القضاء الجبائي وحماية الإستثمار من خلال قرارات المجلس الأعلى

إعداد

ذ.عبد العزيز يعكوبي

مستشار بالمجلس الأعلى

مقدمة :

توفير الحد الأدنى من الرفاه الإجتماعي للأفراد، والإرتقاء بأوضاعهم المعيشية إلى المستوى الذي يضمن لهم الكرامة1 والعزة، يعتبر المطلب الأساسي الذي تقوم عليه خلفية كل نظام مجتمعي. ولاشك أن تحقيق هذا المطلب يتوقف على اعتماد المقاربات الكفيلة بالرفع من درجة النمو، وتصحيح الأوضاع المختلة في مناحيها المختلفة.

وتعتبر السياسة الجبائية 2 إحدى الآليات المعتمدة لتحقيق هذه الغاية، فالضريبة ليست فقط موردا أساسيا بالنسبة لميزانية الدولة، بل هي أيضا أداة لتوجيه الإستثمار وتوسيع مردوديته وتحفيز الادخار.

ووعيا بأهمية السياسة الضريبية في العملية التنموية، عمل المغرب، منذ الستينات، على سن قوانين ضريبية خاصة بتشجيع الإستثمار الوطني والأجنبي على حد سواء. ولا شك أن الإستثمار الأجنبي يلعب دورا ديناميكيا مكملا للإستثمارات المحلية، فهو لا يسهم فقط في تدفق الرأس المال ولكن عادة ما يكون مصحوبا بفنون إنتاجية ومنتجات حديثة، وكذلك مهارات إدارية وتنظيمية وخبرات فنية تفتقر لها الدول النامية.3

وميثاق الاستثمار الذي صاغه المشرع المغربي بمقتضى القانون إلاطار رقم 95.19 4 والذي حاول فيه تدارك عيب التشتت الذي طال النصوص السابقة وطابعها القطاعي، يندرج في سياق تحسين مناخ الاستثمار في المغرب والرفع من جاذبيته. ذلك أن « رؤوس الأموال لا وطن لها، بل تهيم من دولة إلى أخرى باحثة عن سعر الفائدة وعن الإستقرار… » 5 « فحيثما كانت التسهيلات الضريبية والتسامح الإداري وقلة الحقوق الإجتماعية …إلا وسميت الدولة بجنة المستثمرين، وتدفقت عليها رؤوس الأموال الأجنبية… فالرأسمال لا عاطفة له، ولا انتماء، ولا مواطنة، إنه يبحث عن الإستقرار والربح… »6

غير أنه مهما كانت أهمية النصوص والمواثيق الهادفة إلى جلب الإستثمار، فإن فاعليتها رهينة بكيفية تطبيقها. فالتشريع الجيد يحتاج إلى تنفيذ سليم، وضمان حسن التنفيذ يتوقف على رقابة قضائية فاعلة ومبدعة. وداخل هذا المركب الثلاثي الأضلاع )المشرع –الإدارة-القضاء( ودرجة العلاقة التكاملية والاتساق في الرؤى بين أطرافه الفاعلة، يقع تجاوز العثرات والإخفاقات، وبالتالي تحقيق الأهداف المرسومة.

إن القاعدة القانونية، باعتبارها تحكم أوضاعا تتسم أحيانا بالتجديد والتحول، تفرض، دوما وأبدا، على الموكول إليهم أمر تنفيذها مواكبة أبعادها المختلفة بهدف إعطائها مضمونها الإجتماعي في إطار تصور شمولي متناسق.

واعتبارا لذلك لا يكفي أن يصوغ المشرع قانونا جيدا، بل لابد أن يحظى هذا القانون بالتطبيق السليم، « فالإستثمار بدون عدالة لا يحقق الربح فحسب، بل يهدد الرأسمال نفسه، مما يؤدي ليس فقط إلى عدم استجلاب الرأس المال الأجنبي، بل وتهريب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية الموجودة بالداخل… »7

وبالتأسيس على ما ذكر، تتضح معالم الدور القضائي في تحقيق الحماية اللازمة للإستثمار. و لا شك أن أحد أبرز المجالات التي يكتسي فيها هذا الدور طابعا متميزا هو مجال النزاعات الجبائية.

ولما كانت الضريبة تشكل إحدى المحددات الأساسية التي تتحكم في اختيارات المستثمر، وطنيا كان أو أجنبيا، لذلك كان من الطبيعي أن تكون النزاعات المرتبطة بها، والحلول القضائية المعتمدة بشأنها، من محددات هذا الإختيار أيضا.

واعتبارا لذلك، وللوقوف على بعض تجليات دور القاضي الجبائي في تحقيق هذه الحماية، سأحاول بداية استقصاء هذا الدور من خلال القواعد التي صاغها اجتهاد المجلس الأعلى بخصوص شكليات الدعوى الضريبية، وكيفية محاكمته للإخلالات المسطرية التي تشوب عملية الفرض الضريبي، بهدف توضيح موقف القضاء التلطيفي من حدة العوائق الشكلية ; وبالتالي حرصه على البت في جوهر الحق الجدير بالحماية )الفصل الأول(، وذلك قبل ملامسة البعد الحمائي لهذه الرقابة من خلال القواعد الموضوعية التي كرسها اجتهاد المجلس الأعلى، سواء فيما يتعلق بتفسير حدود الإعفاء الضريبي أورقابة سلطة الإدارة التقديرية في توقيع الجزاءات و الغرامات، إضافة إلى المسؤولية عن التحصيل الضريبي المعيب ) الفصل الثاني(.

الفصل الأول : مقاربة البعد الحمائي للإستثمار من خلال موقف الإجتهاد القضائي من شكليات الدعوى ومساطر الفرض الضريبية.

إن الحماية القضائية للحقوق عموما، وللمراكز القانونية للمستثمر على وجه الخصوص، لا تتحقق فقط من خلال القواعد التي يصوغها القضاء في موضوع الدعوى، وإنما ترتبط أيضا بكيفية مقاربته للمعطيات الشكلية والمسطرية المتصلة بالنزاع، ذلك أن التشدد المطلق في مقاربة الشكليات يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم قبول الطعون، وهو ما يحول دون البت في جوهر الحق، وبالتالي إلى عدم إعادة عقارب الشرعية إلى مواقعها في حالة المساس بها.

ومن هذا المنطلق سأحاول بداية مناقشة موقف الإجتهاد القضائي من الإخلالات الشكلية للدعوى الضريبية وكيفية معالجته للدفوع المرتبطة بها، وذلك بهدف استجلاء منطق التلطيف المعتمد من قبل القاضي الجبائي للتخفيف من حدة هذه العوائق تحقيقا للوصول إلى مناقشة جوهر الحق )المبحث الأول(، وذلك قبل ملامسة الجانب المتعلق بمساطر الفرض الضريبي وطبيعة الجزاءات التي يرتبها القاضي الجبائي في حالة الإخلالات التي تشوبها )المبحث الثاني(.

المبحث الأول :مقاربة الدور الحمائي للقاضي الجبائي من خلال موقفه من شكليات الدعوى الضريبية.

إن البت في جوهر النزاع يتوقف بداية على استيفاء الدعوى للشروط الشكلية المنصوص عليها في القوانين الإجرائية. فمحطة قبول الدعوى تشكل نقطة عبور أساسية لمناقشته جوهر الحق، ومن تم فإن المستثمر الذي يستكثر الضريبة المفروضة عليه، أو الذي يطعن في عدم شرعيتها لسبب آخر، قد لا يتوصل إلى اقتضاء حقوقه إذا ما ظهر للقاضي الجبائي أن الإخلال الذي شاب الوضعية الشكلية للدعوى أو الطعن ذا طابع مؤثر.

وإذا كان لا خلاف في كون الإخلالات الجوهرية المؤثرة تؤدي إلى عدم قبول الدعوى، إلا أن عدم التلطيف من حدة هذه الإخلالات، كلما كان ذلك ممكنا، يؤدي إلى تعطيل الدور الحمائي للعدالة.

وارتباطا بموضوع هذه المداخلة، يمكن استجلاء الدور الحمائي للقاضي الجبائي من خلال المنهج التلطيفي الذي يعتمده في تقديره لوجاهة الدفوع الشكلية المثارة. ومن تجليات هذا التلطيف ما قررته الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى بخصوص الدفع بعدم قبول الدعوى لعدم تقديم الطعن داخل الأجل المنصوص عليه في المادة 114 من قانون الضريبة العامة على الدخل8 التي تنص على ” أن الخاضع للضريبة إذا لم يقبل القرار الصادر عن الإدارة عقب بحث مطالبته، جاز له أن يرفع الأمر إلى المحكمة المختصة داخل أجل الثلاثين يوما التالي لتاريخ تبليغ القرار المذكور. وإذا لم تجب الإدارة داخل أجل الستة أشهر التالية لتاريخ المطالبة جاز كذلك للخاضع للضريبة رفع الطعن أمام المحكمة المختصة داخل اجل الثلاثين يوما التالي لتاريخ انصرام اجل الجواب المشار إليه أعلاه ” .

ورغم كون الخاضع للضريبة، في هذه القضية، لم يتقدم بالطعن داخل الشهر الموالي للستة أشهر التالية لتقديم التظلم، إلا أن الغرفة الإدارية اعتبرت الوضعية الشكلية للدعوى سليمة، واستبعدت الدفع المثار، على أساس أن جواب الإدارة، الصادر بعد انصرام الأجل الضمني برفض التظلم، يفتح للمدعي أجلا جديدا للطعن ما دام هذا الجواب لم يكن ناتجا عن تظلم ثان أو يعتبر تأكيدا لرفض سابق9.

ويبدو أن الغرفة لو تشددت في القراءة الحرفية لمقتضيات المادة المذكورة لانتهت إلى خلاف النتيجة التي أقرتها، ولكنها حاولت تفسير النص وإعمال مضمونه بناء على تحليل روحه، انطلاقا من كون سكوت الإدارة طيلة الستة اشهر التالية لتقديم التظلم وان كان يعطي الحق للخاضع للضريبة لتقديم طعنه داخل الشهر السابع، إلا ان تخلفه عن تقديم الطعن داخل هذا الآجل، لا يسقط حقه في رفع الطعن القضائي متى توصل بجواب صريح تعبر فيه الإدارة عن موقفها النهائي، على اعتبار أن الموقف الضمني بالرفض في حالة السكوت يرتفع بجواب الإدارة الصريح.

واستخلاص هذا المعنى، وان كانت المادة المذكورة لا تشير إليه صراحة، إلا انه يعتبر أمرا مستساغا و منسجما مع المضمون العام للنص.ذلك أن الإدارة قد تدخل في حوار إيجابي مع الملزم مما يدفعه، تحقيقا للتسوية الودية للنزاع، إلى عدم إحالة الطعن على القضاء داخل الأجل الضمني بناء على قرينة السكوت، ومن ثم فان الأمر يستوجب، تشجيعا لفض النزاعات عن طريق المسطرة الودية، قبول طعن المعني بالأمر خلال الشهر الموالي لتوصله بقرار صريح عن إلادارة متى ثبت فشل هذه المسطرة، ما لم يكن هذا الجواب تأكيدا لرفض سابق. والقول بخلاف ذلك قد يحد من اختيار طريق التسوية الودية التي يستهدف المشرع تشجيعها من خلال اشتراط مسطرة التظلم.

وانطلاقا من القاعدة الشكلية التي كرستها الغرفة بمقتضى هذا التوجه يتضح نهجها التلطيفي من حدة العوائق الشكلية التي تحول دون قبول الدعوى، كما يتجلى أيضا الطابع البراغماتي الذي يحكم هذا التفسير.

وفي سياق نفس النهج التلطيفي، اعتبرت الغرفة الإدارية، أن وجوب احترام مسطرة المطالبة المنصوص عليها في المادة 47 من قانون الضريبة على القيمة المضافة ومثيلاتها في قانون الضريبة على الشركات10 والضريبة العامة على الدخل11 ، لا يكون لازما إلا إذا ثبت احترام الإدارة لمسطرة الربط الضريبي، وأوضحت الغرفة إلادارية بهذا الخصوص أن : “المشرع إذا كان في الفصل 47 من القانون المتعلق بالضريبة على القيمة المضافة قد أوجب على الملزم بالضريبة أن يتظلم لدى الإدارة المختصة قبل رفع منازعته أمام القضاء فان المشرع قبل ذلك أعطى للملزم حقا أساسيا نص عليه في المادة 28 من نفس القانون، وهو حق الدفاع المتمثل في وجوب تمكين الملزم من التعرف على أساس الضريبة ومناقشته قبل فرضها تلقائيا عليه، وبالنظر لطبيعة حق الإدارة في أن يتم التظلم لديها وحق الملزم في وجوب إشعاره كما ذكر، فان المحكمة كانت على صواب عندما اعتبرت أن وجوب التظلم معلق على سبقية إشعار الملزم حسب الفصل 28 المذكور”12 .

وهذه النتيجة التي انتهت إليها الغرفة لاستبعاد الدفع الشكلي المثار، لا تستفاد مباشرة من نص المادة 47 موضوع الدفع، والوصول إلى تقرير هذه النتيجة كان بناء على قراءة تركيبية للنصوص المترابطة الواردة في القوانين الضريبية مثار النزاع.

ومن تجليات هذا التلطيف أيضا اعتبار الغرفة الإدارية أن تظلم الطاعن، داخل الأجل القانوني، وان كان قد قدم إلى الجهة الساهرة على الاستخلاص ( القابض) وليس إلى الجهة مصدرة للقرار ( الآمر بالصرف فان ذلك لا ينال من صحته13.

و هذا التوجه هو استثناء من المبدا العام المقرر فقها و قضاء، و الذي يقضي بأن التظلم لا يكون منتجا لآثاره إلا إذا قدم إلى الجهة المصدرة للقرار أو إلى سلطتها الرئاسية غيرأنه إذا ثبت وقوع الطاعن في شبهة جعلته يخطأ في تحديد الجهة التي ينبغي التظلم أمامها ،و كانت هده الشبهة، كما في الحالة المشار إليها، مستخلصة بشكل مستساغ ، فان ذلك لا ينال من قانونية التظلم وترتيبه لآثاره.

وفي سياق نفس النهج التلطيفي اعتبرت الغرفة الإدارية أيضا، أن الدفع بعدم قبول دعوى الملزم بسبب عدم أداء الرسم القضائي لا يكون منتجا إلا إذا تم إنذاره ولم يقم بتصحيح الخلل الشكلي داخل الأجل المحدد14، وذلك على الرغم من كون القراءة الحرفية لمقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل التاسع من قانون المصاريف القضائية تفضي إلى القول بان نطاق تطبيقها يقتصر على فرضية عدم كفاية المبلغ المستوفى وليس عدم أداء الرسم القضائي بكامله.و هذا الموقف يعكس الحرص على تغليب المقاربة الموضوعية على المقاربة الشكلية في حل النزاعات وهو ما يحقق ضمانة أكبر لحماية الحقوق.

وإذا كانت المنازعة الضريبية تندرج مبدئيا ضمن القضاء الشامل مع ما يترتب عن ذلك من وجوب أداء الرسوم القضائية واحترام مساطر الطعن الخاصة بكل ضريبة، إلا انه متى ثبت انعدام الصلة بين الضريبة والشخص المخاطب بها يمكن للطاعن تقديم المنازعة بشأنها في إطار دعوى الإلغاء15 . ولاشك أن تقرير هذا الإستثناء يخفف عبء التقاضي على الطاعن ويمكنه من اقتضاء حقوقه بأقل تكلفة ممكنة. كما أنه، إعمالا لفكرة الإنعدام يكون القرار الضريبي، في مثل هذه الحالة، قابلا للطعن في أي وقت ولا يتحصن بفوات أجل الطعن، اعتبارا لكون العيب الذي شابه يعتبر على درجة من الجسامة تفقده مقوماته كقرار إداري16.

ومن خلال هذه النماذج، والتي لا يسمح نطاق هذه المداخلة بالإشارة لغيرها، يتضح نهج القاضي الجبائي التلطيفي في مقاربة شكليات الدعوى الضريبية ، وهو ما يسمح بالبت في جوهر الحق، و بالتالي يسهم في ضمان حقوق الملزمين و تفعيل الضمانات المقررة لفائدة النشاطات الإستثمارية.

وإذا كان تلطيف العوائق الشكلية ممكنا في حالات معينة، الا أنه في حالات أخرى لا يمكن تجاوز العيب الشكلي الذي يشوب الطعن ، كما في حالة عدم إرفاق الإدارة الضريبية مقال الإستئناف بنسخة من الحكم المستأنف17 أو بمجرد صورة للحكم البات غير مشهود بمطابقتها للأصل18 أو لكون نسخة الحكم المدلى بها تنقصها صفحة19 أو بحجة أن المقال الإستئنافي غير موقع20 وهو ما يؤدي إلى عدم سماع الدعوى في الموضوع، وبالتالي يحول دون تصحيح الأوضاع بخصوص جوهر الحق.

وتغليبا للمقاربة الموضوعية على المقاربة الشكلية في معالجة الملفات أكد السيد الرئيس الأول، في اجتماعه بقضاة المجلس الأعلى يوم 8 نونبر 2006، على أهمية التلطيف من حدة الإخلالات الشكلية المؤدية إلى عدم القبول، وضرورة تفعيل مسطرة إنذار الأطراف بإصلاح الإخلالات الشكلية القابلة للتصحيح قبل ترتيب جزاء عدم القبول. وأضاف بأن اعتماد المجلس الأعلى استراتيجية الإحصاء لا ينبغي أن يؤدي إلى الرفع من وثيرة الإنتاج على حساب العدالة والإنصاف، بل الهدف الأساسي هو تحقيق العدالة، وإذا استلزم الأمر تعميق البحث في ملف لمدة أطول فليكن، لأن الهدف هو إصدار أحكام تستجيب في العمق للعدالة والإنصاف21

المبحث الثاني : رقابة مساطر الربط الضريبي والدور الحمائي للقاضي الجبائي.

إن تجليات الدور الحمائي للقاضي الجبائي لا ترصد فقط على مستوى نهجه التلطيفي في صياغة القواعد المتعلقة بشكليات الدعوى، وإنما تتجلى أيضا من خلال حرصه الشديد على ضرورة احترام مساطر الربط الضريبي في حق الملزم. وهذا الحرص يسير في سياق إرادة المشرع التي تتجه إلى تكريس ضمانات المسطرة التواجهية لفائدة الملزمين أثناء عملية الربط الضريبي. ومن أهم الضمانات التشريعية المقررة على هذا المستوى تكريس النظام الإقراري عوض النظام التلقائي الذي كان معتمدا في السابق، وكذا تمكين الملزم من عرض نزاعه على لجان مستقلة روعي في تشكيلها التخصص والحياد.

واعتماد نظام المشاركة في النظام الضريبي الحالي (système de participation) عوض نظام الفرض (système de contrainte) يجد تبريره في كون المجتمعات المعاصرة يجب أن تقوم على أساس إرادة أفرادها، واستعدادهم للمشاركة في النفع العام22.
وفي سياق هذه المقتضيات فان الخاضع للضريبة إذا كان ملزما مبدئيا بتقديم إقراره داخل الآجال المحددة قانونا، إلا أنه في حالة عدم تقديم الإقرار أو تقديم إقرار ناقص، لا يمكن لإدارة الضرائب اللجوء إلى فرض الضريبة إلا بعد إشعاره بضرورة تقديم إقراره أو تكملته في حالة نقصانه. وهذا الإنذار يشكل الحلقة الأولى في مسلسل إجراءات ربط الضريبة ويترتب على عدم احترامه انهيار بنيان عملية الفرض الضريبي كما درج على ذلك الاجتهاد القضائي.

وفي حالة تقديم الاقرار وملاحظة المفتش الضريبي ما يستوجب تصحيحه، أمكنه إعادة تقدير الضريبة شريطة التقيد بمقتضيات مسطرة التصحيح كما هي منصوص عليها قانونا23 ، وفي هذا السياق اعتبرت الغرفة الإدارية أن إدارة الضرائب إذا كانت ” تملك إمكانية الإطلاع والتقصي على ما بيد الأغيار من كشوفات ووثائق، إن اقتضى الأمر ذلك، بغية الحد من ظاهرة التهرب الضريبي فانها مع ذلك تبقى ملزمة باطلاع الملزم على ما تم التوصل اليه عن طريق اجهزتها الخاصة وذلك باشعاره عن طريق البريد المضمون مع الإشهاد بالتسلم يتضمن أسباب وطبيعة وتفاصيل المبالغ المراد تصحيحها ودعوته إلى تقديم ملاحظاته خلال أجل ثلاثين يوما من توصله بالإشعار المذكور، إلى آخر الإجراءات التي حددها الفصل 43 من القانون رقم 30.85، وهي تتعلق بحق الدفاع المتمثل في تمكين الملزم من مناقشة أساس تصحيح الضريبة قبل فرض التصحيح عليه…. وعدم مراعاة هذه الاجراءات يعتبر كافيا للتصريح بعدم مشروعية المقرر الضريبي المنازع فيه… 24 ” .

والجدير بالملاحظة، انه طبقا للمقتضيات الجديدة الواردة في الفقرة الثانية من المادة العاشرة من كتاب المساطر الجبائية، فإنه في حالة تعذر التبليغ إلى الملزم ورجوع الوثيقة مذيلة ببيان غير مطالب به، أو انتقل من العنوان، آو عنوان غير معروف أو غير تام أو المحل مغلق، فان الظرف في هذه الحالات يعتبر مسلما بعد انصرام أجل العشرة أيام التالي لتاريخ إثبات تعذر تسليم الظرف المذكور.

والاجتهاد القضائي قبل هذا التعديل كان يعتبر رجوع الرسالة مذيلة بعبارة غير مطالب به، لا يقوم مقام التبليغ وبالتالي يحكم ببطلان مسطرة التصحيح متى ثبت عدم التوصل25 .

ومن تجليات دور القاضي الجبائي في تفعيل مساطر الربط الضريبي على الوجه المطلوب، ما قررته الغرفة الإدارية من كون العبرة في تحديد اجل الخمسة عشر يوما المنصوص عليه في المادة 33 من قانون الضريبة على الشركات26 تكون بالنظر لتاريخ التوصل وليس لتاريخ الإرسال، لما في ذلك من ضمانات لفائدة الملزم27. في حين تتمسك إدارة الضرائب بكون العبرة في تحديد هذا الأجل يكون بتاريخ الإرسال، على اعتبار أ ن المشرع يتحدث عن توجيه الإشعار بالفحص «adresser »لا عن تبليغه.

ولا شك أن الغاية التي يستهدفها المشرع من تنصيصه على هذا الأجل هو تمكين الملزم من الآجل الكافي للاستعداد لعملية الفحص وترتيب أموره تفاديا لعنصر المفاجأة الذي كان يطبع المساطر السابقة. والقول بكون العبرة بتاريخ الإرسال وليس بتاريخ التوصل يناقض فلسفة تقرير هذا الإجراء، إذ قد يحصل لسبب أو لآخر تأخر توصل الملزم بالإشعار بالفحص، وربما قد لا يتوصل به حتى عشية اليوم السابق لإجراء عملية الفحص، وهو ما يؤدي إلى تعطيل الغاية المستهدفة من هذا الإجراء وهو تمكين الملزم من الاستعداد والتهييء لعملية الفحص بالشكل الازم، وبالتالي التقليل من الضمانات الممنوحة له تشريعا.

وفي نفس السياق قضت الغرفة الإدارية بإلغاء الضريبية بعلة عدم استدعاء الملزم من طرف اللجنة الوطنية للنظر في الطعون الضريبية معتبرة أن عدم استدعاء الملزم بالضريبة أو من يمثله من طرف اللجنة، التي تصدر مقررات تؤثر في المراكز القانونية للملزمين من شأنه أن يمس بحقوق الدفاع28.

ومن خلال هذه النماذج، والتي لا يتسع المقام لإيراد غيرها، تتضح جليا أهمية الدور الحمائي للقاضي الجبائي في تكريس الضمانات المقررة لفائدة الملزمين بخصوص عمليات الربط الضريبي، وهو دور يعكس الحرص على ضمان احترام حقوق الدفاع في إطار مسطرة تواجهية تمكن من تحقيق عملية فرض ضريبي يضمن حقوق جميع الأطراف. وعلى الرغم من أهمية الحماية الممارسة على هذا المستوى، إلا أن أهميتها تظهر بشكل أكبر فيما يتعلق بتفسير النصوص الضريبية المتصلة بموضوع النزاع.

الفصل الثاني: المستثمر و هاجس الخضوع الضريبي : مقاربة في حدود تفسير النص الجبائي من خلال قضاء المجلس الأعلى

إن جانب الموضوع في المنازعة الجبائية يشكل المجال الأساسي الذي يتحقق فيه الدور الحمائي للقاضي الجبائي، ذلك أن هاجس المستثمر ينصرف بالدرجة الأولى الى كيفية إعمال المقتضيات المتعلقة بحدود الإعفاءات الواردة في القوانين الخاصة بتشجيع الإستثمار. وكلما كانت القواعد القضائية المصاغة على هذا المستوى منسجمة مع روح هذه القوانين و فلسفتها كلما شكل ذلك دافعا تحفيزيا للمستثمر على الإستمرار في نشاطه وإحداث نشاطات جديدة.

و للوقوف على الدور الحمائي للإستثمار بهذا الخصوص سأحاول انطلاقا من سوابق قضائية، ملامسة تجليات تحقيق هده الحماية من خلال منهجية القاضي في تفسير القاعدة الجبائية ( المبحث الأول) وذلك قبل مناقشة الجانب المتعلق بالمسؤولية الإدارية عن التحصيل الضريبي المعيب (المبحث الثاني)، و تحليل درجة الرقابة التي يمارسها القاضي على سلطة الإدارة في تقدير الجزاءات و الغرامات و انعكاساتها على الإستثمار (المبحث الثالث).

المبحث الأول : تفسير القوانين الخاصة بتشجيع الإستثمار و الدور الحمائي للقاضي الجبائي.

إن تحديد مضمون النص القانوني يشكل صميم العمل القضائي. و القاضي لا يجد عناءا كبيرا في إعمال مقتضى النص كلما كان واضحا و غير قابل للتأويل. أما في الحالة المعاكسة فان الأمر يتطلب منه مجهودا ذهنيا اجتهاديا لاستخلاص مضمونه الحقيقي انطلاقا من خلفيات و فلسفة كل تشريع .

وإذا كان المشرع يراعي في صياغته للنصوص الوضوح و الدقة منعا لكل تطبيق غير سليم أو لخطأ في التفسير، إلا أنه يصعب عليه في كثير من الأحيان مهما بلغت درجة مهارته و حرصه أن يجعل من النص القانوني مستوعبا لكل الجزئيات الواقعية التي ينظمها. و من تم يأتي دور القاضي لاستكمال هذا الدور من خلال الإجتهاد. و قد شكلت القوانين الخاصة بتشجيع الإستثمار، بالنظر للغموض و الإلتباس الذي يعتري نطاق بعض مقتضياتها على مستوى التطبيق، مجالا خصبا لاجتهاد القاضي بهدف تحديد نطاق الإعفاء المقرر بمقتضاها.

ونظرا لكون الإجتهادات القضائية الصادرة عن الغرفة الإدارية بهذا الخصوص لا يتسع المجال لاستعراضها جميعا لذلك سأقتصر في هذا المجال على مناقشة قضيتين تتعلق أولهما بتحديد القانون الواجب التطبيق (قضية شركة تريكوفيل)، و ثانيتهما تتعلق بتحديد نطاق الإعفاء في حالة توسعة النشاط الإستثماري ( قضية شركة المشروبات الغازية ).

أولا: تحديد القانون الواجب التطبيق: ( قضية شركة تريكوفيل )

إن الإشكال مثار النزاع في هذه القضية يكمن في تحديد القانون الواجب التطبيق على الشركة المدعية ، هل هو القانون الصادرفي 13 غشت 1973 بمثابة قانون يتعلق باتخاذ التدابير الخاصة بتشجيع المؤسسات المصدرة لمنتوجات الصناعة العصرية أو التقليدية، المحدد لمدة الإعفاء في عشر سنوات ، أم القانون رقم 1/88 الصادر بتاريخ 09/05/1988 الذي خفض هذه المدة إلى خمس سنوات فقط .

فالشركة موضوع الفرض الضريبي المنازع فيه تتمسك بكونها تأسست بتاريخ 8/5/1987 وسجلت بالسجل التجاري يوم 6/6/1987، وأن نشاطها التجاري يتمثل في خياطة وتجهيز الألبسة المغربية المخصصة للتصدير، كما هو ثابت من النموذج دي 83/1 برنامج الاستثمارات الصناعية المتضمن موافقة وزارة التجارة والصناعة بتاريخ 28/12/1987. وانه بعد حصولها على الرخصة رقم 692/97 من بلدية مكناس في 26/8/1987 شرعت في بناء محلها بالحي الصناعي. وان أول عملية تجارية قامت بها كانت بتاريخ 25/2/1989، واعتبارا لمقتضيات المادتين 1 و2 من الظهير السابق الذكر ( 13/8/1973)، تتمسك بكونها تستفيد من الإعفاء الكلي من الضرائب على الارباح29 لمدة عشر سنوات تبتدىء من تاريخ الاستغلال الفعلي .

في حين تتمسك إدارة الضرائب بكون الشركة المدعية، لم تقم بأول عملية تصدير إلا سنة 1990، واعتبارا لذلك فان مقتضيات الفصل الثاني من ظهير 13 غشت 1973 غير واجبة التطبيق لنسخها بموجب القانون رقم 88/01 الصادر بتاريخ 4/5/1988، والذي خفض مدة الإعفاء إلى خمس سنوات بدل عشر سنوات المحددة سابقا.

والنقطة النزاعية مثار الخلاف تكمن في تحديد أي من القانونين واجب التطبيق، هل هو ظهير 13 غشت 1973، على اعتبار أن الشركة تأسست خلال سريانه، أم ظهير 4/5/1988 على أساس أن أول عملية تصدير قامت بها الشركة تحققت بعد صدوره ؟.

وجوابا على هذا التساؤل اعتبرت المحكمة الإدارية بمكناس في قرارها الصادر بتاريخ 1/8/2002، والذي تم تأييده بمقتضى قرار الغرفة الإدارية الصادر بتاريخ 28/6/2006 30 ” أن المزايا المنصوص عليها بمقتضى ظهير 13 غشت 1973 تطبق على المؤسسات التي تمارس أو تعتزم ممارسة الأنشطة المقررة من اجلها هذه المزايا. ومعنى ذلك أن هناك ضابطين محددين لإمكانية الاستفادة من الإعفاء، فالضابط الأول هو الممارسة الفعلية للأنشطة المذكورة عند نشر هذا الظهير، والضابط الثاني هو اعتزام ممارسة هذه الأنشطة بعد نشره، ويكفي توافر أحد الضابطين للاستفادة من هذا الاعفاء31 ” ، وخلصت المحكمة بناء على الوثائق التي ثبتت لديها المشار إليها أعلاه، أن الشركة عبرت عن اعتزامها لممارسة النشاط المستفيد من الإعفاء خلال المدة السابقة لصدور قانون 9/5/1988، وبالتالي يتولد لديها حقا مكتسبا في ظل ظهير 13 غشت 1973 لا يمكن إلغاؤه بمقتضى القانون الجديد، حتى وان كانت أول عملية تصديرية قامت بها تمت بتاريخ 25/2/1989.

وأضافت المحكمة بان: “ ما ورد في المادة الثانية من نفس الظهير ينسحب على تحديد نقطة سريان أجل العشر سنوات المقرر الإعفاء خلالها. ولا يفهم من الاستقراء الدقيق لسياق الصياغة اندراج تاريخ القيام بأول عملية تصديرية ضمن محددات الخضوع لمزايا الظهير المذكور، وإنما يندرج ذلك في سياق تحديد بداية احتساب الأجل المذكور بالنسبة للشركات التي تعتزم الاستثمار في هذا المجال. لأنه لما كان الاعتزام يقوم على شيء مستقبلي، وكان هذا الاعتزام يحتاج إلى فترة زمنية لترجمته إلى ممارسة ، تبعا لما تقتضيه متطلبات إنشاء المقاولة سواء على مستوى المساطر القانونية، أو توفير الأسس المادية من بناءات وآليات، وكانت إرادة المشرع تستهدف التشجيع على الاستثمار في هذا المجال، لذلك كان طبيعيا أن يمنح المشرع للمعتزمين على الاستثمار في الأنشطة المذكورة ، فسحة زمنية غير محتسبة في مدة الإعفاء والتي تستغرقها فترة الإنشاء السابقة عن الاستغلال. والقول بخلاف ذلك يقود إلى نتيجة غير مستساغة. فالمستثمر عندما يفكر في الاستثمار في مجال معين يأخذ بعين الاعتبار في تقديراته التشجيعات الضريبية التي يمكن الاستفادة منها، وعلى ضوء ذلك يختار الإقبال على هذه العملية. ومن ثم يكون من غير المقبول إنكار الاستفادة من المزايا المنصوص عليها في ظهير 13 غشت 1973 على من اعتزم الاستثمار في الأنشطة المحددة بمقتضاه، وقام بإنشاء الشركة، وشرع في عملية بناء المعمل في ظل سريان هذا الظهير والقول بخلاف ذلك يخلق نوعا من عدم انضباط الرؤية لدى المستثمر ويخلق لديه نوعا من الارتباك في التحكم في حساباته، وهو ما لا يمكن أن يقصده المشرع40 ” .

ومن خلال المقاربة القضائية لهذا الإشكال تتضح المحددات الأساسية التي تتحكم في تفسير القاعدة الضريبية من طرف القاضي الجبائي والتي تعكس البعد الحمائي للقواعد التي يصوغها بهذا الخصوص. وفي مقدمة المحددات التي تحكم هذا التفسير هاجس تحقيق الطمأنينة القانونية ( la sécurité juridique) للأفراد مستثمرين وغيرهم، والذي بدونه تنعدم الوضوحية وينبعث الإحساس بعدم انضباط القواعد القانونية.

ثانيا: نطاق الإعفاء في حالة توسعة النشاط الاستثماري ( قضية شركة المشروبات الغازية)

إن الإشكال مثار النزاع في هذه القضية يكمن في تحديد نطاق الإعفاء المنصوص عليه في الفصل 19 من القانون رقم 82.17 المتعلق بالاستثمارات الصناعية41 ، الذي ينص على أن المؤسسات الصناعية أو ذات الطابع الصناعي المحدثة أو التي تقوم بتوسيع نشاطها في إطار برنامج استثمار بالمنطقة الرابعة تتمتع بالإعفاء من جميع الضريبة على الأرباح المهنية أو الضريبة على الشركات خلال السنوات الأولى المتتابعة والموالية لتاريخ إحداثها أو توسيع نشاطها.

فالشركة المدعية تتمسك بكون هذا الفصل يمنحها حق الاستفادة من الإعفاء المذكور بالنسبة لكامل نشاطها وليس فقط الجزء موضوع التوسعة. في حين تتمسك إدارة الضرائب بان هذا الإعفاء ينسحب على هذا الجزء فقط. معتبرة أن المشرع أرسى قاعدة عامة مفادها أن أي جزء أو أجزاء الاستثمار التي سبق أن استفادت من التدابير المشجعة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعود من جديد لتستفيد منها مرة ثانية ، مستدلة على سبيل الاستئناس بما ورد في الفصل 37 42 من القانون رقم 82.17 المتعلق بالاستثمارات الصناعية ، والفصل 4328 من القانون رقم 82.21 المتعلق بالاستثمارات البحرية، والفصل 4433 من القانون رقم 84.1 المتعلق باتخاذ تدابير للتشجيع على الاستثمارات المنجمية.

غير أن الغرفة الإدارية في قرارها الصادر بتاريخ 4/7/1996 اعتبرت بأنه “ يستفاد من الصياغة القانونية للفصل 19 من القانون رقم 82.17 كما وقع تعديله بقانون 88.4، أن مجرد إحداث أو توسعة نشاط المؤسسة داخل المنطقة الثالثة وبعد قبول البرنامج الإستثماري والمصادقة عليه من الإدارة الضريبية، واختيار المستثمر بشكل نهائي لارجعة فيه لنظام تخفيض 50% من واجب الضريبة على الأرباح أو لنظام الاستهلاك السريع، فان ذلك التخفيض يشمل الأرباح المحصل عليها من طرف المؤسسة ولا ينحصر ذلك في نطاق توسعتها، لأن الفصل 19 المذكور بعد تعديله عبر بكلمة إحداث أو توسعة النشاط، بمعنى أن أيا منهما يفضي إلى الاستفادة من تخفيض50% من مبلغ الضريبة بالنسبة للمؤسسة ككل، ولو قصد المشرع خلاف ذلك لضمن الفصل المذكور عبارة في نطاق التوسعة فقط كما ورد في الفصل 19 المذكور قبل تعديله45 ” .

ويلاحظ من حيثيات هذا القرار اعتماده في تقرير هذه النتيجة المنهج اللغوي في تفسير النص، بناء على كون عباراته جاءت عامة وغير مقيدة لحدود الإعفاء وقصره على الجزء المستحدث من النشاط فقط.

ولا شك، من الناحية المبدئية، أن الغاية المستهدفة من الإعفاء هو التحفيز على خلق نشاطات استثمارية جديدة بهدف خلق حركة اقتصادية أكثر دينامية، وبالتالي الرفع من وثيرة النمو. غير أن هذه الخلفية الاقتصادية للإعفاء ، وان كانت محددا أساسيا ينبغي أخذه بعين الاعتبار، إلا أن مراعاته من قبل القاضي الجبائي في تفسير النص، حسبما هو مستفاد من القرار المشار إليه أعلاه، يتوقف على مضمون العبارات المستعملة في النص، و كلما وردت هذه العبارات بصيغة العموم كلما عكس ذلك رغبة المشرع في توسيع نطاق الإعفاء تحقيقا للمزيد من التحفيز، واعتبارا لذلك و تطبيقا لقاعدة التفسير الضيق للقاعدة الجبائية، يتعين على القاضي الوقوف عند حدود الإعفاء التشريعي دون تضييق أو توسيع.

انطلاقا من هذه النماذج يتبين أن القاضي الجبائي إعمالا لقاعدة التفسير الضيق للنصوص الضريبية، أحيانا، أو لفلسفة التشريع أحيانا أخرى يلعب دورا حمائيا للاستثمار على درجة من الأهمية. وهذا الدور لا يقتصر على حماية الشرعية الضريبية، وإنما يتجاوزه إلى تقرير المسؤولية الإدارية عن التحصيل الضريبي المعيب كلما ترتب عن ذلك ضرر.

المبحث الثاني : المسؤولية الإدارية عن التحصيل الضريبي المعيب.

إن أهمية الدور الحمائي للقاضي الجبائي تتجلى بشكل أخص في تقرير المسؤولية عن الخطأ في التحصيل الضريبي الذي يؤدي إلى إلحاق أضرار بالغير،تأسيسا على مقتضيات الفصل 79 من قانون الإلتزامات والعقود. و لا شك أنه لا يكفي، لتحقيق الحماية المطلوبة، الحكم بإلغاء الفرض الضريبي المعيب، أو الحكم باسترداد المبالغ المستخلصة على غير وجه حق، فكل ذلك غير كاف لتصحيح الأوضاع التي وقع المساس بها بل لابد من جبر الأضرار المترتبة عن ذلك أيضا متى ثبت حصولها.

وفي هذا السياق قضت الغرفة الإدارية في قرارها الصادر بتاريخ 3/7/2003 بمسؤولية الإدارة عن التحصيل الضريبي المعيب46.

وتمسكت الإدارة، في هذه القضية، بكونها وجهت إعلامات ضريبية للمدعي لم يسلك بشأنها أي طعن، إلى أن وصل الأمر إلى مسطرة الإكراه البدني، مدعية بكون تقاعسه عن لفت انتباه الإدارة للخطإ المحتمل هو الذي تسبب في مباشرة التحصيل عن طريق الإكراه.

غير أن الغرفة الإدارية استبعدت هذا الدفع معتبرة « بأنه وخلافا لما جاء في أسباب الاستئناف، فالمستأنف عليه ينفي توصله بالإعلام المذكور، ولاشيء في الملف يفيد عكس ذلك. ومن جهة أخرى فالمستأنفة تقر إقرارا تاما بما حصل للمستأنف عليه، متذرعة بأن ذلك راجع لخطئه الشخصي، مما يؤكد أحقية المدعي في طلب التعويض. وأن خطأ المرفق العام ثابت ويتمثل في فرض الضريبة مرتين على نفس السبب رغم الأداء ».

و لا شك أن إقرار المسؤولية الإدارية عن الفرض الإداري المعيب، الذي يلحق ضررا بالغير، كما في الحالة أعلاه، من شأنه تحقيق حماية أكبر للملزمين عموما، وللمستثمرين على وجه الخصوص. ذلك أن الفروض الضريبية وإجراءات التحصيل المرتبطة بها الغير المستندة إلى أساس قانوني، والتي تلحق أضرار بالغة بالنشاطات المستثمرة يمكن أن تجعل الإدارة المعنية موضوع مساءلة بالتعويض.

المبحث الثالث: الدور الحمائي للقاضي الجبائي في رقابة تقدير الإدارة في توقيع الجزاءات والغرامات

إن رقابة سلطة الإدارة الضريبية في توقيع الجزاءات والغرامات المنصوص عليها قانونا، كما في حالة عدم تقديم الإقرار، أو تقديم إقرار ناقص أو غيرها من الحالات الأخرى، يعتبر من المجالات التي عرفت تطورا متدرجا في الاجتهاد القضائي المقارن. فبعد إقرار مبدأ مناعة سلطة الإدارة التقديرية من الرقابة من قبل القاضي الإداري نفسه، عرف هذا المبدأ تراجعا في إطار التطور الاجتهادي اللاحق.

وتطوير آليات الرقابة لاحتواء المجال التقديري في القرارات الإدارية، يندرج في سياق تحقيق حماية أكبر للأفراد بما في ذلك المخاطبين بالفرض الضريبي. وتمثل هذا التطور في اعتماد نظرية الغلط البين في التقدير ( l’erreur manifeste d’appréciation) ونظرية الموازنة ( la théorie du bilan) لرقابة جانب الملاءمة في القرار الإداري.

وبخصوص موقف الغرفة الإدارية من رقابة سلطة الإدارة في تقدير الجزاءات والغرامات ، أصدرت هذه الأخيرة قرارا بتاريخ 16/01/2003 أوضحت فيه بأنه “ ما دام أن الغرامات والجزاءات الأخرى ترتبت على المستأنف بطريق قانوني ، ولا يطعن في شرعيتها، كما أن رفض الإدارة طلب إعفائه منها يستند إلى سلطتها التقديرية، وما دام لم يثبت أن قرار الإدارة يتسم بالانحراف والشطط في استعمال السلطة فان قرارها يبقى قانونيا46bis”

واذا كانت الغرفة قد اقتصرت في محاكمتها لشرعية الغرامات والجزاءات المطعون فيها على مناقشة عيب الانحراف في استعمال السلطة، لأنها الوسيلة الوحيدة المثارة في الطعن ، الا أن ذلك لا يمنع من تقدير شرعية هذه الجزاءات بناء على نظرية الغلط البين في التقدير، كلما أثير ذلك من قبل الطاعن.

إذ لا شك أن السلطة التقديرية المعترف بها لإدارة الضرائب في هذه الحالة تستهدف تمكينها من معالجة الأوضاع المختلفة بحسبما تستحقه كل حالة على حدة. واعتبارا لذلك متى تبين أن الخاضع للضريبة كان حسن النية كما في حالة الأمية، أو لم تسجل بحقه أية مخالفة تستهدف التهرب الضريبي، أو كان من شأن الجزاءات القاسية المتخذة من قبل الإدارة أن تؤدي الى تأزيم الوضعية المالية للشركة والتعجيل بانهيارها ، فإن الأمر في مثل هذه الحالات يستدعي رقابة تقدير الإدارة في توقيع الجزاء وبالتالي إلغاؤه كلما تبين أنه مشوب بغلط بين في التقدير.

ولا شك أن هذه الرقابة كما قال مفوض الحكومة « BRAIBANT» في تعليقه على تطور قضاء مجلس الدولة الفرنسي باتجاه تعميق آليات الرقابة على جانب الملاءمة في القرار الإداري، ” تستهدف فرض قدر أقل من المنطق وحسن التقدير على رجال الإدارة، فإذا كان في وسعهم أن يختاروا فليس معنى ذلك أن يفعلوا ما يشاؤون »47

خـــلاصة :

تأسيسا على ما تم تناوله فيما تقدم، يتبين أن العلاقة بين الجباية والاستثمار تعتبر على درجة من الأهمية والدقة. وكلما كانت هذه العلاقة مضبوطة وموزونة بالشكل اللازم، كلما ساهم كل منهما في إثراء الآخر. فلا يتصور قيام مشاريع استثمارية ضخمة وقوية دون سياسة جبائية حكيمة. كما لا يمكن تنمية الموارد المالية للدولة دون إيرادات ضريبية مهمة. فالعلاقة الجدلية القائمة بينهما كلما صيغت بالحكمة والتبصر اللازمين كلما ساعد ذلك على تحقيق الأهداف التنموية المرسومة.

ويعتبر القاضي الجبائي حلقة مهمة في صياغة هذه العلاقة. فهو الحكم الذي يعطي للقاعدة الضريبية بعدها الحقيقي ومضمونها الاجتماعي والاقتصادي بين ما هو مقرر تشريعا وبين ما يفرزه التطبيق العملي على مستوى العمل الإداري. والحماية الممارسة من طرف القاضي بهذا الخصوص تنسحب على حماية النشاط المستثمر من جهة، و ضمان الموارد المالية للدولة من جهة أخرى. فكلاهما مستهدف بالحماية ومعني بها. واعتبارا لذلك يجب تفسير النصوص وتحديد نطاق الخضوع الضريبي في حدود ما يقتضيه التشريع وفقا لقاعدة « لا ضريبة ولا إعفاء بدون نص ». فالحماية لا تعني إقرار الإعفاء لفائدة المستثمر حيث لا يجوز ذلك.

ومن خلال السوابق القضائية التي تمت مناقشتها تتضح البراغماتية التي تحكم منهجية القاضي الجبائي المغربي في صياغة القواعد المرتبطة بالمنازعة الضريبية، سواء على مستوى الشكل أو الموضوع. وتميزت هذه البراغماتية خصوصا في المقاربة التلطيفية للعوائق الشكلية تحقيقا للبت في جوهر الحق وبالتالي إرجاع عقارب الشرعية إلى مواضعها كلما وقع المساس بها. ولاشك أن تغليب المقاربة الموضوعية على المقاربة الشكلية هو الذي من شأنه تفعيل الحقوق وحمايتها.

فتبسيط القواعد المسطرية، كما قال « جون ماري بونتيي » « Jean-Marie Pontier » تعتبر ضرورة ملحة، وإن كان هذا التبسيط على حساب جمالية البناء النظري، فلا ضير من بناء نظري ناقص إذا كان يسهل المأمورية للمدعي، و لا فائدة من منطق كامل إذا كان يصعب الطريق أمام المتقاضي”48

48 –« la simplification des règles de procédure est nécessaire, même s’il doit s’opérer aux prix de l’atteinte à l’esthétique de la construction intellectuelle. Vaut mieux un défaut de logique s’il facilite la tâche aux plaideurs, qu’une logique sans failles mais incompréhensibles aux plaideurs » « Administration et administrés en Europe » Actes du colloque sur « le contrôle et les modes de protection en Europe » tenu à Aix en octobre 1983.p.54-55.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت