دراسة وبحث قانوني قيم عن ” جرائم الحرب الفرنسية في الجزائر (التجارب النووية )”

-التجربة النووية الفرنسية 13 فبراير 1960 : جريمة حرب -التكييف القانوني في ظل القانون الدولي

يعتبر التلوث الإشعاعى سواء الناجم عن الحوادث أو التفجيرات الإرادية أو الإستخدمات العسكرية من أخطر الكوارث المحدقة بالإنسان و البيئة على الأرض .
ولقد شهد العالم المعاصر المثير من حالات التلوث الأشعاعى , ومن أشهرها واخطرها الهجوم العسكرى بالأسلحة النووية من قبل الو.م.أ على مدينتى ” هيروشيما ” , و” نغازاكى ” اليابانيتين عام 1945 , وقضية ” فوكوريامارو (Fukuryumaru) ” و التى نجمت عن التجارب النووية التى قامت بها الو.م.أ فى أول مارس 1954 فى عرض بحر جزر ” مارشال ” والتى أفضت إلى تساقطات إشعاعية على قارب الصيد اليابانى ” فوكوريومرو” الذى كان بمقربة من منطقة التجربة .

وقد أدت التجارب النووية العسكرية التى قامت بها فرنسا فى الفضاء بالمحيط الهادى , إلى إعتراض ومنازعة كا من إستراليا ونيوزيلاندا لهذه التجارب , وعرض موضوع النزاع على محكمة العدل الدولية سنة 1974م .
كما أدى حادث إنفجار محطة ” تشرنبل ” فى أبريل 1986 , إلى ردود أفعال دولية قوية , خاصة من قبل الدول الأوربية التى تضررت من جراء هذا الحادث , والتى طالبت بتقرير مسؤولية الإتحاد السوفيتى , إلا أنها إصطدمت بفراغ قانونى ينظم مثل هذه الحوادث , مما دفع بالمجتمع الدولى إلى التحرك بصفة إستعجالية لمواجهة هذا النقص و العجز القانونى فى مجال تأطير الكوارث النووية و المسؤولية عنها , وتوجت هذه الجهود بإعتماد سلسلة من المعاهدات الدولية المتعلقة بتدارك العجز الكبير الذى كشف عنه هذا الحادث , ومن بين اهم هذه الإتفاقيات إتفاقية فيينا للإعلام عن الحوادث النووية لعام 1986 , كما صاحب هذا التحرك الدولى نشاط فقهى كبير فى الكتابة حول الحوادث النووية من الناحية العلمية والقانونية .

إننا نسمع فى المحافل الدولية عن كل هذه التفجيرات و الحوادث النووية , ولكننا لا نكاد نسمع عن الجرائم التى إرتكبتها فرنسا ضد الإنسان و الطبيعة فى الصحراء الجزائرية , جراء التفجيرات العسكرية والعلمية ومدفن النفايات النووية , والتى لا زالت آثارها المباشرة وغير المباشرة تهدد البيئة وصحة السكان بالمنطقة .

رغم كل جرائم الإبادة و التقتيل و التعذيب التى مارستها فرنسا ضد الشعب الجزائرى طيلة فترة الإحتلال , إلا أنها لم تقلع عن جرائمها هذه ضد الشعب الجزائرى حتى فى آخر أيامها بالجزائر , حيث تشير بعض الإحصائيات إلى قيام الإحتلال الفرنسى مع مطلع الستينات بإجراء سبعة عشرة (17) تجربة نووية فى الصحراء الجزائرية , كانت أولها ما عرفت بأسم ” اليربوع الأزرق ” Gerboise bleu ” فى 13 فيفرى 1960 بمنطقة رقان و التى لقيت ردود أفعال دولية وداخلية متباينة , منها موقف جبهة التحرير الوطنى و التى عبرت من خلاله بأن هذا التفجير النووى الذى أقدمت عليه فرنسا يعد جريمة ضد الإنسانية , وتوالت ردود الأفعال الدولية خاصة منها العربية و الأفريقية إذ نددت كل من العراق ومصر وليبيا غينيا بهذه الجريمة , وأقدم المغرب بعد معارضته الشديدة إجراء التجربة النووية إلى إلغاء الإتفاقية المغربية الفرنسية المتعلقة بالعلاقت الدبلوماسية بعد قيام فرنسا بالتجربة , وترجع معارضة المغرب إلى ما قبل إجراء التجربة , إذا قامت سنة 1959 بتوجيه رسائل إلى فرنسا , من أجل الإمتناع عن القيام بالتجارب النووية ونتيجة لعدم رد فرنسا قامت بإستدعاء الجمعية العامة للإنعقاد وأصدرت توصيتها فى هذا الموضوع فى دورتها المؤرخة فى 20 نوفمبر 1959 , وإجتمعت 26 دولة مباشرة بعد قيام فرنسا بالتفجير وذلك فى 16-02-1960 , وشكلت لجنة من تسعة دول وهى : السودان , تونس , اليابان , لبنان , سيلان , غينيا , أثيوبيا , وأفغانستان , إلا أن هذه اللجنة لم تنجح فى الحصول على إدانة من الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة , نظراً لفقر القانون الدولى لقواعد تنظيم موضوع التجارب النووية .

كما يعود سبب تأخر القانون الدولى فى ميدان تنظيم التسلح النووى , إلى عدم رغبة وإستعداد الدول النووية فى مناقشة القواعد الدولية التى تحكم موضوع الأسلحة النووية , وهو ما يفسر فشل محاولات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى تطوير القانون الدولى فى مجال الإستخدام العسكرى للأسلحة النووية , من خلال عرض مشروع إتفاقية دولية تحرم إستخدام الأسلحة النووية , بواسطة توصيتين , الأولى رقم (XVI)1653 المؤرخة فى 24 نوفمبر 1961 , والتوصية الثانية D37/46 المؤرخة فى 06 ديسمبر 1991 .

مقدمـــــة :

يقتصر موضوع هذه الورقة على تكييف التجربة النووية التى أقدمت عليها الإدارة الإستعمارية فى رقان 13 فيفرى من عام 1960 , إذ جاء إقتصار موضوع هذه الورقة على هذه التجربة بالذات نظراً للخصوصيات التى ميزت هذه التجربة عن بقية التجارب الأخرى , فى كونها تمت إبان فترة الإحتلال الفرنسى للجزائر , وأنه تم خلالها إستخدام مجموعة من أسرى مجاهدى جبهة التحرير الوطنى , ومجموعة من المدنيين القانطين بالمنطقة إجراء هذا التفجير .

ومن خلال تحديد عناصر وحيثيات هذه التجربة النووية – العدوان النووى – التى قامت بها فرنسا فى الجزائر , ما هو التكييف القانونى لهذه الأفعال على ضوء القانون الدولى ؟ وحتى يتسنى لنا الإجابة عن هذه الإشكالية , سنبحث أولاً فى طبيعة النزاع بين جبهة التحرير الوطنى و الإدارة الإستعمارية فى الجزائر , ما إذا كان نزاعاً دولياً أو نزاعاً داخلياً ؟ وذلك من أجل الرد على المزاعم الفرنسية التى كانت تعتبر أن هذا النزاع هو نزاعاً داخليا , كما أنه على ضوء طبيعة النزاع سيتحدد المسار القانونى الذى سنسلكه , فإذا تعلق الأمر بنزاع دولى فسيتم البحث عن تكييف هذه التجربة – الإعتداء – على ضوء قواعد القانون الدولى , أما إذا كان النزاع داخلياً فسيتم البحث فى إطار القانون الداخلى عن تكييف هذا الإعتداء .

يتم البحث بعد ذلك عن مدى إنطباق كل من إتفاقية جنيف للأسرى و المدنيين لعام 1949 على المدنيين من سكان منطقة ” رقان ” وأسرى جبهة التحرير الوطنى الذين إستخدمتهم قوات الإحتلال الفرنسية فى تجربتها – إعتدائها – النووية الأولى بمنطقة ” حمودية ” فى 13 فى –فيفرى 1960 ؟
وبعد الفصل فى مسألة مدى تمتع الأسرى و المدنيين الجزائريين الذين إستخدمتهم فرنسا فى هذه التجربة – العدوان – نبحث عن طبيعة النظام الحمائى الذى تقرره كل من إتفاقية جنيف لعام 1949 للأسرى والمدنيين المستخدمين فى هذه التجربة ؟ وما هى الخروقات التى إرتكبتها فرنسا من خلال هذه العملية على ضوء إتفاقيات جنيف وبقية المعاهدات و المواثيق الدولية الأخرى ؟
وإلى أى مدى يمكن إقرار المسؤولية الدولية لفرنسا عن خرق إتفاقيتى جنيف المتعلقين بحماية الأسرى والمدنيين وبقية المعاهدات و المواثيق الأخرى ؟ وعلى اعتبار أنها جريمة حرب هل بالإمكان قيام المسؤولية الجنائية لمرتكبى هذه الأفعال – تعريض المدنيين والأسرى إلى الإشعاع المباشر – , أو الذين أمروا بها ؟ وما هو نوع الإختصاص الجنائى المطبق على مرتكبى هذه المخالفات المتعلقة بإتفاقيتى جنيف لحماية الأسرى والمدنيين ؟.

يكتسى هذا الموضوع أهمية بالغة من الناحية العلمية و العملية , فمن ناحية الأهمية العلمية يساهم هذا البحث فى إثراء الكتابات القانونية  القليلة حول موضوع التجارب النووية , أما الأهمية العلمية للموضوع فإنها تتحدد بضمها إلى بقية الأبحاث العلمية والتاريخية الأخرى المرتبطة بنفس الموضوع , لتكوين ملف شامل للمطالبة بتقرير المسؤولية الدولية لفرنسا عن هذه التجربة وكذا المسؤولية الجنائية لمرتكبى هذه الأفعال أو من أمروا بها .

من بين الصعوبات العلمية التى واجهتنى فى إنجاز هذه الورقة , هو قلة الدراسات القانونية الدقيقة حول التجارب النووية فى الصحراء الجزائرية , إذ أن أغلب الكتابات حول هذا الموضوع هى إما علمية محضة أو تاريخية , وعلى مستوى إسهامات الفقه الدولى فى الكتابات القانوية حول موضوع التجارب النووية فى الصحراء الجزائرية يكاد يكون منعدماً , لذا فإن هذه المحاولة و غيرها تهدف إلى إ خراج هذا الموضوع من طي النسيان المتعمد.
و العقبة الثانية التي تواجه الباحث في هذا الموضوع هو عدم الحسم في دقة الكثير من البيانات والوقائع المرتبطة بهذه التجربة , مثل حصر عدد المساجين والمدنيين المستخدمين في هذه التجربة والمتضررين بفعل الإشعاعات النووية , وحجم الضرر وطبيعة الأضرار الناجمة عن التفجير النووى .
تم تقسيم هذه الموضوع إلى مبحثين يتناول المبحث الأول مدى إنطباق إتفاقية جنيف على الأسرى المستخدمين فى تجربة رقان , ومدى انطباق اتفاقية جنيف على المدنيين المستخدمين فى هذه التجربة فى المبحث الثانى , ومسؤولية فرنسا وأفراد جيشها عن خرق أحكام إتفاقيات جنيف فى المبحث الثالث .

المبحث الأول :
مدى إنطباق إتفاقية جنيف على الأسرى المستخدمين فى تجربة ” رقان ” :

للفصل فى مسألة مدى إنطباق إتفاقية جنيف للأسرى على أسرى جبهة التحرير الوطنى الذين إستخدمتهم فرنسا فى هذا التجربة النووية برقان , يجب أولاً ان نفصل فى طبيعة النزاع الذى كان قائماً بين جبهة التحرير – حركة تحررية – والإدارة الإستعمارية , إن كان نزاعاً دولياً أو داخلياً كما كانت تدعي الدولة الفرنسية ( أولا ) , ونتطرق فى النقطة التى تليها إلى البحث عن مدى تمتع الأسرى المجاهدين من جبهة التحرير الوطنى المستخدمين فى هذه التجربة النووية , بالمركز القانونى للأسرى المنصوص عليه فى إتفاقية جنيف لعام 1949 لدى الإدارة الإستعمارية الفرنسية ( ثانيا ) , وطبيعة النظام الحمائى المكفول للأسرى المستخدمين فى تجربة رقان ( ثالثا ) .

المطلب الأول : طبيعة النزاع بين حركة التحرير الوطنى وفرنسا

إستقر القانون الدولى الحديث على إعتبار النزاعات التى تدور بين حركات التحرر و القوى الإستعمارية نزاعات دولية , وهذا رغم إصرار القوى الإستعمارية على إعتبار أن حركات التحرر التى كانت تتصاعد فى مستعمراتها تعتبر حركات تمرد , لترتب على هذا التكييف مجموعة من الآثار تعمل كلها على الحفاظ على سيطرتها على المستعمرات , وإخماد لهيب الثورات المتصاعدة خاصة فى مرحلة الخمسينيات والستينيات , وكذا إخراج هذا النزاع من أى حماية دولية وبخاصة أحكام إتفاقية جنيف المتعلقة بحماية الأسرى و المدنيين والجرحى .

وقد أورد الأستاذ بوكرا إدريس مجموعة من الأسانيد يبين من خلالها شرعية الكفاح التحررى وإعتباره نزاعا دوليا , إذ تمسكت جل دول العالم الثالث بشرعية الكفاح المسلح أمام اللجنة الخاصة لتقنين مبادىء القانون الدولى بقولها أن ” الكفاح ضد الإستعمار يعتبر حربا دولية , لأن الأنظمة الإستعمارية تعتبر إحتلالا غير شرعى , وبالتالى فإن الدعم الخارجى يجب أن يكون مسموحاً به ” .
كما نص القرار 1514 فى المادة 04 على مايلى : ” يجب إنهاء كل عمل مسلح وكل إجراء قمعى موجه ضد الشعوب المستعمرة , وذلك للسماح لهذه الشعوب بممارسة حقها فى الإستقلال التام ” .
وفي تقسيم آخر للدكتور: صلاح الدين عامر, أورد تقسيما ثلاثيا للنزاعات المسلحة :النزاعات المسلحة ذات الطابع الدولي conflits armes interetatiques , و النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي conflits armes intra-etatiques ,هناك طائفة ثالثة غير مسماة تعرف بأنها نزاعات مسلحة ليست بين الدول لكنها تتخذ طابعا دوليا conflits armes internationeaux mais non interetatiques .

إلا أن موقف الدول الإستعمارية لم يكن هو السائد , إذ تم الإعتراف لحركات التحرر بحقها فى ممارسة الكفاح المسلح والتمثيل الدبلوماسى فى إطار المؤتمرات و الندوات الدولية وكذا المشاركة بصفة عضو ملاحظ لدى المنظمات الدولية , وهى الصلاحيات التى جسدتها جبهة التحرير الوطنى ميدانيا بشقيها السياسى و العسكرى .

أقرت منظمة الأمم المتحدة حق النظر فى النزاعات الدولية التى تدور بين حركات التحرر و الدول المستعمرة , من خلال مبدأين أولهما يثار فى حالة تحقق المصلحة الدولية فى النزاع القائم وثانيهما يتعلق بوجود إتفاق لأن المعاهدة الدولية تخرج موضوعها إلى لإطار القانون الدولى .

المطلب الثانى : مركز أسرى جبهة التحرير الوطنى فى إطار إتفاقية جنيف

نتناول في هذا المطلب البحث عن مدى تمتع أسرى جبهة التحرير الوطنى لدى السلطات الإستعمارية بمركز الأسرى فى إطار إتفاقية جنيف المتعلقة بحماية الأسرى لعام 1949 , حيث حددت المادة 2/04 من اتفاقية جنيف لعام 1949 , معنى أسرى الحرب بتعدادها مجموعة من الحالات , والتى تندرج ضمنها الوحدات التى تقوم بمقاومة نظامية ويتبعون أحد طرفى النزاع , ويعملون داخل أو خارج أراضيهم , حتى لو كانت هذه الأراضى محتلة , وإشترطت الإتفاقية مجموعة من الشروط فى المقاومات المنظمة حتى تنطبق عليها الإتفاقية وهى كالآتى :
أ‌- تكون المقاومة تحت قيادة شخص مسؤول من مرءوسيه .
ب‌- أن تكون لها علامة مميزة معينة , يمكن تمييزها عن بعد .
جـ- أن تحمل أسلحتها بشكل ظاهر .
د- أن تقوم بعملياتها الحربية طبقا لقوانين وتقاليد الحرب .
كل هذه الشروط التى عددتها المادة 2/4 من إتفاقية جنيف لأسرى الحرب , تتوفر فى جبهة التحرير الوطنى ؛ ذلك أن الجبهة كانت تناضل من أجل تحرير إقليمها وأنها كانت موضوعة مباشرة تحت سلطة سياسية وعسكرية , أما بالنسبة للشرط الثانى فجبهة التحرير الوطنى كانت تحمل أسلحتها بشكل ظاهر , وأنها أيضاً كانت توجه اعمالها الحربية بالدرجة الأولى ضد أفراد الجيش الإستعمارى .
إن تحقق هذه الشروط التى عددتها المادة 2/04 من الإتفاقية السالفة , يجعل من أسرى الثورة التحريرية لدى السلطات الإستعمارية بالجزائر يتمتعون بمركز أسرى الحرب , بذلك فإنهم مشمولون بأحكام إتفاقية جنيف لعام 1949 لحماية الأسرى .
إضافة إلى الأسانيد الواردة فى إتفاقية جنيف السالفة , فإن الممارسة الدولية و القانون الدولى الحديث أصبحا يقران بأن إتفاقية لاهاى لعام 1907 , وإتفاقية جنيف المتعلقة بقانون الحرب لعام 1949 أصبحت تنطبق بصورة عقدية أو عرفية على كل النزاعات الدولية فى العالم وهذا التعزيز لحماية حقوق الشعوب المستعمرة يعتبر نظاما حمائيا دوليا لفئة المحاربين , ومنه يستفيد أسرى جبهة التحرير الوطنى من انطباق اتفاقية جنيف المتعلقة بحمايةالأسرى عليهم .

المطلب الثالث : النظامى الحمائى المقرر للأسرى فى إتفاقية جنيف :

نتيجة لتمتع مجاهدى جبهة التحرير الوطنى الذين وقعوا فى أسر السلطات الإستعمارية بمركز الأسرى فى مفهوم اتفاقية جنيف للأسرى لعام 1949 كما تم بيانه , نصت إتفاقية جنيف لقانون الأسرى لعام 1949 على نظام حمائى خاص بهذه الفئة من الأسرى , إذ جاء فى المادة 13 منها : على أنه ” يجب أن يعامل أسرى الحرب فى جميع الأوقات معاملة إنسانية ” , ذلك أن عملية تثبيت المجاهدين الأسرى بدعائم وتعريضهم المباشر للإشعاع تعتبر معاملة غير إنسانية , وفى ذلك خرق للبند 13 من هذه الإتفاقية .
وأضافت نفس المادة 13 أنه ” لا يجب تعريض صحة الأسرى للخطر كما لا يجب استعمالهم لإجراء تجارب طبية وعلمية ” , وهو الخرق الثانى الذى أقدمت عليه السلطات الإستعمارية حين استعملت هؤلاء الأسرى للقيام بتجارب طبية وعلمية لقياس مدى تأثير الإشعاع على صحة الإنسان , وأيضاً مدى فاعلية هذا السلاح الفتاك ضد الإنسان .

كما تضمنت الاتفاقية التزاما يقع على عاتق الدولة الآسرة طبقا للمادة 2/120 يقضى بأن تقدم الدولة الآسرة بأسرع وقت ممكن لمكتب الإستعلامات شهادات الوفاة ويجب أن تبين شهادة الوفاة , المعلومات الشخصية للأسرى , وتاريخ وسبب وفاتهم , وكذا تاريخ ومكان دفنهم , واشترطت الاتفاقية أيضا ضرورة إجراء فحص طبى للأسير بغية إثبات حالة الوفاة .

ولم تقم فرنسا بأى إجراء من الإجراءات السابقة الذكر , نظرا لتمسكها بأن النزاع داخلى , وأن الثوار لا تنطبق عليهم إتفاقية جنيف لقانون الحرب , إلا أن هذا الموقف لا يمنعنا من أن نعيد نفض الغبار على هذا التكييف الإستعمارى الظرفى , لنبين بأن الأسرى الثوار لدى السلطات الإستعمارية كانوا أسرى حرب , ونتيجة لهذا الخرق الفاضح فى حقهم فإن مسؤولية الدولة الفرنسية تقرر وفقا لإتفاقية جنيف لمعاملة الأسرى لعام 1949 .
يمكن تدعيم هذا الموقف الذى عرضه إعلاه , بموقف جانب من الفقه الغربى كالذى يقر بأن المسؤولية الدولية تثبت طبقا لقواعد القانون الدولى فى حالة مخالفة إتفاقيات جنيف المتعلقة بقوانين الحرب لعام 1949 .

المبحث الثانى :
مدى انطباق اتفاقية على المدنيين المستخدمين فى هذه التجربة

يتناول هذا المطلب البحث عن التأصيل القانونى لانطباق اتفاقية جنيف على المدنيين من منطقة رقان , الذين استخدمتهم القوات الاستعمارية فى التجربة النووية .

المطلب الأول : مركز المدنيين المستخدمين فى هذه التجربة على ضوء اتفاقية جنيف

حتى نتمكن من الحسم فى مسألة تقرير مسؤولية فرنسا فى استخدمها للمدنيين من منطقة “رقان” و”حمودية” أثناء التفجير النووى الأول , علينا أن نفصل ابتداء فى مدى انطباق اتفاق جنيف على المدنيين الذين استخدمتهم فرنسا فى هذه التجربة النووية .
حددت اتفاقية جنيف المدنيين أو الأشخاص الذين تتولى حمايتهم الاتفاقية , فى جميع الأشخاص الذين يجدون أنفسهم فى لحظة ما , عند قيام الحرب أو الإحتلال , فى أيدى إحدى الأطراف المتحاربة أو دولة محتلة ليسوا من مواطنيها (م04) وأردفت المادة 47 من نفس الإتفاقية على أنه لا يحرم الأشخاص المحميون الذين يوجدون فى أرض محتلة بأى حال أو بأى كيفية من مزايا هذه الإتفاقية , بسبب تغيير يطرأ , نتيجة لاحتلال الأراضى المحتلة .
من خلال هاذين النصين يمكن الجزم أن المدنيين الجزائريين الذين إستخدمتهم القوات الفرنسية فى التجارب النووية , يتمتعون بمركز المدنيين من الشعوب المحتلة, يخضعون لاتفاقية جنيف و الشعب الجزائرى فى مرحلة إجراء التجربة النووية التى استخدم فيها المدنيين كان خاضعا للاحتلال الفرنسى .

وشددت الاتفاقية على أنه لا يمكن إلغاء أو تعطيل هذا المركز القانونى الذى أقرته الإتفاقية , بأى حال من الأحوال سواء عن طريق اتفاقى بين سلطات الأراضى المحتلة ودولة الإحتلال , وفى نفس السياق ونظرا للطابع الحساس للمعاهدات الدولية ذات الطابع الإنسانى , نصت اتفاقية المعاهدات لعام 1969 فى المادة 5/60 منها على أنه لا يجوز إنهاء معاهدة أو تعليق تنفيذها نتيجة لخرقها , إذا تعلق الخرق بالأحكام المتعلقة بحماية الشخص الإنسانى وبخاصة منها الأحكام التى تحظر أى شكل من أشكال الإنتقام من الأشخاص المحميين بالمعاهدات ذات الطابع الإنسانى .

هذا التعامل شبه مقدس مع القواعد المتعلقة بحماية الإنسان , تصبغ هذه القواعد الدولية بطابع القواعد الآمرة , التى لا يجوز بأى حال من الأحوال خرقها , وحتى إذا إنطلقنا من واقع المركز القانونى للجزائر فى هذه المرحلة , والذى كان يقضى بعدم تمتع الجزائر بمركز الدولة بمفهوم القانونى الدولى , وبالتالى إستحالة لإنطباق قواعد اتفاقية جنيف باعتبارها قواعد اتفاقية , لأن الجزائر فى هذه المرحلة لم تكن تتمتع بمركز الدولة ولم تكن موقعة على هذه الاتفاقية , إلا أن مسألة انطباقها فى هذه الحالة لم يعد فى إطار القانون الدولى الحديث و الفقه الدولى يشكل عائقا , وذلك نظرا للطابع الحساس للأحكام المتعلقة بحماية المدنيين التى جاءت بها اتفاقية جنيف لعام 1949 , والتى على ضوئها أصبح الفقه الدولى الحديث يقر بانطباقها إما باعتبارها قواعدا اتفاقية ؛ بالنسبة للدول الموقعة عليها , أو قواعدا عرفية ؛ بالنسبة للدول غير الموقعة عليها أو بالنسبة لحركات التحرر , وهى الحالة التى تتوافق مع وضعية الجزائر , وتنطبق الاتفاقية بمجرد ابتداء النزاع أو القتال (م06) ؛ وانطلاقا من مختلف أشكال المقاومة التى واجه بها الشعب الجزائرى , بداية بالمقاومة الشعبية التى استمرت منذ بداية الإحتلال الفرنسى , وانتهاء بحرب التحرير الوطنى , لذلك فإن التاريخ الفعلى لانطباق هذه القواعد يمكن اعتباره من تاريخ توقيع هذه الاتفاقية .

المطلب الثانى : طبيعة النظام الحمائى المقرر للمدنيين فى اتفاقية جنيف

يتبين من خلال ما سبق تفصيله أن أحكام اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين , تنطبق على المدنيين الجزائريين , وبعد الفصل فى مسألة انطباق أحكام اتفاقية جنيف على المدنيين و سوف نتطرق إلى طبيعة النظام الحمائى الذى تقرره الاتفاقية للمدنيين الجزائريين , الذين استخدمتهم الإدارة الاستعمارية الفرنسية .
حظرت اتفاقية جنيف لحماية المدنيين اتخاذ الإجراءات التى من شأنها أن تسبب التعذيب البدنى أو إبادة الأشخاص المحميين الموجودين تحت سلطة الدولة المستعمرة , ومن بين ما يشمله هذا الخطر , إجراء التجارب الطبية أو العلمية ( المادة 32 ) , وهو ما أقدمت عليه الإدارة الإستعمارية عندما طلبت من سكان منطقة التجربة الخروج من مساكنهم يوم إجراء التفجير , وقامت بتوزع قلادات لقياس الإشعاع , كما عددت هذه الاتفاقية مجموعة من المخالفات الخطرة , من بينها المعاملة البعيدة عن الإنسانية بما فى ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة , والأعمال التى تسبب عمدا آلاما شديدة أو إصابة خطيرة للجسم أو الصحة ( المادة 147) .
هذه المخالفات الخطيرة التى عددتها الاتفاقية تتطابق تماما مع ما أقدمت عليه السلطات الاستعمارية من تعريض الأهالى إلى الإشعاع مباشرة , أو بدون معدات تقيهم من الإشعاع النووى , هذا بالإضافة إلى الخطر المباشر للإشعاعات على صحة الإنسان و التى تؤدى إلى ظهورالسرطان , أو إحداث تعديل وظيفى للخلايا .

المبحث الثالث :
مسؤولية فرنسا وأفراد جيشها عن خرق أحكام اتفاقيات جنيف

يتناول هذا المبحث و استنادا إلى ما تقدم , تأصيل المسؤولية الدولية لفرنسا عن الخروقات التى قامت بها لاتفاقيات جنيف المتعلقة بالأسرى و المدنيين (أولا) , والمسؤولية الجنائية لمرتكبى هذه الأفعال أو الذين أمروا بتعريض المدنيين و الأسرى (ثانيا)

المطلب الأول : المسؤولية الدولية لفرنسا عن خرق إتفاقيتى جنيف للأسرى و المدنيين

يقر القانون الدولى من خلال قوانين الحرب أن خرق القوانين ينجرعنه مسؤولية الدولة التى خرقت هذه القوانين , والتجربة النووية التى أقدمت عليها الإدارة الاستعمارية فى الجزائر, واستخدامها للأسرى و المدنيين يقر مسئوليتها الدولية عن هذا الخرق البين لقوانين الحرب الدولية .

الفرع الأول : مسؤولية فرنسا الدولية نتيجة خرقها اتفاقية جنيف للأسرى
نص ميثاق هيئة الأمم المتحدة فى المادة /73أ على إلتزام عام يقضى بضرورة إلتزام الدول التى تضطلع بتبعيات عن أقاليم لم تنل شعوبها قسطا كاملا من الحكم الذاتى -الدول الإستعمارية – بأن تعامل الشعوب المستعمرة بإنصاف وأن تحميها من ضروب الإساءة .
هذا الإلتزام وأن كان يوحي من خلال صياغته العامة بنوع من الغموض فى حصر التزام الدول الاستعمارية فى معاملة الشعوب المستعمرة , إلا أنه يفيدنا فى هذه المحاولة لتقرير مسؤولية فرنسا عن استخدمها للأسرى فى تجاربها النووية , لأن الإقدام على استخدام الأسرى و المدنيين فى هذه التجربة يعتبر ضربا من ضروب الإساءة للشعب الجزائرى .
الأساس الثانى الذى نبنى عليه قيام المسؤولية الدولية للدولة الفرنسية عن هذه التجارب , هو حكم المادة 12 من اتفاقية جنيف للأسرى لعام 1949 , والتى تنص على أنه يعتبر الأسرى تحت سلطة دولة العدو , لا تحت سلطة الأفراد او الوحدات العسكرية التى أسرتهم , وفيما عدا المسؤوليات الفردية التى قد توجد فإن الدولة الحاجزة تعتبر مسؤولة عن كيفية معاملتهم . لذلك ونتيجة للمعاملة اللاإنسانية التى تعرض لها المجاهدون الأسرى لدى الإدارة الاستعمارية من خلال تعريضهم للإشعاعات مباشرة , وكذا استعمالهم لتجارب طبية وعلمية .

على هذا الأساس فإن هذا الخرق البين للإلتزامات التى تفرضها المادة 13 من إتفاقية جنيف المتعلقة بحماية الأسرى , وكذا الإلتزام الناشىء عن حكم المادة /73أ من ميثاق هيئة الأمم المتحدة , ينبنى عليه إقرار المسؤولية الدولية للدولة الفرنسية عن جرائم الحرب التى ارتكبتها ضد الأسرى من المجاهدين الجزائريين , وهو الاتجاه الذى يعتمده الفقه الدولى ؛ إذ يكتفى بمجرد مخالفة اتفاقية جنيف لقيام المسؤولية الدولية .

رغم تمسك الدول الغربية وبعض الاتجاهات الفقهية الغربية لاعتبار المسؤولية الدولية بأنها لا تنشأ إلا بين أشخاص القانون الدولى – الدول والمنظمات الدولية – , إلا أن فقه الدول النامية عامة و الفقه الجزائرى خاصة لا يقر بهذه العلاقة الحصرية فى تقرير المسؤولية الدولية بين الدول , إذ يرى الإستاذ بن عامر التونسى أن … ” تقصير المسؤولية الدولية على الدول يعتبر منطقاً تحكيميا , يصادر ويعيق حركة القانون الدولى المتجهة نحو عالم أشمل , ولذا فإننا لا نقر تضييق أطراف العلاقة ما بين الدول , ومن ثم فلأننا نرجح أن تكون المسؤولية الدولية علاقة تربط بأشخاص القانون الدولى من دون تحديدها بصفة حصرية , أو تقصيرها على الدول طالما أن المصالح الأساسية للمجتمع الدولى تعرف تطوراً مستمرا قد يجعل منها القانون الدولى – فى المستقبل – أشخاصا دولية جديدة ( حماية الكائن البشرى , حق الشعوب فى تقرير مصيرها )
لا يشترط القانون الدولى لقيام المسؤولية الدولية , الناتجة عن إخلال الدولة بالتزاماتها التعاقدية أن تنص المعاهدة التى حصل الإخلال بها على قيام المسؤولية صراحة , وعلى الرغم من ذلك نصت اتفاقية جنيف بشأن معاملة الأسرى صراحة من خلال المادة 12 على قيام مسؤولية الدولة عن الكيفية التى يتم بها معاملة الأسرى .

بناء على ما تقدم تفصيله فإن كل شروط المسؤولية الدولية لفرنسا قائمة وهى كالآتى :

1-وجود فعل : تتجسد مسؤولية الدولة لفرنسا عن التجارب النووية التى أقدمت عليها الدولة الفرنسية من خلال فعلين , أولهما قيامها بفعل غير مشروع , وثانيهما امتناعها عن أداء التزام دولى .
أ‌- القيام بفعل :
يتجسد الأساس الأول فى قيام المسؤولية الدولية لفرنسا فى التصرف الذى أقدمت عليه الإدارة الإستعمارية العسكرية فى الصحراء الجزائرية بمنطقة رقان , والذى استخدمت خلاله أسرى جبهة التحرير الوطنى فى التجربة النووية التى قامت بها .
ب‌- الامتناع عن فعل :
ويتمثل الأساس الثانى لقيام المسؤولية الدولية لفرنسا نتيجة امتناعها عن تقديم أى معلومات عن العدد الحقيقى للمجاهدين الأسرى الذين استخدمتهم فى التجربة , وكذا عن حالتهم الصحية بعد التجربة , أو وفاتهم , والفحص الطبى الذى أجري لهم بعد الوفاة , ومكان دفنهم .

2- كون التصرف غير مشروع : الشرط الثانى لقيام المسؤولية الدولية فى إطار القانون الدولى , أن يكون التصرف أو الفعل الذى تقوم به الدولة غير مشروع فى وجهة القانون الدولى , والفعل الذى أقدمت عليه السلطات الاستعمارية الفرنسية المتمثل فى تعريض الأسرى المجاهدين للتلوث الإشعاعى بصورة مباشرة , يعتبر مخالفا للمادة 2/120 من معاهدة جنيف المتعلقة بالأسرى , وكما يعتبر أيضا مخالفا لأحكام ميثاق هيئة الأمم المتحدة فى المادة /73أ منه , وكذا توصية الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (XIV 1379 ) حول التجارب النووية الفرنسية فى الصحراء الجزائرية , والتى كانت تدعو فرنسا بالعدول عن القيام بهذه التجارب فى الصحراء , هذا بالإضافة إلى خرق أحكام الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى المادة الثالثة منه و التى تنص على أنه : ” لكل فرد الحق فى الحياة و الحرية وسلامة شخصه ” , وأضافت المادة 30 من نفس الإعلان حكما عاما يقضى بتعزيز حماية حقوق افنسان بقولها أن : ” ليس فى هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو لجماعة أو فرد أى حق فى القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق و الحريات الوادرة فيه ” .

الفرع الثانى : مسؤولية فرنسا الدولية نتيجة خرق اتفاقية جنيف المتعلقة بالمدنيين
نصت المادة 148 من اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين على التزام كل الدول الموقعة على هذه المعاهدة , باضطلاعها بمسئوليتها نتيجة لقيامها بالمخالفات الخطيرة التى عددتها المادة 147 , والتى تم الإشارة إليها أعلاه .
فى حالة وقوع خرق لهذه الاتفاقية وخاصة المخالفات الخطيرة التى عددتها المادة 147 , فإنه يمكن للطرف المعنى أن يدعى بخرق هذه الاتفاقية لدى الطرف الآخر , وإذا لم يحصل اتفاق بين طرفى النزاع بشأن إجراءات التحقيق , يتفق أطراف النزاع على انتخاب حكم يتولى تقرير الإجراءات التى تتبع .
الأساس القانونى الذى تبنى عليه مسؤولية فرنسا هو مخالفة أحكام اتفاقية جنيف المتعلقة بالمدنيين , من خلال تعريض المدنيين للتلوث الإشعاعى مباشرة .

المطلب الثانى : المسؤولية الجنائية عن تعريض المدنيين و الأسرى للتلوث الإشعاعى

إضافة إلى المسؤولية الدولية التى يقرها القانون الدولى التى تخرق قوانين الحرب , فإنه يرتب فى نفس الوقت وإزاء نفس الخروقات تقرير المسؤولية الجنائية لمن اقتادوا أو أمروا باقتياد الأسرى (أولا) و المدنيين (ثانيا) إلى هذه التجربة .
الفرع الأول : المسؤولية الجنائية لمقترفى جريمة الحرب ضد الأسرى
نصت المادة 129 من اتفاقية جنيف لمعاملة الأسرى لعام 1949 , على أن الأطراف المتعاقدون ملزمون باتخاذ أى تشريع يلزم لفرض عقوبات فعالة على الأشخاص الذين يقترفون مخالفات خطيرة بهذه الاتفاقية أو يأمرون بها .
كما تلزم نفس المادة أن تقوم الدولة المعنية بالأمر أى الدولة الآسرة بالبحث عن الأشخاص المهتمين باقتراف المخالفات الخطيرة أو أمروا بها , وأن تقوم بعد ذلك بمحاكمتهم مهما كانت جنسيتهم .

كما عددت المادة 130 من نفس الاتفاقية المخالفات الخطيرة التى تؤدى إلى مسؤولية الفاعلين أو الذين أمروا بذلك , ومن بين هذه المخالفات الخطيرة : القتل العمد , التعذيب أو المعاملة البعيدة عن الإنسانية , بما فى ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة , والأعمال التى تسبب عمدا آلاما شديدة أو إصابة خطيرة للجسم أو الصحة …
كل هذه المخالفات الخطيرة للاتفاقية تتحقق فى التجربة التى أقدمت عليها السلطات الإستعمارية بتعريض الأسرى ؛ من مجاهدى جبهة التحرير الوطنى , للتولث الإشعاعى النووى , والذى يؤدى كما هو ثابت علميا إلى القتل العمد , والتعذيب و المعاملة البعيدة عن الإنسانية و الإصابات الخطيرة للجسم و الصحة .
وأردفت المادة 131 التزاما عاما يقع على مجموع الدول المتعاقدة فى هذه الاتفاقية , بأن لا يسمح لأحد الأطراف المتعاقدين أن يخلى طرفا آخر من الأطراف المتعاقدة من المسؤولية الملقاة عليه أو على الطرف الآخر بالنسبة للمخالفات الخطيرة المذكورة أعلاه .

لم تنص الاتفاقية على إجراء معين للتحقيق فى هذه الجرائم , وتركت الحرية للأطراف فى الاتفاق حول الطريقة التى يرتضيها الأطراف , وإذا لم يتوصل الأطراف إلى اتفاق بشأن إجراءات التحقيق , يتفق الأطراف على انتخاب حكم , وهذا الأخير يقرر إجراءات التى تبع لمخالفات هذه الاتفاقية , فإنه وأمام التطور الذى أحرزه القانون الجنائى الدولى , فأنه أصبح من الممكن إخضاع مجرمى الحرب , لإختصاص المحكمة الجنائية الدولية .

الفرع الثانى : المسؤولية الجنائية لمقترفى جريمة الحرب ضد المدنيين
أقرت اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين بالمسؤولية الشخصية لمرتكبى المخالفات الخطيرة لهذه الاتفاقية , أو يامرون بها .
عددت الاتفاقية هذه المخالفات الخطيرة فى أعمال القتل العمد , والتعذيب , والمعاملة البعيدة عن الإنسانية , وكذا التجارب الخاصة بعلم الحياة , والأعمال التى تتسبب عمدا آلاما شديدة وإصابة خطيرة للجسم أو الصحة (م148) , كل هذه المخالفات الخطيرة التى تم تعدادها تتحقق فى عملية التعريض المباشر للمدنيين من سكان منطفة رقان إلى الإشعاعات النووية الناتجة عن تفجير القنبلة النووية .

تلزم اتفاقية جنيف كل الدول المتعاقدة بالبحث عن الأشخاص المهتمين باقتراف مثل هذه المخالفات الخطيرة , أو أمروا بها وتقديمهم للمحاكم الداخلية المختصة بغض النظر عن جنسيتهم , وعرضت الاتفاقية إمكانية محاكمة مرتكبي هذه المخالفات لدى دولة متعاقدة أخرى , بشرط أن يكون للطرف الأخر المتعاقد أدلة اتهامات كافية ضد هؤلاء الأشخاص (م146) .

يتم التحقيق فى المخالفات بالطريقة التى يتفق عليها الأطراف , وإذا لم يتفق الأطراف على إجراءات التحقيق المتعلقة بخرق الاتفاقية , يتفق أطراف النزاع على انتخاب حكم يتولى تقرير الإجراءات التى تتبع (م149) .
بناء على التطور الدولى الحاصل فى الجرائم الدولية , يمكن إسناد مسؤولية مرتكبى هذه المخالفات الخطرة ضد المدنيين من منطقة رقان و الذين أمروا بها , إلى إختصاص المحكمة الجنائية الدولية .

خـاتمــــة

من أهم النتائج التى خلصت إليها هذه الورقة هو محاولة البحث عن أسس قانونية لتقرير المسؤولية الدولية لفرنسا نتيجة لخرقها لاتفاقية جنيف المتعلقة بالأسرى و المدنيين من خلال تعريضهم للتجربة النووية بمنطقة رقان , وكذا قيام المسؤولية الجنائية لمرتكبى أفعال تعريض كل من الأسرى و المدنيين للتجربة النووية , وكذلك من أمروا بإخضاعهم لهذه التجربة .
يعتبر تقرير مسؤولية فرنسا بشقيها الدولية و الجنائية على هذا المنوال مجرد تكييف قانونى نظرى للوقائع التى تشكل عناصر التجربة التى أقدمت عليها فرنسا فى رقان , ذلك أن تقرير المسؤولية بصورة علمية يحتاج إلى إثباتات علمية – ملف علمى – تتناول الجانب العلمى للأخطار التى يمكن أن تنجم عن هذه التجارب , كما تحتاج فى نفس الوقت إلى دراسات تاريخية تحسم فى دقة البيانات و الوقائع المرتبطة بهذه التجربة , لهذا فإن العمل المنهجى المطلوب القيام به لتقرير مسؤولية فرنسا , هو إيجاد صيغة منهجية للتكامل بين مختلف العلوم التى تدرس هذه التجربة النووية , ويمكن أن تنحصر هذه العلوم فى الدراسات العلمية الخاصة بالإشعاع النووى ؛ للقيام بالقياسات الإشعاعية للكشف عن التلوث النووى وأثره على صحة الإنسان و البيئة بصفة عامة , والعلوم الطبية ؛ من خلال إيجاد علاقة بين الأمراض و العاهات التى يتعرض لها مواطنوا المنطقة و التلوث الإشعاعى الناتج عن التجربة النووية , والقانون ؛ من خلال تكييف عناصر ووقائع هذه التجربة فى إطار القانونى فى إطار القانون الدولى , والتاريخ ؛ من خلال الحسم فى الكثير من الحقائق و الوقائع التاريخية التى تحتاج إلى الدقة كعدد الأسرى و المدنيين المستخدمين فى هذه التجربة .

نظرا لقلة الكتابات القانونية حول موضوع التجارب النووية بالصحراء الجزائرية , فإن الكثير من العمل يبقى ينتظر الباحثين الجزائريين , لتسليط الضوء على العديد من النقاط علما أن فرنسا قامت بسبعة عشرة تجربة نووية فى الصحراء الجزائرية , من بين أهم هذه النقاط البحث فى إقرار المسؤولية الدولية لفرنسا عن الأضرار التى تعرضت لها البيئة الطبيعية فى الصحراء الجزائرية من جراء التجارب النووية الأخرى .

*—————-*

فهرس المصادر والمراجع

1. أ.د عبد الكاظم العبودى – يرابيع رقان : جرائم فرنس النووية فى الصحراء الجزائرية , دار الغرب للطباعة و النشر و التوزيع 2000
2. د. عبد القادر القادرى , القانون الدولى العام – مكتبة المعارف – الرباط 1984-
3. بوكرا إدريس , مبدأ عدم التدخل فى القانون الدولى , المؤسسة الوطنية للكتاب . الجزائر . 1990
4. أ.د. صلاح عامر. مقدمة في دراسة القانون الدولي العام. مطبعة جامعة القاهرة.طبعة 2007
5. ATLAIN PELLET et PATRICK DAILLER , droit international public , 5em edition , LGDJ
6. المركز الوطنى للدراسات و البحث فى الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954- الجزائر . التجارب النووية الفرنسية فى الجزائر منشورات المركز الوطنى لدراسات و البحث 2000
7.http://www. icrc .org/Web/ ara/siteara0. nsf/htmlall/ genevaconventions