب العربي، (بدون تاريخ).
28- الدكتور غزوي، محمد سليم محمد، الحريات العامة في الإسلام مع المقارنة بالمبادئ الدستورية الغربية والماركسية، الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، (بدون تاريخ).
29- الدكتور قربان، ملحم، قضايا الفكر السياسي، الحقوق الطبيعية، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1403هـ- 1983م.
30- القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1965م.
31- الدكتور قلعة جي، محمد رواس، موسوعة فقه عبد الله بن مسعود، القاهرة، مطبعة المدني، 1404هـ-1984م.
32- الماوردي، أبو الحسن، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت، دار الكتب العلمية، 1405هـ-1985م.
33- الدكتور مفتي، محمد أحمد، أركان وضمانات الحكم الإسلامي، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، السنة الخامسة، العدد الثاني عشر، ربيع 1409هـ- ديسمبر 1988م، ص (75-130).
34- المقدسي، ابن قدامة، المغني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، (بدون تاريخ).
35- المودودي، أبو الأعلى، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1405هـ- 1985م.
36- ميل، جون ستيوارت، الحرية، ترجمة عبد الكريم أحمد، القاهرة، مطابع سجل العرب، 1966م.
37- الدكتور النفيسي، عبد الله، في السياسة الشرعية، الكويت، دار الدعوة، 1984م.
38- الإمام النووي، أبو زكريا، رياض الصالحين، دمشق، دار المأمون للتراث، (بدون تاريخ).
19:40 – 2011/12/29 معلومات عن العضو