حجية محاضر الضابطة القضائية

بقلم :المختارالسريدي

إن المحاضر التي تحررها الضابطة القضائية بشأن الجرائم المرتكبة ليست لها نفس القيمة القانونية أمام العدالة وليست على درجة واحدة ، بل إن قوتها الثبوتية تختلف بحسب طبيعة كل محضر وبحسب الوصف القانوني للجريمة موضوع المحضرجناية كانت أم جنحة أم مخالفة، وهكذا تتنوع محاضرالضابطة القضائية من حيث حجيتها إلى أنواع ثلاثة سنقوم بمعالجتها من خلال الفروع الثلاثة التالية :

– محاضر يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس .

– محاضر تعد مجرد معلومات .

– محاضر يوثق بمضمنها إلى أن يطعن فيها بالزور .

الفرع الأول : محاضر يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس :

لقد نص المشرع المغربي على هذا النوع من المحاضر في الفصل 290 من قانون المسطرة الجنائية الدي جاء فيه ما يلي : « المحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجنح والمخالفات ، يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات . » وهذا يعني أن جميع محاضرالبحث التمهيدي في الجنح والمخالفات يوثق بمضمونها مبدئيا ، لأنها لا تعدو أن تكون نسخة طبق الأصل للوقائع ، تصور الجرائم التي وقعت كما هي دون زيادة ولا نقصان وبكل صدق وتجرد ومسؤولية ، وتنقلها إلى القضاء بصفته المؤهل الوحيد في تكييفها وتحقيقها والحكم فيها ، ولكن مع دلك يمكن للمتهم ولأي متضرر إثبات ما يخالف تلك المحاضر، مع استعمال جميع وسائل الإثبات الممكنة والمتاحة والمتوفرة لإبطال مضمونها ولإبطال كل ضر مسه .

وفي هدا الصدد يقول قضاء محكمة النقض المغربية بأنه لابد في البينة المعاكسة أو وسيلة الإثبات المضادة أن تكون من نفس درجة وقوة المحضر المحرر في شأن الجنح والمخالفات ، حتى يمكن أن تبطل المحضر المدكور أو تدحض ما جاء فيه .

ويقصد بمضمن المحضر جميع ما تم تضمينه وتدوينه وتحريره من طرف ضابط الشرطة القضائية المختص من وقائع وأحداث لها صلة بالجريمة المرتكبة ، ولا شك أن سلطة المحكمة التي منحها إياها القانون في تقدير صحة الحجة المعاكسة وقبول إثبات عكس مضمن المحضر يمثل قمة الحرية التي يتمتع بها القاضي الجنائي في تكوين اقتناعه الوجداني، هدا الأخير الدي يجب عليه عند استبعاده للوقائع والأحداث التي شهد ضابط الشرطة القضائية بمعاينتها وقام بتدوينها في محضره ، أن يبين وسائل الإثبات المضادة والأسباب التي أقنعته بذلك الإستبعاد وإلا كان الحكم الصادر في القضية معرضا للنقض .

وهدا ما زكاه المجلس الأعلى ( محكمة النقض حاليا ) في قراره تحت عدد 650 صادر بتاريخ 7 يونيو 1962 في الملف عدد 8705 الدي جاء فيه ب- « أن قوة الإثبات التي للمحاضر المقامة في شأن الجنح والمخالفات من لدن ضباط الشرطة القضائية وجنود الدرك والموظفين الموكل إليهم ذلك قانونا ، لا تنسحب إلا على ما شاهده أو سمعه أو قام به محررو تلك المحاضر بأنفسهم ، وليس على ما تضمنته تصريحات تلقوها من غيرهم شأنها أن تحمل الصدق والكذب . وعليه إذا كان المحضر متضمنا لإقرار المتهم أمام ضابط الشرطة القضائية المحررله ثم رجع المتهم عن إقراره أمام المحكمة ، فإنه يعود إلى هذه بما لها من سلطة تقديرية مطلقة بخصوص وقائع النازلة أن تقبل ذلك الرجوع وتعتبرأن ما صرح به المتهم لدى السلطة غير مطابق للوقائع . » (1)

وجاء في قرار آخر صادر عن المجلس الأعلى كدلك تحت عدد 1581 بتاريخ 3 مارس 1964 ما يلي : « تطبيقا للفصلين 291 و 292 من قانون المسطرة الجنائية ، كل محضر حرره بصفة قانونية أحد ضباط الشرطة القضائية يوثق ما لم يثبت ما يخالف ذلك ، بما ضمن فيه واضعه ، وهو يزاول مهام وظيفته ، أنه عاينه أو تلقاه شخصيا في شأن الأمور الراجعة إلى اختصاصه . وثيقة من هذا النوع تشمل التصريح الذي يؤكد بموجبه ضابط الشرطة القضائية موقع المحضر أنه انتقل شخصيا فورا إلى مكان الحادث ويسجل المعلومات المأخوذة في عين المكان . » (2)

فمن خلال هدين القرارين الصادرين عن أعلى هيئة قضائية في المغرب يتضح بأن محاضر الضابطة القضائية في الجنح والمخالفات يوثق بمضمنها إلى أن يثبت العكس ، لأن دور ضابط الشرطة القضائية ينحصر فقط في نقل وتدوين ما شاهده وما سمعه وما عاينه دون زيادة ولا نقصان أما ما دون دلك فيخضع لسلطة المحكمة .

ويمكن إثبات عكس محاضر الجنح والمخالفات بعدة وسائل نذكر منها :

أولا : دراسة المحضر وقراءته قراءة جيدة :

إن محضرالضابطة القضائية مثله مثل الحكم القضائي لا يجب أن يتضمن تناقضات أو يحوي مفارقات بل يجب أن يكون دقيقا ومضبوطا ومتناسقا ، فإذا دون ضابط الشرطة القضائية مثلا تصريح ظنين بأن هذا الأخيرقد دخل إلى المنزل موضوع الجريمة بناء على طلب من سيدته من أجل إصلاح صنابير المياه الصالحة للشرب بحكم أنه يشتغل رصاصا واستغل الفرصة ليقوم بالتحرش بالسيدة المدكورة كما تدعي في أقوالها ، ثم سجل الضابط بعد حضوره مسرح الجريمة ومعاينة الإصلاحات التي قام بها الرصاص أنه وبعد انتهاءه من عمله وقعت مشاداة بينه وبين السيدة حول الثمن تطور إلى اتهامه بالتحرش ، فإن هذا التناقض يجعل المحضر يفقد قوته الثبوتية ولا يمكن للمحكمة بالتالي اعتبار ما ورد في تصريح سيدة المنزل التي اتهمت الرصاص بالتحرش بها والحال أنها لم تكن راضية عن الثمن الدي طالبه بها مقابل خدماته ، وهدا ما أكده المجلس الأعلى ( محكمة النقض حاليا ) في عديد قراراته من بينها القرار عدد 287 الصادر بتاريخ 18-1-1973 في الملف الجنحي رقم 24123 والذي جاء فيه : « لما كان الفصل 291 من قانون المسطرة الجنائية لم يحدد نوعية الحجج التي يكون من شأنها أن تعارض التنصيصات الواردة في محاضر ضابط الشرطة القضائية والتي يوثق بمضمنها ما لم يثبت ما يخالف ذلك ، فإنه يسوغ لقضاة الموضوع من غير أن يكونوا قد خرقوا نص الفصل المذكور أن يعتمدوا سعيا وراء دحض ما جاء في المحضر على الصور الفوتوغرافية التي التقطها رجال الدرك أنفسهم و أرفقوها بمحاضرهم . » (3).

ثانيا : الوثائق الرسمية :

يقصد بالوثائق الرسمية التي يمكن للمتهم المفترض أن يحتج بها ضد ما هو مدون بمحضر الضابطة القضائية مختلف الأوراق والمستندات والأدلة الكتابية التي توجد بحوزته والتي تمكنه من دفع ما جاء به المحضر ، ويكفي أن نسوق كمثال على دلك الحالة التي يضمن فيها ضابط الشرطة القضائية أن الظنين قد تمكن من الهرب من سطح المنزل الدي كان مسرحا لضجيج وفوضى بسبب السكرومعاقرة الخمر في الوقت الذي فوجئ بدورية الأمن تجوب المكان (4) ، غير أن المتهم المفترض يستطيع إثبات أنه في تلك اللحظة كان متواجدا خارج بلدته أو كان في مهمة رسمية لها علاقة بوظيفته أو مهنته أو عمله ….(5)

ثالثا : شهادة الشهود :

يمكن إثبات عكس المحاضر والتقارير المقررة في شأن التثبت بالجنح بشهادة الشهود، تمشيا مع ما هو مبين في المادة 296 من قانون المسطرة الجنائية التي تؤكد على أن الحجة

تقام بشهادة الشهود وفق المقتضيات الواردة في المواد من 325 إلى 346 من نفس القانون ، ولو أن النيابة العامة كثيرا ما تحاول الإستدلال بمقتضيات المادة 292 من قانون المسطرة الجنائية للحيلولة دون إثبات عكس مضمون محاضرالضابطة القضائية بشهادة الشهود ، والواقع أن المقتضيات المذكورة لا يمكن تطبيقها إلا إذا تعلق الأمر بالمحاضر التي لا يطعن فيها إلا بادعاء الزور.

إلا أن القضاء الجالس كان له موقف آخر دلك أن المجلس الأعلى ( محكمة النقض حاليا ) قد ذهب في عدد من قراراته إلى أن البينة المعاكسة أو بمعنى آخر وسيلة الإثبات المستعملة لدحض ما ضمن في محضر الضابطة القضائية يجب أن تكون من نفس قوة ودرجة المحضر، وهكذا لم يقبل شهادة الشهود كبينة معاكسة لأن بعض الشهود لم يعودوا موضع ثقة وأن مصالح ومآرب كثيرة هي من قد تتحكم فيهم وتدفعهم في الغالب إلى عرض شهاداتهم ، وإذا فقد المحضر قوته الثبوتية فلا يمكن الإعتماد عليه في الإثبات ، ويبقى للمحكمة إثبات الجريمة بأية وسيلة من وسائل الإثبات الممكنة بما في ذلك الإقتناع الصميم للقاضي ، و إذا لم تتوفر هذه الوسائل ولم تقتنع المحكمة بثبوت الجريمة يتعين عليها التصريح ببراءة الماثل بين يديها .

والإقتناع الصميم للقاضي لا يعني حريته المطلقة في إصدار أحكامه يدين من يشاء ويبرئ من يشاء ويخفف العقوبة عمن يشاء ، فإذا ثبت ما يخالف المحضر فلا يمكن للقاضي أن يحكم حسب اعتقاده الصميم إلا إذا استطاع تعليل ذلك ، فالقاضي ملزم بإظهار كل عناصر الجريمة والوسائل التي يعتمدها في إصدار حكـمه بالإدانة ، ولا يمكن له التثبت من وجــود ما يخالف المحضر والتنصيص على ذلك بالحكم ثم التصريح أن الجريمة قائمة حسب اعتقاده الصميم وبما يملكه من سلطة تقديرية.

الفرع الثاني : محاضر تعد مجرد معلومات :

فيما عدا محاضرالضابطة القضائية في شأن التثبت من الجنح والمخالفات التي ورد بيانها في المادة 290 من قانون المسطرة الجنائية والتي يوثق بمضمنها إلى أن يثبت ما يخالفها ، فإن أي محاضر أو تقارير أخرى لا تعتبر إلا مجرد معلومات وبيانات حسب ما هو منصوص عليه في المادة 291 من نفس القانون يمكن للمحكمة أن تستأنس بها أوأن تستبعدها تلقائيا ولو لم يطعن فيها المتهم ، وهذه المحاضر تخضع هي الأخرى للسلطة التقديرية للقاضي ، وهذا ما أكده القضاء في عدد من القرارات التي صدرت عنه في الموضوع نذكر منها على سبيل الدكر :

* القرار الجنائي الصادر عن المجلس الأعلى ( محكمة النقض حاليا ) تحت عدد 95 بتاريخ 3 دجنبر 1970 والذي جاء فيه: « تكون محكمة الجنايات قد طبقت القانون تطبيقا سليما عندما ارتكزت على اعتراف المتهم المسجل بمحضر الشرطة الذي اقتنعت المحكمة بما جاء فيه ، لأن ما حواه من اعترافات يخضع تقديره لقضاة الموضوع في حدود سلطتهم المطلقة ، إن عدم تقديم أدلة الجريمة وعرضها على المتهم لا يقع تحت طائلة البطلان، سيما وأنه لم يثبت أن المتهم طالب بذلك .

إن أجزاء الحكم يكمل بعضها البعض الآخر لكون الحكم يكون وحدة واحدة ، ولهذا فإن الحكم المطعون فيه لم يخرق القانون عندما لم يعترض منطوقه لبيان الجرائم المعاقب عليها إذ ورد ذلك البيان في باقي تنصيصات الحكم . »(6).

* القرار الجنائي الصادر عن المجلس الأعلى تحت عدد661 بتاريخ 02 يونيه1966 والذي جاء فيه : « أنه بمقتضى الفصلين 291 و 293 من قانون المسطرة الجنائية فإن المحاضر والتقارير في الجنايات لا تعتبر إلا مجرد بيانات لقضاة الموضوع أن يبتعدوها أو يعتمدوها حسب اعتقادهم الصميم . » (7).

* القرار الجنائي الصادر عن محكمة الإستئناف بالجديدة تحت عدد 680 بتاريخ 01يوليوز 2010 ملف عدد 10/165 الدي جاء فيه : « … وحيث أن المتهم وإن اعترف تمهيديا فإنه ينكر في باقي مراحل البحث والتحقيق . وحيث أن الإعتراف التمهيدي الدي لا تعززه أية قرينة لا يعتبر وسيلة إثبات للإدانة . وحيث أن الشك يفسر لمصلحة المتهم وأن الشك يحوم حول اتهام المتهم الدي ينكر في سائر المراحل باستثناء ما اعترف به تمهيديا ، وأن الإعتراف التمهيدي لاقيمة إثباتية له لوحده … وتبعا لدلك فإن قرارغرفة الجنايات كان على غير صواب عندما أدانه من أجل المنسوب إليه ويتعين إلغاؤه . »

ويشمل هذا النوع من المحاضرالدي يعد مجرد معلومات ما يلي :

أولا : محاضر البحث التمهيدي في الجنايات :

إن غرفة الجنايات تستأنس بهذا النوع من محاضرالبحث التمهيدي وتستعين بما ورد فيها من وقائع و تصريحات عند استنطاق المتهم في الجلسة ، ولكن لا تعتمدها لوحدها كوسيلة إثبات كافية في إصدار أحكام الإدانة .

وبناء على دلك قرر المجلس الأعلى ( محكمة النقض حاليا ) نقض حكم أدان المتهم بجناية بناء على اعترافه المسجل بمحضر البحث التمهيدي حيث جاء في هدا الحكم ما يلي « ولئن كانت المحكمة حرصت في حكمها المطعون فيه أن الإعترافات لدى الضابطة القضائية وإن كان مجرد بيان ، فإنها قد اقتنعت بما جاء فيه ، ولكنها لم تعلل وجه هذه الإقتناع بما يؤكده ويسانده من قرائن أخرى كدلالة المتهم على الأماكن المسروقة أو العثور بين يديه على المسروقات كلا أو شهادة شهود جعلها الكل تقتنع بتلك الإعترافات وتطمئن إليها . » (8).

ثانيا : المحاضر والتقارير التي يحررها موظف عمومي لا ينتسب إلى الضابطة القضائية :

وخيرمثال على ذلك التقرير الإداري الذي يضعه مدير أو رئيس إدارة عمومية أو شبه عمومية بشأن ضبط أعمال اختلاس أو نصب أوسرقة أو رشوة أو تزويرأو شطط أو انحراف في استعمال السلطة ، فإذا كان الموقع على المحضر أو التقرير لم يؤهله القانون للتثبت من الجرائم أي لا ينتمي إلى جهاز الضابطة القضائية ، اعتبر كل ما ورد في تقريره أو محضره المدكور مجرد معلومات وبيانات كضبط الفاعل أو الموظف متلبسا بالفعل أو تم حجز أدوات أو آثار الجريمة لديه .

ثالثا : المحاضر والتقارير الصادرة عن غير الموظف العمومي :

ويدخل في إطار دلك المحاضر والتقاريرالتي تضعها الشركات والمقاولات والتعاونيات والجمعيات والهيئات على اختلاف أنواعها سواء كانت مهنية أو حرفية بشأن ضبط أحد أعضائها أومنتسبيها أو مستخدميها أو العاملين لديها متلبسا بفعل جرمي معين أو وجدت محجوزات أو أدوات أو أشياء لديه أو آثار أو علامات عليه ، فهده التقارير والمحاضر وما ضمن فيها تبقى مجرد معلومات وبيانات يمكن الإستأنس بها ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ملزمة أو تغير من الأمور شيئا . ولو أن الواقع قد أثبت أنه في غالب الحالات ما يتم تبليغ الضابطة القضائية من أجل القيام بالمتعين حتى تتم الإجراءات بالشكل القانوني المطلوب .

الفرع الثالث : محاضر يوثق بمضمنها إلى أن يطعن فيها بالزور

ينص الفصل 292 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي : « إدا نص قانون خاص على أنه لايمكن الطعن في مضمون بعض المحاضر أو التقاريرإلا بالزور، فلا يمكن – تحت طائلة البطلان – إثبات عكسها بغير هده الوسيلة . »

فهده المقتضيات تشير وبوضوح تام إلى أن المحاضر والتقارير التي يحررها موظفون أو أعوان مؤهلون لدلك وبناء على نص خاص في القانون لا يجوز الطعن فيها إلا بالزور، ولو أن صياغة هده المادة القانونية لا تفيد بشكل جلي المعنى المقصود منها ، وهو أن المحاضرو التقارير التي ينص القانون صراحة على عدم جواز الطعن فيها إلا بالزورلا يمكن معارضتها بشهادة الشهود أو بالقرائن أو بالخبرة أو بغير ذلك من وسائل الإثبات ، كما لا يحق للمحكمة أن تستبعدها اعتمادا على وسيلة من هذه الوسائل ، وبعبارة أخرى فإن هذا النوع من المحاضر هو استثناء من المبدأ العام في الإثبات الجنائي ، ولا تملك المحكمة إزاءه السلطة التقديرية التي خولها إياها القانون بالنسبة لسائر وسائل الإثبات الأخرى .

وغني عن البيان أن الحجية المطلقة التي تثبت لهذه المحاضر تقتصر على الوقائع التي صرح محرر المحضر بأنه شاهدها أو حدثت أمامه وقت تحرير المحضر، كوقائع الجريمة وآثارها التي يشاهدها بعينيه وكيفية ضبطه لهذه الآثار ووصفه لمسرح الجريمة ، وإذا أدلى المتهم أمامه باعتراف أو أدلى له أشخاص آخرون بتصريحات فإن المحضر يعتبر حجة قاطعة على صدور الإعتراف من المتهم وعلى صدور التصريحات من الأشخاص الآخرين بالشكل الذي ضمنت به في المحضر، لأنها تعتبر من الوقائع التي حدثت أمام محرري المحضر.

أما مضمن الإعترافات والتصريحات هل يعتريه صدق أم كدب ، فيخضع لتقدير المحكمة لأنه يبقى منسوبا لصاحبه ، وكان ما فعل الموظف أو العون أنه سجله كما سمعه وصرح به بين يديه ، ولا تسري قوة الإثبات القاطعة كذلك على استنتاجات الموظف أو العون التي يضمنها في محضره حتى لو كانت هذه الإستنتاجات مؤيدة بوسائل علمية أو خبرة تقنية أوفنية.

فكل ذلك يبقى خاضعا للسلطة التقديرية للمحكمة (9)، وتقتصر الحجية القطعية على الوقائع التي شاهدها الموظف أو حدثت أمامه حين كتابة وتحريرالمحضر، وقد تعرض المشرع لهذا النوع من المحاضر في عدة نصوص خاصة متفرقة ندكر منها :

أولا : المادة 71 من قانون الدرك الملكي ( ظهير14 يناير 1958) :

تنص هذه المادة في فقرتها الأولى على ما يلي : « تكون المحاضرموطن ثقة لدى المحاكم القضائية إن لم يثبت خلاف ما تتضمنه من مخالفات أو بعض الجنح يعهد صريحا للدرك بمشاهدتها إن لم يدع الزور فيما يتعلق بالجمرك والصيد البحري . »

وهدا يعني بأن المحاضرالتي تنجزها الضابطة القضائية التابعة للدرك الملكي تكون موضوع ثقة من طرف المحكمة في الحالتين التاليتين :

– إلى حين إثبات ما يخالفها إذا كانت تتعلق بجنح أو مخالفات يعهد صريحا للدرك بالتثبت منها ، وهو نفس ما قالته المادة 290 من قانون المسطرة الجنائية .

– إلى أن يطعن فيها بالزور إذا تعلقت تلك المحاضربالجرائم الجمركية وجرائم الصيد البحري ، وهو نفس ما تبنته المادة 292 من قانون المسطرة الجنائية حيث يحاول المشرع ألا يكون متعارضا بشكل أكبر مع ما جاء في النصوص الخاصة ولو أنها هي المرجحة في حالة التعارض ، كما أن القضاء بشقيه الواقف والجالس غالبا ما يتمسكون بالمقتضيات الواردة بقانون المسطرة الجنائية ويعضون عليها بالنواجد . وتجب الإشارة هنا إلى أن مقتضيات المادة 47 من قانون الصيد البحري المؤرخ في 23 نونبر 1973 (10) ، تقضي بأن المحاضر المحررة بشأن مخالفات الصيد البحري يعتمد عليها إلى أن يثبت ما يخالفها ،حيث جاء فيها ما يلي : «إن المحاضر المثبتة فيها المخالفات يحررها الأعوان المشار إليهم في الفصل 43 وتوجه إلى رئيس القيادة البحرية للمكان المثبتة فيه المخالفة ويعتمد عليها إلى أن يثبت ما يخالفها . » ، وجاء في المادة 43 المدكورة ما يلي : « يبحث عن المخالفات ويثبتها متصرفو البحرية التجارية والضباط المشرفون على بواخر الدولة وقواد البواخر المعدة خصيصا لمراقبة الصيد البحري ومراقبة الملاحة والحراس البحريون وقواد وضباط الموانئ وضباط الشرطة القضائية وأعوان إدارة الجمارك وجميع موظفي الدولة الآخرين المؤهلين لهدا الغرض بموجب مرسوم . » ، والسؤال المطروح هو: هل تخضع محاضر الدرك الملكي المتعلقة بجنح ومخالفات الصيد البحري لمقتضيات المادة 71 من قانون الدرك الملكي فلا يطعن فيها إلا بالزور، أم تخضع لمقتضيات المادة 47 من قانون الصيد البحري
فيمكن إثبات ما يخالفها بمختلف وسائل الإثبات الممكنة كالقرائن أو شهادة الشهود مثلا ؟

الواقع أن المحاضر المتعلقة بجنح ومخالفات الصيد البحري التي يتم إنجازها من طرف الضابطة القضائية سواء كانت تنتمي لجهاز الدرك الملكي بصفته صاحب الإختصاص العام أو لجهازالصيد البحري ومراقبة الموانئ بصفته صاحب الإختصاص الخاص ، فإنه إدا احتكمنا فيها إلى القانونين المنظمين للجهازين فإن قانون الدرك الملكي الصادر سنة 1958 في مادته 71 يقول بإمكانية الطعن بالزور في المحاضر المتعلقة بجرائم الصيد البحري التي ينجزها ضباط الشرطة القضائية التابعين للدرك الملكي ، في حين أن قانون الصيد البحري الصادر سنة 1973 أي بعد صدور قانون الدرك الملكي في مادته 47 يقول فقط بإثبات ما يخالف تلك المحاضردون أن يمتد دلك إلى الطعن فيها بالزور ولو تم تحريرها من طرف ضباط الشرطة القضائية أصحاب الإختصاص العام بمن فيهم المنتمون للدرك الملكي ، وهدا فيه تعارض صارخ ما بين نص خاص قديم ينظم عمل الضابطة القضائية التابعة للدرك الملكي ككل وما بين نص خاص أتى بعده ينظم عمل هده الضابطة في مجال ضيق ومحدود هو مجال الصيد البحري ، ولو أننا نميل إلى إمكانية ترجيح كفة النص الجديد والوثوق بمضمن تلك المحاضر إلى أن يثبت ما يخالفها لأن مسطرة الطعن بالزور في وثيقة رسمية ودات قوة ثبوتية تعتبر معقدة وصعبة نوعا ما . كما أن مقتضيات المادة 47 من قانون الصيد البحري تتعلق بجميع الموظفين والأعوان المؤهلين للتثبت من مخالفات الصيد البحري وبالتالي فلا مبرر لاستثناء رجال الدرك منهم.

ثانيا : المادة 242 من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة (ظهير 9 اكتوبر977 ) :

إن العمل الجمركي له خصوصيته التي تتجلى في حماية الإقتصاد والبحث عن موارد مالية للدولة ، وبالتالي فإن جميع الأفعال المثبتة وأعمال الحجزالمنجزة من طرف عناصرالجمارك المحلفة يجب أن تبين وتدون في محاضر قانونية حتى يمكن الإعتداد بها ، وقد تم تنظيم المقتضيات المتعلقة بدلك في المواد من 240 إلى 247 من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة ، حيث تنص المادة 242 منها على أن المحاضر المحررة بشأن الجنح أو المخالفات لأحكام هذه المدونة من طرف عونين للإدارة أو أكثر يعتمد عليها في الإثباتات المادية المضمنة في المحاضر إلى أن يطعن في صحتها ، ويعتمد عليها في صحة وصدق الإقرارات و التصريحات المتلقاة إلى أن يثبت ما يخالفها .

أما المحاضر المحررة من طرف عون واحد للإدارة فيعتمد عليها إلى أن يثبت ما يخالفها ، وكذلك الشأن بالنسبة للمحاضر المحررة من طرف الأعوان محرري المحاضر التابعين لإدارات أخرى ما لم تكن هناك نصوص خاصة . ويمكن للظنين وطبقا لمقتضيات المواد من 244 إلى 247 الطعن بالزور في أي محضر جمركي لدى المحكمة المختصة .

ثالثا : المادتان 65-66 من قانون المياه والغابات ( ظهير 10 اكتوبر 1917 ) :

تنص المادة 65 من القانون المنظم للمياه والغابات (11) على أن التقاريروالمحاضر التي يحررها ويكتبها الموظفون بإدارة المياه والغابات على اختلاف طبقاتهم وعليها إمضاءاتهم ، تعتبر حجة صحيحة في ثبوت المخالفات المقررة فيها ، كيفما كانت العقوبات الناتجة عنها ، بشرط أن تكون تلك التقارير والمحاضر موقعة من طرف اثنين من المهندسين أو التقنيين أوالأعوان التابعين للمندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر في شأن الجنح والمخالفات التي تدخل في اختصاصهم ، ويعتبر ما تضمنته تلك التقارير والمحاضر صحيحا كيفما كانت العقوبات المقررة ما لم يدع الزور فيها ، وعليه فلا تقبل حجة غيرها إلا إدا كان في دلك خلل ما ، وإدا كانت التقارير والمحاضر المدكورة قد حررها موظف واحد – مهندس أو تقني أو عون – و أمضى عليها فإن الحجة تكون أيضا صحيحة ما لم يدع الزور فيها . وهدا يعني من جملة ما يعنيه أن جميع المحاضر أو التقارير التي ينجزها الموظفون المحلفون التابعون للمندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر يوثق بمضمنها إلى أن يطعن فيها بالزور، ودلك بالنسبة للوقائع التي عاينوها وشاهدوها وتثبتوا منها ، وبالتالي لا تقبل أية حجة لإثبات زائد أو معارض لمحتوى هذه المحاضر على الأقل إلى أن يثبت بسبب قانوني .

أما المادة 66 من نفس القانون فقد جاء فيها بأنه كل من ادعى التزوير من المخالفين في المحاضر أو التقارير المنجزة من طرف الموظفين سالفي الدكر ، ترجع دعواه إلى المحكمة المختصة ، وإدا وجدت المحكمة أن حجج من ادعى التزوير صحيحة باشرت بإجراء المتابعة وفقا للقانون ، أما إدا كانت تلك الحجج باطلة فإنها ترفض دعواه وتصدرحكمها بمعاقبة مدعي التزوير . مع ملاحظة وهي أن المحاضر الأخرى التي لا تتوفر فيها مقتضيات المادة 65 يوثق بمضمنها إلى أن يثبت ما يخالفها.

خلاصة ما سبق أنه مهما تعددت النصوص القانونية أو اختلفت الأجهزة التي ينتمي إليها ضباط الشرطة القضائية ، فإن الطعن بالزور في المحاضرالمنجزة من طرفها بمناسبة قيامها بعملها يتم بتقديم شكاية من المتضرر إلى النيابة العامة أو مباشرة إلى المحكمة ، غيرأنه إذا كان المشتكى به ضابطا للشرطة القضائية يتعين على المتضرر سلوك المسطرة المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية ، ما لم تكن هناك نصوص خاصة تنظم الطعن بالزور.

هوامش :

1 – قرار منشور بمجلة القضاء والقانون عددي52-53 ، الصفحة 92 .

2 – قرار منشور ضمن اجتهادات المجلس الأعلى في المادة الجنائية (1957- 1965 ) ص 104- 105

3 – قرار منشور بمجلة المحاماة عدد 20 السنة 14 شهري شتنبر – اكتوبر 1982 الصفحة 122.

4 – قد يكون ضابط الشرطة القضائية قد دون دلك عن حسن نية ونتيجة خطأ في أوصاف الظنين ، أما إذا تم تدوين ذلك بسوء نية فإنه يعتبر تزويرا في محرر رسمي يعاقب عليه القانون .

5 – بإمكان المجرم أن يعبر حدود الدولة التي يوجد بها بصفة غير شرعية ويرتكب الجريمة ثم يرجع خارج البلاد ليعود مرة أخرة وجواز سفره يحمل تأشيرة الدخول ليثبت تواجده خارج البلاد وقت ارتكابه الجريمة ، وهده أمور يمكن كشفها أو التوصل إليها بالوسائل العلمية والتقنية الحديثة .

6 – قرار منشور بمجلة “ القضاء والقانون “ عدد 65-66-67 شهريناير الصفحة 272 .

7 – قرار منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى في المادة الجنائية (1966- 1986) الصفحة

8 – قرار عدد 155 صادر بتاريخ 05 فبراير1976 .

9 – جاء في المادة 293 ق م ج ما يلي : « يخضع الإعتراف كغيره من وسائل الإثبات للسلطة التقديرية للقضاة . لا يعتد بكل اعتراف تم انتزاعه بالعنف أو الإكراه . وعلاوة على دلك ، يتعرض مرتكب العنف أو الإكراه للعقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي . »

10- ظهير شريف بمثابة قانون رقم 1.73.255 المؤرخ في 23 نونبر 1973 يتعلق بتنظيم الصيد البحري .

11- ظهير شريف مؤرخ في 10 اكتوبر 1917 بشأن حفظ الغابات واستغلالها .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت