بحث قانوني و دراسة حول الأحكام التي يصدرها القضاء فصلاً فيما يعرض عليه

تسبيب الأحكام الحقوقية في الأردن
المحامي موسى الاعرج

مقدمـــــــــــــة

– الحُكْمُ في اللغة يعني تولي الإدارة ، وكذلك يعني القضاء والفصل في الأمر ، وهذا المعنى الأخير هو المقصود بهذا البحث ، فالمقصود هنا هو الأحكام التي يصدرها القضاء فصلاً فيما يعرض عليه ، بما له من صلاحية واختصاص بموجب القانون 0

– وقانون أصول المحاكمات المدنية الأردني ، وكذلك قانون محاكم الصلح الأردني يستعملان أحياناً كلمة ” القرار ” بمعنى الحكم ويستعملان كلمة ” قررت ” ( المحكمة ) بمعنى “حكمت”، ولكن الحكم المقصود هنا هو القرار الصادر عن محكمة مشكَّلة تشكيلاً صحيحاً في خصومة رفعت اليها وفق قواعد المرافعات ( أصول المحاكمات ) سواءً كان صادراً في موضوع الخصومة أو في شق منه أو في مسألة متفرعة عنه ( أحمد أبو الوفا – التعليق – الطبعة الخامسة – منشأة المعارف اسكندرية ص 658) 0

– والمقصود بالتسبيب هنا بيان الأسباب التي أدت الى النتيجة التي انتهى اليها الحكم ، والتسبيب ( بيان الأسباب ) ليس مقصوراً على العمل القضائي ، بل إن العمل التشريعي يَعرف التسبيب ( الأسباب الموجبه للقانون ) ، وكذلك العمل الإداري ( القرار الإداري ) يَعرف التسبيب ( أسباب القرار الإداري ) 0

– وإذا كان تسبيب كل من العمل التشريعي والعمل الإداري يهدف مباشرة الى الإجابة على سؤال لماذا صدر العمل ؟ فإن تسبيب العمل القضائي يهدف الى تعزيز القناعة بأن العمل صدر طبقاً للقانون غير مخالف له 0

– وإذا كانت الدساتير عادة لا تلزم المشرع ببيان الأسباب التي دعته الى إصدار التشريع ، وكان القانون لا يلزم في جميع الأحوال مُصْدر القرار الإداري ببيان الأسباب التي دعته الى إصدار القرار ، فإن الدساتير في بعض الدول والقانون في دول أخرى يلزم القاضي ببيان الأسباب التي أدت الى نتيجة الحكم لأسباب ( أو لأهداف ) يمكن إيجازها فيما يلي :-

1 – إن التسبيب ضمانة لعدم القضاء بناءً على هوى أو ميل شخصي 0

2 – إن التسبيب يعزز احترام حقوق الدفاع ، فهو وسيلة غير مباشرة لتحقيق حق الدفاع 0

3 – إن التسبيب معناه حلول الإستدلال محل التأكيد ، فيصبح الحكم وسيلة للإقناع وليس مجرد ممارسة سلطة من قبل القاضي

4 – إن التسبيب وسيلة الى اقناع الرأي العام وبخاصة المحكوم عليهم بعدالة القضاء والثقة به 0

5 – إن التسبيب وسيلة لحماية القاضي مما يمكن أن يقع عليه من ضغوط 0

6 – إن التسبيب باعتباره قيداً على عمل القاضي فإنه يدفعه الى توخي الحرص والدقة عند اتخاذ قراره 0

7 – إن التسبيب ضروري لاستعمال الحق في الطعن ، فيمكن الوقوف من خلاله على ما شاب الحكم من عيوب 0

8 – إن التسبيب هو الوسيلة التي تستطيع بها محكمة النقض ( التمييز ) مراقبة المحاكم الأدنى في كيفية فهمها لمضامين القواعد القانونية 0

9 – إن التسبيب يؤدي الى اثراء الفكر القانوني وتقدمه ، فتحليل الفقه لأحكام القضاء يعتمد على التسبيب لمعرفة التفسير القضائي للقواعد القانونية (هذه البنود أعلاه مأخوذة بتصرف عن د0عزمي عبدالفتاح – تسبيب الأحكام وأعمال القضاة في المواد المدنية والتجارية ط أولى 1983 ص 21 – 24) 0

10- ولما كان ما هو اخلاقي في المجتمع ليس قانونياً بالضرورة ، وكان ما هو قانوني ليس اخلاقياً بالضرورة ، فإن التسبيب مع الزمن يؤدي الى التطابق بين ما تتناوله القواعد القانونية بالتنظيم وبين ما تمليه القواعد الأخلاقية في المجتمع 0

11- كما أن التسبيب الذي يضمن عدم ميل القاضي وعدم اتباعه الهوى هو في نفس الوقت يشكل حماية ضمنية للقاضي من نفسه ، فمهما عظمت المغريات للقاضي أو الضغوطات عليه فإن الغلبة ستكون لحكم ضميره المتَّسق مع حكم القانون ، ما دام القاضي ملزماً ببيان الأسباب التي أدت الى النتيجة التي توصل اليها في الحكم 0

12- وإذا كان التسبيب يؤدي الى اقتناع المحكوم عليه بعدالة الحكم ، فإنه بذلك يسهم الى حد كبير في تنفيذ الأحكام طوعاً وبسلاسة بعيداً عن المماطلة واستبعاداً لاستعمال القوة 0

13- كما أن التسبيب هو وسيلة فعالة للحكم على مدى كفاءة القاضي وعلى نزاهته وعلى قدرته في فهم النصوص وتطبيقها ، ومدى استعماله للمنطق الذي هو من أساسيات التسبيب ، وبالتالي هو وسيلة للإرتقاء بالجهاز القضائي0

14- وإذا كان التسبيب يؤدي الى اقتناع الكافة بعدالة القضاء ، فإن من آثاره غير المباشرة تعزيز الحكم ، ” فالعدل أساس الحكم ” مقولة معروفة منذ القِدم ، بل إن التسبيب هو أحد العوامل الهامة في تبرير الخضوع لسلطان القانون ، بل وفي تبرير استعمال القوة التي تقف وراء تنفيذ القانون عند اللزوم ، فقد كان الحكم القضائي فيما مضى تعبيراً عن السيادة فقط ، وكان إصداره عملية تكريس لهذه السيادة وتأكيداً لها ، ولم يكن القضاء ( عندما كانت السلطات الثلاثة مندمجة ) يعنى باقناع المحكومين ، بل كان يجسد سلطان القوة الحاكمة ، من هنا كان الحكم هو عبارة عن تأكيد لواقع سيادي لا يحتاج الى تسبيب 0

– والبحث هنا مقصور على تسبيب الأحكام الحقوقية التي تصدر في نطاق قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني رقم 24/1988 وتعديلاته وقانون محاكم الصلح الأردني ورقم 15/1952 وتعديلاته ( فيما يتعلق بالأحكام الحقوقية ) ، أي أنه لن يتم التطرق لتسبيب الأحكام الجزائية أو الأحكام الصادرة عن محكمة العدل العليا أو أية أحكام قضائية تصدر عن أي جهة أخرى ذات اختصاص قضائي ، وتسبيب الأحكام التزام قانوني ملقىَّ على عاتق القاضي بلغ الإهتمام به حداً جعل بعض الدول تنص على التزام القاضي به بموجب نص في الدستور 0

– وأساس تسبيب الأحكام الحقوقية في الأردن موجود في المادة (160) من قانون أصول المحاكمات المدنية التي توجب أن يشتمل الحكم بين أمور أخرى على أسباب ومنطوق ، والفقرة (2) من المادة (159) من نفس القانون التي توجب على القاضي المخالف أن يبين أسباب مخالفته في ذيل الحكم ، والفقرة (3) من المادة (23) من قانون محاكم الصلح التي توجب على قاضي الصلح أن يدرج في متن القرار علل الحكم وأسبابه والمواد القانونية التي بنى عليها حكمه ، والفقرة (4) من المادة (203) من قانون أصول المحاكمات المدنية التي توجب على محكمة التمييز أن يحتوي قرارها على بيان أسباب النقض أو الحكم ، وفي تعديل حديث ( بالقانون 16 لسنة 2005 ) تم اضافة فقرة ( تحت رقم 2) الى المادة (4) من قانون البينات الأردني رقم 30 لسنة 1952 أوجبت على المحكمة تسبيب أي قرار تصدره يتعلق بإجراءات الإثبات ، وقد كان هذا التعديل هو السبب المباشر للتفكير في إعداد هذا البحث ، وسوف يتم تناول موضوع البحث كالتالي :-

أولاً : النصوص المتعلقة بمبدأ تسبيب الأحكام
ثانيــــاً: ما يجرى عليه تسبيب الأحكام
ثالثـــــاً: تسبيب الأحكام كما نراه
رابعاً: الخلاصــــة

أولاً : النصوص المتعلقة بمبدأ تسبيب الأحكام :-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– تتحدث المادة (159) من قانون أصول المحاكمات المدنية عن الأسباب في موضعين ، الأول في الفقرة الثانية حيث يتوجب على القاضي المخالف للأكثرية أن يبيَّن أسباب مخالفته في ذيل الحكم ، والثاني في الفقرة الثالثة في معرض الحديث عن حفظ مسودة الحكم في ملف الدعوى ، حيث أوضحت أن مسودة الحكم تشتمل على أسباب الحكم ومنطوق الحكم 0

– وتشير المادة (160) من قانون أصول المحاكمات المدنية في معرض حديثها عن مشتملات الحكم إلى أنه يجب أن يشتمل على عرض مجمل لوقائع الدعوى وطلبات الخصوم وخلاصة موجزة لدفوعهم ودفاعهم الجوهري وأسباب الحكم ومنطوقة 0

– أما المادة (169) من قانون أصول المحاكمات المدنية فقد ذكرت ( الفقرة 2) أن الحكم يعتمد على أسباب وذلك في معرض النص على أن للمحكوم لـه أن يطعن في الحكم اذا اعتمد على أسباب خلاف الأسباب التي بني عليها الإدعاء أو على أحد هذه الأسباب 0

– في حين نصت المادة (187) من قانون أصول المحاكمات المدنية على أنه ” يجوز لمحكمة الإستئناف عند إعطاء حكمها أن تستند لأسباب خلاف الأسباب التي استندت إليها محكمة البداية في قرارها اذا كانت تلك الأسباب مدعمة بالبينةالمدرجة في الضبط ” 0

– وتبين المادة (188) من قانون أصول المحاكمات المدنية ( الفقرة 1) أن على محكمة الإستئناف أن تسرد بكل وضوح الأسباب التي استندت إليها في رد أسباب الإستئناف وذلك عند تأييدها للحكم المستأنف 0

– ومن الحالات المحددة التي يقبل فيها تمييز الأحكام حالة اذا لم يُبنَ الحكم على أساس قانوني بحيث لا تسمح أسبابه لمحكمة التمييز أن تمارس رقابتها ( المادة 198/4 من قانون أصول المحاكمات المدنية ) كما أن المادة (202)من قانون أصول المحاكمات المدنية تتحدث عن الأسباب في معرض اصرار محكمة الإستئناف على حكمها 0

– وتوجب الفقرة (3) من المادة (24) من قانون محاكم الصلح على القاضي أن يدرج في متن القرار علل الحكم وأسبابه والمواد التي بنى عليها حكمه 00000

– وتنص الفقرة (2) من المادة (4) المعدلة من قانون البينات رقم 30 لسنة 1950 على أن ” على المحكمة تسبيب أي قرار تصدره يتعلق بإجراءات الإثبات “0

– يستفاد من النصوص أعلاه :-

– أن النظام الإجرائي الحقوقي في الأردن قد اعتمد مبدأ تسبيب الأحكام الحقوقية التي تصدر عن محاكم الموضوع ( الصلح والبداية والإستئناف ) وذلك بصيغة آمرة ولكنه لم يضع جزاء البطلان على عدم تسبيب هذه الأحكام الحقوقية 0

– ان المادة (169) أصول محاكمات مدنية تخلط بين أسباب الحكم وأسباب الإدعاء ، فأسباب الإدعاء هي الأسباب القانونية التي تُبنى عليها الدعوى في حين أن أسباب الحكم هي الأسباب التي جعلت المحكمة تتوصل الى النتيجة التي انتهى اليها الحكم 0

– إن أسباب الحكم الإستئنافي عند تأييد الحكم الإبتدائي هي عبارة عن رد على أسباب الإستئناف وكأن النص يقابل بين أسباب الإستئناف ويعتبرها كأسباب الحكم من حيث الطبيعة ، بالرغم من أن أسباب الإستئناف تبين عيوب الحكم أما أسباب الحكم ، فهي تبين الأساس الذي بني عليه 0

– إن وجود أسباب الحكم ضروري ولازم لممارسة محكمة التمييز رقابتها على المحاكم ، فممارسة هذه الرقابة غير ممكنة إلا بوجود هذه الأسباب ، إذ بدونها لا تتمكن محكمة التمييز من معرفة كيف طبقت محكمة الدرجة الأولى النصوص ، وبالتالي كيف توصلت الى النتيجة 0

– إن أسباب الحكم منفصلة عن منطوق الحكم ، بل إن المنطوق هو النتيجة التي تتوصل اليها المحكمة نتيجة لتلك الأسباب ، وإذا كانت الأسباب هي العلل التي أدت الى قناعة القاضي بما حكم به وتشمل الحجج القانونية والأدلة الواقعية التي بنى عليها الحكم فإن المنطوق هو النتيجة التي توصلت اليها المحكمة بعد دراسة القضية وهو القسم الرئيسي من الحكم الذي يقبل التنفيذ ويتمتع بقوة القضية المقضية ( رزق الله انطاكي – أصول المحاكمات المدنية ص 660) 0

– ان جميع النصوص أعلاه تتحدث عن أسباب الحكم بالمعنى الذي أوردناه في المقدمة ، وإذا كانت الفقرة (2) من المادة (4) معدلة ، من قانون البينات السابق الإشارة اليها تتحدث عن تسبيب القرارات المتعلقة بالإثبات، وبالرغم من أن هذه القرارات لا ينطبق عليها تعريف الحكم كما أوردناه ، إلا أن المقصود بهذا التعديل هو نفس المقصود من تسبيب الأحكام0

ثانياً : ما يجري عليه العمل في تسبيب الأحكام :-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
– إن الأحكام الواجب تسبيبها يمكن النظر اليها من زاويتين ، الأولى المحكمة التي تصدر الحكم ، هل هي محكمة درجة أولى ( صلح أو بداية ) أم محكمة درجة ثانية أم محكمة التمييز ، والزاوية الثانية هي نوع الحكم ، وإذا كانت محاكم الدرجة الأولى والدرجة الثانية تصدر أحكاماً لا تنتهي بها الخصومة وأحكاماً أخرى منهية للخصومة ، فإن هذه الأخيرة – كقاعدة عامة – هي موضع التسبيب ، أما بالنسبة لمحكمة التمييز وحسب اختصاصها ، فإنها تصدر نوعين من الأحكام : النوع الأول كونها محكمة قانون وهذا النوع يحتاج الى تسبيب من نوع خاص ، والنوع الثاني باعتبارها محكمة موضوع وهذا النوع يكون كتسبيب الأحكام الصادرة عن محكمة الدرجتين الأولى والثانية 0

– وللتوضيح فإن المقصود بالحكم الذي يلزم تسبيبه والذي ينهي الخصومة هو الحكم الذي يرفع يد المحكمة عن الدعوى حتى لو كان حكماً في غير الموضوع كالحكم بعدم الإختصاص أو بقبول دفع مرور الزمن أو قبول دفع بوجود شرط تحكيم أو قبول أي دفع شكلي آخر ، أما ما عدا ذلك من أحكام لا تنهي الخصومة فلا يلزم تسبيبها ، فتسبيب الأحكام المنهية للخصومة هو فقط الذي يحقق الأغراض المتوخاة من التسبيب السابق الإشارة اليها في المقدمة 0

– وبالإطلاع على كَمٍّ من الأحكام المنهية للخصومة الصادرة عن محكمتي الدرجة الأولى والثانية ومحكمة التمييز نجد :-

– أن الحكم الذي يصدر عن محكمة الدرجة الأولى ( الصلح والبداية )( بعد استعراض الوقائع من لائحة الدعوى والبينات وبعد اشارة لوقائع الحضور والمحاكمة وتقديم المرافعات) يستخلص الوقائع التي يرى أنها ثابتة أو قد ثبتت بالبينات ومن ثم يذكر أو يثبت النصوص القانونية ذات العلاقة بهذه الوقائع ثم يتوصل الى النتيجة ( المنطوق ) بعد ذكر أن هذه النتيجة هي سنداً لنصوص القانون المذكورة0

– ان الحكم الذي يصدر عن محكمة الدرجة الثانية ( الإستئناف ) يبدأ بسرد أو تثبيت أسباب الإستئناف ثم يسرد الوقائع الثابتة أو المثبتة بالبينات ثم يسرد ما جرى أمام محكمة الدرجة الأولى ويرد على أسباب الإستئناف ، فإما أن ينتهي الى فسخ الحكم المستأنف لورود سبب أو أكثر عليه ويحكم في الدعوى أو يعيدها الى محكمة الدرجة الأولى ( المادة 188 أصول محاكمات مدنية ) أو يرد الإستئناف ويصدق الحكم المستأنف لعدم ورود أي من أسباب الإستئناف عليه0

– أما الحكم الذي يصدر عن محكمة التمييز ( فيما عدا الأحكام التي تصدر في موضوع الدعوى ) ، فيبدأ بسرد وقائع التقاضي أمام محكمتي الدرجة الأولى والثانية ، ثم يسرد أسباب التمييز ثم يستعرض الوقائع الثابتة أو التي ثبتت أمام المحكمتين ثم يرد على أسباب التمييز ، فإذا وجد أن أي منها يرد على الحكم نقضه واعاد الأوراق الى محكمة الإستئناف والا رد التمييز0

– وبمطالعة أحكام محكمة التمييز التي نقضت أحكاماً لأسباب تتعلق بتسبيب الأحكام يمكن أن نخلص الى ما يلي :-

– إن قضاء محكمة التمييز في مجال نقض الأحكام لعلةٍ متعلقة بالتسبيب يستعمل تعبير ” مشوباً بقصور في التسبيب والتعليل ” أو ” قاصراً في التعليل والتسبيب ” ، وفي أحوال نادرة يستعمل عبارة ” مشوباً بعيب الفساد والإستدلال ” ، وفي مجال بيان الشوائب والقصور نجد محكمة التمييز حيناً تتحدث عن خطأ في الوقائع ارتكبته محكمة الإستئناف أو خطأ ارتكبته في تطبيق القانون أو استبعادها لبينة ما ، أو الاعتماد على بينة باطلة ، أو عدم ردها على الدفوع الجوهرية في حينها ( القرارات 1296/2005 ، 985/2005 ، 335/2005 ، 3514/2004 ، 3164/2004 ، 2796/2004 ، 1783/2004 ، 207/2003)0

– ومن الواضح أن قضاء محكمة التمييز الذي ينقض الأحكام لوجود شائبة أو قصور في التسبيب يدخل في التسبيب ما ليس منه ، فالخطأ في الوقائع والخطأ في تطبيق القانون واستبعاد بينة ما ، أو الإعتماد على بينة باطلة أو عدم الرد على الدفوع الجوهرية ،كل هذه لا علاقة لها البتة بتسبيب الأحكام ، إلا اذا فهمنا تسبيب الأحكام بمفهوم واسع يدخل فيه سرد الوقائع والبينات واستخلاص الوقائع الثابتة ومعالجة الدفوع وذكر النصوص القانونية وتطبيقاتها على الوقائع ، أو بمعنى آخر اعتبرنا كل ما هو غير منطوق الحكم أسباباً له.
– إن أوسع تعريف مقبول للأسباب هو الذي يدخل الأدلة الواقعية دون غيرها في معنى الأسباب ، حيث ” يقصد ببيان الأسباب ذكر العلل التي أدت الى قناعة القاضي بما حكم وتشمل الأسباب الحجج القانونية والأدلة الواقعية التي بُني عليها الحكم ” (رزق الله أنطاكي – أصول المحاكمات ط السادسة – مطبعة المفيد – دمشق 1964 – 1965 ص 661)

ثالثاً : تسبيب الأحكام الحقوقية كما نراه :-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– أوضحنا في المقدمة الأسباب ( الأهداف ) الكامنة وراء عملية تسبيب الأحكام ، والتسبيب الصحيح والوافي للأحكام الحقوقية يجب أن يكون قائماً على كل تلك الأسباب أو معظمها على الأقل ، كما وجدنا أن الأحكام الحقوقية في الأردن لا تعرف التسبيب بالمفهوم الذي تدل عليه أسبابه المشار اليها ، ولعل ذلك يرجع الى أن الأحكام الحقوقية في الأردن لا زالت تقوم على تأكيد سلطة القضاء ( سيادة الدولة ) لا على الإستدلال الذي يعتبر الوسيلة المثلى لانزال حكم النصوص القانونية على وقائع النزاع المعروض على القضاء 0

– إن النظرة العامة الى الحكم القضائي تصوره على أنه سرد واثبات لوقائع مستخلصة وانزال لحكم القانون على هذه الوقائع المستخلصة ، وبيان لماذا أنزل حكم نص أو نصوص قانونية معينة دون غيرها على هذه الوقائع ، وهذا ما يمكن وصفه بالتسبيب ، فالنصوص القانونية كما يقال هي عبارة عن قوالب مختلفة الأشكال والأحجام والثنايا والزوايا وليس الحكم القضائي إلا نتيجة افراع الوقائع الثابتة والتي ثبتت في هذه القوالب ، أو على وجه الدقة افراغ هذه الوقائع فيما يناسبها من القوالب ، أو كما يمكن أن يقال ان الحكم هو اعلان انطباق وقائع على نص أو نصوص قانونية تماماً كانطباق مثلث هندسي على آخر ، وليست أسباب الحكم إلا جواباً على سؤال لماذا ناسبت هذه الوقائع هذا القالب أو القوالب دون غيرها فافرغت فيه أو فيها ، أو لماذا انطبق هذا المثلث الهندسي ( الوقائع ) على هذا المثلث ( النص ) دون غيره من المثلثات ؟

– إذن التسبيب هو بيان الأسباب التي دعت المحكمة الى انزال حكم نص بعينه أو نصوص بعينها على وقائع مستخلصة ، ومن البديهي أن استخلاص الوقائع ليس من التسبيب ، إلا اذا قلنا أنه يدخل في التسبيب بيان الأسباب التي حملت المحكمة على استخلاص هذه الوقائع المستخلصة ، وهذا القول مردود ، لأن المحكمة عندما تقوم بعملية استخلاص الوقائع قد تقع في خطأ وعندها يكون خطأ في استخلاص الوقائع ، لا علاقة لـه بتسبيب الحكم ، وإن كان الخطأ في استخلاص الوقائع يؤدي الى تطبيق نصوص قانونية ليست ذات علاقة أي الى خطأ في تطبيق القانون 0

– إذن عملية التسبيب تفترض وجود وقائع مستخلصة من الأوراق والبينات استخلاصاً سائغاً مقبولاً ، ومن هنا نعود للقول أن التسبيب هو الذي يجيب على سؤال مفاده لماذا تم تطبيق هذه النصوص على هذه الوقائع المستخلصة ؟ أي لا يتصور وجود عملية التسبيب إلا بعد الإنتهاء من استخلاص الوقائع ، والقول بخلاف ذلك يدخل في مفهوم التسبيب ما ليس منه 0

– والحديث عن التسبيب يستلزم أن نعرف ما تتضمنه لائحة الدعوى ، لأن الحكم المعني بالتسبيب هو الحكم الذي يصدر في دعوى اشتملت لائحتها على موضوع للدعوى وعلى وقائع وأسانيد ، وموضوع الدعوى لا بد أن يسفر عن واحد من طلبات ثلاثة ، إما طلب الزام المدعى عليه بالقيام بعمل أو طلب الزام المدعى عليه بالإمتناع عن القيام بعمل أو طلب تقرير واقعه ما أو تصرف ما أو حق ما 0

– ووقائع الدعوى إما أن تكون واقعة أو وقائع قانونية أو أن تكون تصرفاً أو تصرفات قانونية ، أي إما أن تكون حدثاً أو أحداثاً يرتب القانون عليها أثراً معيناً أو آثاراً معينة، سواءً كانت بفعل الطبيعة ( الميلاد ، الوفاة ، الزلازل ) أو بفعل الإنسان ( الفعل الضار، الفعل النافع 0000) ، أما التصرف القانوني فهو اتجاه ارادة انسان الى إحداث أثر قانوني ( العقد ، الإرادة المفردة 0000) 0

– أما سند أو أسانيد الدعوى فهو النص القانوني أو النصوص القانونية ( والقانون هنا بمعناه العام الواسع ) التي تقوم عليه أو عليها الدعوى بالنظر الى وقائعها المعروضه ، أي النص أو النصوص القانونية التي ترتب أثراً أو أثاراً على الواقعة أو الوقائع القانونية والنص أو النصوص القانونية التي تؤيد وجود أثر أو آثار قانونية على التصرف أو التصرفات القانونية 0

– والتسبيب هنا هو الربط المعلل بين الواقعة القانونية أو التصرف القانوني والنص القانوني الذي يترتب أثره على هذه الواقعة القانونية أو الذي اتجهت الإرادة الى ترتيب آثاره على التصرف القانوني ، فالفعل الضار مثلاً هو واقعة قانونية يرتب القانون أثراً على حدوثها ، هذا الأثر هو التعويض الذي عنيت به المواد من (256) الى (292) من القانوني المدني ، وعقد البيع مثلاً هو تصرف قانوني تتجه ارادة الطرفين فيه الى استلام وتسليم المبيع ودفع وقبض الثمن ونقل الملكية وضمان العيوب وغيرها من الآثار التي تضمنتها المواد من (465) الى (556) من القانون المدني 0

– والتسبيب يستلزم ابتداء النظر في الوقائع القانونية أو التصرفات القانونية التي قامت الدعوى على أساس منها وتحديد هذه الوقائع أو التصرفات ، وهو ما يمكن أن يسمى بالتكييف القانوني للدعوى ، فالتكييف هو الخطوة السابقة على تحديد النصوص الواجبة التطبيق وهو ضرورة لازمة لتحديد هذه النصوص ، إذ بدونه لا يمكن الانتقال الى مرحلة تحديد النصوص ذات العلاقة للتطبيق على الوقائع والتصرفات القانونية 0

– ومن ثم كان التسبيب يستلزم تحديد النص القانوني ( وهنا النسبة الى القانون بشكل عام ) الذي يتطابق مع الوقائع ( الواقعة القانونية أو التصرف القانوني المبسوط في لائحة الدعوى ) ، ومن ثم بيان لماذا تم اختيار هذا النص القانوني من حيث المبدأ وبالتالي وجه أو أوجه انطباق النص القانوني على الوقائع ، أي كيف تم افراغ الوقائع في القالب القانوني أو اذا شئت كيف تم انزال النص القانوني على الوقائع 0

– إلاَّ أن المسألة في التطبيق العملي ليست بهذه البساطة بل في كثير من الأحيان يلزم ذهنياً تفكيك أو تجزئة الوقائع الى عناصر أو جزئيات ، والتعامل مع النص القانوني بنفس الكيفية تفكيكاً أو تجزئة ، ومن ثم بيان كيفية تطابق أو انطباق هذه المفكوكات أو هذه الجزئيات على بعضها البعض وهذه الابانة الأخيرة هي جوهر عملية تسبيب الأحكام 0

– وفي معرض تحديد النصوص القانونية الواجبة الإنطباق على الوقائع والتصرفات المستخلصة يأتي دور المحكمة في تفسير النصوص القانونية ، ذلك أن تحديد النص القانوني مرهون بفهم المحكمة لمدلول النص ، ومن هنا كان فهم النص من خلال تفسيره من الأهمية بمكان ، وقد ذهب البعض الى أن التسبيب مرتبط بالدرجة الأولى بمدى قدرة المحكمة على فهم النصوص وتفسيرها ، هذا التفسير ” الذي يمكن أن يؤدي الى الخروج على المعنى الذي قصده القانون اذا ما تبين للمحكمة مخالفته للعدالة ” ( توفيق حسن فرج – المدخل للعلوم القانونية – ط 1993 – الدار الجامعية- بيروت ) 0

– وإذا تم تحديد الوقائع أو التصرفات القانونية التي تقوم عليها الدعوى ومن ثم حددت النصوص ذات العلاقة التي تنطبق على هذه الوقائع أو التصرفات أو التي تحكمها ، أو قُلْ تلك النصوص التي تحدد الآثار القانونية المترتبة على هذه الوقائع أو التي اتجهت اليها تلك التصرفات ، اذا تم ذلك بدأ الدخول في المرحلة الجوهرية الأساسية من عملية تسبيب الأحكام ، وهو كما أسلفنا تعليل الربط بين تلك الوقائع أو التصرفات وبين تلك النصوص 0

– والآن ما هي الوسائل التي تربط بها المحكمة بين الوقائع والتصرفات وبين نصوص القانون بحيث تخرج نتيجة منطقية مفادها أن هذه الوقائع أو التصرفات تحكمها هذه النصوص دون غيرها ، هذه الوسائل لا بد أن تعبر عن تفكير منهجي سليم ، هذا التفكير يمكن التعبير عنه من خلال المثال التالي :-

– تتلخص الوقائع المستخلصة أن وزارة المالية / الخزينة العامة قد رفعت دعوى ضد شركة تحت التصفية تطالب بتقرير الأولوية لها في تسديد الضرائب المستحقة على الشركة على المبالغ المستحقة للعاملين في الشركة لإدارة التصفية ، ومن الوقائع المستخلصة أن الشركة استمرت بعد صدور قرار التصفية في اشغال العقار المستأجر وأن عدداً من العاملين في الشركة استمروا في العمل مع المصفي بعد صدور قرار التصفية 0

– وتنص المادة (256) من قانون الشركات على أن ” يسدد المصفي ديون الشركة وفق الترتيب التالي بعد حسم نفقات التصفية بما في ذلك أتعاب المصفي وتحت طائلة البطلان في حال المخالفة لهذا الترتيب : أ – المبالغ المستحقه للعاملين في الشركة ب – المبالغ المستحقة للخزينة العامة والبلديات جـ – بدلات الإيجار المستحقة لمالك أي عقار مؤجر للشركة د – 00000

– الوقائع أعلاه محددة ، والنص القانوني الذي يطبق على هذه الوقائع تم تحديده أعلاه ، والتفكير المنهجي السليم يتجه ابتداءً الى إعمال ترتيب الأولويات الواردة في المادة (256) من قانون الشركات ، ولكن اعمال هذا الترتيب سوف يثير اشكالات لا بد من حلها أيضاً عن طريق التفكير المنهجي السليم ، هذا التفكير يعني أن يتم التدقيق في عبارة ” المبالغ المستحقة للعاملين في الشركة ” وما اذا كانت تشمل أو لا تشمل المبالغ المستحقة لعمال الشركة الذين استمروا في العمل على التصفية ، وهذا التفكير يقضي أن يتم التدقيق في عبارة ” بدلات الإيجار المستحقة لمالك أي عقار مؤجر للشركة ” ، وما اذا كانت هذه البدلات تشمل بدلات الإيجار عن المدة التالية لتاريخ صدور قرار التصفية ، إن التفكير المنهجي السليم يجب أن يضع المبالغ المستحقة لعمال الشركة الذين استمروا في العمل بالتصفية مع مصروفات التصفية فيكون لها الأولوية في الدفع قبل الحقوق العمالية المستقرة بذمة الشركة قبل التصفية ، كما أن التفكير المنهجي السليم يقضي أن تدخل بدلات الإيجار بعد تاريخ قرار التصفية في مصروفات التصفية ويكون لها أولوية بالدفع قبل المبالغ المستحقة للعاملين في الشركة ، وبعبارة أخرى يجب أن يذهب الحكم الى تقرير ما يدخل أو لا يدخل في مصاريف التصفية والى أن ” عبارة المبالغ المستحقة للعاملين في الشركة ” لا يدخل فيها المبالغ المستحقه للعاملين الذين استمروا بالعمل في التصفية عن مدة عملهم في التصفية ، وأن عبارة ” بدلات الإيجار المستحقة لمالك أي عقار مؤجر للشركة ” لا تستوعب بدلات الإيجار المستحقة عن نفس العقار عن المدة بعد تاريخ صدور قرار التصفية أو بدلات الإيجار عن عقار أو عقارات استأجرتها الشركة بعد تاريخ صدور قرار التصفية 0

– كما أن وسائل ربط المحكمة بين الوقائع والتصرفات وبين نصوص القانون لا بد أن تعتمد على إعمال المنطق السليم ، وليس بالضرورة أن يكون النص القانوني معبراً عن هذا المنطق ، بل على المحكمة استجلاب هذا المنطق من عملية المزاوجة بين الوقائع والنص القانوني ، ويمكن التعبير عن ذلك من خلال المثال التالي :-

– تتلخص الوقائع المستخلصة أن مالكاً لأحد البيوت ( في منطقة ما من عمان الغربية المصنفة تحت ( أ ) لغايات التنظيم ويسكنها علية من القوم ) قد رفع الدعوى ضد جاره الملاصق من الجهة الغربية لازالة مضار جوار غير مألوفة ناتجة عن اقامة هذا الأخير مبنى مرخصاً يستعمله لغايات الحفلات والشواء والمبنى يقع في منطقة الإرتداد القانوني بين العقارين ، بالإضافة الى ” طابون ” في نفس منطقة الإرتداد يعلو ارتفاعه عن ارتفاع السورين بين العقارين ، وتنص المادة (1027/2) من القانون المدني على (( ليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار اذا تجاوزت الحد المألوف على أن يراعي في ذلك العرف وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة للآخر والغرض الذي خصصت لـه ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق )) 0

– إن المنطق السليم يقضي بأن المضار المشار اليها في الوقائع هي مضار غير مألوفة يتوجب إزالتها ، لأن المنطقة مصنفة تنظيم ( أ ) ، ولأن العقار المتضرر في الجهة الشرقية من العقار الناتج عنه الضرر ، ولأن منطقة مثل هذه المنطقة لا تقام فيها طوابين ولأن العقارين يستعملان للسكن ، ولأن استعمال المبنى المُحْدث للضرر هو للحفلات والشواء 0

– ولما كانت اللغة هي الوعاء الذي يحتوي مفهوم النص القانوني ، فالمشرع عندما يعرب عن ارادته لسن قانون ما ، انما يودع الفاظ وقوالب اللغة هذه الإرادة التي غالباً ما تعبر عن قواعد ملزمة ، فقد كان اتقان اللغة أحد المهارات الأساسية المطلوب توفرها فيمن يمارس القضاء ، ولعل اللغة العربية هي من أقوى اللغات في التعبير ، وبالتالي في الإقناع ، ولما كانت عملية التسبيب تهدف الى حد كبير الى الإقناع فإن أحد وسائل ربط الوقائع المستخلصة بالنصوص هو التعبير عن كيفية انطباق تلك النصوص على هذه الوقائع ، فاستعمال قوة اللغة ( التعبير ) مرادفاً لقوة المنطق القائم على مقدمات تؤدي الى نتائج تعتبر وسيلة هامة من وسائل ربط الوقائع بالنصوص 0

– وإذا كان من أهداف التسبيب الرئيسية اقناع المتقاضين وخاصة المحكوم عليهم وجمهور المتقاضين والمشتغلين بالقانون والمجتمع كافة ، وأن الأحكام التي تصدرها المحاكم هي أقرب ما تكون الى تحقيق العدالة التي تمثلها نصوص القانون ، اذا كان الأمر كذلك ، فإن هذا الإقناع لا بد أن ينبع من اقتناع المحكمة بأن الحكم الذي أصدرته هو الأكثر تعبيراً عن الحقيقة القانونية التي ينبيء عنها النص القانوني ، هذا الإقتناع لـه وسائله الخاصة ( التي ليست هي بالضرورة وسائل الإقناع ) التي ترتبط بادراك المحكمة أن القرار الذي اتخذته ( الحكم ) هو دون غيره الذي يمثل عين الحقيقة القانونية التي يعبر عنها النص القانوني 0

– ومن هنا يمكن القول أن تسبيب الأحكام يمر في مرحلتين الأولى مرحلة تكوين القناعة لدى المحكمة بأن القرار الذي اتخذته بالإستناد الى نص أو نصوص معينة في القانون هو الأصح والأكثر ملائمة للوقائع التي استخلصتها ، والمرحلة الثانية هي مرحلة توصيل هذه القناعة ( اقناع ) الى المحكوم عليه وغيره ، فإذا كانت المرحلة الأولى هي مرحلة اقتناع المحكمة ، فإن المرحلة الثانية هي بيان لماذا اقتنعت المحكمة بالحكم الذي أصدرته وهذا هو التسبيب 0

– لقد أصبح واضحاً لدينا أن تسبيب الأحكام يعتمد على وقائع مستخلصة لكن استخلاص هذه الوقائع ليس من التسبيب ، وأن تحديد النص القانوني الواجب الاعمال مسألة ترتبط بمفهوم تكييف الدعوى ، وأن التسبيب فقط هو عملية الربط بين الوقائع المستخلصة والنصوص المعتمدة للإعمال ، ومن هنا فإنه اذا كان استخلاص الوقائع سليماً وتحديد النصوص سليماً أمكن الحديث عن تسبيب وعن تسبيب سليم أو غير سليم ، أما اذا كان استخلاص الوقائع فيه خطأ فنحن هنا أمام خطأ في استخلاص الوقائع ( لا علاقة لـه بالتسبيب ) يترتب عليه بالضرورة تحديد نصوص غير سليمة وقد يكون التسبيب هنا سليماً من الناحية النظرية لا الواقعية ، وإذا كنا امام وقائع مستخلصة سليمة ولكن امام تحديد غير سليم للنصوص أصبحنا امام خطأ في تطبيق القانون ( لا علاقة لـه بالتسبيب ) 0

– ولما كانت عملية التسبيب هي الربط بين الوقائع المستخلصة والنصوص ذات العلاقة بوسائل مختلفة ، فإن عدم وجود أي أثر لهذه الوسائل يمكن أن يوصف بانعدام التسبيب ووجود بعض هذه الوسائل التي لا تكفي لاقامة دعائم الحكم يمكن أن يوصف بعدم كفاية التسبيب أو قصور في التسبيب ، أما وجود خطأ في استخلاص الوقائق وتطبيق نصوص غير ملائمة أو وجود خطأ في تحديد النصوص ذات العلاقة فلا يمكن اطلاق وصف انعدام أو قصور أو عدم كفاية التسبيب على أي منهما ، وهذا ينسجم تماماً مع المادة (198) من قانون أصول المحاكمات المدنية عندما جعلت أحد أسباب الطعن بالتمييز عدم بناء الحكم على أساس قانوني بحيث لا تسمح أسبابه لمحكمة التمييز أن تمارس رقابتها ، ومن المفروغ منه أن رقابة محكمة التمييز هي رقابة قانونية وليس على الوقائع ، يؤيد ذلك كذلك ، أن المادة (160) من قانون أصول المحاكمات المدنية أوجبت أن يشتمل الحكم على : عرض مجمل لوقائع الدعوى ، طلبات الخصوم ، خلاصة موجزة لدفوعهم ودفاعهم الجوهري ، أسباب الحكم ، منطوق الحكم ، حيث من الواضح أن أسباب الحكم هذه مستقلة عن الوقائع ، مستقلة عن الدفاع والدفوع ، مستقلة أيضا عن المنطوق 0

– كنا قد أشرنا سابقاً الى أن محكمة التمييز تصدر نوعين من الأحكام ، الأول في نطاق وظيفتها الأساسية في مراقبة المحاكم الأدنى في تطبيقها للقانون ، وهذه هي الوظيفة الأصلية لمحكمة التمييز ، والثاني عندما تحكم بصفتها محكمة موضوع لا محكمة قانون ، أي عندما تحكم في موضوع الدعوى وفق نص الفقرة (4) من المادة (197) ونص الفقرة (2) من المادة (202) من قانون أصول المحاكمات المدنية 0

– وإذا كانت أحكام محكمة التمييز في موضوع الدعوى ( وهي نادرة ) ينطبق بشأنها ما ينطبق على أحكام محكمتي الدرجة الأولى والثانية من ناحية التسبيب فإن أحكام محكمة التمييز وهي تراقب تطبيق محكمتي الدرجة الأولى والثانية للقانون هي أحكام لا ينطبق عليها قواعد التسبيب التي أشرنا إليها فيما سلف 0

– فالمادة (198) من قانون أصول المحاكمات المدنية قد عددت على سبيل الحصر الحالات والأسباب التي يجوز الطعن فيها – في الأحكام – أمام محكمة التمييز ، وتسبيب محكمة التمييز هنا لأحكامها عندما تنقض الحكم المطعون فيه قائم على بيان توفر الحالة أو السبب الذي يعيب الحكم ، وبالتالي إذا ثبت لدى المحكمة – محكمة التمييز – أن الحكم مشوب بهذا السبب نقضته وأعادت الأوراق ، وجميع الحالات أو الأسباب المشار إليها متعلقة اما بمخالفة القانون أو بالخطأ في تطبيق القانون أو بالخطأ في فهم القانون وتفسيره ، ومن هنا يقوم تسبيب أحكام محكمة التمييز بنقض الأحكام المطعون فيها على بيان العيب الذي لحق الحكم المطعون فيه ( والذي لا بد أن يكون نتيجة لأحد الحالات المبينة حصراً في المادة 198 من أصول المحاكمات المدنية ) 0

رابعاً : الخلاصـــــــــة :-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– من المسلَّم به أن تسبيب الأحكام الحقوقية ذو أهمية بالغة لا مجال لإنكارها، ويكفي للدلالة عليها أن التسبيب لازم حتى تتمكن المحكمة العليا ( التمييز) من مراقبة المحاكم الأدنى في تطبيقها للقانون 0

– يشتمل قانون أصول المحاكمات المدنية وقانون محاكم الصلح على عدة نصوص تتعلق بتسبيب الأحكام ، ولكن هذه النصوص لا ترتب جزاء بطلان الحكم على واقعة عدم تسبيبه أو قصور تسبيبه ، وإن كان بعضها يشير الى أن عدم تسبيب الحكم أو قصور تسبيبه يصلح سبباً للطعن فيه بالتمييز 0

– إن المفهوم الصحيح والدقيق للتسبيب هو بيان الأسباب التي دعت المحكمة الى انزال حكم نص قانوني بعينه أو نصوص قانونية بعينها على الواقعة أو الوقائع التي استخلصتها ، فاستخلاص الوقائع مهما يبذل فيه من جهد ليست من التسبيب ، والخطأ في اختيار النص القانوني المناسب للوقائع المستخلصة ليس من التسبيب 0

– إن قضاء محكمة التمييز في نقض الأحكام يخلط بين انعدام التسبيب والقصور في التسبيب وبين الخطأ في تطبيق القانون وبين الخطأ في استخلاص الوقائع ، وذلك ناتج عن عدم اعتماد المفهوم الصحيح والدقيق للتسبيب0

– إن التسبيب السليم هو الذي يعتمد التفكير المنهجي السليم ويتبع المنطق السليم في عملية إفراغ الوقائع المستخلصة في القوالب القانونية أو في المزاوجة بين الوقائع والنصوص 0

– إن التسبيب هو قناعة تترسخ في ذهن المحكمة ثم تتحول باعتماد وسائل عدة الى عملية إقناع للمحكوم عليه ولجمهور المتقاضين ، وعملية الاقناع هذه نابعة من قناعة المحكمة بأن الحكم الذي قررته هو دون غيره يمثل عين الحقيقة القانونية التي يعبر عنها النص القانوني الذي اعتمدته 0

– إن حالةانعدام التسبيب تتوفر فقط اذا لم يبين الحكم أي رابط بين الوقائع المستخلصة ونصوص القانون المعتمدة ، وحالة القصور في#التسبي蘨!تتوفر فقط اذا اقتصر الحكم على#蘨ًان سبب أو أكثر غير كاف لحمل تطبيق الوقائع المستخلصة على النصوص القانونية المعتمدة 0

– إن قضاءنا الأردني مدعو الى صياغة نظرية في تسبيب الأحكام الحقوقية لا يختلط فيها الخطأ في استخلاص الوقائع مع الخطأ في تطبيق القانون ، تكون مقصورة على المزاوجة بين الوقائع المستخلصة والنصوص المعتمدة 0

– إن صياغة نظرية في تسبيب الأحكام الحقوقية على القواعد التي أسلفنا من المؤمل أن يترتب على إعمالها كافة الأهداف التي أوضحناها في بداية هذا البحث بدءاً من ضمان عدم القضاء بناءً على الهوى وانتهاءً باقتناع الكافة بالعدالة القضائية 0