4-الجهود المبذولة لجعل التحكيم التزاماً ملزماً:
Efforts to Make Arbitration a Binding Obligation
أكَّد “ميثاق عصبة الأمم” على التحكيم وخصوصاً في المادتين 13و 15 منه. وبما أن الدول وجدت ثغرات في الميثاق ورغبت في إيجاد وسيلة تجعل بمقتضاها اللجوء إلى الحلول السلمية التزاماً ملزماً بل وكتسوية نهائية للمنازعات، فقد ظهر على المسرح الدولي عدد من الاتفاقيات الدولية لتحقيق هذا الغرض. وفي عام 1924 كان “بروتوكول جنيف” “Geneva protocol ” -الذي ولد ميتاً بسبب اخفاق الموقعين عليه في ابرامه -هو الأول من نوعه لمثل هذه الجهود.
وتلته في 16 تشرين الأول 1925 “معاهدات لوكارنو “locarno Treaties ” وهي سلسلة اتفاقيات ثنائية عقدت بين ألمانيا من جهة وكل من بلجيكا وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا وبولاندا من جهة أخرى. وقد دعت هذه المعاهدات إلى عرض المنازعات الدولية أما على التحكيم أو على التسوية القضائية.
وبعد ذلك أقرت “الجمعية العامة لعصبة الأمم” في 26 أيلول 1928 “ميثاق التحكيم العام “ويجمع هذا الميثاق، الذي عرض على جميع الدول الأعضاء لإبرامه، بين ثلاثة أنظمة خاصة بالتسوية السلمية للمنازعات الدولية هي التوفيق والتسوية القضائية والتحكيم.
وقد أبرمت بعد “ميثاق التحكيم العام” عدة اتفاقات ثنائية تجعل من التحكيم التزاماً ملزماً للدول المتعاقدة في علاقاتها المتبادلة.

5-مشروع الأمم المتحدة بشأن إجراءات التحكيم:
U.N. Draft on Arbitral procedure
لقد اختارت “لجنة القانون الدولي” التابعة للأمم المتحدة في اجتماعها الأول في عام 1949 “الإجراءات التحكيمية” كأحد المواضيع التي يجب تقنينها. وبعد تعيين مقرر خاص تبنت “اللجنة في عام 1952 مشروعاً بشأن إجراءات التحكيم، وأرسلته إلى الدول الأعضاء في “الأمم المتحدة” عن طريق “الأمين العام” مع طلب التعليق عليه.
ودرست “الجمعية العامة” مشروعاً معدلاً في عام 1955 كان موضع انتقاد كبير. ونتيجة لذلك تخلت “اللجنة” عن فكرة تطوير تقنين كامل بشأن إجراءات التحكيم، وهو هدف مساعيها السابقة. وعوضاً عن ذلك قامت في شهر تموز 1958 بوضع تقرير يتضمن مجموعة مفصلة من “القواعد الحديثة بشأن الإجراءات التحكيمية( )، وأوصت “اللجنة” بأن تتبنى “الجمعية العامة” تقريرها بموجب قرار. ولكن الجمعية العامة اكتفت في 14 تشرين الثاني 1958 بأخذ العلم بتقرير اللجنة، واسترعت انتباه الدول الأعضاء إلى المشروع لدراسة إمكانية الاستفادة منه وتبنيه في اتفاقات التحكيم التي قد تعقد فيما بينها.

6-جامعة الدول العربية والتحكيم:
نصت المادة الخامسة من “ميثاق جامعة الدول العربية” الصادرة في 22/3/1945 ما يلي:
“لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، فإذا نشب بينها خلاف لا يتعلق باستقلال الدولة أو سيادتها أو سلامة أراضيها، ولجأ المتنازعون إلى (المجلس) لفض هذا الخلاف، كان قراره عندئذ نافذاً وملزماً، وفي هذه الحالة لا يكون للدول التي وقع بينها الخلاف الاشتراك في مداولات (المجلس) وقراراته.
ويتوسط (المجلس) في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة وبين أية حكومة أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما، وتصدر قرارات التحكيم والقرارات الخاصة بالتوسط بأغلبية الآراء”.
يبدو من هذا النص أن “ميثاق الجامعة العربية” أعطى لمجلسها اختصاصين:
أحدهما تحكيمي، رغم غموض النص، يمكِّنه من إصدار قرارات ملزمة، والآخر توفيقي يمكنّه من إصدار قرارات تعتبر بمثابة توصيات.( )

المبحث الثاني – القضاء الدولي
International Adjudication -La Justice International
تعتبر “محكمة العدل الدولية” الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، طبقاً للمادة 92 من “ميثاق الأمم المتحدة”. وهناك محاكم دولية اقليمية مثل محكمة عدل دول أمريكا الوسطى، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وسنكتفي بالقاء بعض الضوء على محكمة العدل الدولية ومشروع إنشاء محكمة عدل عربية.

المطلب الأول : محكمة العدل الدولية
أولاً -اختصاص المحكمة الالزامي:
إن أول وظيفة للمحكمة، كهيئة قضائية، هي الفصل في المنازعات بين الدول، ولكن هذه المنازعات لا تقدم لمحكمة العدل الدولية إلا بموافقة الدول صاحبة العلاقة، إما قبل حدوث النزاع أو بعده، وهذا ما يميز النظام القضائي الدولي عن النظام القضائي الداخلي. ويعود السبب في ذلك إلى أن الدول لها سيادة، والسيادة تحول بين الدولة وأية سلطة دولية أخرى إلا بموافقتها ورضاها.( )

ثانياً- أسس اختصاص المحكمة الالزامي:
طبقاً لنصوص المادتين 36و 37 من “النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية”، يمكن التعبير عن إرادة الدولة باللجوء إلى “المحكمة” من أجل حل منازعاتها القانونية مع دولة أخرى بأحد الأساليب الآتية:
1-أسلوب الاتفاقات الخاصة Ad hoc agreements
وبموجب هذا الأسلوب، يمكن لدولتين أو أكثر أن تتفقا على إحالة نزاع قائم بينها، إلى “محكمة العدل الدولية” عن طريق توقيع اتفاقية تعقد فيما بينها لهذا الغرض.
وفي مثل هذه الحالة يحق للمحكمة أن تضع يدها على النزاع بمجرد استلامها إشعاراً بالاتفاقية الخاصة الموقعة بين أصحاب العلاقة. والمثال على هذا الأسلوب هو “قضية السيادة على بعض مناطق الحدود بين هولانده وبلجيكا”، حيث عقد الطرفان اتفاقاً خاصاً في السابع من آذار 1957. فأصدرت “المحكمة” حكمها في الدعوى بتاريخ 20 حزيران 1959.

2-أسلوب التعهد المسبق:
وتقضي العادة أن تقدم الدول مثل هذا النوع من التعهد في المعاهدات الثنائية أو الجماعية التي تعقدها مع الدول الأخرى، بالإضافة إلى التعهدات التي قد تكون صدرت عنها في زمن “محكمة العدل الدولية الدائمة”.
وقد تضمن عدد كبير جداً من المعاهدات المعقودة منذ عام 1946 بنداً يتعهد فيه موقعوه بإحالة ما قد ينشأ بينهم من خلافات حول تطبيقها أو تفسيرها إلى “محكمة العدل الدولية”.
وفي مثل هذه الحالة تضع “المحكمة” يدها على الدعوى بمجرد قيام إحدى الدول المتعهد لها بتقديم طلب وحيد الطرف إلى المحكمة Unilateral application ففي “قضية كورفو”، مثلاً، والتي رفعتها بريطانيا ضد ألبانيا في الثاني والعشرين من شهر أيار 1947، استندت “المحكمة” بادئ ذي بدء إلى طلب بريطانيا.( )

3-أسلوب البند الاختياري: Optional clause
يمكن للدول الأطراف في “النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية” أن تعطي تعهداً واسعاً في أي وقت تشاء بإعلانها قبول الاختصاص الالزامي للمحكمة تجاه أية دولة تقبل بنفس التعهد في المسائل المتعلقة بتفسير معاهدة، أو أية مسألة من مسائل القانون الدولي، أو بما يتعلق بأية واقعة يكون من جراء وجودها نشوء خرق لالتزام دولي، وأخيراً بصدد طبيعة ومدى التعويض الناجم عن مثل هذا الخرق. ويقول الأستاذ “أوبنهايم” في هذا الصدد:
“من العسير أن لا يوجد نزاع بين دولتين لا يمكن رده إلى واحدة من هذه المسائل.( )
على أن التصريحات المنصوصة في الفقرة الثانية من المادة 36 من “النظام الأساسي للمحكمة” يمكن أن تكون مشروطة أو غير مشروطة، ولكن الغالبية العظمى من التصريحات هي إما مشروطة أو أنها جاءت مشحونة بالتحفظات كالمعاملة بالمثل، أو المدة المحدودة أو تحديد طبيعة الخلافات المشمولة به.
ومحاسن هذا الأسلوب تكاد لا توازيها محاسن أي من الأسلوبين السابقين لولا أمر التحفظات التي كثيراً ما أدت إلى انشغال “المحكمة” بتقرير اختصاصها حتى بين الدول التي قبلت بالبلد الاختياري، وذلك بسبب إدعاء بعض هذه الدول بوقوع المنازعات المقدمة للمحكمة ضمن النطاق الذي تحرمه التحفظات عليها.
والمثال على الدعاوى التي نظرتها “المحكمة” بالاستناد إلى تصريحات الدول بقبول اختصاصها المطلق، هو الدعوى التي رفعتها بريطانيا على إيران حين أممت هذه الأخيرة “شركة الزيت الأنكلو -الإيرانية” عام 1951. فقد استندت بريطانيا إلى تصريح قبول إيران اختصاص “المحكمة” عملاً بالفقرة الثانية من المادة 36 المذكورة أعلاه، ولكن إيران دفعت، ووافقتها “المحكمة”، بأن تصريحها المذكور حصر قبول إيران باختصاص “المحكمة” في الدعاوى المتعلقة بالمعاهدات المعقودة بينها وبين دول أخرى بعد تاريخ ذلك التصريح وهو عام 1932، في حين أن الدعوى البريطانية تتعلق بصورة مباشرة بنصوص تسبق ذلك التاريخ.( )
ونشير هنا إلى ما تضمنته الفقرة السابقة من المادة 36 المذكورة أعلاه من أنه:
“في حالة قيام نزاع في شأن ولاية المحكمة، تفصل المحكمة في هذا النزاع بقرار منها”.

ثالثاً- أحكام محكمة العدل الدولية:
آ-تفصل “المحكمة” في النزاع المعروض عليها وفقاً لأحكام القانون الدولي. وهي تطبق في هذا الشأن مصادر القانون الدولي العام كما حددتها المادة 38 من “النظام الأساسي للمحكمة”:
1-الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحة من الدول المتنازعة.
2-الأعراف الدولية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.
3-المبادئ العامة للقانون التي أقرتها الأمم المتمدنة.
4-أحكام المحاكم الدولية ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم. ويعتبران مصدرين احتياطيين لقواعد القانون.
5-قواعد العدل والأنصاف، شريطة أن يوافق أطراف الدعوى على ذلك.

ب-تنص المادة 41/1 من “النظام الأساسي للمحكمة” ما يلي:
“للمحكمة أن تقرر التدابير المؤقتة التي يجب اتخاذها لحفظ حق كل من الأطراف وذلك متى رأت أن الظروف تقضي بذلك”.
ويستفاد من هذا النص أن حق “المحكمة” في اتخاذ “التدابير المؤقتة” ليس موقوفاً على طلب الخصوم، بل يمكن أن تمارسه من تلقاء نفسها، إذا استشعرت ضرورة لمثل هذه التدابير خلال أية مرحلة من مراحل الدعوى.

جـ-وتكون الأحكام نهائية غير قابلة للاستئناف، ولكن يجوز للأطراف أن يطلبوا من “المحكمة” تفسير ما غمض من الحكم أو إصلاح خطأ مادى فيه. (المادة 60 من النظام الأساسي للمحكمة).

د-يمكن طلب إعادة نظر الدعوى بسبب اكتشاف واقعة حاسمة في الدعوى كان يجهلها عند صدور الحكم كل من “المحكمة” والطرف الذي يلتمس إعادة النظر على ألا يكون جهل الطرف المذكور ناشئاً عن اهمال منه (المادة 61/1 من النظام الأساسي للمحكمة).

هـ-ليس للحكم قوة القضية المقضية إلا بالنسبة للخصوم أنفسهم، وفيما يتعلق بموضوع الدعوى ذاته. (المادة 59 من النظام الأساسي للمحكمة).

رابعاً- ضعف تنفيذ الأحكام التحكيمية والقرارات القضائية:
Weaknesses of Enforcing Arbitral Awards and judicial Decisions
إن المبدأ القائل بأن الحكم التحكيمي أو القرار القضائي ملزم للطرفين ويجب أن ينفذ بحسن نية هو مبدأ مقبول. وبالنسبة لمعاهدات التحكيم، تنص مشارطة التحكيم عادة على أن الحكم ملزم للطرفين، وذلك على سبيل الحيطة، لأن من قواعد القانون الدولي العرفي أن يحترم الطرف الخاسر حكم التحكيم. أما بالنسبة للأحكام القضائية، فمما لا شك فيه أن القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية ملزمة لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (الفقرة الأولى من المادة 94 من الميثاق).
وعندما ترفض دولة ما تنفيذ حكم تحكيمي أو قرار قضائي، فإنها تجنح إلى أن تدفع بمبدأي انعدام القرار أو استحالة تنفيذه، وهنالك ثلاثة أسباب تتخذ عادة كأسس لمثل هذا الانعدام وهي:
1-تجاوز السلطة.
2-تقاضي أحد أعضاء المحكمة الرشوة.
3-انحراف خطير عن قواعد الإجراءات التي اتبعت قبل صدور الحكم أو القرار. ويتركز أكثر الادعاءات شيوعاً على تجاوز السلطة، ويرافق هذا الادعاء، أو يوجد بصورة مستقلة عنه أحياناً، ادعاء باستحالة تنفيذ الحكم أو القرار.
وعندما ترفض الدولة الخاسرة التقيد بحكم تحكيمي أو قرار قضائي، فإن الدولة التي ربحت الدعوى قد تقرر أن تتولى الأمر بنفسها، وتلجأ إلى الحلول السياسية غير الودية.

وبما أن هذه الحلول قد تشكل خطراً على السلم، كما يمكنها أن تتحول بسهولة إلى نزاع مسلح، فقد تركز الاهتمام لفترة من الزمن على اعتبار المنظمات الدولية بمثابة دوائر تنفيذ.
وقد نص “ميثاق عصبة الأمم” في الفقرة الرابعة من المادة 13 منه على التنفيذ المشترك للأحكام والقرارات، كما تمثل الفقرة الثانية من المادة 94 من “ميثاق الأمم المتحدة” النص المقابل، إذ جاء فيها:-
“إذ امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، ولهذا المجلس، إذا رأى ضرورة لذلك، أن يقدم توصياته أو يصدر قراراً بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم.”
والاختلاف الملحوظ بين النصين هو أن “ميثاق الأمم المتحدة” يشير إلى أحكام محكمة العدل الدولية فقط، في حين أن “ميثاق عصبة الأمم” يشير إلى “الأحكام والقرارات”. ولم تحدد الفقرة الثانية من المادة 94 من “ميثاق الأمم المتحدة” التدابير التي يمكن اتخاذها من قبل “مجلس الأمن” لتنفيذ حكم صادر عن “محكمة العدل الدولية”. ومع أن من المشكوك فيه أن يكون استخدام القوة المسلحة مناسباً للهدف الذي نحن بصدده، فسيبدو من المناسب استخدام “مجلس الأمن” للوسائل الأخرى المتوفرة عادة بموجب “الميثاق” كقطع الاتصالات بصورة جزئية أو كاملة، وقطع العلاقات الدبلوماسية، وفرض العقوبات الاقتصادية. ومن الممكن أيضاً اتخاذ تدابير إضافية. ومن ذلك أن يحاول الطرف الذي صدر قرار “محكمة العدل الدولية” لمصلحته الحصول على “قرار” من “مجلس الأمن” يطلب فيه من الدول الأعضاء في “الأمم المتحدة” بأن توقع الحجز على ما يوجد في اقليمها من أصول Assets تخص الدولة الممتنعة عن تنفيذ قرار المحكمة. وإذا قرر “مجلس الأمن” إصدار مثل هذا “القرار” فإنه سيكون ملزماً لجميع الدول الأعضاء بموجب المادة 25 من “الميثاق” والتي يتعهدون فيها بقبول “قرارات مجلس الأمن” وتنفيذها، بل وتكون للقرار المذكور الأولوية على قواعد القانون الدولي العرفية والارتباطات التعاهدية.

ويرى الأستاذ الدكتور فؤاد شباط والأستاذ الدكتور محمد عزيز شكري( ) أنه لا يوجد في نصوص “الميثاق” ولا روحه مايؤيد وجهة النظر القائلة بأن صلاحية “مجلس الأمن” في تنفيذ قرارات “محكمة العدل الدولية” مرتبطة ومحدودة بالمواد الناظمة لتصرفات “المجلس” في حالات تهديد السلم ومثيلاتها مما يتضمنه الفصل السابع من “الميثاق” على اعتبار أن صلاحية “المجلس” في بحثنا هنا منفصلة في غرضها عن صلاحيته بموجب الفصل السابع. فالغرض هنا ليس الحيلولة دون وقوع الحرب بقدر ما هو تاييد سيادة القانون في العلاقات الدولية. ومع ذلك فإن صلاحية “المجلس” في الحالتين تنطلق من كونه الجهاز التنفيذي أو جهاز الضابطة في “منظمة الأمم المتحدة”، وبالتالي فهي مقيدة في الحالتين بالقيود التي تعيقها من الناحية الإجرائية. فهنا، كما في حالة موقف “مجلس الأمن” بالنسبة لأحكام الفصل السابع، تكون قراراته الأساسية عرضة للفيتو، وهذا يعني باختصار خضوعها للتيارات السياسية المختلفة التي قد تجعل صلاحية “المجلس” في تنفيذ القرار القضائي محدودة بقيود الفصل السابع من الناحية العملية البحتة. فإذا لم يتفق الأعضاء الدائمون في “المجلس” على ضرورة اتخاذ ما ينبغي قانوناً اتخاذه في وضع قرار “محكمة العدل الدولية” موضع التنفيذ، نكون لا أمام صلاحية معدومة لمجلس الأمن فحسب، بل أمام حالة واقعية من حالات “انكار العدالة”.

وعلى سبيل المثال، ففي قرارين صدرا عن “محكمة العدل الدولية” رفضت الدولة المحكوم عليها تنفيذ قرار المحكمة، مما أدى إلى عرض الأمر على “مجلس الأمن”:
-ففي القرار الصادر في “قضية ممركورفو” رفضت البانيا دفع المبلغ الذي قررته “المحكمة” كتعويض لبريطانيا عن الخسارة التي لحقت بسفنها المتفجرة بفعل الألغام المزروعة في ممر كورفو، ولكن “مجلس الأمن”، الذي أحيل إليه الأمر، لم يتخذ أي قرار وذلك بسبب معارضة الاتحاد السوفيتي.
-وفي الدعوى المتعلقة بشركة الزيت الانكلو -إيرانية رفضت إيران “التدابير الاحترازية” التي قررتها “المحكمة” بحجة أنه ليست للأخيرة صلاحية تقرير ما قررته. وقد أخفق “مجلس الأمن” أيضاً في اتخاذ أي تدبير. ولكن من الجدير بالذكر أن نشير هنا، إلى أن رفض إيران هذا لم يكن لحكم نهائي بل لقرار احتياطي مؤقت يحتمل النقض، وهذا ما تم فعلاً حين قررت “المحكمة” عدم اختصاصها في نظر النزاع”( ).
ومن جهة أخرى، يمكن لأعضاء “الأمم المتحدة” أن يعرضوا على “الجمعية العامة” القضايا المتعلقة بعدم التقيد بقرارت “محكمة العدل الدولية” وذلك بالاستناد إلى المادة العاشرة من “الميثاق” والتي تنص ما يلي:
“للجمعية العامة أن تناقش أية مسألة أو أمر يدخل في نطاق هذا الميثاق أو يتصل بسلطات فرع من الفروع المنصوص عليها فيه أو وظائفه، كما أن لها فيما عدا ما نص عليه في المادة 12 أن توصي أعضاء الهيئة أو مجلس الأمن أو كليهما بما تراه في تلك المسائل والأمور”.
ومما تجدر ملاحظته هنا، أن “الجمعية العامة” مقيدة هنا بإصدار “توصيات” إلى الدول الممتنعة عن التنفيذ وإلى جميع الأعضاء الآخرين.
ولكن، لكي لا نبتعد كثيراً عن أرض الواقع، ونحلق في أجواء الخيال، لعل من المفيد في الختام أن نطلع على تقييم إحدى الدولتين الأعظم لمحكمة العدل الدولية. فعندما تقدمت حكومة نيكاراغوا بشكوى إلى “محكمة العدل الدولية” في شهر نيسان 1984 بشأن إقدام “الولايات المتحدة” على زرع الألغام البحرية في المياه الاقليمية لنيكاراغوا، صرحت “جين كيركباتربك: “Jeane kirkpatrick سفيرة “الولايات المتحدة” لدى الأمم المتحدة قائلة:
“بصراحة تامة، إن المحكمة ليست في حقيقتها كما يوحي به اسمها محكمة دولية للعدل، وإنما هي هيئة شبة قانونية، وشبه قضائية، وشبه سياسية، والتي تقبل بها الدول أحياناً، ولا تقبل بها أحياناً أخرى”.( )