بحث قانوني هام حول الزواج الشرعي و العرفي في السودان

من المعلوم أن السودان بلد يتكون نسيجه الإجتماعي من جماعات متعددة الأعراق، مختلفة الأديان والمعتقدات العرفية والموجهات الثقافية. في ضوء هذا الواقع الإجتماعي، وفي معرض الحاجة لتنظيم العلاقات الزوجية في هذا المجتمع. فقد وضع المشرع السوداني نص المادة (5) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م كقاعدة هادية لتحديد القواعد (الشرعية والعرفية) الواجبة التطبيق في أحوال انعقاد الزواج (الشرعي و العرفي) في السودان، حيث يقرأ النص المعني ما يلي: (إذا عرضت في أي دعوى أو أي إجراء أمام المحاكم المدنية مسألة من المسائل المتعلقة بالتركات أو المواريث أو الوصية في الإرث أو الهبة أو الزواج أو الطلاق أو العلاقات الخاصة بالأسرة أو إنشاء الوقف فإن قاعدة الفصل في هذه المسألة هي:-
أ‌- الشريعة الإسلامية إذا كان الخصوم في الدعوى مسلمين أو كان الزواج تم وفقاً للشريعة الإسلامية.
ب‌- العرف الجاري بين الخصوم ذوي الشأن والذي لا يخالف العدالة والإنصاف والوجدان السليم ولم يُعدَّل أو يُلغ بموجب أحكام هذا القانون، أو أي قانون آخر، ولم يتقرر بطلانه بقرار صادر من محكمة مختصة).
إن تفسير ما ورد في هذا النص، قد أثار الكثير من الجدل الفقهي القانوني والقضائي عند بعض فقهاء القانون ورجال القضاء، كان ثمرته اختلافات في أحكام المحاكم دانيها وعاليها. إن صياغة هذا النص بما تضمنته من لبْسٍ وغمُوض في مفهوم وتطبيق قاعدتي الشريعة الإسلامية والعرف الجاري بين الخصوم-بجانب أسباب أخرى- يُعد أحد أهم الأسباب الجوهرية والمباشرة في نشأة وانتشار الزواج العرفي (المنبوذ) في أوساط بعض طلبة وطالبات الجامعات في السودان.

سبب اختيار الموضوع

لقد أطلعت بمحض الصدفة على إحصائية مفصلة بعدد العلاقات التي تمت بطريق ما يُعرف ب(الزواج العرفي) بين بعض طلبة وطالبات الجامعات في السودان، وقد راعني ما آلت إليه هذه العلاقات وثمارها من مصير محزن. لهذا؛ فقد أيقنت بوجود مشكلة حقيقية تحتاج إلى حل يساهم فيه المتخصصون- كل في مجال تخصصه- بالكشف عن اسبابها واقتراح الحلول التي يرونها.

هدف البحث:

من جانبي؛ فقد رأيت أن من الأنسب أن أسهم في حل هذه المشكلة بهذا البحث، عسي ولعل أن يجد القبول عند المعنيين به والله المستعان.

حدود البحث

تقتصر هذه الدراسة على البحث في إنعقاد الزواج الشرعي والعرفي من الناحيتين الشرعية و القانونية، ولا يطال البحث أسباب الزواج العرفي (المنبوذ) وتأثيراته الإقتصادية والإجتماعية وغيرها، لأن هذه الأسباب الأخيرة تدخل ضمن تخصص علمي (الاقتصاد والاجتماع).

فروض البحث

}أ {هناك غموض ولبس في مفهوم وتفسير وتأويل نص المادة (5) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م.
}ب {وإن هذا الغموض ساهم في إنشاء ونشر ظاهرة ما يُعرف
بالزواج العرفي (المنبوذ) في أوساط بعض طلاب وطالبات الجامعات في السُّودان.
هيكل البحث: (تخطيط سير الدراسة) :-
عنوان البحث: أحوال إنعقاد الزواج (الشرعي والعرفي) في القانون السوداني، وفيه مبحثان:-
المبحث الأول: أحوال انطباق الشريعة الإسلامية على انعقاد الزواج الشرعي في القانون السوداني.
المبحث الثاني : أحوال انطباق أحكام العرف الجاري بين الأزواج على انعقاد الزواج العرفي في القانون السوداني.
خاتمة البحث : وتشمل نتائج البحث وتوصيات الباحث .

المبحث الأول

أحوال انطباق أحكام الشريعة الإسلامية على انعقاد الزواج الشرعي ( النكاح ) في القانون السوداني
وفقاً لنص المادة (أ-5 ) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م , تنطبق أحكام الشريعة الإسلامية على انعقاد الزواج في حالتين :-
الحالة الأولي: إذا كان أطراف العقد بالزواج مسلمين، ويكونون كذلك إذا كانوا يدينون بالإسلام، ويكونوا كذلك إذا كانوا يؤمنون بوحدانية الله رباً وبمحمد رسولاً، أي يتخذون الإسلام ديناً . ويفترض في الشخص الإسلام إذا كان قد ولد من أبوين مسلمين أو كان أحد الأبوين مسلماً. في ذلك قال قاضي المديرية محمد يوسف مضوي: ( الوالد مسلم، وهو يفضِّل أن تحكم دعواه طبقاً للشريعة الإسلامية. وفي بلد مثل بلادنا حيث تعتبر الروابط العائلية صلات وثيقة، وكان الوالد في مركز لا يعلوه غير مركز الأب في القانون الروماني، فإنه مما يتوافق مع مقتضي المنطق والعقل أن تكون جنسية (ديانة) الوالد هي التي يلزم أن تُشكل وتسيطر على طرق تربية الأولاد، أو أنها تذهب إلى أبعد من ذلك في صياغة مفاهيم ومعتقدات الفرد في المستقبل. وعلى هذا، فالأرجح أن تقرر المحكمة المدنية بأن المولود من أب مسلم إذا كان الزواج مختلطاً، يكون مسلماً) . وعلى ذلك؛ إذا كان الأطراف في عقد الزواج مسلمين بالمعنى المتقدم؛ فإن أحكام الشريعة تنطبق على انعقاد الزواج في هذه الحالة.
الحالة الثانية: تنطبق أحكام الشريعة الإسلامية في حالة انعقاد الزواج بين غير المسلمين، إذا قبلا انعقاد زواجهما بمقتضى أحكامها برضائهم. القواعد العامة لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أحوال الزواج في القانون السوداني:- لمّا كان لأحكام الشريعة الإسلامية مصادر أصلية وأخرى تبعية متعددة؛ فمن المتصور أن تكون هناك خلافات فقهية في كيفية الرجوع إلى مصادر هذه الشريعة، واستنباط أحكام الزواج الشرعي منها. لذلك فقد قام المشرع السوداني بالنص على الأحكام الواجبة التطبيق في أحوال الزواج الشرعي في السودان في قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م. فإذا لم يوجد نص تشريعي في هذا القانون تطَّبق المحاكم الراحج من المذهب الحنفي، ويصار في حالة الزواج التي يوجد لأصلها حكم في القانون وتحتاج إلى تفسير أو تأويل إلى المصدر التاريخي الذي أخذ منه قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م، وهو مذهب الجمهور .
الشروط الشرعية الواجب توافرها في الزوجين: يشترط في الزوجين:

1. أن لا تكون المرأة محرّمة على الرجل تحريماً مؤبداً أو مؤقتاً، وإلا كان الزواج باطلاً.
2. وأن يكون الزوجان معيَّنين، طائعين، وعلى ذلك فلا يصح زواج غير المعّين سواء كان الرجل أو المرأة، كما لا يصح زواج المعيّن على غير المعيّنة. ولا يصح زواج المعيّنة على غير المعيّن.
3. وأن يكون الزوج كُفؤاً للزوجة وفقاً لأحكام القانون والعبرة في كفاءة الزوج بالدين ، والخلق ، وتعتبر الكفاءة من جانب الزوج عند ابتداء العقد، فهي -أي الكفاءة- وإن كانت شرطاً في الزوج إلا أنها ليست حقاً خالصاً للمرأة، وإنما هي حق يشاركها فيه الولي بحيث لو تنازلت عنها الزوجة ظلَّ حق الولي فيها ثابتاً قائماً بل هي حق ثابت شرعاً لكل واحد من الأولياء إذا تعدَّدوا. فإن استووا في الدرجة كان رضا أحدهم كرضا الكل يصح الزواج بولاية أيّهم، فإن اختلفوا في الدرجة، ثبت الحق فيها للأقرب فالأقرب .

ويراد بالولي : العاصب بنفسه على ترتيب الإرث، والشرط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً، مسلماً إذا كانت الولاية على مسلمة. وحق الولي على موليته البالغة العاقلة تزويجها بإذنها ورضاها ووفقاً لمقتضي المنشور رقم (54) فإن عقد الزواج يفسخ إذا تولاه الولي الأبعد مع وجود الولي الأقرب، كالأخ مع وجود الأب، وهو ما جرى عليه العمل في المحاكم السودانية. ويرقى حق الولي على وليته لدرجة عقده عليها بغير إذنها ورضاها، ثم إخبارها بالعقد للحصول على قبولها وإجازتها للعقد، فإذا غاب الولي الأقرب وكان في انتظار رأيه فوات مصلحة في الزواج تنتقل الولاية لمن يليه، فإذا زُوجت موليته بغير رضاه من غير كفء جاز للولي الأقرب طلب فسخ العقد، إذا لم يظهر بها حمل. ومتى ما ثبت الولاية على البالغة العاقلة، فإنها تبقى مالم يترك الولي الإنفاق عليها شرعاً، ففي هذه الحالة تسقط ولايته عليها. ومع ثبوت حق الولي في تزويج موليته؛ إلا أنه لا يجوز له أن يمتنع عن تزويجها للكفء فإن فعل كان عاضلاً لها، وكان امتناعه عن تزويجها بغير مسوِّغ شرعي، فيجوز لها ذلك أن تطلب من القاضي أن يأذن بتزويجها بحسبانه صاحب ولاية عامة. فإذا زُوجت المرأة بالولاية العامة مع وجود الولي في مكان العقد، أو في مكان قريب يمكن أخذ رأيه فيه، فهو بالخيار أن يجيز العقد، أو أن يطلب الفسخ، ما لم تمضي سنة كاملة من تاريخ الدخول فإذا لم يكن للمرأة ولي فالقاضي وليّها بالتزويج لكونه ولي لمن لا وليّ لها ، ومعنى ذلك أن التزويج بالولاية العامة لا يتأتى إلا إذا لم يكن للمرأة ولي أصلاً أو كان لها ولي أو أولياء رفضوا تزويجها من الرَّاغب فيها، وطلبت المرأة الإذن لها بالزواج، أذن لها القاضي به ، أو قام القاضي مقام وليها وناب عنه بتزويجها بنفسه أو بواسطة من ينيبه عنه في التزويج .

صيغة الزواج الشرعي

والشروط في صحة الإيجاب والقبول بالزواج، أن يكونا مُنجزين، غير دالين على التأقيت، وأن يوافق الإيجاب القبول صراحة أو ضمناً في مجلس واحد، وأن يكون كل من العاقدين سامعاً وفاهماً المقصود من كلام الآخر عن الزواج، بشخصه أو بواسطة من ينيبه عنه في ذلك. وأن يكونا أي الإيجاب و القبول باللفظ، أو كتابة في حالة الغيب والعجز عن النطق. فإن تعذرت الكتابة، فبالإشارة المفهومة . فالكتابة-في الأصل- إذا وسيلة من وسائل انعقاد النكاح لا شرط في إنشائه أو في إثباته. تكون الكتابة رسمية أو عادية، فوثيقة النكاح الرسمية (القسيمة) هي الورقة التي يحررها الموظف المختص (المأذون) مثبتاً فيها النكاح وفقاً للأوضاع الشرعية و القانونية . أما وثيقة النكاح غير الرسمية أو العادية (العرفية) فهي الورقة التي يثبت فيها الأطراف النكاح وفقاً للأوضاع الشرعية والقانونية فقط يتخلف فيها توثيق الموظف العام (المأذون) لهذا النكاح. وكيفما كانت وثيقة النكاح رسمية أو عادية (عرفية) فلا تثبت لها الحجية المقررة لها في القانون إلا بالقدر الذي يتطابق محتواها مع حكم الشرع في موضوعها. فإذا كان العقد باطلاً بطلانا مطلقا شرعا وقانونا ولو كان مكتوبا في وثيقة رسمية، وقد قضي بأن وثيقة الزواج التي يعدّها المأذون تُعد مستندا رسميا في ما اشتملت عليه . يكون الزواج صحيحاً شرعاً وقانوناً إذا عقده الولي في حضور الشهود ولو كانت الورقة المثبت فيها النكاح عادية أي عرفية، أو حتى لو لم يثبت في ورقة أصلاً. وعلى ذلك فإن المشرع السوداني لا يشترط كتابة النكاح لا في انعقاده ولا في إثباته بعكس المشرع المصري الذي يشترط إثبات النكاح بوثيقة رسمية، بالرغم من أنه لم يشترط في انعقاده كتابته في ورقة رسمية أو عادية(عرفية) . لقد نظم المشرع السوداني المستندات المعدة لإثبات المواد الشرعية في المواد من (30-64) شاملة في الفصل الأول من الباب الثالث من الجدول الثالث الملحق بقانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م. فإذا عرض قصور فيها , تُقرأ معها المواد من (36-47) شاملة من قانون الإثبات لسنة 1994م. ووفقاً لأحكام هذه القوانين؛ فإن وثيقة النكاح الرسمية تكون حجة على الكافة بما دُوِّن فيها ولاتحتاج إلى دليل آخر يعضدها ، فهي لذلك بمثابة إشهار للنكاح .
بالرغم من أن المشرع لم يشترط إشهاراً لعقد النكاح يزيد على إشهاد الشهود على العقد، ومع ذلك فإن الكتابة ليست ركناً في النكاح أو شرطاً شكلياً فيه، فالركن والشكل فيه انعقاده بعبارة ولي المرأة أو من ينوب عنه، حيث تنص المادة (34/1) من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م على أن (يزوج البالغ وليُّها بإذنها ورضاها). ومفهوم النص هو أن عبارة الولي لازمة لتعبير المرأة (الزوجة) عن إرادتها الزواج. وبهذه العبارة وحدها-دون غيرها- يتحقق إرتباط الإيجاب مع القبول بالزواج، سواء كانت عبارة الولي به الأولى أو الثانية أي إيجاباً أو قبولاً. هذا المفهوم يتفق مع مفهوم نص المادة (34) من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م ، والتي تُقرأ: (يتم ارتباط الإيجاب بالقبول في الوقت الذي يتبادل فيه المتعاقدان التعبير عن إرادتين متطابقتين، مع مراعاة أي قيود يُقررها القانون لانعقاد العقد) . من هنا يبدو واضحا أن القيد الذي وضعه المشرِّع السوداني لانعقاد النكاح هو أن يتم بعبارة الولي في مجلس العقد، سواء حضرت المرأة مجلس العقد أو لم تحضره. لذلك لايجوز للمرأة عقد نكاحها بعبارتها سواء في حضرة الولي أو في غيبته، حتى لو فوَّضها الولي في تزويج نفسها بعبارتها أو بعبارة من تفوِّضه في ذلك، وفعلت أو فعل، لم يصح. وكذا لا يصح أن تُزوج المرأة المرأة بعبارتها ولو فوَّضها الولي، لقوله: (لا تزوَّج المرأةُ المرأة، ولاتزوِّجُ المرأةُ نفسها، إنَّ الزانية هي التي تزوِّجُ نفسها) .

أهمية الولي في عقد الزواج (النكاح) :

نظراً لأهمية الولي في عقد النكاح فقد عدَّهُ المشرِّع السُّوداني من شروط صحة النكاح، والصحيح-في نظرنا- عدَّهُ ركناً فيه، بحيث إذا تخلف الولي انعدم العقد أصلاً، وعُدّ كأن لم يكن، ولا يترتب عليه أيّ أثر من آثار النكاح، إذ وفقاً لحكم القانون يُزوِّجُ البالغَ وليُّها، بما يعنى أنَّ البالغَ لا يزوِّجُها إلا وليُّها. لما كان التزويج يتم بعبارة الولي؛ لذلك كان الولي ركناً ركناً في العقد لا شرط فيه، ولو قلنا بغير ذلك لكان الوليُّ شرطاً في صحة العقد، إذا تخلَّف يكون عقد الزواج فاسداً لا يترتب عليه أيّ أثر قبل الدخول ويترتب عليه أثر محدود بعد الدخول يقتصر على وجوب الأقل من المهر المسَّمى ومهر المثل، وثبوت النسب وحرمة المصاهرة، ووجوب الِعِدّة. ولكن الثابت في القانون السُّوداني أنَّ العقد لا ينعقد أصلاً، وعلى ذلك تنص المادة (92-ب) من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م التي تقرأ (العقد الباطل لا ينعقد، فلا يترتب عليه أي أثر ولا ترِد عليه الإجازة). تطبيقاً لهذا النص على الزواج الذي يغيب عنه الولي، يظهر أنَّ هذا الزواج منعدم، أي لم ينعقد أصلاً، ولا يصح هذا الزواج ولو أجازه الولي بعد ذلك لأن الزواج الباطل لاترِد عليه الإجازة على النحو السابق بيانه، وذلك لأن انعقاد الزواج بعبارة الولي هو الشكل الذي يفرضه القانون . وأثر تخلف هذا الشكل يبطل عقد الزواج على النحو الذي نصت عليه المادة (91/1) من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م التي تقرأ (يكون العقد باطلاً إذا لم يتوافر فيه شكل يفرضه القانون). الظاهر أنَّ أشتراط المشرِّع انعقاد عقد الزواج بعبارة الولي يجعل من هذا العقد عقداً شكلياً يتميز انعقاده بهذه الشكلية عن غيره من العقود الرضائية في القانون السوداني.

الإشهاد في عقد الزواج

الإشهاد في عقد الزواج شرط في صحة العقد لا ركن فيه، لان العقد ينعقد بغيره، وبالإشهاد يتم إثباته، إذ الإثبات يرد على زواج حدث لا لإنشاء زواج لم يحدث. يُشترط في الشهود أن رجلين أو رجلاً وامرأتين، مسلمين، مكلَّفين، من أهل الثقة، سامعين الإيجاب والقبول، فاهمين أنَّ المقصود بهما الزواج . وحضور الشهود انعقاد العقد بالزواج يجعله زواجاً علنياً، وتخلُّفهم عن حضور انعقاده يجعله زواجاً سرياً. وكذا يكون الزواج سرياً في الأحوال الآتية:
أولاً: ما أوصى الشهود بكتمه حين العقد سواء أوصى غيرهم على كتمه أم لا.
ثانياً: إذا استُكْتِم غيرُ الشهود، كما لو تواصى الزوجان والولي على كتمه ولو لم يوصوا الشهود بذلك.
ثالثاً: إذا لم يحضر الشهود العقد وحضره الولي.
يلاحظ:

أنَّ في الزواج السري لابد من حضور الولي عقد الزواج ولو لم يُشَهر هذا الزواج. فإذا لم يحضر الولي لا ينعقد الزواج السري أصلاً . بمقابلة أحكام انعقاد النكاح في قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م السوداني بأحكام انعقاده في الفقه الإسلامي بوجه عام، نجد أن المشرِّع السوداني قد نظّم انعقاد النكاح على هدي الراجح في الفقه الإسلامي (مذهب الجمهور) حيث خالف المشرِّع المذهب الحنفي في تنظيمه لانعقاد النكاح عملاً بنص المادة (5/1) من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م والتي تقرأ: ( يعمل بالراجح من المذهب الحنفي فيما لا حكم فيه بهذا القانون ” قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م”. ويصار في حالة المسائل التي يوجد لأصلها حكم، أو تحتاج إلى تفسير أو تأويل إلى المصدر التاريخي الذي أخذ منه القانون). على ذلك فإن المصدر التاريخي لأحكام انعقاد النكاح في قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م هو مذهب الجمهور، وليس المذهب الحنفي بحال. لذلك, فإنه, في حالة المسائل المتعلقة بانعقاد الزواج ويوجد لأصلها حكم في قانون الأحوال الشخصية للمسلمين أو تحتاج إلى تفسير أو تأويل في هذا القانون يُصار فيها إلى مذهب الجمهور، لا المذهب الحنفي. على ذلك لا يصح الدفع بمقررات المذهب الحنفي في نزاع يتعلق بانعقاد زواج شرعي في السودان، وإنما يصح الدفع بمقررات مذهب الجمهور في هذا الشأن، بحسبانه المصدر التاريخي لقانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م، والذي يجب أن تكون عليه الفتوى الشرعية والمشورة القانونية وحكم القضاء في السودان. عليه فالمقرر شرعاً من أحكام انعقاد الزواج الشرعي في هذا المذهب الأخير هو أن النكاح لاينعقد إلا بعبارة الولي أو وكيله الشرعي، وبتخلفهما فالنكاح منعدم، ولايترتب عليه أي أثر شرعي أو قانوني. يترتب على ذلك وفقاً لمقررات القانون السوداني أن زواج البالغة العاقلة نفسها بعبارتها يقع زواجاً منعدماً مخالفاً للقانون. ولا يصح لمن يدَّعي صحته أن يدفع به- قانوناً مستنداً على مقررات المذهب الحنفي- في نزاع متعلق بزواج مطروح أمام القضاء في السودان. ولعل هذا الزواج الأخير يشبه إلى حد كبير الزواج المعني بالزواج العرفي(المنبوذ) السائد اليوم في بعض أوساط الطلاب والطالبات في بعض الجامعات السودانية، بالرغم من أن مصدر كل منهما مختلف عن الآخر، إذ بينما مصدر أحكام الزواج في المذهب الحنفي هو الشريعة الإسلامية على ما يرى الحنفية، فإن مصدر الزواج العرفي(المنبوذ) هوالعرف(المنبوذ) أي العرف غير القانوني، كما ينص على ذلك القانون السوداني . وتفصيل هذا الزواج الأخير نورده في المبحث الثاني من هذه الدراسة.

المبحث الثاني أحوال انطباق قاعدة العرف الجاري بين الأزواج على انعقاد

الزواج العرفى في القانون السوداني

وفقا لنص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م، تنطبق في أحوال الزواج أحكام العرف الجاري بين أطراف عقد الزواج من غير المسلمين إذا كانوا من رعايا الطوائف المستثناة من انطباق قانون زواج غير المسلمين لسنة 1926م عليهم. الطوائف التي تنطبق عليها أحكام العرف الجاري في أحوال انعقاد الزواج العرفي: تنص المادة (5/1) من قانون الزواج لغير المسلمين لسنة 1926م على ما يلي:- (بناءاً على طلب من الرئيس الشرعي أو النائب لأي طائفة دينية بالسودان، يكون للسلطات سلطة في إصدار أمر ينشر بغازيته الحكومة يوصى بعدم تطبيق قواعد هذا القانون على الزواج الذي يتم بواسطة كاهن تلك الطائفة الدينية وفقاً للشعائر الدينية المتبعة في الطائفة بين شخصين يتبعان الطائفة، ولذلك فإن أي زواج يتم بين مثل أولئك الأشخاص على يد الرئيس الديني للطائفة، يكون صحيحاً إذا توافرت واتُبعت فيه جميع متطلبات القانون الشخصي، وتترتب عليه جميع الآثار القانونية التي ينص عليها القانون الشخصي). وعلى ذلك فإن الطوائف المستثناة من تطبيق قانون الزواج لغير المسلمين لسنة 1926م هم: رعايا كنيسة الروم الأرثوذكس، كنيسة الأقباط، كنيسة الأقباط الكاثوليكية، الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، الكنيسة المارونية، كنيسة السريان الكاثوليك، كنيسة الأرمن الكاثوليك، كنيسة الأقباط الكاثوليك، كنيسة الكلدان الكاثوليك، الطائفة اليهودية. لذلك؛ فإن نص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م يقتصر على أحوال انعقاد الزواج الذي يتم بين رعايا هذه الطوائف المذكورة. حيث يوصف الزواج الذي يتم بينهم بأنه زواج عرفي، وهو زواج مشروع قانوناً وفقاً لنص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م إذا انعقد وفقاً لمعايير وضوابط العرف المُحدَّدة في النص نفسه.

حدود مشروعية الزواج العرفي:

كما مرّ القول فإن المشروعية القانونية لانعقاد الزواج عرفياً وفقاً للقانون السوداني تقتصر على أحوال انعقاده بين رعايا الطوائف المستثناة السابق ذكرها. ويستخلص من ذلك : أن أي زواج يكون أحد أطرافه مسلماً لايعد زواجاً عرفياً مشروعاً قانوناً وفقاً لنص المادة (5/ب) لوجوب انطباق أحكام الشريعة الإسلامية على حالة انعقاد هذا الزواج، عملا بنص المادة (5/أ) من نفس القانون. كما لاتعد حالات انعقاد الزواج بين غير المسلمين من غير الطوائف المستثناة زواجاً عرفياً لوجوب انطباق احكام قانون الزواج لغير المسلمين لسنة 1926م عليهم، لكون هذا الأخير زواجاً قانونياً مدنياً لا زواجاً عرفياً. وحتى يكون الزواج العرفي صحيحاً قانوناً بين رعايا الطوائف المستثناة فلابد أن تتوافر فيه شروط الصحة المقرَّرة قانوناً لانعقاده وفقاً للتفصيل التالي:-

شروط صحة انعقاد الزواج العرفي بين الطوائف المستثناة

أولاً : الأهلية والرضا:-

تختلف أهلية الزواج بين رعايا الطوائف المستثناة، باختلاف الشرائع المتعددة التي يُنسب إليها رعايا كل من هذه الطوائف. فالشريعة القبطية الأرثوذكسية تُحدِّد سِنَّ الزواج بسن الثامنة عشرة للرجل، والسادسة عشرة للمرأة. وتُحدِّد شريعة الكاثوليك سِنَّ الثامنة عشرة للرجل، والرابعة عشرة للمرأة. وعند الإغريق تقل سن الزواج عن المقرِّر قانوناً إذا وافق الوالدان أو وليُّ النفس بشرط ألاَّ يقل السِنَّ عن البلوغ الطبيعي بأيِّ حالٍ من الأحوال. وعلى ذلك؛ فإذا توافرت لطرفي عقد الزواج الأهلية وانعدمت موانع الزواج وتراضى الأطراف عليه وكان الرضا صادراً عن إرادةٍ حرَّة مختارة خالية من عيوب الرضا كالغلط والتدليس والإكراه والاستغلال؛ فإن شرط الأهلية للزواج والرضا به يتحقق صحيحاً.

ثانياً: موافقة الأولياء(الأهل) على الزواج:-

من المؤكد في الشريعة النصرانية أنَّ رفض الولي لإبرام الزواج ليس حقاً مطلقاً له، وإنما يلزم أن يكون رفضه بموجب شرعي يمتنع معه على رجل الدين مباشرة العقد لحين استشارة الرئيس الديني، فإذا انعدم هذا الموجب ثبت لرجل الدين أو المحكمة-بحسب الحال- الموافقة على هذا الزواج . أما في الشريعة اليهودية فإنَّ زواج البنت عند (القرائيين) يقتضى رضا أبيها، فإن كان موجوداً فيؤخذ رأيه وإلاَّ كان له الحق في إبطال عقد الزواج. يستوي في ذلك أن تكون البنت بالغة أم قاصرة، بكراً أم ثيباً. أما عند (الربَّانين) فالصغيرة يزوِّجها أبوها ولو لم يتحقق رضاها الزواج إن كانت بكراً, أما إذا كانت بالغة أم ثيباً غير بالغة,فلها تزوِّج نفسها دون حاجة لوليها .
حالات الزواج العرفي (بغير ولي) بين رعايا الطوائف المستثناة :
على ما تقدم, فإن حالات الزواج العرفي المشروع بغير ولي ينحصر في حالات الزواج التي تنعقد بين رعايا الطوائف اليهودية من الربانيين في حالتين فقط، هما:
إذا كانت البنت بالغة، أو كانت ثيباً غير بالغة. ففي هاتين الحالتين يجوز للبنت أن تزوج نفسها بنفسها بعبارتها دون حاجة لعبارة وليها بالزواج.
هذا الزواج يشبه إلى حد كبير زواج حالة الضرورة عند الروم الكاثوليك حيث يسمح لرعايا الروم الكاثوليك الراغبين في الزواج ويبعدان عن الكاهن بمسافة تستغرق رحلة شهر أو أكثر للوصول إليه أن يقوما بالاقتران أمام شاهدين فقط، وإن لم يتوافر وجود الشاهدين, فيمكن أن ينعقد الزواج بالإيجاب و القبول من جانب الطرفين ( الرجل والمرأة ). لقد لاحظ بعض الفقهاء المعاصرين -بحق- أن هذا الزواج لايكون زواجاً (عرفياً ) وفقاً لشرائع الطوائف المستثناة عملاً بحكم المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م. ونضيف، أن الزواج المعنى لا يمكن أن يكون زواجاً مدنياً صحيحاً عملاً بأحكام قانون الزواج لغير المسلمين لسنة 1926م لكون رعايا هذه الطائفة مستثنين من تطبيق أحكام القانون المذكور عليهم.

ثالثاً: انعقاد الزواج بمعرفة رجال الدين:-

ينعقد الزواج عند النصارى (الأقباط الكاثوليك) بواسطة كاهن الطائفة التي يُنسب إليها الزوجان. فالقس القبطي الأرثوذكسي يجب أن يعقد زواج الأقباط الأرثوذكس والقس الكاثوليكي يعقد زواج الكاثوليك, سواء كان الزوجان لاتينيين أو متَّحِدي الملة. ويجب النظر إلى أن شرط انعقاد الزواج بواسطة القس يُعدّ شرطاً شكلياً وجوهرياً لصحة العقد. وفي هذا يختلف الزواج في الشريعة النصرانية عنه في الزواج عند اليهود خاصة الربانيين منهم.

أحوال انطباق أحكام انعقاد الزواج لغير المسلمين لسنة 1926م:
يقتصر انطباق أحكام هذا القانون على حالات الزواج التي تتم بين غير المسلمين الذين لايدخلون ضمن رعايا الطوائف المستثناة من تطبيقه عليهم، متى توافرت شروط انطباق هذا القانون والتي من أهمها: الأهلية وموافقة الولي. والتي يمكن توضيحها باختصار شامل فيما يلي :-
لقد حدد قانون الزواج لغير المسلمين لسنة 1926م سن الزواج بواحد وعشرين عاماً، وعلى من يرغب أو ترغب في الزواج قبل بلوغ هذه السن الحصول على موافقة مكتوبة أو موقع عليها من الأب، أو الأم في حالة وفاة الأب، أو لانعدام أهليته إن كان حياً. وفي حالة عدم وجود الولي ينعقد الاختصاص للسيد قاضي المديرية المختص لإصدار الموافقة المطلوبة بعد اتخاذه إجراءات التحقيق اللازمة والأثر القانوني المترتب على ذلك هو أن زواج من لم يبلغ أو تبلغ سن الحادي والعشرين عاماً بغير رضا وليِّه أو وليِّها يقع باطلاً إن كان طالب الزواج بكراً. أما إن كان ثيباً جاز له عقد زواجه بغير موافقة وليه.

الشروط القانونية للزواج العرفي في القانون السوداني:
إذا كان القانون السوداني قد أجاز الزواج العرفي لرعايا الطوائف المستثناة من انطباق قانون زواج غير المسلمين لسنة 1926م ، إلا أنه قد قيَّد هذا العرف محل الانطباق بالعديد من القيود التي يجب توافرها في هذا العرف، على النحو الذي نصت عليه الفقرة (ب) من المادة (5) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م، التي تُقرأ: ( إذا عرضت في أي دعوى أو أي إجراء أمام المحاكم المدنية مسألة من المسائل المتعلقة بالتركات أو المواريث أو الوصية في الإرث أو الهبة أو الزواج أو الطلاق أو العلاقات الخاصة بالأسرة أو بإنشاء الوقف، فإن قاعدة الفصل في هذه المسألة هي:
( أ ) الشريعة الإسلامية إذا كان الخصوم في الدعوى مسلمين أو كان الزواج قد تم وفقاً للشريعة الإسلامية.
( ب) العرف الجاري بين الخصوم ذوي الشأن الذي لا يخالف العدالة والإنصاف والوجدان السليم، ولم يُعدَّل ، أو يُلغّ بموجب أحكام هذا القانون، أو أي قانون آخر، ولم يتقرر بطلانه بقرار صادر من محكمة مختصة ) لهذه المعايير والضوابط، فواجب القضاء التأكد من توافرها في العرف المراد تطبيق أحكامه على انعقاد الزواج عند طالبيه.

بعض تطبيقات القضاء (في السودان) لمعايير وضوابط العرف عبر الحقب التاريخية
إنَّ أول شرط يجب على المحاكم التحقق منه- وهي في معرض تطبيقها للعرف- هو ما إذا كان العرف الجاري مشتركاً بين طرفي عقد الزواج أم لا. وغالباً ما يكون العرف مشتركاً، إذا كان راجعاً في أصله لاتحاد الملة أو الديانة أو الوطن أو القانون بالنسبة للأشخاص الموجودين في السودان المتوطنين خارجه. فإذا اختلف الأطراف في الِملَّة أو الدِّين فلا يمكن القول بوجود عرف مشترك بينهما يسمح بتطبيق نص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات لسنة 1983م. لقد تقرر هذا المبدأ بموجب قرار المحكمة العليا في قضية نيكولاس ستيفانو ضد أرسيتا نيكولاس، حيث تقرر ما يلي: (حيث كان أطراف النزاع لا ينتمون إلى ملة دينية موحدة وقت النزاع، فإنه يستحيل تطبيق عرف واحد عليهما بحسب ما تقضي به المادة الخامسة، مما يستوجب إعمال قواعد العدالة والوجدان السليم، وذلك بموجب المادة التاسعة من قانون القضاء المدني) . فإذا تحقَّقت المحكمة من اشتراك الأطراف في العرف لزمها بعد ذلك التحقُق من مخالفة أو مطابقة العرف لمبادىء العدالة والإنصاف والوجدان السليم ولعله من المناسب أن نسجل ابتداءً ملاحظة في هذا الضابط، هي أن ثمة علاقة بين العدالة والإنصاف والوجدان السليم، إذ العدل يتحقق بالإنصاف والمساواة في حكم العرف، وهو أمر يقره الوجدان السليم. إن قصد المشرِّع من التحقُق من شرط عدم مخالفة العرف للوجدان السليم، هو التأكد من تحلِّي العرف بحسن الآداب الذي يقبله الذوق السليم.

إذاً ثمَّة ارتباط وثيق بين ما يخالف الوجدان السليم وبين ما يكون بالضرورة مخالفاً لكريم الأخلاق، ويكون من ثمَّ مخالفاً للنظام العام، وهو أمر لا يقره الوجدان السليم. لقد ورد هذا الضابط لأول مرة في قانون القضاء المدني بالصيغة التالية ( بشرط ألا يكون العرف مخالفاً للعدالة وحسن الأخلاق و النظام). تطبيقاً لذلك فقد قررت محكمة الاستئناف في قضية م.قسطنطين ضد ف.بروكوس في الطعن نمرة م أ-أس م-5-1944م. حيث أقام المدَّعي الدعوى مطالباً بإصدار إعلان بأنه الوالد الطبيعي لطفل أنجبته المدَّعى عليها أثناء زواجها من رجل آخر وإصدار أمر بحضانة الطفل، قُضي بأنه: (لحماية نظام الزواج والحياة العائلية للأسرة، يجب ألا تسمح المحكمة لغير طرفي الزواج بأن يطالب بأن يكون هو والد طفل أنُجب أثناء علاقة الزوجية إلاَّ في ظروف استثنائية). والظاهر من هذا القضاء أنه استند على فكرة أنَّ الدعوى جاءت مجافية لمقررات الوجدان السليم وكريم الأخلاق، مما يكشف عن ارتباط الوجدان السليم بكريم الأخلاق. فإذا كان ذلك كذلك، فإنَّ فكرة مجافاة العدالة ترتبط هي الأخرى بمخالفة النظام العام. تطبيقاً لذلك فقد قضت المحكمة العليا في الطعن المدني نمرة م ع-ق.م609-1953م ح1-اسكندر ضد ع.دريباس ما يلي: ( النص الوارد في عقد الخطبة بين شخصين منتمين لطائفة الأقباط الأرثوذكس والذي يقضي بأن أي نزاع بشأن العقد يجب عرضه على السلطة الدينية دون غيرها، يعتبر باطلاً، ذلك لأن الاتفاق الذي يستبعد بموجبه اختصاص المحاكم العادية من نظر النزاع أمر مخالف للنظام العام) .

إن أفضل طريقة تستدل بها المحكمة على مخالفة العرف أو مطابقته لمبادىء العدالة والوجدان السليم والنظام العام هي التحقُق عمَّا إذا كان العرف قد سبق الحكم ببطلانه أم لا بمعرفة محاكم السودان. لقد أبطلت المحكمة العليا زواجاً عرفياً نُسِب إلى قبيلة الدينكا يقضي بصحة زواج الأقارب من الدرجتين الأولى والثانية والثالثة، فيما قررته هذه المحكمة في قضية أكويت أتيم ضد وليام واني، حيث قضي بما يلي: (إنَّ القانون الذي يحكم الزواج و الطلاق بالنسبة لافراد قبيلة الدينكا هو أعراف الأهالي، بينما أعُطيت المحاكم سلطة فحص وتمحيص عادة تلك القبيلة، وذلك بنص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م. فالمحكمة تقضي بتطبيق العرف إذا لم يخالف مبادىء العدالة، أما إذا خالفها فإنها تستبعد تطبيقه. فإذا: (ما عُرض نزاع بشأن بعض أفراد إحدى القبائل النيلية التي تبيح زواج الأب وابنته وبنت أخيه، فإن الزواج يعتبر مخالفاً للضوابط التي وضعتها المادة وتطبقها المحاكم، وعلى ذلك سيتقرر عدم صحة الزواج) . وبالرغم من ما أوضحنا فقد أثارت تطبيقات المحاكم للتحقق من ضابط تعديل العرف أو إلغائه الكثير من الجدل القضائي والفقهي بين فقهاء القانون وشرّاحه.

واختلفت بشأنه أحكام المحاكم دانيها وعاليها على نحو نُفصّله فيما يلي:

في قضية عبدالله شيرشفليه ضد ميري باكريلس قرِّرت محكمة الاستئناف أنه (حيث كان الاطراف يقيمون في قطر غير السودان يسود فيه قانون وطني خاص بالأحوال الشخصية، فإنه يتعيَّن النَّظر إلى ذلك القانون باعتباره مجموعة أعراف يلزم تطبيقها على الأطراف بحسب ما تقضي به المادة الخامسة من قانون القضاء المدني. فقانون الموطن يعتبر قانوناً لأحوالهم الشخصية في نظر قوانين السودان، ولكن حيث كانت إقامة الأطراف في السودان أو أي قطر لا قانون وطني خاص له في مسائل الأحوال الشخصية فإنه قد قضى بوجوب النظر إلى أعراف الجالية الدينية التي ينتسبون إليها باعتبارها قانوناً لأحوالهم الشخصية) . واضح من هذا القضاء أنه عدَّ القوانين الشخصية للأشخاص الموجودين في السودان المتوطِّنين خارجه في بلادٍ لها قانونها الشخصي، أعرافاً تطبق وفقاً لقوانين السودان بالتحديد نص المادة (5/أ) من قانون القضاء المدني وعلى ذلك فإن الزواج الذي يتم وفقاً لذلك يعد زواجا عرفياً في معني المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م الحالي. وبالرغم من وضوح هذا القضاء فقد أصدرت محكمة الاستئناف نفسها حكماً مغايراً في قضية ك.بامبولس ضد. بامبولس بموجب حكمها نمرة: م أ/أ ن/58/1953م. قضى بأن كلمة العرف الواردة في المادة (5/أ) من قانون القضاء المدني, تشير وفق مفهوم ومضمون النص إلى العرف المحلي المستمد من العادات والتقاليد السائدة في السودان، ولا تنطبق على القواعد أو القوانين الأجنبية مثل قواعد الكنيسة أو القانون المدني الأجنبي، حيث قررت: (إن العرف يعتبر عادة ثابتة مستقرة اكتسب قوته القانونية نظراً لاعتراف محاكم السودان به، وهو مع ذلك قابل للتعديل والإلغاء كما يقرر النص ذلك.

أما القاعدة الدينية لأية دولة أجنبية فلا يمكن تغييرها أو إلغاؤها أو تقرير بطلانها، مما يقطع بأن كلمات النص لم تقصدها حتى يمكن إدخالها في نطاق العرف، فضلاً عن ذلك فإن كلمة عرف تشير إلى الأعراف المحلية الناتجة عن تواتر الأتباع في السودان، دون أن يدخل في ذلك القواعد المستوردة أو القوانين الأجنبية) . إزاء هذا التعارض الظاهر في قضائها، فقد كان لزاماً على محكمة الإستئناف توحيد الحكم فيما اختلفت فيه دوائرها، وقد تَأتِّى لها أن ترجح بين هذين النظرين في حكم أصدرته في قضية قطان ضد قطان. حيث مال قضاء هذه المحكمة لتأييد مقررات قضية شيرشفيله وتناول مقررات قضية بامبولس ضد بامبولس بنقد أُسِّس على أنه استند على تفسير ضيق للمادة الخامسة من قانون القضاء المدني باعتباره تفسيراً مستحدثاً لايعبر عن الاتجاه الذي اعتادت المحاكم السودانية على اتباعه في شأن هذا النص. وقد تأيَّد هذا القضاء في قضية موريس جولدنبرج ضد راشيل جولدنبرج حيث قضي: (بالنظر إلى الملاحظات التي قررتها محكمة الاستئناف في قضية قطان ضد قطان، فإن هذه المحكمة ترى أن قضية بامبولس مشكوك في أمرها.. وبالنظر إلى السوابق، وبالتُمعن في كلمات المادة الخامسة تلك نجدها تتضمن قانون الأحوال الشخصية وعادات الطوائف الدينية المعينة، وذلك حيث كان السودان محلاً لإقامة الأطراف. وهكذا بدأ واضحاً مما تقدم أن القضاء السوداني قد استقر على عرف قضائى أرسى مبدأ قضائياً مقتضاه: أن كلمة العرف الواردة في نص الفقرة (ب) من المادة الخامسة من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م يشمل العرف المحلي وقوانين الأشخاص الموجودين في السودان المتوطنين خارجه. فإذا كانوا متوطنين فيه، فإن كلمة عرف تشمل أعراف الجاليات الدينية التي ينتسبون إليها باعتبارها قانوناً لأحوالهم الشخصية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن قضاء بامبولس أصبح قضاءً معزولاً تماماً، ومشكوكاً فيه لمفارقته لمقررات ومبادىء العرف القضائي، لذلك كان حقاً على القضاء السوداني استبعاده وعدم الرجوع إليه صراحة على النحو الذي قرَّره القضاء في قضية سلواني محروس ضد ورثة جون اسكندر حيث قرَّر: (إنَّ محامى المستأنف يسوق قضية بامبولس تعزيزاً لرأيه من حيث إنّ تلك القضية قد حُسمت لإيجاد تفسير للنص على غير ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة) .

رأي الباحث:

مع الإحترام اللازم لأوجه النظر المختلفة في الأحكام المتغايرة على النحو الذي مرّ، فإننا نرى أنه من الضروري أن نستصحب دائماً طبيعة وظيفة القضاء التي تقتصر على تطبيق القانون. وفي ضوء هذا الاستصحاب، فإننا نرى أن قضاء عبدالله شيرشفليه والقضاء المؤيد له قد استهدف تطبيق القانون(التشريع) على النحو الذي قرره المشرِّع الذي أوجب تطبيق قاعدة العرف في أحوال انعقاد الزواج على الأشخاص غير المسلمين الموجودين في السودان والمتوطِّنين خارجه، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد ألزم المشرِّع المحاكم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على انعقاد الزواج بين أطرافه المسلمين أو إذا كان أحد أطرافه مسلماً، وكذا أطرافه من غير المسلمين الذين يرغبون في الزواج وفقاً لأحكام هذه الشريعة. مما تقدم يبدو واضحاً أن المشرِّع لم يترك خياراً للمحاكم لتطبيق التشريعات القانونية المنظمة لأحوال الزواج في السودان، حيث رسم لها طريق تطبيق هذه التشريعات القانونية بحسبانه أعرافاً للأشخاص المعنيين. فإذا التزم القضاء بهذه التوجُّهات والاعتبارات التشريعية على النحو الذي تضمنه قضاء شيرشفليه، فلا يكون قد خالف القانون، بل العكس من ذلك فإنَّ هذا القضاء يكون قد طبق صحيح القانون. وفي المقابل فإن قضاء بامبولس المغاير لقضاء شيرشفليه قد تجاوز وظيفته الأساسية وهي تطبيق القانون، حيث انتقد التشريع، وهذا هو دور الفقه لا وظيفة القضاء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الحيثيات التي ساقها، والنتيجة التي توصل إليها يبدو فيهما فهم قاصر للقانون على النحو الذي نوجز تفصيله فيما يلي:-

من المعلوم أن تعريف القانون بصفة عامة يدور حول كونه مجموعة القواعد الملزمة التي تحكم روابط الأفراد في المجتمع، تلك القواعد التي يفترض احترامها بواسطة قوة لسلطة عامة .
ويقصد بالعرف: القانون غير المكتوب، ويقصد بالتشريع القانون المكتوب. وتعد المعتقدات الدينية من أهم مصادرهما في أحوال انعقاد الزواج بصفة خاصة والأحوال الشخصية بصفة عامة. فإذا كان العُرف يمكن أن يكون عُرضة للتعديل والإلغاء، فالتشريع الأجنبي أيضاً يمكن أن يكون عرضة للتعديل والإلغاء بوصفه عرفاً في أحوال الزواج في نظر قوانين السودان وفقاً لنص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م. وعلى ذلك فإن النقد الذي وجَّهه قضاء بامبولس والفقه المؤِّيد له لما جاء في قضية عبدالله شيرشفليه والفقه المؤيد له، لم يكن-في نظرنا-صحيحاً في موضوعه على النحو الذي تواتر عليه قضاؤنا العالي السابق بيانه. محصِّلة القول إنَّ التشريعات القانونية المنظمة لأحوال انعقاد زواج غير المسلمين من رعايا الطوائف المستثناة تعد عرفاً قابلاً للتعديل والإلغاء بمعرفة محاكم السودان، خاصة إذا كان هذا العرف مخالفاً للنظام وحسن الآداب كما هو حال الزواج العرفي الوثني الذي نورد له بعض النماذج فيما يلي:-

نماذج الزواج العرفي الوثني في السودان:

عرف رابطة الأصلاب: (زواج الأخ بأرملة الأخ المتوفى) هذا العرف يعد قاعدة عامة سائدة بين أفراد قبيلة الدينكا (الزواج بأصلاب المتوفى). بمقتضى هذه القاعدة العرفية تذهب زوجة المتوفى لتقيم مع أقرب عصب للزوج أي أكبر أبنائه أو أكبر إخوته وما أشبه ذلك، وأنَّ كُلَّ حملٍ لها بعد وفاة زوجها يُعدّ حملاً مشروعاً من الزوج المتوفَّى. كما يجوز للمرأة أن تتخذ عشيقاً لها إن أرادت، ولكن لا يجوز لها الزواج منه ما لم تحصل على طلاق من زوجها المتوفى، لأنها سبق لها الارتباط بزواج صحيح من الزوج المتوفى، فإذا أنجبت الزوجة أولاداً فلا يُعدَّون أبناء غير شرعيين بل إنهم يحملون أسم والدهم المتوفى بحسبانهم أبناء شرعيين له تماماً. بالرغم من وضوح عدم حسن الآداب في مثل هذا الزواج إلا أنَّ بعض الفقه المعاصر قد حاول تقديم بعض المبررات لهذا الزواج الذي لا ينتهي بوفاة الزوج.

ويمكن تلخيص هذه المبررات في سببين:-
الأول: منع ضرورة إرجاع المال الذي سبق تسلمه من جانب الزوجة، وإلاَّ فإن القاعدة العامة في ذلك تستوجب ردَّه عند حَلّ عُقدة الزوجية.
الثاني: السماح للزوجة باللجوء إلى منزل تقيم فيه، وللأطفال بأب يرعاهم بدلاً عن المتوفى.

عُرف التحلل من عرف زواج الأصلاب

إذا كان عُرف زواج الأصلاب غريباً، فإن الأغرب منه عُرف التحلُل من هذا الزواج. لقد أورد مؤلف كتاب أحكام الزواج والطلاق في السودان قضية طريفة تتلخص وقائعها في أنَّ امرأة دينكاوية نصرانية تزوجت من نصراني دينكاوي، وأنجبت ولداً والعادة المألوفة في قبيلة الدينكا هي أن على الزوجة بعد وفاة زوجها أن تصبح بالضرورة زوجة لأخ المتوفى. لكن لما كانت تلك المرأة نصرانية فقد شعرت بتحرُّرها من تلك الأفكار ومن ثم طالبت بالطلاق من زوجها المتوفى، وقصدها من إقامة الدعوى بالطلاق هو انحلال رابطة الأصلاب بينها وبين أخ المتوفى الذي كان من المفروض أن يكون زوجاً لها، وقد وافقت محكمة السلاطين على الطلاق بشرط أن تُردَّ ما سبق أن أخذته من أبقار حسب المألوف لدى القبيلة عند الطلاق بين الزوجين، وبشرط أن تتنازل عن جميع حقوقها من تركة زوجها المتوفى. وقد وافقت الزوجة على كل ذلك ولكن المحكمة قضت بأن لأولاد الزوجة نصيباً في التركة بوصفهم ورثة شرعيين على الرغم من انحلال رابطة الزوجية.

عُرف الزواج من أختين أو أكثر في وقت واحد

إنَّ العُرف السائد عند قبيلة الشلك أنَّها لا تعرف مانع الرضاعة، لذلك فإنَّ الرجل في قبيلة الشلك يمكن أن يتزوج من أختين أو أكثر في وقت واحد وفقاً لهذا العُرف.
عرف الزواج بالأموات: زواج الأشباح :
يتلخص هذا العُرف في أنه إذا تُوفى الإبن الأكبر دون خلف أو دون زواج أصلاً جاز للأخ الأصغر أن يتزوج باسم أخيه المتوفى ويقوم بكل مهام الزوج، ولكنها-أي المرأة تُعدُّ في نظر هذا العُرف زوجة لرجل متوفى، ولذلك تُعرف المرأة في القبيلة باسمه ويُنسب له أولاده.

عُرف زواج المرأة بالمرأة

ينحصر هذا العُرف بين سُلطانات الشلك عندما لا تجد السلطانة رجلاً (سلطان) تقترن به فإنَّها تتزوج بامرأة عادية وتعُد السلطانة زوجا في نظر هذا العرف والمرأة الأخرى زوجة، على أن يقوم بمعاشرة الأخيرة معاشرة الأزواج رجل مختار معروف لديها قبل زواجها من السلطانة وبالتالي يُعدُّ الأولاد شرعيين من الزواج ويتصل نسبهم بالسلاطين كأصول لهم. مما تقدم يبدو واضحاً أنَّ الزواج العرفي الوثني يفتقر للمعايير والضوابط المنصوص عليها في العُرف القانوني لِتخلُّّف حسن الآداب في هذا الزواج. فيكون ذلك الزواج غير قانوني وفقاً لنص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م، وعلى المحاكم أن تحكم ببطلانه تطبيقاً صحيحاً لذات القانون، كما ذهبت لذلك-بحق- المحكمة العليا في سابقة أكويت أتيم ضد وليم واني السابق الإشارة لها.

خاتمة البحث:

تشمل خاتمة البحث نتائج البحث وتوصيات الباحث, على التفصيل التالي:-

أولاً : نتائج البحث:-

يمكن استخلاص نتائج هذا البحث فيما يلي:-
أ‌. النتائج المستخلصة من انطباق أحكام الشريعة الإسلامية على أحوال انعقاد الزواج الشرعي في القانون السوداني لأحوال أحكام انعقاد الزواج وفقاً لقاعدة الشريعة الإسلامية في القانون السوداني صور أربعة:-
الصورة الأولى:
صورة الزواج الشرعي الرسمي: وهو الزواج الذي ينعقد بعبارة الولي أو مَنْ
يفوِّضه في ذلك. ويكون مفرَّغاً في شكل رسمي بمعرفة موظف عامُ يسَّمى (المأذون)، ويُسَّمى المستند الرسمي وهو وثيقة الزواج (بالقسيمة) ويحضره الشهود ويُشْهَر.
الصورة الثانية:
صورة الزواج الشرعي العرفي: وهو زواج ينعقد بعبارة الولي أو مَنْ يفوَّضه في ذلك بحضور الشهود، ولا يكون مفرَّغاً في وثيقة رسمية، وإن أُفرغ في وثيقة عادية أي (عرفية) أي غير رسمية أو لم يُفْرغ في وثيقة أصلاً.
الصورة الثالثة:
صورة الزواج السري: وهو زواج ينعقد بعبارة الولي أو مَنْ يفوِّضه في ذلك، ولا يحضره شهود، أو يوصى الشهود بكتمه إذا حضروه، ويظل هذا الزواج سرياً ولو أفُرغ في وثيقة رسمية أو عرفية أو لم يُفرغ في وثيقة أصلاً طالما بقي سراً وغير مشهور.
الصورة الرابعة:
صورة الزواج (المنعدم): وهو زواج باطل شرعاً وقانوناً يغيب عنه الولي أو من يفوِّضه، ويظل هذا الزواج منعدماً ولو أفُرغ في وثيقة رسمية أو عُرفية أو لم يُفرغ في وثيقة أصلاً ولو حضره الشهود وأشهر، طالما غاب عنه الولي. فما هو الزواج الجائز شرعاً من تلك الصور التي أوردناها؟
1. إن الزواج (النكاح) الجائز شرعاً وقانوناً في السودان هو الزواج الموصوف في الصورتين الأولى و الثانية. أما الزواج في الصورتين الثالثة و الرابعة فيُعد زواجاً غير صحيح، حيث يُعد الأول منهما زواجاً فاسداً أو باطلاً شرعاً على خلاف بين فقهاء المسلمين، بينما يعد الآخر منعدماً باتفاق جمهور فقهاء المسلمين.
2. الجدير بالذكر في هذا المقام أنه لم يرد في القانون السوداني مصطلح الزواج العرفي (المنبوذ) الذي يغيب عنه الولي عند تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أحوال الزواج على المسلمين في السودان وفقاً لحكم المادة (5/أ) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإنَّ الزواج المنعقد بين المسلمين لا يصح وفقاً لهذا القانون إلا بعبارة الولي أو مَنْ يفوِّضه في ذلك, حيث يقع الزواج منعدماً إذا انعقد بغير عبارة الولي أو بغير إذنه ورضاه.
ب‌. النتائج المستخلصة من انطباق قاعدة العرف الجاري بين طرفي عقد الزواج لأحوال أحكام انعقاد الزواج العرفي وفقاً لقاعدة العرف الجاري بين طرفي الزواج صورتان:-
 الصورة الأولى:
صورة الزواج العرفي الرسمي (المشروع) : وهو زواج مشروع وفقاً لنص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م ينعقد صحيحا بحضور الولي أو مَنْ يفوِّضه وفقاً لعُرف محلي صحيح, أو ينعقد بين طرفين متَّحِدين من رعايا إحدى الطوائف المستثناة وفقاً لأعرافهم وقوانين أحوالهم الشخصية, حيث تتحقق صحة هذا الزواج الأخير بتوافر شرط أهلية طرفيه ورضا الولي به وانعقاده بواسطة رجال الدين. ويُستثنى شرط الولي في هذا الزواج في حالتين:
الحالة الأولي:
حالة انعقاده بين رعايا طائفة اليهود الربَّانيين إذا كان طرفاه بالغين أو كان أحدهما ثيباً ولو لم يكن بالغاً.
الحالة الثانية:
حالة انعقاده بين رعايا الروم الكاثوليك في حالة الضرورة عندما لا يستطيع طرفاه الوصول إلى رجل الدين الذي يبعد عنهما مسيرة شهر أو أكثر, هذه الحالة الأخيرة بحسب الراجح في الفقه المعاصر لا تُعدُ زواجاً عرفياً بالمعني الوارد في المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م بالرغم من أن طرفيه ينتسبان للطائفة المذكورة, فيكون هذا الزواج لذلك زواجاً عرفياً منبوذاً.
 الصورة الثانية:
صورة الزواج العرفي غير الرسمي: وهو زواج عرفي غير مشروع (منبوذ) بعقد غير صحيح, لغياب الولي أو مَنْ يفوَّضه, أو لا ينعقد بواسطة رجال الدين, لذلك فهو يخرج عن نطاق نص المادة (5/ب) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م فيكون لذلك زواجاً عرفياً غير مشروع.
ج.أوجه الشبه و الاختلاف المثيرة لِلَّبس في أحوال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية والعرف الجاري بين طرفي عقد الزواج :
1. يتشابه انعقاد الزواج الشرعي الرسمي في أحكام الشريعة الإسلامية بانعقاد الزواج العرفي الرسمي في قاعدة العرف الجاري بين طرفي الزواج في أن كلا منهما يستوجب إفراغه في وثيقة رسمية.
2. يتشابه الزواج العرفي في أحكام الشريعة مع الزواج العرفي الشرعي في قاعدة العرف الجاري بين الأزواج في الاسم , ويتطابق معه في الحكم, ويختلفان في أن الأول ينطبق على الزواج الذي يكون طرفاه أو أحدهما مسلماً, بينما لا ينطبق الثاني إلا على الزواج الذي يكون طرفاه متَّحِدَين في المِلَّة أو الطائفة المستثناة من تطبيق قانون الزواج لغير المسلمين لسنة 1926م.
3. يتشابه انعقاد الزواج الشرعي عند الحنفية في أحكام الشريعة الإسلامية مع الزواج العُرفي عند الروم الكاثوليك في حالة الضرورة, وكذا انعقاد زواج اليهود الربانيين البالغين منهم و الثيب, ولو كانوا غير بالغين في الوصف (غياب الولي), وفي الحكم وهو صحة انعقاد زواج البالغة العاقلة نفسها بنفسها بعبارتها دون حاجة لوليها, ويختلفان في أنَّ الأول منسوب للشريعة الإسلامية بينما الثاني منسوب للعرف الجاري بين طرفي عقد الزواج.
4. يتشابه انعقاد الزواج السري في أحكام الشريعة الإسلامية من حيث عدم حضور الشهود مع انعقاد الزواج العرفي (المنبوذ) في حالة الضرورة عند الروم الكاثوليك في العُرف الجاري بين طرفي عقد الزواج.
5. يتشابه الزواج المنعدم لغياب الولي في قاعدة الشريعة الإسلامية بالزواج المنعدم في قاعدة العرف الجاري بين طرفي الزواج عند رعايا الطوائف المستثناة, ماعدا طائفة اليهود الربانيين الذين بلغوا الأهلية وكذا الثيِّب ولو لم يبلغوا هذه السن.
د. المحصلة النهائية لهذه النتائج, هي أنَّ الزواج العرفي لا ينعقد إذا كان أحد أو كلا طرفي عقد الزواج مسلماً. فإذا انعقد هذا الزواج حسِاً وفقاً لأحكام العُرف (زواج عرفي) فإنَّه يكون منعدماً شرعاً وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. فإذا كان ذلك كذلك , انعدم أثره الشرعي و القانوني , بحيث يكون كُلُّ فعلٍ بين رجل وامرأة استناداً على هذا الزواج زناً يستوجب المساءلة الشرعية و القانونية على النحو المنصوص عليه في المادة (145) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م. (مسألة): هل يصح دفع تهمة الزنا بموجب مقررات المذهب الحنفي بحُجُّة تعلُقها بأحكام الشريعة الإسلامية الواردة في نص المادة (5/أ) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م لوجود شبهة تدرأ الحد ؟
الإجابة في تقديري- والله أعلم- بالنفي وذلك بحسب البيان التالي:- يُقصد بالشبهة : الظن وفقاً لنص المادة (5) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م, والظن بصحة زواج العاقلة البالغة نفسها بعبارتها دون حاجة لعبارة وليَّها كما هو الحال عند الحنفية منعدم تماماً بموجب نص المادة (5/1) من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م التي تقرأ: ( يُعمل بالراجح من المذهب الحنفي فيما لا حُكم فيه بهذا القانون, ويصُار في حالة المسائل التي يوجد لأصلها حكم أو تحتاج إلى تفسير أو تأويل إلى المصدر التاريخي الذي أُخذ منه القانون). استناداً على هذا النص فإنَّ انعقاد الزواج وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية كما ورد في القانون السوداني عملاً بنص المادة 34/1) من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م فإنَّ البالغ يزوِّجها وليُّها, على ذلك فإنَّ غياب الولي يجعل العقد غير منعقد شرعاً ولو انعقد حساً, ممَّا يعنى أنَّ العقد يُعدُّ منعدماً. ومن ثم ينعدم الرباط الشرعي بينهما. وكما هو معلوم , فلا يصح الدفع بالجهل بالقانون. لذلك , إذا تمت المواقعة بين طرفي الزواج العرفي, تحققت جريمة الزِّنا وفقاً للمنصوص عليه في المواد (145-146) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م. أمَّا إذا لم تتم المواقعة وحصلت خلوة صحيحة على النحو الذي يتم بين الأزواج , تحققت جريمة الأفعال الفاضحة المخلة بالآداب العامة وفقاً لنص المادة (152/2) من قانون الجنائي السوداني لسنة 1991م. عوداً على بدء , فمن النتائج المتحصل عليها يمكن أن نستخلص الحقائق الآتية:-
1. أن هناك غموض ولبس في مفهوم وتفسير وتأويل نص المادة (5) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م.
2. وأنَّ هذا الغموض ساهم في إنشاء ونشر ظاهرة الزواج العرفي في أوساط الطلاب و الطالبات في الجامعات في السودان.

ثانياً : توصيات الباحث:

استناداً على نتائج هذا البحث, يوصى الباحث بما يلي:-
1. إشاعة الوعي الديني والشرعي و القانوني بين طلبة وطالبات الجامعات في السودان بالقدر الذي يزيل الغموض واللبس بشأن الزواج الشرعي والعرفي بين المسلمين وغيرهم من رعايا الطوائف الدينية الأخرى.
2. شرح وتلخيص نص المادة (5) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م وبيان أوجه انطباق هذا النص ومداه على النحو الذي اشتملت عليه حيثيات هذا البحث ونتائجه وكذا البحوث المماثلة له.
3. يوصى الباحث بدراسة أسباب ظاهرة الزواج العرفي بمعرفة اختصاصيين في ورش عمل تضم بعض علماء الشريعة والتربية والقانون والاقتصاد والاجتماع للخروج بتوصيات محدَّدة متكاملة لمحاربة هذه الظاهرة.